رواية لعنة الخطيئة الفصل السادس والاربعون 46 بقلم فاطمة أحمد


رواية لعنة الخطيئة الفصل السادس والاربعون بقلم فاطمة أحمد 

ما أكثر إيلاما من الخداع هو معرفة أن المخادع شخص قريب منك. 

لقد جرب هذا الشعور مرة في السابق وكاد حينها يقتلع قلبه حتى يتوقف عن النبض بالألم !

ولكن هذه المرة هي أكثر فظاعة واختلافا ... هذه المرة تبين أن الأساس الذي تربى عليه ماهو إلا خط من هلام تزعزع مُسقطا ما فوقه ... أن العائلة التي افتخر بها يوم هي كذبة !!


قد تكون تلك إحدى المفارقات التي يعززها كون المخادع لا يهتم بجرمه بقدر ما يهتم بإيجاد التبرير المناسب له، أشباه الذين يقومون بالأفعال السيء مبررين بأن الظروف هي التي اضطرتهم للقيام بها وهُم في الحقيقة قد كانوا ينتظرون خلق الفرصة من أجل التزوير وظلم الآخرين. 

وأشباه من يستمتع بلعب دور الضحية حتى يتحول إلى وحش بشري في الوقت المناسب ويقول لقد أخذت حقي فقط. 


وهنا تكمن الغفلة ... ففي حين تواجد كل هذه الصراعات في العالم وكل منهم يعتبر نفسه محقا إذا من هو الذي لا يملك الحق ؟ ومن هو الظالم ؟ الإنسان السيء أم نفسه الأمّارة بالسوء ؟


ناظرها آدم بصدمة ولسان معقود عاجزا عن تفكيك الأحجية الغريبة التي أوقعته فيها، ثم برطم بتشتت وهو يشعر بنفسه على وشك الدخول في صدمة أكبر :

- انتي بتقولي ايه ... ازاي يعني. 


أغمضت حكمت عيناها بيأس تشعر بذبذبات حزن تتسلل لقلبها وهي تراه يطالعها بخيبة أمل مريرة، ثم

- الموضوع حصل من سنين طويلة احنا مكناش زي دلوقتي في أيامها بدأ جدك يوسع شغله في التجارة واسمه بيتعرف وسط الناس وكان قريب من العمدة ودماغه بتوزن بلد ياما ساعده واستحمل معاه مسؤولية القرية لدرجة ان الأهالي بقو متأكدين انه هيستلم العمودية بعد العمدة ما تعب وصحته بقت في النازل. 


وقبل يوم واحد من وفاة العمدة عرفت انه كتب اسم الشرقاوي في الوصية بتاعته واتصدمت واتعصبت ازاي يسيب جدك ويديها لواحد تاني ساعتها بقيت بين نارين يا اما اسكت عن حقنا واكمل حياتي وأنا تحت رحمة الشرقاوي ولا اخاطر بكل حاجة عندي عشان اضمن مستقبل عيلتي. 

 سليمان هو اللي ساعدني عشان نطلع الختم مع الوصية من الخزنة ونغيرها بس لأنه سبق وشاف الفلوس اللي جوا الخزنة حس بالطمع بيملي عينه وسرقها ... واتكشف.  


أحس آدم بضلوعه تنحصر وأنفاسه تنحشر بداخله من هول ما يتلقاه فوضع يده على صدره الذي انقبض فجأة وهمس :

- مش مصدق انا عماله اسمع ايه دلوقتي. 


- ده اللي حصل ياحفيدي، غباؤه وصلنا لطريق مسدود ولأني اضطريت اتخلى عنه ومساعدوش قام هو حقد عليا وخطط يكسرني بيك. 


أخفت بداخلها حقيقة أنها أرسلت مجموعة من قطاع الطرق ليقتلوا سليمان الذي هددها بأن يفضح سر الوصية، واستطاع الهرب منهم بصعوبة شديدة بعدما كسروا عظامه ثم اختفى. 


طبول الجنون كانت تقرع في رأسه، فكونها تسرد عليه جرائم الماضي بهذه البساطة تجعل أعصابه تنفرط عن عقالها !


- ازاي وليه عملتي كده ليه فهميني ! جدي ووالدي كانو بيعرفو انتي عملتي ايه ؟

زمجر آدم باِنفلات كالليث الجريح وهو يستعد لاستقبال الصورة الجديدة لكامل أفراد عائلته ... صورة مشوهة !


