رواية علاقات سامة الفصل الحادي عشر 11 بقلم سلوي فاضل


 رواية علاقات سامة الفصل الحادي عشر 

   كاد أن يكذب مشاعره التي حدثته مرارًا أنها تبادله مشاعره، حدثه عقله وقلبه بوجود سر بحياتها يقيدها، أقسم لنفسه بالغوص بين ثنايا روحها يحررها ويروي ظمأها بحبه الذي لم يعلم متى ولد، خطط لحياتهما بعدما يرتبطا بميثاق الزواج؛ ليصبح حديثهما ولقائهما حق لهما لا بضع لحظات يسرقاها من الزمن، شعر أنها طيفه الحنون، لم يتوقع الفراق قبل القاء.

ذهب للجامعة اليوم يمني نفسه برؤياها ولو للمرة الأخيرة، انتظرها حتَّى مل الانتظار، وما اخبرته صديقتها جعله على يقين بحاجتها لمساعدته، لكن كيف؟! ما هو السبيل لها وإليها؟ سؤال أرَّق تفكيره المشوش.


 عاد لعمله عاود قراءة الجواب، يحاول تخيل ما عانت، يشعر بقهرها ومدى معانتها، يقسم أنه رأي وجهها الباكي وسمع  نشيجها من بين السطور، حاول تنظيم أفكاره كيف يصل إليها من الأساس، والدها أراد التخلص منها، ولم يبالي بها؛ إذن لن يهتم أو يساعد، بل قد يخبر زوجها فيؤذيها، فمن الأفضل ألا يقربه، قطع تفكيره دخول صديقه طارق المكتب.

- مؤنس أنت فين من بدري؟ بذمتك في حد يعمل كده؟!

نظر إليه بإرهاق ولم يجب، فأكمل طارق حديثه.

-يا أبني رد عليَّا، انت عارف إن في اجتماع النهاردة، وبالرغم من كدة ما كنتش موجود، بس حظك حلو، سيادة العقيد تعب فجأة واتنقل المستشفى.


ظل مؤنس على صمته، فسأله طارق باهتمام جاد:

- أوعى تقولي إنك روحت لها الجامعة، يا مؤنس هي تجوزت خلاص، بطل تفكير فيها، حراااام فاهم يعني أيه؟ قبل ما تجوز قولنا هتتقدم لها، لكن دلوقتي حتى التفكير فيها غير جائز، أنت أكيد عارف ده كويس.

- مغصوبة على الجواز، كانت حاسة بيَّا، يا ريتني تقدمت على طول وما سمعتش كلامها.

- حتى لو زي ما بتقول، في النهاية بقت على ذمة رجل غيرك، اللي ما ترضاش به لنفسك ما ترضاش به لغيرك.

- لازم أساعدها، هي محتاجة مساعدتي.

- تساعدها ازاي! وعلى أيه؟ ما جوزها وأهلها معاها.

- أبوها جوزها عشان تبعد عنه، وجوزها بيعذبها، بيأذيها.

مسح وجهه بغَضَب ويأس من صديقه:

- عايز تحميها من جوزها؟! بأي حق؟ وأي قانون؟ يا حضرت الضابط.

- بقانون الإنسانية يا أخي.

- ولا حتى ده، أنت لا اخوها ولا قريبها عشان تعمل كده، تفتكر لو قربت منها أو تكلمت ده يساعدها؟ أبدًا، تخيل كده مراتك معاك وواحد غريب عنها جاى يبعدك عنها، واحد مفيش بينه وبينها أي صلة، تفتكر شكلها قدامه أو في نظر نفسها وأهلها هيكون ازاي؟ وهيتقال عليها إيه؟ أعقل يا مؤنس وركز في شغلك ومستقبلك.

أراد انهاء جدال لن يؤدي إلا لزيادة ضيقه وغضبه:

- عايز إيه دلوقتي؟ مش الاجتماع اتلغى! سيبك مني.

- هي بقت كده، أنا آسف، بس يهمني مصلحتك، إحنا أصدقاء من أيام الكلية، ولا غيرت رأيك عشان مش بجاريك، وبقول لك الحقيقة.

- ما تزعلش، أنا تعبان، عارف إن كلامك صح، أنا عايز أساعدها بدون ما أظهر، خايف عليها، لو قريت الجواب اللي سابته لصاحبتها تعرف قد إيه هي تعبانة، أنت عارف أنه شافني أخر مرة قابلتها، قالت أنه كان شديد وأذاها جامد، نفسي أعرف عمل إيه؟ نفسي أعرف احميها ازاي؟ مش عارف أفكر دماغي وقفت.

