![]() |
رواية لعنة الخطيئة الفصل السابع والاربعون بقلم فاطمة أحمد
جالت الفناء ذهاب وإيابا تعد الوقت بالثواني وعيناها معلقتان بالباب حتى اقتربت منها حليمة واستفسرت بغرابة :
- نيجار انتي واقفة بتعملي ايه هنا ماتدخلي لجوا.
- أنا مستنية آدم هو اتصل بيا من شويا وقالي انه قرب يوصل.
أجابتها بتوضيح ممتزج بالحرج فضحكت حليمة وغامت عيناها بلمعة حزن وشوق واضحتان وهي تهمهم :
- فكرتيني بجوزي ويحسن اليه وانا كمان كنت بقعد استناه كل مسا لغاية ما يرجع للبيت ومكنتش بستحلى طعم المياه من غيره حتى ... ربنا يرحمه ويدوم المحبة مابينكم يارب.
أمَّنت نيجار خلفها مفكرة في أنها حتى هي لم تتوقع مجيء يوم تعشق فيه شخصا لدرجة أن تشتاق لرؤيته كل دقيقة، ثم ابتسمت وبقيت تنتظر حتى دخل آدم للسرايا بهدوء لتقترب منه نيجار ورحبت به بلهفة ثم صعد معها للغرفة بوجه متجهم وعينين شاردتين لفتت نظرها فقالت باِحتراز :
- خير انت كويس في حاجة ؟
كانت هذه النظرة الأولى التي يرمقها بها منذ دخوله إلى المنزل، رفع آدم عيناه يطالع الاهتمام الواضح على وجهها وهو يفكر أن عائلته أخذت حق عائلتها بالاِحتيال.
هو من قضى أول أيام زواجهما مذكرا إياها بمدى شناعة عائلة الشرقاوي وطبيعتهم المخادعة، كيف سيواجهها وقد اتضح أنه لا أحد مخادع غير عائلته هو ...
وربما كل ما فعلته نيجار في السابق أصبح مبرّرا الآن، حتى طعنها له !
تنهد آدم بثقل الدنيا وردَّ عليها :
- ايوة كويس ... انزلي انتي عشان تتعشي وأنا هلحقك كمان شويا.
لم تكن نيجار غبية كي لا تفهم أنه مزعوج لدرجة كبيرة ولكنها لم تحبذ الضغط عليه فأماءت بإيجاب ونزلت لطاولة العشاء وبالفعل لحق بها آدم بعد دقائق وجلس صوب جدته التي
- بخصوص موضوع سامح يا ليلى ... انتي فكرتي فيه ؟
وضعت الملعقة بجانب الصحن وتدحرجت عيناها نحو نيجار بتلقائية قبل أن تحمحم هاتفة :
- يعني ... ايوة يا ابيه ... بصراحة أنا مش موافقة.
- طب ليه انتي سامعة عنه حاجة مش كويسة ولا عشان لسه مش مستعدة.
- لا خالص أنا مسمعتش عنه وعن عيلته إلا الخير بس يعني حاسة انه لسه بدري على الجواز.
- مفكرتيش انك لازم تستشيريني قبل ما تاخدي قرارك ولا خلاص محدش بقى ليه كبير في البيت ده.
- بس الموضوع ده بيخص حياتها يا ستي ومحدش غير ليلى عنده حق ياخد قراره وطالما هي مش موافقة يبقى مش هنجبرها على حاجة.
اضطرب الجو بنظرات آدم وحكمت الحارقة وكأن حربا ستقوم بينهما الآن وهذا ما جعل نيجار تضع يدها على ساقه بروية كي ينتبه لنفسه ويهدأ فزفر الآخر وهبَّ ينهض من الطاولة مغمغما :
- صحا وهنا.
غادر الصالة وهو ينهب الأرض بخطواته الواسعة وسط الصمت المخيم على المكان، رفعت نيجار رأسها مطالعة وجه حكمت الذي تلون والتمعت عيناها بالشر الخالص فاِعتقدت أنها ستهاجمها الآن وربما تتهمها بأنها من حولت حفيدها إلى شخص يكلمها بهذه الحدة، لكن اضمحلت توقعاتها فجأة عندما نهضت هذه الأخيرة ورحلت هي أيضا !!