إلا أن الله كان رحيما بالقدر الكافي الذي جعل حكمت تنفي اعتقاده وتقول :

- لا محدش منهم عرف ولا شك في الموضوع لان الكل كان متوقع جدك ياخدها عشان هو اكتر واحد عنده الأحقية في انه يحكمهم. 


انطلقت ضحكة منكسرة ساخرة من فمه وتمتم :

- لسه بتقولي حق وأحقية ... حق ايه بعد كل اللي عرفته. 


ثم تجمد وجهه بشكل مخيف ووقف مشرفا عليها وهو يصرخ مسترسلا بجنون :

- حق ايه يا حكمت هانم انتي فاهمة الكلام اللي بتقوليه مستوعبة اني لسه مكتشف ان كل اللي عشته كدب حتى انتي اكتر واحدة بحترمها وبقدرها فحياتي طلعت ....


رغم الصدمة التي تلقاها للتو لكن قلبه لم يطاوعه بأن يصفها بالمخادعة مع أن هذه هي الحقيقة. 


- أنا عملت ده علشانكم يا حفيدي عشان عيلتنا. 


- كفاية بقى بطلي تضحكي على نفسك انتي طول عمرك بتدوري على مصلحتك طول عمرك مهووسة بالسيطرة وانك تدوسي على غيرك وتشوفيهم أقل منك وأكيد مكنتيش هتخلي واحدة تانية تاخد منصب مرات العمدة ! 


حُشرت الكلمات داخل فمها وربما من النادر حقا ألاَّ تجد حكمت تبريرات لجميع أفعالها. 

أما آدم فكانت خيبته منها قد تجاوزت مشاعر الجنون والغضب وهذا ما جعل غصة مؤلمة تحتكم حلقه ونضح جرح من عينيه وهو يستطرد :

- بس تعرفي ايه اكتر حاجة كاسرتني دلوقتي ؟ ان كلام صفوان واتهاماته كل السنين ديه طلعت حقيقة واحنا بجد سرقنا حق عيلته ... بس خلاص كل حاجة هترجع لمجاريها. 


توجست حكمت من مقصده وجال في عقلها نفسه ما فكر فيه آدم الذي همَّ بالرحيل لولا أنها قبضت عليه وسألته بخطورة :

- يعني ايه انت رايح ع فين دلوقتي ؟ 


بفتور قام هو بسحب ذراعه من يدها وغمغم بصلابة غير قابلة للاهتزاز :

- مش انتي عماله تتكلمي عن الحقوق وبتدافعي على نفسك تمام يا حكمت هانم انا هروح للعمدة واشرحله كل حاجة ويبقى هو يقرر مين اللي ليه حق ومين اللي عليه. 


انتفضت حكمت وهاجمته بعصبية :

- انت اتجننت أنا مستحيل اسيبك تعمل كده مستحيل اسمحلك تضيع تعب سنين مني. 


رمقها باِستهجان يتأكد حقا من أنه سمعها تمنعه بكل ثقة كأنها هي صاحبة الحق وليس العكس ! 


- لا هعمل يا حكمت هانم مستحيل اسمح لنفسي أعيش في العار ده طول عمري. 


انتفخت أوداجها باِنفعال وناظرته بتحفز، لكن نيرانها طُمست تدريجيا حينما واتتها فكرة أخرى غير التأمر الذي سيجعله يرفض السماع إليها حتما، ستضغط عليه بأكثر نقطة قوة وضعف يؤمن بهما آدم، العائلة !  


تنهدت حكمت وعادت إلى الخلف رافعة كتفيها باِستسلام مصطنع وطفقت تلقي عليه سمومها :

- ماشي اعمل ما بدالك بس ياريت قبل ما تمشي خطوة زيادة تقف وتفكر مع نفسك هيحصل ايه لما تكشف ان الوصية كانت مزورة، انت فاكر ان القصة هتمر مرور الكرام والموضوع يعدي ببساطة ؟ 


بتبقى غلطان لانك هتدمر سمعة عيلة الصاوي اول ما تنطق بكلمة واحدة وشرفنا هيكون في الأراضي. كل تعب وجهود جدك وابوك هيضيعو ومحدش هيحترم الاسم بتاعهم ومش بعيد يتحكم علينا بالنفي فكر ممكن يحصل ايه لأختك اللي عمالين يخطبوها مني ومنك صدقني محدش هيبقى شايفها زي الأول ونيجار مراتك هتكون اول واحدة بتتخلى عنك وانت فاكر كويس هي عملت ايه في الماضي عشان عيلتها.  