-  اهدى الأول، كل مشكلة ولها حل، خلينا نركز في الشغل، أنت عارف إننا بنجهز خطة لإقتحام وكر إجرامي بقالنا كتير بنجمع معلومات عنه وده عايز تركيز عالي وعدم تشتيت، خلينا نركز في المهمة وأوعدك نفكر مع بعض.


امتثل لصديقه فهو محق بكل ما قاله، كما أنه غير قادر على التفكير حاليًا، الأمر صعب ومعقد يجب أن يختلى بنفسه ليفكر بتمهل، يجب ان ينقذها دون إلحاق الأذى بها.


 منزل طيف الجديد ذو أثاث فاخر وألوان هادئة، يبدو للحظة الأولى مريح وهادئ، عكس ما تشعر به طيف تماما، فالبيت خلى من المودة والرحمة، تشعر بالبرودة في كل ركن وزاوية، ترى جدرانه الملونة قضبان تحولها عن الحرية، بابه متراس حربي يأسِرها ويمنعها عن العالم، تختنق ببطء، كادت تزهق روحها لولا وجود والدت شهاب، تستأنس بها وبمرافقتها التى تريح القلب، حديثها يبث الطمأنينة، أحبتها بشدة هي الجانب المشرق الوحيد بحياتها، عوضتها عن فقدان الأحباب، يجبرها شهاب على الذهاب إليها يوميًا، إلا انها لم تراه متنفسها الوحيد، وكأنها تهرب من سجنها للجَنّة؛ فضمتها تنسيها كلمات شهاب السامة ونظراته الحارقة، إنما الإجبار والشقاء بوقت عودتها لسجنها، كطفل رضيع نُزع من حضن أمه بلا رحمة.


عاد شهاب غاضب بعد رؤية مؤنس بالجامعة، وتأكد أن قدومه أملا برؤية طيف ولقائها، راقب رحلة بحثه عنها حتى سئم، وبالرغم من يقينه بألا يد لطيف بذلك، إلا إنه نوى صب غَضَبه عليها، سيعاقبها، يحب إذلالها، يتدرج معها في الشدة والقسوة، يحب الترويض بهذه الطريقة.


 وقفت طيف بالمطبخ تعد الطعام تستعد لتجهيز المائدة فيجب الالتزام بموعد الغداء، لا يمكنها التأخر ولو لدقيقة واحدة، تجهل ما يمكنه فعله إن تأخرت، ولكن يكفيها معرفتها أنها ستتعرض للعقاب لتتجنب ذلك، تحركت من المطبخ تحمل بيدها الأطباق، فتجمدت وارتجفت أوصالها حين وجدته أمامها، سُحبت الدماء من أوردتها، رأت شرارات الغَضَب بعينيه لسبب مجهول لها، لكنها لن تقع بالفخ وتسأل، الحل تجاهل ما أدركته، تمالكت نفسها سريعًا: 

- حمد الله على السلامة، الأكل جاهز، على ما تغير أكون جهزت السفرة.

نظر إليها بغموض ولم يجب كعادته، تحرك للداخل بدل ملابسه ثم جلس على رأس المائدة، لاحقها بنظراته الحادة المتقززة، جاهدت تحاول الثبات حدسها يخبرها بوقوع كارثة، وزعت الطعام تحاول صرف تفكيرها والهاء ذاتها عن حرب النظرات التي شنها عليها؛ فانتفض جسدها بصدوح صوته المتوعد الغاضب حاولت إخفاء ملامحها المرتعبة بخفضها أرضًا:

- نتيجتك ظهرت النهاردة.

    

طالعها بتدقيق يراقب رد فعلها، رفعت بصرها إليه ثم اخفضته سريعًا لحدة ملامحه، فاسترسل:

- مش هاحسبك على إنها جيد، مش فارق أصلا، بس مش أنا لوحدي اللي شوفتها.


  لم تدرك مقصده، ثم ارتجف قلبها وكاد أن يتوقف، مع سماع باقي كلماته.

- حضرت الظابط المتيم هو كمان جه شافها، ساكتة يعني، مش لاقية حاجة تقوليها، واحد مكاني كان عمل كتير، بس أنا مش بحب أمد ايدي عشان لما حاستخدمها يا طيف، وقتها هتعرفي إن  أبوكِ كان طيب معاكِ، اقفي.


