رواية لا تترك يدي الفصل التاسع
أشرقت شمس صباح يوم جديد وملأت بنورها السماء. مازال خالد يبحث عن مريم هو وعمه وبعض أهل البلد. وصل خالد لموقف سيارات الآجرة للمرة الثالثة في ساعتين. لمحها بطرف عينيه وهو يجري بين السيارات يسأل عنها السائقين. كانت جالسة على جانب الطريق مطأطأة الرأس. تنهد خالد وزفر زفرة إرتياح عندما وقعت عينيه عليها. حمد الله وجرى لها.
"مريم."
رفعت مريم رأسها ونظرت له بعيون دامعة. وجهها كان مبتل من دموعها وعيونها كالجمر من كثرة البكاء. جلس خالد على الأرض على جانب الطريق الترابي المؤدي لموقف السيارات وسألها.
"هربت ليه؟ ورايحة على فين؟"
نظرت مريم للأسفل في خجل وظلت صامتة لفترة ثم أجابته بصوت خافت ضعيف من كثرة البكاء.
"مش عارفة."
أخرج خالد منديل من جيبه وأعطاه لها وسألها.
"مش عارفة ايه؟"
مسحت دموعها بمنديله ونظرت له.
"مش عارفة رايحة على فين. مش عارفة حاجة خالص."
علت شهقات بكاءها.
"أستهدي بالله بس."
أستمرت مريم في بكاءها دقائق معدودة ثم هدأت قليلاً.
"لا إله إلا الله."
"مدام مش عارفة رايحة على فين. مشيت ليه؟"
"ما كانش ينفع افضل يا خالد."
"ليه؟"
"ستي سعاد مش عاوزاني افضل في البيت ليلة واحدة تاني. وسيدي إبراهيم شارط علينا علشان أمشي لازم تتجوزني. لا كان ينفع أقعد ولا ينفع أمشي معك."
"وانت يئست ومشيت مع نفسك."
"وكنت هاستنى ايه؟ ما كل حاجة أتعقدت."
"مليون مرة أقولك سيبي الأمور على ربنا وهو هيحلها. ليه على طول بتيأسي."
أعتدلت مريم في جلستها والتفتت له.
"قول لي أنت هيحلها ازاي؟ ستي سعاد هتحن علي فجأة ولا سيدي إبراهيم هيتنازل عن شرطه."
"أو يمكن ننفذ شرطه."
"لا يا خالد مش ممكن."
"ليه يا مريم. لو عندك حل تاني قولي لي عليه."
"ده مشكلتي أنا وأنا مش ممكن أخليك تضيع مستقبلك كله علشان تحل مشكلتي. أنت ساعدتني بما فيه الكفاية وزيادة. أنا مش ممكن أطلب منك التضحية ده. ده جواز يعني قرار مصيري. أزاي تاخده لمجرد شفقة على حد."
"ومين قالك أنه مجرد شفقة عليك؟ أنا يا مريم طيب أه لكن مش مغفل. أنا مش ممكن أوافق على شرط عمي لمجرد أني أساعدك أو أشوف لك مكان. ولا غصب من عمي. أنا موافق على شرطه لأني أنا كمان محتاجك زي ما أنت محتاجاني."
"أنت بتقول أيه يا خالد؟ أنت أزاي تكون محتاجني. أنت عندك كل حاجة هتحتاجني في أيه؟"
"أنا محتاج حد معي يا مريم. أنا عشت لوحدي شهر بعد وفاة أمي كان أصعب شهر عدى علي في حياتي. كنت كل يوم أروح أقعد عند حد من أصحابي. ما صدقت الامتحانات خلصت وجيت على طول لعمي هنا. أنا هاسافر دلوقت وهاعيش لوحدي على الأقل 8 شهور. مش هينفع أفضل عايش ضيف وعالة على أصحابي. أنا سمعت بوداني أهلهم مضايقين من وجودي المتكرر عندهم. اللي عنده أخوات بنات واللي بيته ضيق يا دوب على قدهم. كنت بسمع الكلام بوداني واسكت. علشان مش قادر أدخل أقعد في الشقة لوحدي. مش حكاية خوف لكن أنا مش بحب الوحدة أبدا. مش هينفع أفضل كدة سنين لغاية لما أخلص وأتخرج وأشتغل وأتجوز.
"أنا فعلا ما كنتش بفكر في الجواز أبدا دلوقت. وبالنسبة لي مجرد التفكير فيه جنان. لكن لما عمي كلمني لاقيته فعلا هو الحل الوحيد لمشكلتك ومشكلتي أنا كمان. علشان كدة بقولك لك أنا محتاجك زي ما أنت محتاجة لي."