عضت ليلى على شفتها باِضطراب وقالت :
- هوما اتخانقو بسببي ولا ايه مفهمتش اللي حصل من شويا.
تنهدت حليمة ونفت برأسها معلقة :
- لا مش بسببك ولا هما اتخانقو اصلا دول كانو زي اللي بينهم حاجة كبيرة مستخبية وقاعدين بيرمو كلام على بعض وده خلاهم يتعصبو ويمشو ... نيجار انتي بتعرفي حاجة ؟
- لأ انا لاحظت ان آدم مش على بعضه بس مقدرتش اعرف السبب، ربنا يستر والقصة متكبرش مابينهم.
برطمت بحيرة حقيقية وقد بدأت تساورها بعض الوساوس، مثلا أن تكون حدثت مشادة بين الجدة وحفيدها بسبب اكتشاف أمرٍ يخص عدوهم المجهول الذي تربطه علاقة بعائلة الصاوي كما تربطه بعائلتها هي !
فربتت حليمة على كتفها محاولة طمأنتها وجعل الأمر بسيطا -رغم أنها تشعر بعكس ذلك- ثم أردفت بعقلانية :
- متقلقيش أكيد بيكونو شدو مع بعض لأي سبب زي العادة، وبعدين احنا ملناش دعوة بكره الأوضاع تهدى مابينهم.
- إن شاء الله.
أوشكت نيجار على أن تصعد إليه إلا أنها تراجعت مفكرة في أن زوجها متضايق جدا الآن وربما يود البقاء بمفرده فعادت تجلس على مقعدها.
ومرَّ الوقت سريعا حتى منتصف الليل ودلفت نيجار للغرفة لتجده مايزال مستيقظا، رسمت ابتسامة على وجهها وجلست بجواره على السرير مرددة برقة :
- انت لسه صاحي أنا افتكرتك نمت وخفت ادخل واقلقك.
- النوم هيجيلي منين بس.
همس آدم بكلمات لم تصل لأذنيها فهمهمت بتساؤل ليرشقها بنظرات مبطنة لم تفهمها ثم غمغم بجدية :
- أنا عاوز اسألك سؤال يعني حاجة شاغلة بالي من فترة.
قضبت نيجار حاجباها باِحتراز وتساءلت بداخلها عما يشغل باله لهذا الحد لكنها أماءت على أي حال :
- طبعا اتفضل.
- هو زمان قبل ما نتجوز كنتي بتبصي لعيلتنا ازاي.
- مش فاهمة.
- مثلا ساعة ما احنا الاتنين كنا مع بعضينا ازاي كانت فكرتك ناحيتي خاصة انك مكنتيش بتحبيني بجد ...
عبست نيجار وأفلتت كفها من يده وقد انقلبت تقاسيم وجهها تماما فأعادها آدم وضغط عليها بأصابعه مستدركا بتوضيح :
- مش قصدي افكرك بالماضي لأننا وعدنا بعض اننا منجيبش سيرته بس عاوز اعرف انتي بجد كنتي شايفة عيلتنا مبتستحقش المكانة اللي هي فيها وأنا مستاهلش ابقى العمدة ... ولا لأن ابن عمك فضل طول السنين ديه بيكرهنا وشايف اني سرقت حقه فبقيتي انتي شايفة الوضع من وجهة نظره هو.
تلكأت نيجار غير مستسيغة لمنحى الحوار بينهما وأيضا احتارت من ذكر هذا الموضوع فجأة لكنها استشفت الجدية في استفساره فتنهدت وأجابته :
- أنا طول عمري كنت بسمع ان العمودية من حقنا و الفكرة ديه كبرت معايا وأكيد كنت هحب ان ابويا أو عمي ولا جدي هوما اللي يستلموها بدالكم حتى لو عيلتك استحقتها اكتر.
بس لو سألتني عن دلوقتي هقولك ان الوحيد اللي بيستاهلها بتعرف ليه ؟
همهم آدم مستحثا إياها على الإكمال فتابعت ببسمة صادقة :
- لأن عكس الباقيين عمرك ما بصيت للعمودية ع انها حق ولا امتياز تتباهى بيه انت شايفها مسؤولية وشايل همها فوق كتافك ومعتبر أمان القرية وأمان الناس من مسؤولياتك حتى قبل ما تستلمها فـ اتخيل ايه اللي ممكن تقدمه للبلد والأهالي لما تاخدها.