نظرت إليه برعب جلى، لا تعلم ما ينتظرها وقفت محلها وقدمها تكاد ألا تحملها، لم تتحدث ونابت عنها انفاسها المتصاعدة ودقات قلبها المضطربة، غاستطرد غير آبه بحالتها المرتجفة:

- من دلوقتي لحد وقت النوم تفضلي واقفة، ومفيش أكل النهاردة، تاكلى الصبح على الفطار.


صرخ بها يهدد ويتوعدها؛ فضاعف رعبها وذعرها:

- المَحك يا طيف قاعدة أو بتاكلى، والشرب ميه بس، فاهمة؟

أومأت عدة مرات بشحوب وارتجاف، فصرخ بها مجددًا.

-  صوتك يا طيف، أسمع صوتك بدل ما ازود العقاب.

أجابت بصوت مهزوز بالكاد يسمع

- فـ.. فاهمة.

- أقفي ورايا لحد ما أخلص،  بعد ما تخلصي شغلك في المطبخ تفضلي مكان ما أنا قاعد، ومش محتاج أعيد يا طيف، لو أمي عرفت أي حاجة بتحصل بينا، هاعرف شغلي معاكِ، وهمنعك عنها، وأنا عارف انك بتحبيها.


- أومأت برهبة وهي تجيب:


-  حاضر.


لم يكن مجرد تهديد، بل واقع عاشته، فبعد إنهائها أمور المنزل، وقفت بالقرب منه ذليلة مهانة تضور جوعًا، بالإضافة لألم ساقها، لم يرحمها وألقى سهام نظراته تصيب روحها تدميها، ودت لو تستطيع شكواه لوالدها، لكنها توقن تخليه عنها، بل إنه سيخبر شهاب ويتركها تقابل وابل من العقوبات، تخشي مجرد التفكير في ماهيتها، فاضت دموعها بين الحين والأخر، فيقابلها ببسمة منتشية ساخرة، أكدت لها أنه مريض نفسي.


 مر الوقت بطيئا وحل المساء ووقت النوم، وعذاب من نوع آخر، فشهاب يتميز بالعنف في كل تفاصيله ولمساته، لم يرؤف بها وبألم عقابها، وبالفراش هجم عليها كثور جائع، عاملها كفتاة ليل، يأمر فتنفذ، عنف وقسوة بكل حركة، فقط ألم لا مشاعر، لا حب، لا رحمة. تتحرك بحذر محاولة لتقليل الألم دون فائدة، يفعل ما يؤلم عامدًا.

 انتهي وانتهت طاقتها، فضمت نفسها تبكي بصمت اعتادت عليه، منذ أن سمع بكائها يومًا فعاقبها بإعادة معاناتها من جديد بفنون مختلفة الآلام، عادت بذاكرتها ليومها الأول معه، ذلك اليوم الأسود، كان العذاب ذاته، بل جحيم دخلته بفستان أبيض، تتذكر تأوهاتها، وتوسلاتها، رجائها، قبضته الحديدية المؤلمة، صرخت وصرخ جسدها تحت يديه، وما من مغيث.


أيام وأسابيع مضت وكلٍ على حاله، مؤنس يفكر بطيف وسبل مساعدتها، كل من حسن، رامي، شيماء واختها نادية تفوقوا دراسيًا بتفاوت عدا شيماء بالكاد عُدَّت مع الناجحين، كالعادة ارتعبت من رد فعل والدها، الذي تهور وعاقبها بالضرب المبرح حتى كُسرت ساقها؛ فنقلت للمشفى وكانت الفارقة.

 بالمشفى هاتفت سهام والدها  بانهيار صادق لأول مرة من أجل ابنتيها، أسرع والدها إليهم، وجد نادية تبكي بصمت وكذلك والدتها، أما سامح فيقف بعيدًا يبدو على وجهه الغَضَب، يدخن بشراهة. اقترب الحاج محمد من ابنته متسائلا بقلق وتحفز:

- أيه اللي حصل؟ مالها شيماء؟ ردي يا بنتي طمنيني.

- ضربها يا بابا لحد ما كسر رجلها، أنا خايفة يحصل لها إعاقة، والله حاولت أبعده لما لاقيته مش حاسس باللي بيعمله زقني ووقعت وعلى ما الجيران اتلموا كانت رجلها انكسرت، وهي قطعت النفس.

- والله العظيم ما هعديها! وبناته مش هيباتوا معاكم تاني، أنا مش عارف انتم إزاي كده! لا حول ولا قوة إلا بالله! 