اهتزت تقاسيم آدم بوضوح أكد لحكمت بأنها أصابته في الوتر الحساس فتابعت مردفة :

- لو لسه مصمم على قرارك بعد كلامي ده فـ يلا روح للعمدة دلوقتي واحكيله عن كل حاجة انا مش همنعك وهسيبك تتصرف زي ما انت عاوز يا حفيدي ... يا آدم سلطان الصاوي. 


تراقص صدر آدم صعودا وهبوطا بأنفاس يسحبها ويخرجها بصعوبة، وداخله مستهزئ من ادعائها بأنها تُخيره حقا وكأنه لا يعلم أن حكمت تسعى لكبح جموحه وضربه بنقاط ضعفه حتى يحترق بنيران الحيرة ويتراجع حذوه عما كاد يفعله، وقد كان لها ما تُريد !


هز رأسه غير مصدق مايعيشه ثم انطلق مغادرا بوجه محتقن كمن رأى الشياطين تحوم من حوله فراقبته حكمت حتى اختفى ورددت بنبرة حاسمة :

- السر اللي كنت خايفة منه اتكشف أخيرا بس مينفعش حد غيرنا احنا الاتنين نعرفه وإلا هروح في داهية. 


_________________


تركزت عيناه على الطريق أمامه وتجهم وجهه أكثر ملقيا نظراته عليها بواسطة مرآة السيارة الأمامية من فينة لأخرى، يشاهدها وهي تجلس في المقعد الخلفي بملامح متجمدة فتشتعل النيران في داخله أكثر كلما يتذكر الحوار الذي سمعه بين شقيقه والسيد آدم منذ يومين عندما أخبره هذا الأخير بأن شريكه في العمل تقدم لخطبة ليلى ...


شريكه سامح ابن أحد الرجال المهمين في القرية والذي وصفه آدم بالشاب الخلوق و "الجدع" بعدما وقف معه في مسألة تكسير المحل ورفض التعويض رغم أنه تعرض لخسائر مادية كبيرة ... ربَّاه سيغمى عليه الآن من شدة المثالية !


حدث محمد نفسه بتهكم ساخط لينطق فجأة :

- مبروك عليكي. 


انتبهت له وعقدت حاجبها بتلقائية :

- افندم ؟ 


- سمعت ان شريك اخوكي اتقدملك فقلت لنفسي لازم اباركلك ده عريس لقطة ومبيتفوتش. 


ململت عينيها ثم أجابته بنبرة غير مهتمة :

- ربنا يبارك فيك. 


حسنا هي لم تخبره أنها رفضت أو حتى استهجنت السؤال هل هذا يعني أنها تفكر في الأمر أو وافقت على الزواج !

 اشللداخل محمد على عجلة القيادة وحاول تمالك نفسه بينما يجز على أسنانه مبرطما :

- طب انتي موافقة ع الجواز ولا لسه بتفكري. 


- ملكش فيه وياريت متتجاوزش حدودك معايا. 

ألجمته ليلى بكلماتها الحادة ونظرتها الحازمة وقد تغيرت كثيرا عن السابق لم تعد تلك الفتاة التي تلمع عيناها بحالمية كلما تراه وتلتصق بظهر مقعده مستحثة أي حديث معه حتى لو كان عابرا. 

هذا ما فكر به محمد الذي بلع لسانه كاتما في نفسه الكثير. 


وبعد مدة وصلا للسرايا فدلفت هي للداخل ولزمت غرفتها تجولها ذهابا وإيابا باِنفعال حتى نفذ صبرها وهمست :

- معنديش حل تاني انا هموت لو متكلمتش مع حد. 


كانت هذه آخر جملة قالتها ليلى قبل أن تجد نفسها جالسة بجوار نيجار التي همهمت وهي تضم يديها بهدوء :

- يعني قابلك وكلمك ع موضوع الجواز ؟ 


أماءت الأخرى بحنق معقبة :

- ايوة جاي يباركلي وبيسألني بكل وقاحة اذا كنت موافقة هو ماله اصلا ده رفضني واستخف مشاعري من قبل ودلوقتي عامل نفسه مهتم بجوازي من عدمه ! 


