رواية عشق النمر الفصل الاول بقلم فهد محمود
كان الليل قد أرخى ستاره على بيت صغير متآكل الأطراف، يقطنه الطفل "هيثم"، الذي لم يتجاوز السابعة من عمره. داخل إحدى الغرف المظلمة جلس هيثم على الأرض الباردة، عينيه مغرورقتان بالدموع، وجسده الصغير يحمل آثار ضرب والده محمود. كانت الظلمة تملأ المكان، وكأنها شريك دائم لحياته التي أطفأ فيها والده كل بصيص أمل.
فتح محمود باب الغرفة بعنف، صوته يشبه الرعد الذي يسبق عاصفة مدمرة
"أنت فاكر نفسك مين عشان تعاندني؟ ما قلتلك ما تتحرك من مكانك ؟"
حاول هيثم أن يبرر بصوت خافت بالكاد يسمع:
"بابا... بس كنت بشرب ميه.
لكن محمود لم يكن بحاجة إلى سماع تبريرات. أمسك عصا خشبية غليظة وانهال بها على جسد الطفل النحيل بلا رحمة. صرخ هيثم من الألم، لكنه لم يقاوم، اعتاد أن الألم جزء لا يتجزأ من حياته. سقط على الأرض، فاقداً وعيه.
في زاوية البيت، كانت الجدة سميرة تجلس بضعف، تستمع لصراخ حفيدها دون أن تقوى على التدخل قلبها يتمزق وهي ترى محمود ابنها الوحيد، يعامل طفله بقسوة لا تُطاق، لكنها لم تكن تملك الشجاعة الكافية لتوقف هذا الجنون.
استيقظ هيثم على ألم شديد في جسده، بالكاد استطاع فتح عينيه كان يعلم أن عليه النهوض سريعاً، فالوقت قد حان ليذهب إلى المدرسة. ارتدى زيه المدرسي الممزق، وحمل حقيبته المهترئة التي بالكاد تحتوي على كتبه، وخرج من المنزل بصمت.
في طريقه إلى المدرسة، لم يكن هيثم كباقي الأطفال. لم يلعب أو يضحك مع أصدقائه، بل كان يسير بخطى ثقيلة، وكأن كل خطوة تزيد من عبء حياته.
جلس هيثم في زاوية الصف، يحاول التركيز على دروسه رغم الألم الذي يشعر به. كان المعلم يلاحظ شروده أحياناً، لكنه لم يسأله عن السبب. كان هيثم طفلاً هادئاً، لا يتحدث كثيراً، ولا يشكو لأحد.
عاد هيثم من المدرسة خائفاً من أن يواجه والده.
دخل المنزل بهدوء، لكنه فوجئ بصوت والده يصرخ
فين كنت كل ده؟ ليه ما رديتش لما ناديت عليك ؟"
حاول هيثم أن يجيب بصوت متردد:
كنت بالمدرسة يا بابا…
لكن محمود لم ينتظر التفسير، وبدأ بضربه مجدداً.
هذه المرة، حاولت الجدة سميرة التدخل
وصرخت
يا محمود الولد هيموت من إيدك حرام عليك"
نظر إليها محمود بغضب، وأشار إليها بيده أن تصمت
"ما حدش يتدخل في تربيتي لابني الولد لازم يتعلم."
في تلك الليلة، جلس هيثم في غرفته الصغيرة منهكاً من الضرب الذي تلقاه. رغم كل شيء، حمل كتبه المدرسية وبدأ يدرس تحت ضوء مصباح صغير بالكاد ينير الغرفة. كان يعرف أن مستقبله الوحيد هو التعليم، وأنه إذا فشل في دراسته، فإن العقاب سيكون أسوأ بكثير.
استمر في الدراسة حتى منتصف الليل، عيونه الصغيرة تقاوم النوم، وجسده المنهك يحاول أن يتحمل المزيد. كل صفحة يقرأها كانت أشبه بتمرد صغير ضد قسوة والده، ورغم كل شيء، كان هناك شعور خافت داخله يقول له: "يوماً ما... سأكون أقوى."