- أنا عارفة إني بعيدة عنهم بس مش هاقدر أسيبهم خالص ما تحرمنيش من بناتي يا بابا.

نظر لها لا يعلم أصادقة هي أم كاذبة! اعاد اهتمامه لخطوته التالية يجب تخليص حفيدتيه من حياتهم القاتمة تلك، إذا لم يقدر والدهما قيمة ما وهبه الرحمن، فلعل الحرمان يجعله يدركها.

اتصل بمحاميه يستشيره، والذي حرر محضر بالواقعة واستشهد بأقوال الأطباء وبعض الجيران، تحت مراقبة سامح الذي لم يشغله سوى خسارة الأموال التي يغدقه الجد بها،  هل لا زال لديه فرصة للاستمتاع بها، أم فترة عابرة وانتهت، قطع صمته وشروده صوت المحامي والحاج محمد الذي بدأ الحديث بحدة ووعيد:

- أنا حذرتك من أذية حد منهم، بس الظاهر إنك فاكرني بهزر، انا عملت فيك محضر واتسجل فيه اللي عملته بأقوال الشهود.

رد سامح بتجبر وكبر: 

- دول بناتي وأنا بربيهم مش أول ولا أخر أب يكسر حد من عياله وشوية وهتخف وتبقي قردة، ما ماتتش يعني.

- إيه الجبروت ده يا أخي، أنت إيه! قدامك حلين ما لهمش تالت: يا إما بالذوق كده تمضي تنازل ليا عن حضانة البنات والمحامي هيكمل الإجراءات، يا إما قضية ومراتك نفسها تشهد عليك، وقبل ما تنطق، أنا عارف بتفكر في إيه، هاريحك ومش عشان خاطرك لأنك ولا تسوى، لكن عشان البنات ما يقعدوش معاك ثانية زيادة، بص في حالة أنك تمضي على التنازل بسهولة ونخلص الأوراق بسرعة بدون تأخير، تاخد نص المبلغ اللي ببعته كل شهر ويفضل مستمر، لكن حالة بقي إنك تقاوح وتماطل مش هتاخد مني مليم وفي الأخر هاخد البنات  بردو وأثبت  أنك غير أهل لحضانتهم وأثبت عنفك معاهم وهتشوشر على نفسك في شغلك وهتضر بالجامد.

- نص الفلوس قليل قوي زودهم شوية.

طالعه باحتقار:

- نصهم لك لوحدك اكتر من كلهم مع البنتين وامهم.

- ليه لوحدي؟ وسهام فين؟

- اختارت بناتها عايزة تفضل معاهم.

- قصدك اختارت عزك وفلوسك، ما تقولش البنات وكده، انت مصدق دمعتينها دول، دي أمينة رزق في تمثيلها يا عمي العزيز.

- هتيجي دوغري ولا نمشيها رسمي وتخسر الفلوس.

- موافق، نص الفلوس من غيرهم واعيش حُر نفسي ده عز الطلب، أهم عندك ربنا يعينك بقي، بس أنا إيه يضمن لى الفلوس؟

- ولا أي حاجة غير كلمتي.

- دي كفاية الحقيقة كلامك سيف.


بنفس اليوم خرجت شيماء من المشفى إلى بيت جدها رفقة اختها ووالدتها، وكانت نقطة تحول فاصلة بحياتهم جميعًا.


بضعت أيام وذهب مؤنس للجامعة، توجه لشئون الطلبة يبحث عن عنوانها وأي بيانات مسجلة بملفها، وسأل بعض العاملين والسُعاة حتى علم بهوية من تزوجت وعنوانه، ولكن العنوان المسجل هو عنوان والده وليس محل سكنه، علم شهاب ببحثه عنها، فجن جنونه، قاده تفكيره أن هناك ما لا يعلمه، فكر مليا فيما سيفعله معها لن يستخدم العنف الجسدي الآن لم يحن وقته، ولكن هي تستحق كما يرى بعد تفكير طويل توصل لحل يرضيه، حل يجعلها تذوق العذاب دون أن يمسها ويجعلها بنفس الوقت أكثر رضوخا له.


