رواية علاقات سامة الفصل الثاني عشر
تردد صِـرَاخها غير المنقطع حتى وصل لمسامع والدة شهاب فأسرعت إليها طرقت الباب مرارًا، تنادي باسمها، وطيف بعالم أخر، ترى نصب عينبها صورة اختها وبسماتها، تصرخ باسمها لعلها تجيب النداء، خنجر مسموم شق قلبها؛ فأدماه وروحها تأبى الصعود.
يئست حماتها من إجابتها؛ فاتصلت بشهاب:
- أنت فين يا ابني تعالي بسرعة.
- أنا جنب البيت يا ماما، في حاجة!
- طيف بتصرخ من بدري بخبط ومش بتفتح، تعالى شوف جرى لها أيه؟
- هاحاسبها على عدم ردها عليكِ...
قاطعته مستنكرة:
- يا ابني عايزاك تلحق مراتك مش تحاسبها، أكيد في مصيبة.
فتح الباب ودلف بهدوء مبالغ به عكس حال والدته، التي أسرعت لطيف وضَمَّـتها بحنان، تحتوي ألمها:
- مالك يا بنتي فيكِ أيه؟
فقدت الشعور بما حولها؛ فلم تسمع أو تدرك ما يدور حولها، تردد النداء على أختها ترجوها البقاء، حتى أغشى عليها. استنكرت والدته ثباته وعدم مبالاته لانهيار زوجته:
- أنت بتتفرج يا شهاب.
- أعمل أيه طيب؟
- كلم أختها ولا أبوها افهم في إيه؟
استجاب مضطرًا، لم يتهم بمهاتفة والدها، اتصل بزوج اختها وعلم بوفاتها، بكت الأم رثاءً للأختين، وما زاد صدمتها وتعاطفها مع طيف؛ هو حالة الثبات وعدم الاهتمام التي تحلى بها والدها ورفضه الذهاب لتلقي عزاء ابنته، لم يرَ بذهابه سوى مشقة السفر، عَدَته من عجائب الدنيا، اشفقت على طيف، واصرَّت على بقائها بعنايتها حتى تتجاوز صدمتها، رفض شهاب بالبداية، ثم اضطر للموافقة كي لا يثير شكوك والدته تجاهه.
يومان انفصلت فيهما طيف عن الواقع من شدة حزنها، أُسرت داخل ذكرياتها، أرادت السفر؛ لزيارة أختها يكفي أنها لم تكن جوارها وقت نزولها مرقدها الأخير، جاهدت مع والدها وزوجها رجتهما بكل الطرق، لم يستجب كلاهما فشهاب ترك لوالدها حرية الاختيار:
-لو أبوكِ مسافر روحي معاه أنا مش رايح، ولوحدك مرفوض.
أما والدها فكانت إجابته مختلفة مجردة من المشاعر والإنسانية:
- لأ، بطلي زن وإلَّا اشتكي لجوزك، اختك ماتت وادفنت، اقرى قرآن من هنا مش لازم على قبرها، والحسنات هتروح لها سواء مِن هنا أو هناك، اتهَدْي بقي.
فاستسلمت بالنهاية.
ساد الهدوء غرفة نادية وشيماء، تذاكرا دروسهما، قطعت شيماء الصَّمت وغلب الحزن على نبرتها:
- جدوا تعبان قوي، أنا خايفة، حاسة إن المرة دي غير كل مرة.
- ما تقوليش كدا تاني، إن شاء الله هيبقى كويس.
تنفست بعمق، ثم اعربت عمَّا يجول بخاطرها:
- أنا كمان خايفة، تفتكري هنرجع لبابا تاني.
- الدنيا مِن غير جدوا وحشة قوي، مش عايزاه يمشي، مش عايزاه يكون تعبان، نفسي يكون بخير ومبسوط، هو يستاهل كده، مش هنلاقي حد يحبنا زيه يا نادية أبدًا.
املأت عينها بالعبرات واسترسلت بنرة حزينة يشوبها الرجاء:
- لو مشي مش هيبقالي غيرك يا نادية، ماما بعيد قوي وبابا ناسينا من زمان، أنا عمري ما انساكِ أو أبعد عنك يا نادية، هو أنت ممكن تبعدي عني وتسيبيني؟
- أبعد اروح فين بس؟ تعالى نشوف جدوا.
-
دلفتا غرفة الجد، تحدثت شيماء بمرح:
- جدو يا جدو يا أحسن جد.
تحدث بتعب واضح ونبره غلبها المرض بالرغم من اجتهاده ليبدو بحالة جيدة:
- العسل جه يشوف جدو.
- لا انا جيت اخد العسل من جدو العسل.