فاضت عيناه بلمعة ساحرة وانزوت شفت اه عن ابتسامة هادئة مستفهما منها
- بجد انتي شايفة كده ؟
- اه طبعا هو ده اللي خلاني احبك للدرجة ديه لأنك راجل وسيد الرجالة كل الدنيا كوم وانت كوم تاني عندي.
ردت نيجار بلا تفكير فرفع آدم حاجبه وعلق عليها بسخرية :
- كأنك بتبالغي شويا خدي بالك تتصدمي لما تكتشفي اني مش مثالي اوي كده.
همهمت باِعتراض ووضعت رأسها على كافه العريض موضحة فكرتها :
- محدش قال انك مثالي بس على الأقل انت عمرك ما ظلمت حد أو كدبت وخونت دايما بتواجه اعدائك ومشاكلك ومبتتأثرش بالسوء اللي حواليك، وكل الصفات ديه نادرا ما نلاقيها في الناس.
كانت نيجار تسكب حمما على قلبه دون أن تدري فمن تعتبره مثالا للصدق والشجاعة هو الآن يتردد في كشف الحقائق.
تقول أن له الأحقية لكنها لا تدرك بأن لولا فعلة جدته لكانت العمودية من نصيب عائلتها فقط.
أخرج آدم زفيرا ثقيلا وأسند رأسه على ظهر السرير فملست نيجار على صدره وهتفت مضيفة :
- مهما كان اللي مضايقك دلوقتي أنا متأكدة أنك قده وهتواجهه زي ما واجهت مشاكلك الباقية.
طبعت قبلة عليه وعانقته ليبادلها آدم مصطنعا الراحة لكن على العكس فإن تشتته ازداد أكثر ...
_________________
بعد مرور يومين.
ككل مساء يذهب ليعيدها من الجامعة ويأخذها إلى السرايا في جو يسوده الصمت المشحون لكن وعلى غيره عادته اليوم كان كمن يتقلب على الجمر أثناء جلوسه، وهذا لأنه ذهب لمحل عمل أخيه منذ قليل وصادف أن رأى آدم واقفا مع الشاب الذي طلب يد ليلى للزواج وكانا يرسلان الابتسامة لبعضهما ...
كان الصمت يلفّ السيارة، لكنه لم يكن صمتًا عاديًا بل كان ثقيلًا، مشحونًا ببركان يكاد ينفجر، ضغط محمد على عجلة القيادة بضراوة، وكأنها الوسيلة الوحيدة لكبح غضبه، لكن أفكاره كانت مشتعلة. كيف لها أن تفعلها؟ كيف ستصبح لشخص آخر ؟
عيناه زاغتا للحظة نحو ليلى، التي كانت منشغلة بهاتفها، كأنما لا تشعر بتوتره. ازدادت دقات قلبه وشعر وكأن أنفاسه تختنق، لم يستطع السيطرة على نفسه أكثر فخرجت الكلمات من فمه كالرصاص:
-قبلتي بيه ؟
لم ترفع ليلى رأسها، وأجابت ببرود وهي تتابع العبث بهاتفها:
- ايه ؟
شعر كأنها تصب الزيت على النار. كرر بصوت أكثر حدة، وهو يكافح ليحافظ على هدوء أعصابه:
-بقولك، قبلتي بيه ولا إيه؟
هذه المرة رفعت رأسها ببطء، نظرت إليه بثبات أقرب للتحدي، وقالت بلهجة جافة:
-وإنت مالك؟
كانت تلك الكلمة كالصاعقة، ضغط محمد على المكابح فجأة وأوقف السيارة على جانب الطريق بعنف ثم فتح الباب بسرعة وخرج بيدين ترتجفان من شدة الغضب.
دار حول السيارة وفتح بابها من جهة ليلى، وهدر باِنفلات أعصاب:
- انزلي.
رمقته بدهشة مخلوطة بغضب مكبوت واستنكرت فعلته :
- نعم !
كرر محمد بصوت أعلى وكأنه لن يقبل التردد:
-بقولك انزلي من العربية !
شعرت ليلى بدمائه تغلي لكنها لم تكن من النوع الذي يسمح لأحد بأن يسيطر عليه فخرجت من السيارة بعنف مماثل ووقفت أمامه، تواجه عاصفة غضبه بنظرات ملتهبة :
- إيه التصرفات ديه انت اتجننت مالك بيا اقبل الجواز ولا ارفض.