عاد شهاب إلى بيته بهدوء تام ألقى الرعب بقلبها، تجاهلها تجاهل تام وكأنها غير موجودة، انتهيا من تناول الطعام، أزالت اثاره، ثم وقفت تنهي أعمال المطبخ، حين انتهت وجدته على رأسها، انتفضت واتسعت عينها بذعر، فوجهه لا يبشر بالخير علامات الغَضَب والوعيد طغت على ملامحه، هالة سوداء أحاطت به تنذر بالجحيم، اقترب منها ببطء مدروس ونظرات قاتمة، وعندما تلاشت المسافة بينهما، تحدث بفحيح ارعبها: 

- إيه اللي كان بينكم؟

نظرت له برهبة ولم يهديها تفكيرها لتتكهن هوية من يقصد؛ فلم تجيب، أعاد سؤاله بنبره أكثر شرًا.

- أنطقي.


لم تشعر بقدمها التي تتراجع مع كل خطوة يخطوها نحوها حتى التصقت بالحائط؛ فأصبح أمامها، يكاد يلتصق، فلا مهرب منه، خرجت حروفها وكلماتها مهزوزة، بالكاد تسمع: 

- بيني وبين مين؟ مش فاهمة والله!

- سيادة الظابط اللي لسه بيدور عليكِ وشاغل نفسه لحد النهاردة، أنتِ على اتصال به.

- والله العظيم أبدًا! ما كانش فيه غير اللي تعرفه، وما اتكلمناش من آخر مرة، ومش بشوف حد، هنا أو مع طنط، حتى منال بكلمها مرة كل فين وفين، وبابا مش بيتصل.


رفع يده ووضعها بجانب رأسها على الحائط ليرهبها؛ فخيل لها أنه سيضْـرِبها فانكمشت على نفسها واغلقت عينها بإحكام، اشعرته بقدر بسيط من الرضا، لكن ليس هذا مبتغاه.

- صدقتك لما حلفتي، كذابة لو زي ما بتقولي ليه بيدور عليكِ بعد ما اتجوزتي، انطقي أحسن لك.

ارتجفت أوصالها، كيف تجعله يصدقها؟

- والله العظيم مفيش أي حاجة! مش عارفة بتقول كدة ليه؟ والله العظيم مظلومة!

- ده اخر كلام عندك.

- والله دي الحقيقية!


جذبها من ذراعها وخطا بها حتى دلف للغرفة، ثم نفض يدها بعنف وتحدث آمرًا:

حضري شنطة ليكي لثلاث أيام.

- يا شهاب، والله...

- مش عايز حرف زيادة، تنفذي وأنت خرسة، ربع ساعة تكوني حضرتي هدومك ولبستي، دقيقة تأخير هتندمي بزيادة.


تركها لأفكارها تفتك بها، لا تعلم ما الذي سيحل بها؟ لكنها على يقين أنه العذاب نفسه.

  كانت وجهته بالطبع والدها، يده الضَّـاربة، ما أن رآهما أيقن حدوث خطب جلل، ضخم يستدعي تدخله، استقبلهما بترقب، كادت طيف تموت رعبًا، وقع أسوأ مخاوفها اخبرتها به كلمات شهاب:

- مالك يا شهاب! البت دي شكلها عاملة كارثة.

- حاولت أبلع اللي حصل في الجامعة قبل كدة وما رضتش أنك تمد ايدك عليها، بس شكلي كنت غلطان، البيه اللي كانت ماشية معاه بيدور عليها، شكل اللي بينهم اكتر من شوية كلام، أنا سالتها بالذوق، وبتكذب.


التف لها والدها حدجها بنظرة تحمل الجحيم، نيران مشتعلة تحرق روحها وربما جسدها:

- مراتك أدبها حقك وبراحتك.

رمقها شهاب بنظرة سوداء قاتمة:

- أهي عندك، دي أخر فرصة لها، حسيبها ثلاث أيام، لو جيت ولقيتها تأدبت تمام ترجع معايا، ولو لأ ورقتها هتوصلها، ومش عايز أشوف وشها تاني أبدًا.

انهارت باكية تقسم وتبرئ نفسها مما لم تقترف، دون ان يسمعها أيًا منهما، صما آذانهما عن صدقها: 

-والله العظيم مافيش بينا حاجة! صدقني بالله عليك يا بابا، صدقني يا شهاب، والله مش بكذب!


بصوت يصم الآذان صرخ بها والدها: 

- اخرسي، مش عايز نفس، امشي يا شهاب وزي دلوقت بعد ثلاث أيام تعالى وهتلاقيها زي ما أنت عايز، بس ما تجيش تقولي مراتي، وأنا كنت هعمل، أدام جبتها هنا يبقي هتصرف بطريقتي.