"مش عارفة يا خالد. خايفة بعدين لما تكبر وتشتغل تندم على جوازك مني. تستعر مني في يوم من الأيام. أنا جاهلة وماليش أهل. كنت شحاتة في الشوارع. لو اتجوزنا وبعد سنة ولا اتنين ندمت على جوازنا ده وسيبتني أنا هاعمل ايه. عارف دلوقت أنا كنت بعيط ليه؟"
"ليه؟"
"علشان معيش فلوس أركب الميكروباص. قعدت في الشارع حاولت أشحت زي زمان ما عرفتش. بعد ما عشت مع عمك الكام شهر اللي فاتوا دلوقت مش عارفة أمد ايدي للناس واشحت زي زمان. مجرد 3 شهور غيروني كدة أمال لو روحت مصر معك وعشت معك واتجوزنا وبعد سنة ولا اتنين ندمت وطلقتني هاعمل أيه؟ هأروح فين؟ لا أنا متعلمة أعرف أشتغل أي شغلانة ولا زي الاول شحاتة أقدر أشحت ولا ابيع مناديل زي زمان. على قد ما أنا بحمد ربنا مليون مرة على أني قابلتك وساعدتني وأنقذتني من الموت على قد ما أنا ندمانة دلوقت لأنك غيرتني ومش عارفة أرجع زي الأول."
ألتفت لها خالد بجسده وضع يده تحت ذقنها رفع رأسها لتنظر له.
"بصي يا مريم. أنا مش هاقدر أوعدك أني عمري ما أندم على القرار ده. لأني أنا نفسي مش متأكد من كدة. ولا ضامن أنك مش هتندمي أنت كمان على القرار ده. لكن اللي أقدر أوعدك به هو أني هافضل مسئول عنك طول عمري. سواء كنت مراتي أو لأ. مش هاسيبك تواجهي الدنيا ده لوحدك أبدا. حتى لو حصل وبعدين قررنا الانفصال هتفضلي مسئوليتي. وكمان هحاول على قد ما أقدر أني زي ما أنا هاكبر وأتخرج وأشتغل أنت كمان هتكبري معي. هحاول أساعدك تتعلمي وتتغيري وعمرك ما ترجعي للشحاتة تاني. وده عهد علي لك قدام ربنا."
"مش عارفة يا خالد أنا خايفة."
"وأنا كمان خايف. أنا مش عارف اللي هاعمله ده صح ولا غلط. لكن أنا أستخرت ربنا. وإن شاء الله اللي فيه خير لي وليك ربنا هيعمله. أنت كمان أستخيري ربنا وإن شاء الله كل اللي يجيبه ربنا خير."
"أستخير ربنا يعني ايه؟"
"ده يا ستي صلاة مخصوصة بتطلبي من ربنا أنه ييسر لك الخير لك في أي قرار تاخذيه. هأبقى أعلمك تصليها أزاي لما نروح البيت. دلوقت تعالي علشان عمي بيدور عليك من الفجر وقلقان جدا عليك."
"حاضر. ربنا ييسر اللي فيه الخير."
وقف خالد ونفض بنطاله من الأتربة. ثم مد يده لها ليساعدها على النهوض. نظرت له مريم وقبلت يده، ووقفت ثم توجها الإثنين معا لمنزل إبراهيم.
* * *
دخلا المنزل وسمعا ضحكات سعاد وهي تمزح مع إبنها هشام. توقفت سعاد عن ضحكها لحظة ما وقعت عينيها على مريم وخالد في المنزل.
"أنتِ جيتِ؟ حمد الله على السلامة يا هانم."
نظرت مريم لخالد ثم نظرت للأسفل واجابتها بصوت منخفض.
"الله يسلمك يا ستي الحاجة."
"أمتى نخلص منك نهائي."
أجابها خالد.
"هانت يا مرات عمي. أنا هأخدها معي وأريحك منها. ما تضايقيش نفسك قوي."
تهلل وجه سعاد وسألته:
"معنى كلامك ده أنك وافقت على شرط عمك؟"
"أيوة يا مرات عمي."
"والفرح أمتى إن شاء الله؟"
"لسة مريم ما قالتش رأيها. هتستخير النهاردة وتشوف."
"هي تطول. تستخير قال."
"هي الإستخارة فيها حاجة وحشة يا مرات عمي."
"مش قصدي. لكن أنا كنت فاكرة أنها ما تصدق تلاقي عريس زيك."