- أنا مالي ؟ مكنش ده كلامك ساعة ما لمحتيلي بمشاعرك ناحيتي.
صاح محمد بحرقة لم تؤثر على ليلى التي عقبت بنبرة حادة :
- لمحتلك وانت رفضت وقولتلي اني كنت فاهماك غلط وان عمرك ما بصيتلي غير ع اني اخت الراجل اللي بتشتغل عنده، قولتبي ان كل كلامك ونظراتك وتعاملك كان مسايرة وملوش سبب تاني وأنا تفهمت الموضوع وقفلت ع السيرة، في ايه دلوقتي ؟
ثم تابعت مضيفة باِستهزاء :
- ولا حضرتك مهتم بجوازي كنوع من المسايرة كمان ؟
- الكلام اللي قولتهولك كان غصب عني ... أنا ...
تعلقت عينا ليلى به بأمل طفيف ولكن مجددا تحشرجت الكلمات داخل فمه وعجز عن مجابهة الموقف فزفرت يائسة منه :
- خلاص مفيش فايدة يا محمد أنا مش عايزة اضيع وقتي مع جبان بيستخبى ورا كلام فاضي!
تراجع محمد خطوة للخلف لكن صوته خرج غاضبًا رغم الألم الذي حاول إخفاءه:
- أنا جبان؟! أنا اللي بعدتك عني عشان... عشان...
قاطعت هي كلامه بنبرة حادة بينما اقتربت منه خطوة :
-أيوة جبان ! عشان ما عندكش الجرأة تقولها، دايمًا مستخبي ورا كلامك اللي مش مفهوم وبدل ما تواجهني جاي دلوقتي تحاسبني على حياتي؟ على قراراتي ؟
أحسَّ محمد أن كل كلمة تقولها تسحب منه قوته، نظر إليها، عيناه تحملان مزيجًا من الألم والندم لكنه لم يستطع الرد أراد أن يقول كل شيء أن يصرخ بحبها أمام العالم، لكنه ظل عاجزًا.
ليلى، وقد شعرت بالمرارة في أعماقها، تابعت وهي ترفع حاجبيها بغضب :
- بص لو مش ناوي تتحرك من مكانك يبقى بلاش تدخل في حياتي ملكش دعوة بيا فاهم؟
للحظة ساد الصمت، كل شيء توقف حتى الهواء بدا ثقيلًا، حدق بها هذا الأخير وكأن الحروف عجزت عن وصف ما يشعر به ثم استدار فجأة وعاد إلى السيارة دون أن ينطق بحرف.
ظلت ليلى واقفة على طرف الطريق تشعر بأنفاسها تتسارع ويداها ترتجفان أرادت أن تبكي ولكن كبرياءها منعها فمسحت دمعة تسللت دون إذن وقالت بصوت خافت :
- مش محتاجة واحد ضعيف في حياتي ... واحد خايف مبيقدرش يواجه حقيقة مشاعره.
ركبت السيارة وعندما أدار محمد المحرك وانطلق بها فاجأته وهي تقول :
- مش عاوزة اروح للبيت دلوقتي.
نظر لها من زجاج المرآة الأمامية وأراد سؤالها فخرج صوته جافا :
- اومال حضرتك عاوزة تروحي ع فين ؟
- لبيت أخويا التاني ... مراد.
نطقت اسمه شاعرة ببعض الغرابة لأن لسانها لم يتعود عليه لحد الآن نظرا لأنها لا تذكره بصوت عالٍ إلا نادرا.
زاد تفاجؤ محمد وكاد يرفض ويخبرها أنه سيأخذ إذنا من السيد آدم لكن ليلى سبقته بقولها :
- على فكرة أنا كلمت ابيه وهو سمحلي ولو انت مش عايز توديني بقدر اروح لوحدي.
انكمشت تقاسيم وجهه باِستياء من فظاظتها لكنه لم يعلق وسلك طريق منزل مراد الذي مايزال ال، وعند وصولهما التف اليها نصف التفاتة مغمغما بجدية :
- أنا هستناكي هنا لغاية ما تخلصي.