نام هيثم في مكانه الكراسة بين يديه في أحلامه البسيطة، رأى نفسه مرتدياً زي الضباط، يقف بفخر، ويدافع عن كل طفل تعرض للظلم كما تعرض هو. لكنه لم يكن يعلم أن الطريق لتحقيق هذا الحلم سيكون مليئاً بالعقبات، وأن الحب الذي سيدخل حياته لاحقاً سيشعل ناراً جديدة في قلبه، ناراً لن تطفئها قسوة العالم.
عاد محمود إلى المنزل متأخراً كعادته، غاضباً يزمجر كوحشٍ كاسر. رأى هيثم جالساً على الأرض في زاوية الغرفة، عينيه تحاولان الهروب من نظرات والده التي تشبه النار. اقترب محمود بخطوات ثقيلة، صرخ بصوتٍ قاسٍ:
"مش قلت لك ما تنام قبل ما أنظف البيت؟!"
حاول هيثم أن يجيب بصوتٍ مرتعش:
"أنا آسف يا بابا... كنت تعبان."
لكن الاعتذار لم يكن كافياً لإطفاء غضب محمود. أمسك بذراع الطفل الصغير بعنف، وجذبه إلى الخارج بقوة. فتح باب المنزل ورماه خارجاً تحت المطر الذي بدأ يهطل بغزارة.
صرخ محمود:
"طالما ما بتسمعش الكلام، ما لكش مكان هنا! أقعد برا، يمكن المطر ينضف دماغك!"
سقط هيثم على الأرض المبتلة، نظراته المذهولة موجهة نحو والده الذي أغلق الباب خلفه دون أن يلتفت. جلس الطفل على الأرض، شعره المبلل يلتصق بوجهه، وملابسه الخفيفة أصبحت عبئاً عليه تحت البرد القارس.
لم يتحرك هيثم من مكانه. رفع رأسه نحو السماء المظلمة، عيناه الواسعتان مليئتان بالحزن والخوف. ظل جالساً هناك، يحتضن جسده الصغير محاولاً التدفئة، لكنه لم يبكِ. بدلاً من ذلك، استمرت نظراته في التعلق بالسماء، كأنه يبحث عن إجابة أو خلاص من هذا الواقع المرير.
كانت الأمطار تتساقط بغزارة، تغسل وجهه الصغير وكأنها تحاول تهدئة ألمه. لكنه لم يكن يشعر بشيء سوى الفراغ. في داخله، كان هناك صوت صغير يقول له:
"لا تبكِ. لا تضعف. هذا العالم لن يرحمك إذا ضعفت."
مع أول خيوط الفجر، هدأ المطر قليلاً، لكن البرد كان لا يزال قارصاً. استيقظت الجدة سميرة في وقت مبكر لتتفقد حفيدها، لكنها لم تجده في غرفته. شعرت بالخوف، خرجت إلى الخارج لتجده جالساً على الأرض أمام الباب. هرعت نحوه واحتضنته بقوة، ودموعها تنهمر:
"يا حبيبي يا هيثم... إيه اللي عمله فيك أبوك؟"
لكن هيثم لم يقل شيئاً. فقط رفع عينيه نحوها وقال بهدوء يشبه الكبار:
"ما تخافيش، أنا كويس."
أدخلته إلى المنزل سريعاً، وبدأت تُدفئه وتُبدل ملابسه المبللة. جلس على الكرسي الصغير في المطبخ، يشرب كوباً من الشاي الساخن الذي أعدته له جدته.
قبل أن يغادر إلى المدرسة، اقترب منها، قبّل يدها وقال:
"شكراً يا تيتة... إنتِ أحلى حاجة في حياتي."
نظرت إليه الجدة بعينين دامعتين، وقالت:
"ربنا يحميك يا حبيبي، ويوفقك."
ذهب هيثم إلى المدرسة كعادته، بصمتٍ ثقيل. في الصف، جلس وحده، يحاول أن يركز في دروسه رغم آثار التعب التي كانت واضحة على وجهه. كان يعرف أن مستقبله يعتمد على دراسته، وأنه لا يملك خياراً سوى أن يكون قوياً.
في عيني هيثم الصغيرة كانت هناك نظرة تحدٍ، كأن كل معاناة الليلة السابقة زادت من إصراره على البقاء، على القتال بصمت، وعلى أن يكون أقوى من كل شيء يواجهه.