رواية جمر الجليد الفصل الحادي عشر 11 بقلم شروق مصطفي


رواية جمر الجليد الفصل الحادي عشر بقلم شروق مصطفي

قاد سيارته بلا هدف، شاردًا في كلمات ابن عمه التي لم تفارقه. ذكريات الماضي عادت تطارده، صور متقطعة وصوت والدته يختلط بشخص آخر، والدماء تغطي المشهد. حياته تحطمت منذ ذلك اليوم. أصبحت الكراهية والعنف جزءًا من روحه، وبدأ يتلذذ بتعذيب من حوله، خاصة النساء. عيناه ازدادت ظلامًا، ونيران غضبه اشتعلت من جديد، لم تهدأ يومًا.


ضغط على كفه بقوة حتى ابيضت عروقه، وتمتم بعصبية:


"إزاي عاوزني أعيش من جديد؟ وكأن اللي حصل محصلش؟ أنا من جوا ميت. النار دي مش هتطفي أبدًا. أنا اتق.تلت خلاص، والميت عمره ما بيصحى. لازم أكسرها عشان متجيش في بالي تاني. حظها الأسود إنها جات في طريقي، ولازم أنهي وجودها عشان أخلص من التفكير فيها!"


ابتسم ابتسامة شيطانية، وفي غمرة أفكاره وجد نفسه متوقفًا بسيارته أسفل منزلها. نزل بعنف وأغلق الباب بقوة، وكانت هيئته مخيفة للغاية. عيناه توحي كأنه صياد يترصد لفريسته فجأة، لمحها امامه. 


كانت قد نزلت من المواصلات، وعندما رأته تجمدت مكانها. كانت نظراته مريبة ومليئة بالشر، ما أثار رعبها على الفور. لم تتحدث ولم تحاول تفسير الموقف، بل اندفعت مسرعة ركضًا نحو منزلها دون أن تنظر خلفها.


دخلت شقتها بسرعة، وأغلقت الباب بإحكام وهي تحاول تهدئة أنفاسها المتسارعة. هرعت إلى النافذة لتتحقق من وجوده. رأته واقفًا بجوار سيارته، يضرب كفه على سقفها مرارًا وكأنه يخطط لشيء ما.


رفع رأسه فجأة، ونظر مباشرة نحو نافذتها بابتسامة خبيثة، كأنه يعلم تمامًا أنها تراقبه. شعرت بارتجافة في جسدها، وتراجعت عن النافذة وهي تمسك قلبها بيدها.


ركب سيارته وانطلق مبتعدًا، لكنها لم تستطع التخلص من شعورها بالخوف. همست لنفسها بصوت مرتجف:


"إيه اللي جابه هنا؟ وعاوز مني إيه؟ أنا نقصاك إنت كمان؟ يا ترى جاي ليه؟"


ظلت واقفة في مكانها، ترتجف بين قوتها الظاهرة وهشاشتها الداخلية، تحاول استيعاب ما حدث وما ينتظرها لاحقًا.

ـــــــــــــــــــــ

رن هاتفها بإشعار على تطبيق الواتساب. تناولته بفضول، وما إن فتحته حتى ظهرت أمامها رسالة منه. كانت صورته تظهر بجانب النص:


"صباح الورد والفل على أجمل وردة شوفتها في حياتي. لكن أنا زعلان منك."


توقفت للحظة وابتسمت بغير وعي. فكرت:


"أكيد زعلان عشان مرحتش قابِلته."


لكنها لم ترد. أغلقت الهاتف بهدوء ووضعته جانبًا دون أن تعطيه أي اهتمام. عادت إلى لوحاتها الغارقة في الألوان والتفاصيل، منشغلة بإكمال عملها استعدادًا للمسابقة التي لم يتبقَّ عليها سوى أيام قليلة.


بين الحين والآخر، تردد صوت إشعارات أخرى، لكن هذه المرة وضعت الهاتف على الوضع الصامت لتتجنب أي تشويش على تركيزها.


سرحت للحظة وهي تحمل الفرشاة بين يديها، وعادت كلمات مي ترن في أذنها:


"هو فاكر إنه لما وصلنا بالعربية هنتقابل عادي ونتكلم؟!"


ابتسمت بخفة وأردفت بينها وبين نفسها:


"ده طيب أوي."


تنهدت بعمق كأنها تحاول طرد تلك الأفكار من ذهنها، ثم أعادت تركيزها إلى لوحتها. 