انتحبت طيف وتحرك شهاب منتصرًا، نال ما بغى وقبل مغادرته استمع لصوت الصفعات التي انهتل عليها بها والدها، ولسيل دفاعها وتوسلها؛ فأغلق الباب برضى.


 انقض عليها والدها، ضم أذنه عنها، لديه هدف واحد تأديبها بما يحوذ رضاء زوجها:

- بقى يطلع منك القرف ده، أنا هربيكِ من أول وجديد، ما أنت مش هتوقعي في نصيبي من جديد، لما صدقت فوقت منك أنت وأختك.

لم تكل يده من كيل الضَّـربات والصَّٕفَعات لها تتزامن مع كلماته التي تَجْـلِد روحها، بدأت أنفاسها تتقطع ولم تنفك عن دفع التهم الباطلة عنها

- والله مظلومة! والله مش بخرج من البيت! يا في بيتي يا مع مامته، كفاية يا بابا تعبانة والله، كفاية بالله عليك، كفاية مش قادرة حرام، حرام.

- حرام، ومش حرام تمشي على حل شعرك.


استقام وابتعد عنها وهي منكمشة على ذاتها تتألم كل ذرة بها.

- غيري وأبدئي نضفي، كنت لسه هدور على شغالة، اهو أنت جيتي، هدخل أنام ساعتين بعدها أشوفك هببتي أيه؟ يا ويلك لو ما لقيتكيش شغالة عدل!


 بين سجَّان وجَلَّاد كلاهما بدون مشاعر، ولا منقذ أو مغيث، نفذت بقهر صامت ودموع لم تتوقف.


 غفا بسلام يناقض أفعاله، ثم استيقظ يسن أسنانه ويعد مخالبه لتـنْهَش فريسته، أسود وجهه  حين وجدها لم تنهِ ما أراد، عاد بها لزمن الجواري، جلدها دون رحمة لم يرؤف بتوسلاتها أو إجهادها البيِّن، بل توعدها بالمزيد:

- كل ما تستعبطي، الحزام هيشتغل ونشوف مين فينا اللى هيمشي كلامه على التاني.


عاملها كالعبيد، كلما شعرت بالتعب وحاولت الجلوس كان من نصيبها بعض الجلدات، انهكت واستنزفت قواها، عمل متواصل تخلله حفلات من التَّعذيـب، مع انتصاف الليل شعرت بإعياء شديد، وثقل غير متناهي في حركتها، فرجت والدها لعله يرؤف بها ولو بالشحيح منها.

- مش قادرة والله يا بابا، سيبني أنام وهصحي من بدري أكمل، تعبت قوي وما اكلتش من بدري، هاموت عشان خاطر ربنا سيبني ارتاح شوية.

لم يكن رده سوى بحفلة ألم صغيرة، اعقبها بسؤال وقح متجبر:

- كده اكلتي ولا تحبي تاكلى تاني؟


لم تملك سوى البكاء ترثي به حالها، صمتت مجبرة وحاولت التحرك، ولكن خانها جسدها أو أراحها غصبًا؛ فسقطت مغشي عليها.


لم يلن أو يرق لها، هو جلاد مأمور لا يعلم للرحمة معنًى أو طريق، لا يعي سوى إرادة شهاب بتأديبها وإلا عادت إليه مطلقة، هو عدواني الطبع، يريد الاختلاء بنفسه والتحرر من جميع القيود، تركها ملقاة أرضًا، ودلف غرفته استلقي وبضميرٍ نَطَفٍ عفن غط بنوم عميق.


بعد فترة استعادت طيف وعيها نهضت تجْـبِر جسدها على الحركة حتى وصلت لفراشها القديم، استلقت عليه فغطت بنوم عميق من شدة ارهاقها.

 بضع ساعات واستيقظت بموعدها المعتاد منذ زواجها، واصلت تنظيف المكان بسرعة قدر استطاعتها؛ لتنجز أقصى ما يمكنها قبل استيقاظ والدها، تحاول استغلال عادته بالاستيقاظ متأخرًا لتنتهي من كافة الأعمال المتبقية، وبالفعل تمكنت، بل وبدأت إعداد طعام الغداء.

 

عندما استيقظ نهض يعاين ما فعلت، كمعسكر تأديبي، حدجها  بنظرات احتقار يصيبها بأسهم مشتعلة، اسرعت تعد له الإفطار في محاولة لتفادي نواياه، تلته بإعداد الشاي، واسرعت تنظف غرفته بصمت، ظنَّت نجاتها مِن بطشه لوهلة، حتى شعرت بخطواته خلفها، ثم ألهب جسدها المحترق بلسعات جلدات حزامه من جديد، بدأ حفلة عذاب جديدة تلقتها بهوان، قهر وقلة حيلة غلفتهم باستسلامها لواقع لفظها بإذلال.