- بس انتي صديتيه. 


- ايوة طبعا انا وعدت نفسي اني مجريش ورا مشاعري مرة تانية لسه منستش قد ايه حسيت بنفسي قليلة لما تجاهلني بعد انا ما صارحته بمشاعري زي الهبلة وهيبقى غلطان لو فاكر ان ممكن اشيل الرسميات مابيننا مرة تانية.


حدجتها نيجار بإدراك ماكر مستمعة لهذر ليلى وعلقت بتلميح :

- بس غريبة الشاب ده سمع بالموضوع منين ده انتي نفسك معرفتيش غير من يومين لما آدم حكالك وقولتيله هفكر يا ابيه معقوله تكوني انتي اللي اتكلمتي لحد من صحابك وهو سمع بالصدفة. 


لوحت بيدها بتلقائية نافية :

- لا خالص هو ماله ومال صحابي أكيد بيكون سمع من اخوه ولا ...

ثم صمتت حين استوعبت زلة لسانها. 


لعنت ليلى نفسها أما نيجار فتبسمت برضا عن نفسها لأن صدقت في توقعها ثم أردفت مستفهمة :

 - يعني الشاب اللي بتحبيه مش زميل في الكلية زي ما كنت فاكرة صح ده واحد قريب من العيلة ... تحبي تحكيلي هو مين ؟


ترددت ليلى في البداية من الإفصاح لأنها لا تثق في مدى حفاظ الأخرى على السر لكن الأمر قد كشف على أي حال ولهذا زفرت باِقتضاب مصرِّحة :

- محمد ... السواق بتاعي. 


تشردقت نيجار التي كانت تشرب الماء في هذه الأثناء وفغرت ثغرها مطالعة إياها بذهول :

- السواق بتاعك يعني نفسه أخو فاروق ؟!


تجهمت أكثر من ردة فعلها ثم أومأت بنعم فأعادت نيجار الكوب لمكانه وهي تحاول تمالك نفسها لكي لا تزيد الأمر سوءا وسألتها عن كيفية حدوث هذا لتسرد لها ليلى عن إعجابها المسبق به وكيف كانت تنتظر صباح ومساء كل يوم عندما يأتِ محمد وتركب برفقته. 

حتى تخلى هو عن جموده وبدأ بالتفاعل معها والتحدث في عدة جوانب لتظن أنه يبادلها الإعجاب لكنه صدمها في النهاية حين أخبرها بجلافة أنه يراها كشقيقة صاحب عمله فقط ولن ينظر لها بشكل آخر أبدا. 


استمعت نيجار لكل ما تقوله وعقلها يربط الأمور ببعضها حتى هتفت :

- مش عاوزة احشرك في الغلط بس يعني أنا من قبل قلت انه ممكن محبكيش بس دلوقتي وانتي بتقولي انه شوفيرك وهو سألك عن الجواز فكل ده بيخليني افكر في احتمال تاني ... ان محمد جب يبعدك عنه بسبب فرق المستويات ما بينكم. 


- فرق ايه ده شاب مكافح وعنده اكتر من شغلانة بيسترزق بيها وبعدين انا مالي بالمستوى بتاعه عمري ما بصيتله بالنظرة السطحية ديه. 


- بس ممكن محمد بص لنفسه بالشكل ده يا ليلى عشان كده لو بجد حبك او محبكيش في الحالتين اختار يبعد لأن شجاعته مش كفاية تخليه يدخل فعلاقة معاكي ... بالله عليكي ده انا مجرد ما افتكرت جدتك واتخيلتها سمعت عن الموضوع حسيت بهبوط في جسمي ما بالك بتفكير التاني. 


- يعني معقوله يطلع ده السبب. 


- مش متأكدة قولتلك ده مجرد احتمال، والاحتمال التاني لسه فاضل ع حاله واللي هو ان بجد محمد محبكيش وصارحك بمشاعره من البداية. 


- طيب انتي ايه رايك انتي بردو شايفة ان حبي ليه غلط ؟


ابتسمت نيجار بودٍّ نادر الظهور وضمت كفيها معا بينما تردد بعينين حالمتين :

- لو جيتي سألتيني من سنة كنت هجاوب عليكي بـ أيوة واقول انك غبية اوي بس دلوقتي بعد ما عشت مع أخوكي وعرفت الحب الحقيقي هقولك لا مش غلط لأن المشاعر مش بإيدينا ومبتفهمش كلام بتاع ده بينفع عشان تحبيه وده مبينفعش. 