ترجلت من السيارة متجاهلة الرد عليه وطرقت باب شقة -أخيها- الذي كان قد عاد من عمله للتو وفتح لها معتقدا أنها زينب.
لكن حينما رآها هي واقفة أمامه رفع حاجباه بدهشة متمتما اسمها على لسانه فتبسمت ليلى وهتفت :
- اظاهر مش مرحب بيا في بيتك.
استفاق من حالة الذهول وتنحنح مفسحا لها المجال للدخول :
- بعتذر أنا سرحت شويا، اتفضلي.
دلفت إلى الشقة المتواضعة ووقعت عيناها على الأوراق المنتشرة فوق الطاولة في الصالون فلملمهم مراد بعناية ثم دعاها بلطف للجلوس مرددا :
- تشربي قهوة أنا لسه عاملها.
أماءت بإيجاب وبقيت جالسة، عيناها تائهتين في الفضاء لا تجد لها مخرجًا لكن هناك شيء في هذا المكان جعلها تشعر بشيء مختلف، الهدوء الذي يحيط بها جعلها تواجه مشاعرها لأول مرة منذ وقت طويل.
عاد مراد بعد لحظات بالقهوة مع بعض الحلويات وقدمها لها ثم جلس قبالتها وابتسم قائلا :
- بعد اول لقاء مابيننا كنت فاكر اني هرجع أشوفك قريب.
فكرت أنه يعاتبها لأنها لم تَعُد لزيارته منذ ذلك الوقت ففتحت فمها لتفسر إلا أنه رفع يده مقاطعا إياها :
- متقلقيش أنا بهزر معاكي بس، بعرف أن علاقتنا مش بالقوة اللي تخليكي تجي تزوريني كل فترة.
ضمت ليلى الكوب بين يديها وشردت عيناها في الفراغ فاِنتبه مراد لحالتها واستفسر بجدية :
- في حاجة مش مظبوطة معاكِ؟ ممكن تحكيلي لو حابة.
- حاسة نفسي ضايعة ومش قادرة أوقف تفكيري، كل حاجة بتدور في دماغي بسرعة ومش عارفة أعمل إيه.
طالعها الآخر لبرهة ثم جلس بجانبها بهدوء، كان يبدو أنها منزعجة من شيء ما ولكن لم يكن يعلم السبب فحاول أن يريحها ويجعلها تشعر بأنها ليست وحدها في هذه اللحظة.
- هي الحياة كده مش هينة وأحيانا مبنلحقش نستوعب من كتر الأفكار اللي بتهاجمنا مرة واحدة فبتبقي حاسة بالضياع ومش عارفة لازم تروحي لفين.
اقولك ع حاجة ومتفهمنيش غلط ؟ أنا مستغرب لأنك جيتي لبيتي لما حسيتي نفسك ضايعة ومتضايقة.
رفعت رأسها إليه وهزت كتفها معلقة :
- حتى أنا مستغربة ومش عارفة السبب، بس يمكن حبيت ابعد عن اي شي بيفكرني بحياتي ولقيتك انت ... أخويا اللي مكنتش بعرف انه موجود.
- معقوله بنت سلطان الصاوي مش عاوزة تفتكر طبيعة حياتها ده انتي حتى بنت اكبر عيلة في البلد.
ناكشها مراد بقليل من المرح النادر فضحكت ليلى بإحباط وقالت :
- مش يمكن النسب ده مش مخليني اعرف اعيش حياتي زي الباقي ... زي اني ادخل واخرج براحتي وأنام و اصحى من غير ما اخاف على اخويا من اعدائه، أو اقدر احب و اتحب ويتبصلي ع اني ليلى بس، مش بنت عيلة الصاوي وأخت العمدة المستقبلي وحفيدة حكمت هانم.
حسنا، يبدو أن الأمر متعلق بمسائل الحب التي يمر بها الشباب في هذا العمر وهذا ما يجعل -أخته- حزينة ومستاءة.
أومأ مراد بتفهم وبرطم بنبرة حاول جعلها لينة قدر الإمكان :
- عارف إن الحياة مش سهلة بس في النهاية انتي ليلى، مش مجرد اسم ولو حبيتي تعيشي بطريقتك خلي العالم يشوفك زي ما انتي بس حطي فبالك كمان ان لو في شخص مقدرش يقيمك زي ما انتي فيمكن مش هو الشخص المناسب.