 تلون جسدها بالوان الطيف، تعددت آلامها، ولا تملك سوى عَبَراتها تشاركها مرارة الأيام، يحدثها عقلها إن كان والدك يذيقك العذاب؛ فلا تلومي شهاب لأنه يُسقِيكِ الهوان، بل أشكريه فهو أقل همجية.


أخير انهت التنظيف وإعداد الغداء، كادت أن تدخل غرفتها لولا سماعها لصوت والدها الهادر.

- رايحة فين؟!

-  الاوضة، لحد ما تعوز حاجة.

- في المطبخ، مكانك في المطبخ، أنت هنا عشان تتربي، لسه ليكِ قاعدة بس بعد الغدا أنت فاكرة كدة خلاص! لا، ورحمة أمك، أنت هتتربي بحق؛ عشان تتعدلىوتبقى تحت رجل جوزك مش جنبه، على المطبخ.


أسرعت تختفي من أمامه ليلة واحدة أدمت جسـدها ولا تعلم كيف ستنقضي الساعات المقبلة، رافقتها دموعها  وصورة صديقتها البسمة؛ فكلما اغمضت جفنيها وقت معاناتها رأتها هي وكذلك الضابط، وكأنهما يدعماها رغم بعدهما، ابتسمت بحنين، وبكت كما لم تبكي قبل.


 مر الوقت ببطء تفنن والدها في تعـذيـبها، لم يترك كلمة في قاموس السُباب إلا وأسمعها إياها، ولم طلبات غير منتهية وأوامر لمجرد العمل، رفض أن تشاركه الطعام، وجعلها تتناوله بالمطبخ كالخدم اسمعها لها صريحة، جعلها بكل بساطة تتمنى العودة إلى قبضة شهاب الدَّامية.


وصلات متعددة من التحقيق، عاملها كمجرم عتيد الإجرام، وثَّق عنفنه على كل ما ظهر منها، وما خفى كان أعظم، يبغى رضاء شهاب عن فعله، استكفى من وجودها، فعلت كل ما أراد نظافة، طعام، كما أخرج بها كل ما خُزِن داخله من غَـضب ونِقَم على العالم، الآن يريد أن يستعيدها زوجها فلا حاجة له بها، وكل يوم يستلقى ويغوص بنومه دون ذرة ندم واحدة.

 

باليوم الثالث حضر شهاب، مع طرقته الأولى أسرعت تستقبله؛ لينجدها من جحيم والدها، ابتسم بتجبر منتصر، شعر الامتنان لوالدها الذي ابدع وتفنن ترك بصمته جليه على وجهها، جذبت يده تقبلها:

-  كفاية، والله العظيم هعمل أي حاجة تقول عليها بدون تفكير! بس كفاية، كفاية عشان خاطر ربنا! وحياة طنط عندك كفاية! مش قادرة.


خرج والدها يسُبَّها، جذب خصلات شعرها بعُـنف ودفعها ناحية المطبخ:

- استأذنتِ قبل ما تفتحي الباب، اعملي شاي بسرعة.


ابتسم شهاب برضى:

- مش عايز شاي، عايزها في الاوضة عشان أقرر هعمل إيه؟


نظرة من والدها جعلتها تفر من أمامه مرتجفة ولحقها شهاب، الذي جلس على الفراش بتكبر، وضع ساق فوق الأخرى، نظر لها بتفرس، اخترقها روحها بنظراته المهددة، وهي تقف أمامه مرتعشة، تضم كفيها معًا، تنتفض هلعًا، كمن ينتظر حكم المحكمة إما البراءة أو الإعدام  ألمًا، لن تحتمل يومًا أخر رفقة والدها، تحدث شهاب أخيرها مكملًا جحيمها بكلماته اللاذعة، يكمل نحر روحها:

- ضربك طبعا.

أومأت باكية؛ فتحدث بعنجهية: 

- شكلك نسيتي اني بحب أسمع الإجابة.


 كاد ينهض ليتركها؛ فعاجلته باعتذارها:

- والله مش هتتكرر تاني.


ابتسم برضا خطته تسير أفضل مما توقع، جلس كملك طاغٍ ظالم يستمتع بضعف خصمه وإذلاله:

- ماشي وريني أثار اللي عمله.