داخل غرفة مظلمة، باردة رن هاتف وظهر صوت رجل بنبرة حادة تحمل غضبًا مكبوتًا:


"لقد حذرتك من قبل! إذا ظهرت صوري مرة أخرى، سأمحي وجودك عن وجه الأرض. ألم تفهم بعد؟"


رد الآخر بخضوع واضح:


"أعتذر، سيدي. سأجد هذه الصحفية وأنهي حياتها للأبد."


جاءه الرد بخبث وابتسامة متوعدة:


"لا... لا أريدك أن تنهي حياتها. أريدها حية. سنلعب معها قليلاً... لتتعلم ما يعنيه اللعب مع الكبار. هل تفهمني؟"


أجاب الرجل الثاني بطاعة:


"أمرك، سيدي. سأرسل رجالي للبحث عنها وأحضرها لك."


صمت للحظة ثم أضاف الرجل الأول بنبرة باردة مشوبة بالغضب:


"وأين باقي الفتيات؟ لماذا لم أستلمهن بعد؟"


تحدث الآخر بتوتر:


"سيدي، الشرطة تراقبنا منذ نشر الصور الأخيرة. لم أستطع التحرك بحرية. أرجوك اعذرني، لكني أعدك، سننهي كل شيء قريبًا. وسأتصل بك لتأكيد التنفيذ."


صرخ الأول بغضب:

"كل هذا بسبب تلك الصحفية الغبية! أريدها هنا فوراً! راقب منزلها جيداً، وأرسلها لي دون أي تأخير. هل هذا واضح؟"


رد الثاني سريعًا:


نعم، نعم، سأراقب منزلها، وأرسلها لك فورا. 

أنهى المكالمة بغضب واضح، تاركا الغرفة بصمت ثقيل يخفي خلفه عاصفة تنتظر، الأنفجار. 

ـــــــــــــــــــــــ


 اقتربت من النافذة مجددًا بعد أن أعادت قطعة الأنتيك لمكانها، وأخذت تنظر إلى الخارج محاولة تهدئة نفسها قليلاً. فجأة، هرولت نحو المطبخ، تبحث بسرعة عن شيء محدد بينما كانت عيناها تراقبان الخارج باستمرار خشية أن يكتشف أمرها. عندما لاحظت خروجه فجأة من مكتبه، وقفت كأنها تتناول كوب ماء، متظاهرة بالهدوء.


خرج هو سريعًا من المنزل متجهًا إلى الخارج، واطمأنت أنه غادر. عادت إلى المطبخ لتكمل بحثها المحموم عن أداة رفيعة يمكنها استخدامها لفتح الباب المغلق.


---


في مكان آخر، كان اللواء يتحدث عبر الهاتف:


"إيه الأخبار عندك؟"

رد عاصم بثقة:


"لسه بتحاول تهرب ومش مستوعبة الموقف، لكن متقلقش، يا فندم. كله تحت السيطرة."

هتف اللواء بنبرة جدية:


"أنا معتمد عليك. ورجالتي شغالين على القضية، إحنا قربنا خلاص، هانت."

رد عاصم:


"تمام يا فندم. ولو احتجت مساعدتي أنا جاهز في أي وقت."

قاطعه اللواء بحزم:


"كفاية عليك المهمة اللي عندك. لو احتجتك، هبقى أقولك تنزل. سلام دلوقتي."


ما إن أغلق عاصم المكالمة حتى ظهرت مكالمة أخرى من رقم مجهول. أجاب بحذر:


"أيوه، مين معايا؟"

جاءه صوت ودي:


"أنا والد سيلا، يا بني. طمّني عليها، هي كويسة وبأمان؟ كنت عاوز أكلمها لو ينفع."

رد عاصم ببرود:


"اطمّن، هي كويسة وفي أمان. بس مش هينفع تكلمها دلوقتي، لدواعي أمنية. أنا اللي هتواصل معاك بعد كده."

تحدث محسن بأسف:


"ماشي، يا بني. كنت قلقان عليها بس. هستنى اتصالك. مع السلامة."


أنهى عاصم المكالمة، ثم توجه إلى صالة الألعاب ليخرج شحنات غضبه المتراكمة.


---


استغلت هي غيابه وواصلت بحثها في درج المطبخ حتى وجدت ما تبحث عنه: أداة صغيرة رفيعة لمعالجة الباب المغلق. لمع بريق عينيها بابتسامة خفية تدل على بداية نجاح مخططها. خبأت الأداة داخل ملابسها، وقررت انتهاز أول فرصة للهروب.