وزي ما كنتي عايشة قبل ما هو يدخل حياتك هتعرفي تعيشي من غيره ده مش اوكسجين يعني.
ضحكت ليلى وشعرت براحة في كلماته وكأنها أخيرًا تكلمت مع شخص يدرك حالتها. لكنها ما زالت مشوشة، تبحث عن معنى لما تمر به.
تابع مراد بنبرة هادئة :
- ممكن تكون مش لوحدك اللي حاسة كده. كل واحد فينا عنده لحظات ضياع لكن الأهم إزاي نرجع نلاقي نفسنا تاني.
- زي ما انت لقيت نفسك بعد الكره الكبير اللي كنت شايله في قلبك ناحيتنا.
- انا مكنش عندي مشكلة معاكي ولا شلت جوايا أي مشاعر وحشة ناحيتك.
ظلت صامتة للحظة ثم استدركت :
- بس أنا واحدة من عيلة الصاوي اللي انت بتكرهها او يمكن مبقتش تكرهها زي الاول، مش انت بردو ساعدت ابيه آدم لما اتعرض لهجوم ؟
تنحنح مراد متحسسا طرف ذقنه -وهي نفس طريقة آدم عندما يحاول إخفاء انفعاله لأي سبب كان- اِبتسمت ليلى مفكرة في هذا الأمر ثم استمعت لجوابه القاتم :
- أنا كنت واقف معاه ساعة الهجوم وكان ممكن اتأذى لو مدافعتش عن نفسي علشان كده حشرت نفسي وساعدت آدم رغم أنه مكنش محتاج اوي للمساعدة لأنه قدر يتغلب على نصهم ومسك اتنين منهم كمان، اه صحيح حصلت حاجة جديدة ولا آدم عرف يوصل لطرف الخيط عشان يمسك العدو اللي بيهاجمه ؟
تلألأت عيناها بلمعة المكر مدركة لمدى اهتمامه فهزت كتفيها هاتفة بتلاعب خفي :
- مش عارفة اسأله انت بنفسك.
ثم استقامت واقفة وأضافت بلهجة مستكينة :
- أنا اتأخرت ولازم اروّح عشان محدش يقلق عليا... شكرا لأنك استضفتني فبيتك وسمعت كلامي.
وقف مراد هو أيضا ويخبرها بصدق أنها تستطيع المجيء متى ما أرادت ثم رافقها للخارج ليصطدم بزينب التي كانت على وشك طرق باب شقته.
تلجلجت هذه الأخيرة وتفاجأت من تواجد فتاة مع مراد فتراجعت خطوة إلى الخلف وتمتمت بحذر :
- مساء الخير، كنت جاية اسألك عن شوية حاجات بخصوص القضية لو عندك وقت بس مكنتش بعرف ان عندك ضيوف بعتذر.
لم تعرف لماذا شعرت بضيق غريب في تلك اللحظة.
- عادي مفيش مشكلة ديه ليلى أختي. وديه الانسة زينب، جارتنا."
نظرت له ليلى باِنتباه لكلمة "أختي" التي نطقها أما الأخرى فاِعتلت ملامح وجهها شيئًا من الدهشة، لم تكن تتوقع أن يكون لمراد أختا بل ظنت أنه لم يعد يملك عائلة بعد وفاة والدته حسنا يبدو أن جارها الغامض يحمل الكثير من الأسرار.
أفاقت من شرودها ورددت مستدركة :
- أهلا بيكي.
حيَّتها ليلى بإيماءة من رأسها وودعت مراد ثم توجهت نحو السيارة ليفتح لها محمد الباب سريعا وعيناه معلقتان عليها.
أما الآخر فنظر لجارته التي استطردت معلقة :
- بصراحة أنا مكنتش بعرف ان ليك أخت.
حك مراد شعره بخفة وقال :
- هي أختي من غير أم وعندي أخ كمان.
لاحظ اتساع دهشتها فحمحم واستطرد مغيرا مسار الحديث :
- اتفضلي ادخلي.
- لا معلش انا سايبة ماما لوحدها في المطبخ ومينفعش اتأخر عشان اروح اساعدها.