 رشقتها ليلى بنظرات هادئة ثم ابتسمت هاتفة بخفوت :

- وانتي كمان الحب غير شخصيتك وطريقة تفكيرك وبعد ما كنت بكرهك بسبب اللي عملتيه في ابيه آدم من قبل بقيت ...


توقفت عن المتابعة فمازحتها نيجار متسائلة :

- بقيتي تحبيني ومتقدريش تعيشي من غيري ؟


- ايه الكلام الهابط ده لا مش للدرجة ديه. 


ضحكت الاثنتان وفجأة اسمعتا لجلبة تأتِ من الخارج فخرجتا وقلبت نيجار عيناها بملل عندما رأت حكمت تنهر أم محمد أمامها وتوبخها بشكل مبالغ فيه متحججة بتقصيرها في العمل بينما الأخرى تخفض رأسها بوهن وتعتذر منها. 

تنهدت بضيق مما يحدث وبرطمت بتمتمة خفيضة :

- عماله تطلع عصبيتها على واحدة غلبانة وهي عارفة انها مش هتقدر ترد عليها ... مفترية. 


كادت تتجاهل الأمر وتعود إلى غرفتها لكن ضميرها لم يسمح لها بترك الخادمة الكبيرة في السن تتعرض لمثل هذه الإهانات فنزلت لهما ووقفت أمامها مرددة بحيادية :

- الغلط مش ع أم محمود يا حكمت هانم هي مقعدتش من الصبح أصلا عشان تقوليلها ليه مخلصتيش الشغل. 


حدجتها بنظرات حارقة زادت فوق الكره كُرهًا مضاعفا حين فكرت أن عائلة هذه الفتاة هي سبب كل مصائبها وستذهب كل الفضائل لهم إذا تم كشف السر. 

لذلك طرقت بعصاها على الأرض متشدقة بوجوم :

- وانتي اللي هتجي تعلميني الغلط على مين يا بت الشرقاوي في ايه هو تعامل حفيدي الكويس معاكي مقوي قلبك عليا !! 


- أنا طول عمري قلبي قوي يا ست هانم بس ده مش موضوعنا دلوقتي لأني شايفة ان حضرتك جاية تعبانة ومتعصبة معلش خفي على نفسك شويا لأن العصبية مش كويسة لصحتك في السن ده ... تحبي اجبلك شاي يروقلك دمك ؟


وقفت حليمة على الشرفة العلوية تشاهد غضب العجوز المتصاعد باِستمتاع ولوهلة تحفزت حينما وجدت حكمت تقترب من نيجار بملامح لا تنبئ بالخير نهائيا إلا أنها توقفت على حين غرة وصعدت إلى غرفتها، ببساطة ! 


راقبتها نيجار وهي تخطو بخطواتها الواجمة كمن يحمل هموم الدنيا على كتفيه وحدثت نفسها بتساؤل :

- كانت كويسة الصبح بس رجعت بالحال ده بعد ما آدم اتصل بيها وراحت تقابله يا ترى ايه حصل بينهم ... معقوله اكتشف حاجة جديدة بخصوص الراجل اللي حكالي عنه وواجه سته. 


زادتها التساؤلات فضولا لم تستطع السيطرة عليه فهرعت لهاتفها تتصل بزوجها بضع مرات لكنه لم يرد عليها، وهنا اختفى الفضول وساورها القلق عليه فأعادت الاتصال وهذه المرة رد بصوت مقتضب :

- نعم يا نيجار في ايه. 


- انت بتكنسل عليا ليه انا قلقت عليك. 


- مفيش بس مشغول شويا، في حاجة ؟ 


- لا خالص بس حبيت اطمن عليك أنا بعتذر لو ضايقتك. 

تمتمت بحرج تلوم نفسها بسبب الضغط عليه وإزعاجه فتجهم آدم متذكرا الحقائق التي عرفها اليوم -وهي مرتبطة بشكل مباشر مع زوجته التي تحدثه الآن-

 ثم تنحنح وقال بنبرة لينة :

- مضايقتنيش بس الشغل لفوق دماغي عشان كده ... ستي وصلت للسرايا ؟ 


همهمت بإيجاب ليسترسل هو مضيفا :

- طيب لو لقيتيها متعصبة ع اي حاجة اسكتي ومترديش عليها عشان الموضوع ميكبرش ماشي. 