انتبه هشام لهم ورفع رأسه من الموبايل الذي كان يقلب فيه بلا هدف.
"عريس مين وفرح مين؟ أنتم بتقولوا ايه؟"
"فرح مريم وخالد ابن عمك."
انتفض هشام من جلسته ونظر لأمه بغضب.
"خالد هيتجوز مريم؟"
أقترب منه خالد خطوتين ووقف أمامه ونظر له بتحدي وأجابه.
"أيوة ده بعد موافقتها طبعا. في عندك أي إعتراض."
أرتبك هشام ونظر بعيدا عن خالد وقال.
"لا أبدا هاعترض ليه؟ ألف مبروك يا ابن عمي."
شزر هشام لأمه ثم تركهم ودخل غرفته.
"أنت هتعملي لنا فيها عروسة. أدخلي المطبخ شوفي اللي وراك. واقفة كدة ليه؟"
"حاضر يا ستي الحاجة."
توجهت مريم للمطبخ ولكنها توقفت عندما سمعت خالد يقول لها.
"مريم. قبل أي حاجة جهزي لنفسك فطار وأفطري. وجهزي لي كمان معك علشان جعان قوي."
"حاضر."
دخلت مريم المطبخ لتجهز فطار لها ولخالد. مصمصت سعاد شفايفها وسألت خالد
"قولت لعمك ان الغندورة رجعت ولا لسة؟ أصله كان قلقان عليها قوي."
"أتصلت به وقولت له أول لما لاقيتها. هو مشغول في الأرض وقال لي أبلغك تبعتي له الفطار هناك مع بكر."
"حاضر. لما أقوم أقول للهانم تجهز الفطار لعمك كمان. لما نشوف أخرتها معك ومعها أيه."
"أخرتها كل خير إن شاء الله يا مرات عمي."
* * *
اليوم التالي
كانت مريم تصلي في غرفة الضيوف وتدعو الله أن ييسر لها الخير ويختار لها ما فيه خير لها ولخالد. أنهت صلاتها ودعت ربها ثم سمعت طرقا على باب الغرفة. فتحت الباب ووجدت الحاج إبراهيم بالباب.
"فاضية يا بنتي؟"
"أيوة يا سيدي الحاج."
"كنت عاوز أتحدت وياك في كلمتين."
"أتفضل يا سيدي الحاج."
تنحت مريم جانبا وأعطت المجال لإبراهيم ليدخل الغرفة. دخلت مريم وراءه وتركت الباب مفتوحا. أنحنت وطوت سجادة الصلاة ووضعتها جانبا على الأريكة.
"تقبل الله."
"منا ومنك يا سيدي الحاج."
"تعالي يا بنتي أقعدي جنبي هنا."
ربت إبراهيم على الفراغ بجانبه على الأريكة وجلست مريم بجواره.
"خالد قال لي أنك هتستخيري. يا ترى أستخرت؟"
نظرت مريم للأسفل وأومأت برأسها.
"وأيه قولك يا بنتي في الكلام اللي قولناه."
"اللي تشوفه يا سيدي الحاج. أنت أعلم بمصلحتي أكتر مني."
"أيوة يا بنتي لكن ده جواز مش حاجة سهلة. لازم تاخدي أنت قرارك بنفسك."
رفعت مريم رأسها وقالت له.
"أنا من يوم ما جيت هنا وحضرتك بتعاملني زي بنتك. وأنا متأكدة أنك مش هتعمل أي حاجة تضرني."
"ربنا وحده اللي يعلم أني فعلا معتبرك زي بنتي. وعمري ما أفكر لك في الشر أبدا."
"خلاص يا سيدي الحاج. اللي حضرتك شايفه صح أعمله. أنا موكلاك في أمري."
"يعني أفهم من كدة أنك موافقة على زواجك من خالد؟"
"اللي تشوفه يا سيدي الحاج."
"لا يا بنتي لازم أخد كلمة منك صريحة. أنت أستخرت؟"
"أيوة."
"طيب أيه كلمتك. موافقة ولا لأ. بالصريح كدة أه ولا لأ."
نظرت مريم للأسفل وقالت
"أيوة يا سيدي الحاج."
"خلاص على خيرة الله. إن شاء الله بكرة هتيجي معي لدكتور الصحة. علشان نعمل لك شهادة تسنين و نطلع لك بطاقة. بإذن الله كتب الكتاب الأسبوع الجاي."
"حاضر يا سيدي الحاج."
"أسيبك بقى تكملي صلاتك وتنامي. تصبحي على خير."
"وأنت من أهله."
************