تفهم مراد أنها لا تود الولوج لمنزله والجلوس معه بمفردهما فتقدم خطوة للخارج واستند على إطار الباب مغمغما بثبات :
- ماشي بخصوص قضية الشقة أنا اتكلمت مع محامي معرفة وحكيتله عن الموضوع بس هو عاوز يسمع منكو تفاصيل اكتر علشان كده لازم تروحو تقابلوه في مكتبه شخصيا.
- طيب المحامي ده شغله عامل ازاي احنا مش عاوزين ندخل في القضية ونخسرها حضرتك بتعرف قد ايه الموضوع حساس.
- متقلقيش هو شاطر وياما كسب قضايا كتيرة زي ديه، وعموما لو لقيتي وقت فراغ بكره اتصلي بيا وأنا هوديكم بنفسي لعنده.
- يبقى لازم تسجل رقمي عندك يا استاذ مراد.
أخذت هاتفه وسجلت رقمها عنده واتفقت معه على اللقاء غدا ثم غادرت وهي تشعر بالأمل يساورها في هذه القضية، أما مراد فاِنتظر دخولها لمنزلها ثم رفع الهاتف وحدق في الشاشة برهة قبل ان يبتسم ويسجل اسمها هامسا :
- زينب ... اسم جميل زيك.
_________________
لم يمر اليوم بسلام على عائلة الصاوي لأن آدم دخل للسرايا وأعلن أنه سيُقيم مأدبة ضخمة في الغد ويعزم عليها العمدة وبقية أعيان البلدة، فتوجست حكمت وعارضته هادرة :
- العزيمة طلعت منين دلوقتي ياحفيدي كان المفروض تعلمني من البداية عشان اعمل حسابي والحق انظم، ولا انت عاوز الناس تاكل وشنا وتقول حكمت هانم قصرت في الضيافة.
أرسلت له تحذيرات مبطنة من عينيها حتى يتراجع عما ينوي فعله أيا كان، إلا أن آدم لم يتأثر بل عقب عليها بلهجة باردة :
- محدش هياكل وشك يا ستي متقلقيش انا عامل حسابي وبكره الصبح من اول ما الشمس تطلع هتلاقي ستات داخلين يساعدوكي في الطبيخ والتنظيم.
ثم انتصب واقفا وأردف ببسمة لم تصل لعينيه :
- وبعدين انا ثقتي فيكي عميا يا حكمت هانم ومتأكد انك هتشرفيني زي العادة مش كده ؟
شعرت نيجار ببوادر شُعلة بينهما وأصبحت شبه متأكدة أنهما يخفيان شيئا خطير وربما هذه المأدبة المفاجئة هي جزء من الأمر.
انتابها إحساس عالِ من الشك والفضول وأصبحت تتحرق شوقا لمعرفة الخفايا فكادت تخرج خلف آدم الذي غادر بيد أنها وجدت حكمت هي من تلحقه بملامح لا تنذر بالخير.
فمطت شفتها بإحباط وعادت لمكانها هامسة :
- أنا متأكدة ان الست ديه مش هتجيبها لبر غير لما تجنن جوزي وتخليه يعمل حاجة غلط.
** في الخارج أوقفت حكمت حفيدها وأدارته لها بعنف صارخة :
- انت بتحاول تعمل ايه وتلعب على مين فاكرها سايبة يا ولد سلطان !
- بعمل ايه يا ستي مش فاهم.
- متستعبطش عليا يا ولد أنا حافظاك كويس انت ناوي تجيب أهالي البلد لهنا وتفضحني صح فاكر انك هتحقق مبادئك بالتصرفات ديه ؟ تبقى غلطان لأن عيلة الصاوي كلها هتدمر مش أنا بس.
غامت عيناه بشكل مريب واشتدت نبرته قتامة بينما يجيب :
- متقلقيش يا حكمت هانم أنا كمان بفكر في عيلتي ومش سهل عليا اعزم الناس لبيتي وافضح نفسي وافضحك .. مفيش حاجة من اللي في بالك هتحصل وعد انا عامل العزيمة ديه لسبب تاني.
قطبت حاجبيها بتجهم وشك لم ينضب وكادت تعترض لكن آدم ابتسم متابعا :
- حضرتك بتعرفي اني مبحبش اكدب وطالما وعدتك دلوقتي يبقى هنفذ وعدي ليكي.