حمحمت نيجار وهي تحك شعرها ثم أجابته مدعية البراءة :

- اه اكيد مش محتاجة توصية خالص اطمن .... لا إله إلا الله. 


- محمد رسول الله. 


________________


أثناء عودته من عمله ركن السيارة أمام المنزل ثم ترجَّل حاملا معه بعض الأغراض واتجه إلى منزل جارته، همَّ بطرق الباب لكن توقفت يده في الهواء حين سمع جلبة من الداخل وصوتا رجوليا قاسيا يعلو :

- متنسيش أن ده بيتي أنا يا أم زينب ولولا ذكرى المرحوم أخويا مكنتش سبتكو قاعدين فيه لغاية دلوقتي وانا حاط جزمة في بوقي بس انتو ناكرين الجميل. 


قضب مراد حاجباه بتحفز مما يسمعه وقد علم هوية من يتحدث، إنه عم زينب الذي التقى به في السابق ويدعى الحج عثمان.

تأفف وقرر المغادرة لولا أن الأصوات علت فجأة ...


- اتقي الله يا حج احنا هنروح بحالنا فين لما تبيعه. 


- مش مشكلتي يا مرات خوي أنا اديتلكم مهلة على ما تدبري بيت تتستري فيه انتي وبنتك بس طولتو اوي وأنا مصالحي اتعطلت من وراكو. 


- بيت مين اللي بتتكلم عليه انت بتكدب الكدبة وبتصدقها انا عارفة كويس ان بابا كان عنده حصة فيه.


- كام مرة هقولك ان ابوكي باعلي حصته عشان يعرف يصرف عليكم جاية تتهميني بالكدب ليه والله لو المرحوم ملوش معزة فقلبي كنت قطعتلك لسانك.


- وهو اللي زيك عنده عزيز ده انت ناقص تبيع عيالك عشان الفلوس. 


- بتقوليلي ليا انا الكلام ده تعالي يا قليلة الرباية. 

هنا استمع مراد لجلبة أدرك من خلالها ان هذا العجوز يريد ضرب زينب وأمها تحاول منعه فتراجع عن الرحيل ووجد نفسه يطرق الباب بعنف تلقائي ليفتح بعد قليل ويظهر من خلفه ذاك الرجل غليظ القلب والوجه :

- خير مين انت.  


ضغطت أصابع قبضته على الكيس الورقي الذي يحمله وهو يمنع نفسه بصعوبة من استخدامها في فقع عينيه ثم رسم بسمة مصطنعة على شفتيه وقال :

- انا مراد جار الخالة أم زينب احنا تعارفنا من قبل. 


رغم أن الحج عثمان عرفه منذ البداية إلا أنه تعمد تناسيه كي يقلل من شأن مراد -حسب رأيه- حتى هتف :

- ايوة افتكرتك انت اللي عندك مكتب للسمسرة العقارية مش كده. 


- ايوة يا حج، وجاي النهارده علشان شوية حاجات طلبتهم مني الخالة أم زينب. 

 أشار للكيس الذي يحتوي على بعض البذور وعُدَّة للعناية بالنبات فطالعه عثمان باِمتعاض ثم استدار للمرأة وابنتها قائلا بنبرة تلميحية قبل أن يغادر :

- لسه مخلصناش كلامنا أنا راجعلكم.  


تنهدت أم زينب براحة مؤقتة ووجه مهموم لاحظه مراد فأحس بالحزن على هذه السيدة الطيبة وتمتم :

- هحطلك الحاجات هنا واروح.


ورغم إرهاقها إلا أنها دعته بعطف وحنان أمومي :

- ازاي بس تعالى يابني منه بتشرب شاي معانا ومنه بلحق اخلص الطبيخ واديلك نصيبك عشان تبقى تتعشا بيه. 


حدجها مراد بعينين متفاجئتين من كرمها الزائد كأنها لم تدخل في شجار منذ دقائق مع شقيق زوجها الذي يريد إخراجهما من المنزل وأوشك على الاعتراض بيد أن السيدة اللطيفة أصرت عليه وقالت لإبنتها ريثما تجعله يجلس في الصالون :

- اعمليلنا كوبايتين شاي ياحبيبتي. 