بعد فترة، جلست بجانب المدفأة لتستجمع أفكارها. عاد عاصم متعرقًا بعد تمرينه، واتجه مباشرة إلى غرفته في الطابق العلوي. تابعت تحركاته بنظراتها حتى اختفى.


وقفت بسرعة وتوجهت نحو الباب المغلق، وأخرجت الأداة التي خبأتها. بدأت تحاول فتحه بتحريك الأداة داخل القفل، لكنها لم تنجح. جففت العرق عن جبينها وقالت بصوت خافت:


"مش هيأس... هفضل أحاول."


عادت لتجلس على الطاولة، شاردة الفكر، محاولة ابتكار خطة أخرى. بينما كانت غارقة في أفكارها، نزل عاصم بعد أن استحم، ودخل إلى المطبخ. التفت إليها بينما كان يحضر لنفسه كوبًا من عصير البرتقال، وقال بنبرة تحذير:


"ياريت تكوني فكرتي كويس وعقلتي، عشان لو قلبتي مش هتعجبك. أنا بحذرك، ومش هيهمني أي توصيات. هما عارفين أنا مين وبعمل إيه."


تحدث عاصم بنبرة حادة:


"ومتقوليش إني محذرتكيش! انتي هنا بسبب غبائك واستهتارك، وده مش أول مرة تعمليها!"


نظرت إليه سيلا بثبات وأجابت بتحدٍ:


"انت بتهددني؟ أنا بعمل اللي بعمله بمزاجي، ومش خايفة منك أصلاً. ولو الزمن رجع بيا تاني، هعمل اللي عملته من غير تردد، سواء زمان أو دلوقتي. أنا مقتنعة باللي عملته. مش زيكم، سلبيين، تشوفوا الحقايق وتعملوا نفسكم مش شايفين، أو تتحركوا بعد فوات الأوان!"


اشتعل غضبه وهتف:


"انتي فاكرة نفسك مين؟ لما تعرضي اللي حواليكي للأذى؟! مش في زفت نيابة هي اللي بتحقق وقاضي هو اللي بيحكم؟ مين انتي بقى؟ مجرد صحفية مالهاش أي قيمة!"


قاطعت حديثه بانفعال واضح:


"أنا، واللي زيي، السبب إنكم تتحركوا أصلاً! لأنكم لوحدكم ما بتتحركوش. لازم نموت قدامكم عشان تفكروا تتحركوا. حتى لما حد بيتخطف، ما بتتحركوش غير لما يكون الوقت فات. يكونوا اتذبحوا، أو سافروا بعيد، وساعتها تتحركوا!


أنا عملت اللي عملته عشان حقوق الناس اللي ضاعت. لكن واضح إني بضيع وقتي معاك. مفيش فايدة!"


تركته غاضبة، وصعدت إلى غرفتها في الأعلى. أغلقت الباب خلفها، واستلقت على السرير لتستريح قليلاً، تفكر في خطتها القادمة للهروب. همست لنفسها:


"لا مفر... المرة الجاية لازم أنجح."


---


في الأسفل، تمتم عاصم بيأس:


"فعلاً، مفيش فايدة من الكلام معاكي."


توجه لاستقبال الخادمة التي وصلت لتوها من مصر، السيدة فاطمة، التي كانت تعمل لدى عائلته منذ أكثر من خمسة عشر عامًا. كانت بالنسبة لهم مثل الأم، خاصة بعد انتقالهم للعيش في منزل عمهم.


استقبله الحارس ليبلغه بوصولها، فابتسم عاصم وسارع لاستقبالها:


"نورتي ألمانيا يا ست الكل."


ابتسمت السيدة فاطمة وهي ترد عليه:


"نورك يا ابني."


أشار لها عاصم بابتسامة دافئة:


"يلا ارتاحي في أوضتك شوية، وبعدها حضري لنا أكلة حلوة من إيديك. وحشني أكلك جدًا."


ابتسمت فاطمة وقالت:


"عنيا يا بني."


ثم أضاف عاصم:


"عندي ضيفة هنا في الأوضة اللي فوق، اعملي حسابها في الأكل."


توقفت فاطمة للحظة، ونظرت إليه بدهشة:


"مين دي؟ انت اتجوزت؟!"


تجمد عاصم في مكانه، وأصيب بالصدمة من سؤالها، ولم يعرف بماذا يجيب.

الفصل الثاني عشر من هنا

 

تعليقات



×