تنهد مخرجا نفسا عميقا ثم طبطب على كف يدها وهو يكمل :
- الوقت اتأخر ولازم انام لأن بكره يوم طويل ... يلا تصبحي على خير يا ستي.
تغيرت نبرته عند آخر كلمة نطقها ورحل بعيدا تحت نظرات حكمت المتقدة وهمستها المتلبدة بخطورة :
- اللي كنت خايفة منه حصل آدم طلع عن طوري ومبقاش رأيي يهمه يا ترى انت ناوي على ايه يا حفيدي.
** وقد كان له ما أراد.
أشرقت شمس يوم غد وقام الجميع على قدم وساق كي يرتبوا للعزيمة المفاجئة، وهاهو المساء قد وصل.
كان الجو مشحونًا بالترقب والأعين المترقبة تخلق شعورًا من الغموض الذي يلتف حول الجميع، اصطفت الطاولة الضخمة على الجانبين في الفناء مليئة بالأطعمة الفاخرة وأصوات الأحاديث تتداخل فيما بينها لكن داخل قلب آدم كانت هناك عاصفة عميقة تجتاحه
ابتسم ابتسامة مصطنعة وهو يراقب الضيوف الذين وصلوا تِلوَ الآخر، العمدة الحالي، رجال المجلس، شيوخ العائلات الكبيرة. وحتى صفوان !!
كانت حكمت تراقب الأوضاع من زاوية أعلى الشرقة كأنها تراقب طائرًا صغيرًا قد يحاول الطيران ثم يسقط في لحظة واحدة، عيناها تلاحق كل حركة وكل تصرف عرفت أنها في النهاية ستكون في قلب العاصفة إن قرر آدم التحرك.
نيجار كانت في جانب آخر من القاعة، تراقب تصرفات آدم بحذر، ترى بوضوح أن شيئًا ما لم يكن على ما يرام كان يشعر بالحيرة على وجهه وبدا مشتتًا كأن كل كلمة أو نظرة تطلب منه اتخاذ قرار مصيري وفي تلك اللحظات، كانت نيجار تقف على الحافة لا تدري بماذا يفكر آدم لكنها تدرك أنه يخفي شيئًا على وشك أن يقرر مصير الجميع.
بعد تناول الأطعمة والتسامر تجمعت الأنظار حول آدم على حين غرة عندما وقف بين الحضور متأهبًا للكلمة وصدع صوته الجاد :
- أنا بشكركم لأنكم قبلتو الدعوة بتاعتي وعاوز اقول انكو نورتونا في سرايا الصاوي.
كانت تلك كلمات بدأ بها، لكن لهجته كانت مليئة بالتحفز والتوتر، مع كل حرف كان ينبعث شك داخل صدره. شعر وكأن ألسنة اللهب تأخذ طريقها نحو قلبه.
- طبعا حضراتكم بتتساءلوا أنا ليه عزمتكم وجمعتكم في مكان واحد وايه اللي يخليني اعمل كده فجأة.
بس الموضوع مش مفاجئ أنا بقالي فترة بفكر فيه.
ركز الجميع عليه خاصة صفوان المتسائل عن سبب عزيمة آدم له هو بالذات في بيته، والعمدة الجالس بوقار يتوقع أن ما سيقوله خليفته سوف يقلب الجو رأسا على عقب. تنفست حكمت ببطء، وكان وجهها مشدودًا كمن تستعد لاستقبال عاصفة أما نيجار فكان قلبها يضرب في داخلها كطبول الحرب لم تفهم بعد ما الذي يعتمر رأسه.
وحليمة وليلى اكتفتا بالمشاهدة من بعيد.
بلا آدم شفته ونظر إلى العمدة قائلا باِحترام :
- أنا طول عمري بشتغل لمصلحة القرية بتاعتنا وربنا شاهد اني عملت كل اللي بقدر عليه عشان سلامة الأهالي وعشان مخيبش ظنك بيا ومش هنسى ثقتك اللي خلتك تعينني خليفة ليك في المستقبل ولازم اقولك ان اللي قررته مش سهل عليا أبدا مش عايز حضرتك تعتبره كقلة احترام ليك بس أنا ...
ازداد ترقب العمدة فرفع آدم رأسه عاليا وألقى ما بجعبته بصلابة :
- أنا قررت إني هتخلى عن منصب العمدة اللي توليته، مش هكمل فيه.