كتمت زينب نزقها بداخلها بينما تعدل حجابها فهي لم تجد الوقت حتى لتغيير ملابس العمل عندما اقتحم عمها المنزل، ثم دلفت للمطبخ بينما نظرت والدتها لهذا القابع بجوارها بملامح واجمة تظهر انزعاجه وحيرته فتبسمت وهمست بروية :

- انت سمعت اللي حصل صح وده اللي مخليك سرحان كده. 


- بعتذر مكنتش بقصد سمعتكم بالصدفة وكنت هروح بس قلقت لما الصوت علي فجأة واضطريت ادخل آسف بجد. 

برر مراد سريعا خوفا من أن تفهمه بشكل خاطئ لكن هذه الأخيرة طمأنته وربتت على كف يده مرددة :

- أنا بعرف يابني ومتقلقش مش هفهمك غلط.


تنهدت بعمق علَّها تساعد في تخفيف الحجر الجاثم فوق صدرها ثم استطردت موضحة :

- اخو المرحوم جوزي بيقول ان ابو زينب كتبله حصته في البيت ده قبل ما يتوفى وهو فضَّل علينا لما خلانا نعيش فيه بس جه وقت نطلع منه علشان يقدر يبيعه. 


- طب في وثائق في الشهر العقاري بتثبت كلامه ؟


- مع الأسف ايوة بس أنا متأكدة ان الحج عثمان بيكدب، ده جوزي اكتر حد كان بيعرف ايه اللي هنعاني منه لو مقدرش يستحمل المرض وتوفى يبقى ازاي هيرضى يدي حصته لأخوه ... بس ياخوفي دلوقتي ان زينب تتهور فيقوم عمها يؤذيها ده راجل شراني مش بيخاف ربنا واحنا مش قده. 


- طيب حضرتك بتقدري ترفعي قضية ضده وأنا هوكل محامي شاطر يترافع عنكو ويثبت ان الورق ملعوب فيه. 


- يا خبر ايه اللي يودينا للمحاكم بس ده احنا طول عمرنا ماشيين جمب الحيطة لا بنكش ولا بنهش. 


- بس ده الحل الوحيد يا خالة أم زينب ماهو انتو هتضطرو تطلعو من البيت ده لو موقفتوش في وشه.

حاول مراد إقناعها بروية حتى تتشجع وفي الحقيقة كان مستغربا من نفسه لأنه ليس من النوع الذي يعرض المساعدة على كل شخص واقع في مشكلة، لكنه بالفعل أصبح يكن مشاعر احترام و -محبة- للسيدة في هذه الفترة القصيرة. 

لطالما ذكره حنانها ودفؤها بوالدته المتوفية ولن ينسى كيف أنها تعامل مثل القريب وتعطف عليه لذلك لن يتوانى أبدا عن تقديم يد العون. 


في هذه الأثناء دلفت زينب التي سمعت ما يجري بينهما ووضعت صينية الشاي على الطاولة هاتفة :

- أنا موافقة على اللي بيقوله الأستاذ مراد يا ماما وبعدين عمي ده واحد شراني ومش هيعطف علينا يبقى ليه لازم نخاف ونسيبه يعمل ما بداله. 


- وانتي الفرصة جتلك ع طبق من دهب روح قلبك المشاكل ووجع الدماغ. 


انفرجت شفتا مراد في ابتسامة مكتومة واسترق نظرة سريعة لوجه زينب المتزمت وحدقتيها المشتعلتين بالقوة والتصميم بينما تجيب هي على والدتها :

- لا أنا مش بتاعة مشاكل بس مبحبش حد يدوسلي على طرف واسكتله خاصة لو الموضوع كان متعلق بيكي انتي ... لو سمحتِ خلينا نرفع القضية. 


سكتت أمها وهي تتأرجح بين نياط الحيرة مفكرة في عواقب الإقدام على خطوة جريئة كهذه، حتى زفرت وأماءت باِستسلام :

- طيب ماشي وربنا يستر بقى. 


هنا شعت الفرحة في قلب زينب والرضا من حدقتي مراد والتقت أعينهما صدفة وهذه المرة لم يشح أحدهما وجهه عن الثاني، بل طالعته هي بصفاء وامتنان ردَّ عليهما الآخر بطمأنة ... وشرارة إعجاب وليدة اللحظة بينهما ...

الفصل السابع والاربعون من هنا


تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1