إذلَـال هو كل ما يفعله معها، وهي لا مجير لها، بخنوع وامتثال عرضت عليه لوحة تعذِيـبها، وآثار والدها المنحوتة عليها، تملكها الخزي، شعرت بصغرها ودونيتها، وكأنها تعرض بسوق الجواري، ولم يتوانى عن تحديجها بشماته ظاهرة، اكملها بسُم كلماته:  

- مبسوطة بشكلك كدة.

بكت قهرًا كما لم تبكِ من قبل، تذوقت العلقم، تحدث بشهقات تدمي القلوب:

- لأ، أنا آسفة.

لم يرؤف بها، أو يراوده الندم، بل استلذ بمرارتها، واستمتع بحالتها: 

- كلامي أمر يا طيف، أنا بكل اللي بعمله أرحم من  أبوكِ، تحبي اسيبك هنا يومين كمان؟!

جثت أمامه وضمت كفه راجية: 

- خدني معاك، هموت والله.

-  البسي وهاتي شنطتك.


تحركت بوهن، حاولت الإسراع قدر استطاعتها، انتهت وخرجت إليهما ترتعش وترتجف تحدجهما بنظرات مرتابة متوجسة، هدأت قليلا عندما خطت داخل بيتها، بعيدا عن جحيمها.

 

 أصبحت أكثر رضوخًا وانهزامًا، يردد كيانها دعوتها اليومية النابعة من قلبها المكلوم، بأن يُعَجِّل الله أجلها لترتاح من قسوة الحياة، تري الدنيا سجن وشقاء.

 حجبها شهاب عن والدته، متعللًا بالكثير من الحجج حتى شُفي وجهها وكل ما يظهر من جسدها، ثم عادت لمجالستها بالأوقات التي يحددها لها شهاب.


 ثلاثة أعوام مرت على الجميع، التحق رامي بكلية الطب، ولا زال والديه لاهيان عنه بحياتهما، يحدثانه برتابة هاتفيا مرة كل شهر أو اثنان، كذلك التحقت نادية بكليه الآثار فقد شغفها حب دراسة الآثار كخالتها، أصبحت شيماء بالشهادة الإعدادية، لم تكن متفوقة كنادية، فاستمر الجد بتشجيعها وعمل على توفير الجو المناسب لها، وما عكر صفوهم هو تأخر حالة الجد الصحية فحزنت حفيدتاه وتألم قلبيهما، أما سامح فاكتفى بما يرسله الجد من مال، يسأل عن ابنتيه وزوجته باعتيادية حرصًا على كسب رضاء الجد وأمواله.

التحق حسن بكلية التجارة، وما زالت حياته تحتوي على الكثير من الرتابة.


فقدت طيف روحها، وحدث ما أكمل معاناتها وجعلها وحيدة بالدنيا قولا وفعلا، بهذا اليوم سمح شهاب لها  بمهاتفة اختها، فاتصلت بها على هاتفها المتحرك كما اعتادت مؤخرًا، وعلى غير العادة وما ادهشها اجابت الخادمة عليها بدلا من أختها:

-ازيك يا منال واحشاني قوي قلقانة عليكِ بقالى كام يوم.

-انا مش ست منال يا ست طيف انا عزيزة الشغالة.

-ازيك يا عزيزة منال فين؟ وسايبه تليفونها معاكِ ليه؟ ناديها طيب.


انتحبت الخادمة:

- ما عادش ينفع يا ست طيف، راحت للي خلقها.


هوي قلب طيف أرضًا، لم تستوعب ما سمعت، أنفعلت وأنكرت، حاولت الخادمة تهدأتها بكلمات اعتيادية، رفض عقل طيف ما سمعت، ورفض تصديقه خرجت كلماتها غير مرتبة:

- منال! لا لا اكيد تقصدي حد تاني، منال لا.

-  إمبارح بالليل لقيناها في اوضتها وروحها فارقتها واتدفنت الصبح، ادعي لها.


سقط منها الهاتف، ولم تستطع قدمها حملها فجلست أرضا ً، صرخ قلبها، ردد لسانها صرخات القلب باسم اختها؛ فدوى  صِـرَاخه وشق الصَّمت.

 ظلت تصرخ وتصرخ من تلك الدنيا والحياة التي جردتها من كل شيء، سلبتها احبابها جميعا، لم تترك لها سوى العذاب، نزعت منها حتى آدميتها.

الفصل الثاني عشر من هنا 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1