تحدثت نادية بجدية كعادتها، توقف مزاحهما غير المتناهي:
- طيب نوقف العسل اللي غرق المكان ونتكلم جد شوية، عامل أيه يا جدو؟ أنا وشيماء قلقانين عليك، ما تروح المستشفى أحسن! أكيد الرعاية هناك أفضل.
- العمر واحد والرب واحد، عايز لما الأجل ينتهي أكون وسطكم، أشبع منكم لأخر لحظة في عمرى، مش عايز أموت لوحدي على سرير بارد.
ألقت شيماء نفسها بين ذراعي الجد باكية، حل صمت حزين بالأجواء، قطعه صوت جدهما:
- عارفين يا بنات الموت بياخد الجسم، لكن تفضل الذكرى بالقلوب، كلامي يتردد بعقلكم، محفور في جواكم، ولا هتنسوا جدو؟
أجابت شيماء بتلقائية:
- عمرنا ما ننسي أجمل جدو، اكتر حد حبنا، من غيرك الدنيا مُرَّة وصعبة، أنا بحبك قوي يا جدو، قبل ما تكون في حياتنا كانت وحشة قوي، وأنت جيت حَلِتها وبقيت أنت دنيتنا.
نظرت له نادية بابتسامة حزينة وفاضت دموعها، فتحدث الجد:
- مش لازم تتكلمي عشان أحسن بيكِ، أنا بحبكم أنتم الاتنين أكتر من بعض، أقولكم سر بحبكم أكتر من أمكم، أنتم أحن عليا منها، أنا عايز أوصيكم يا بنات على بعض وعلى أمكم وأبوكم خليكم بارين بهم حتى لو فضلوا قاسيين، عاملوا ربنا مش الإنسان، أوعوا تتفرقوا أو الدنيا تبعدكم عن بعض.
- بلاش تتكلم كأنك بتقول وصيتك، بلاش يا جدو.
ابتسم الجد بطيبة:
- حاضر يا حبيتي، روحي يا شيماء ذاكري وسبيني مع نادية شوية
جففت دموعها وتحدثت بمرح تخفف حزن الأجواء:
- هاتقول لها سر ومش عايزني اسمعه، امم أنا ممكن اغلس، بس عشان خاطرك همشي.
قبلته ثم خرجت؛ فاقتربت نادية من الجد وجلست على الفراش مقابلة له وعلى وجهها ابتسامة هادئة.
- قول يا جدو أنا سامعاك.
- فهماني يا نادية، أنا فعلًا عايزك في حاجة مهمة، ما ينفعش تتأجل اكتر من كدة.
أصغت بإنصات شديد حتى انتهى:
- دي وصيتي لكِ، أوعى تنسيها أو تفرطي فيها، أختك من غيرك ضعيفة.
أومأت له موافقة وتشعر أنه ألقى عليها حملًا ثقيلًا.
مرت الأيام ومؤنس يبحث عن طيف لم ييأس، بالرغم من انتقال عمل شهاب لجامعة أخرى، وعمل على إخفاء أثره والتعتيم عليه ليصعب اقتفائه، مستعينًا بنفوذ والده -ضابط القوات المسلحة- ومعارفه.
استمات مؤنس للوصول إلى أي معلومة يستثمرها ليصل إلى طيفه دون جدوى، أصبح روتينه اليومي العمل والبحث عنها ثم الاستلقاء بفراشه يحاول تنظيم أفكاره والبحث عن شعاع أمل لإيجادها، وبهذا الوقت دلفت إليه والدته غاضبة، يرودها خَـوف أم اضناها القلق على ابنها:
- وبعدين معاك يا مؤنس! تعبتني يا ابني.
- ليه بس يا أمي؟ أنا كويس أهو.
- أنت بتضحك على مين؟! أنت لازم تتجوز، كدة كتير.
- مش عايز، اتكلمنا في الموضوع ده كتير قوي.
- يعني هو اللي خلقها ما خلقش غيرها!
- لَو سمحتي بلاش نفتح الكلام ده.
- لا بقي هافتحه مرة واتنين وعشرة، وحيدي، عايزة أفرح بجوازك وأشوف لك ولاد كتير مش عايزة اسيبك لوحدك في الدنيا.
- عايزة أيه يا ماما دلوقتي؟
- تتجوز.
- ربنا يسهل.
- يسهل لمَّا تتقدم لها.
- اتقدم لمين؟! أنا مش ناوي اتقدم لحد!
- لبنت العقيد اللي حكيت لى عليها.
طالعها بيأس:
- -انا بحكي لك أخد رأيك، وأنت تاخدي من الكلام اللي يعجبك بس، يا أمي مش هرتاح مَعَها، هي معجبة بالشكل العام بتحب المظاهر.
- بتحبك وده عز الطلب.
- بتحب نفسها والمظاهر، مش هرتاح غير مع واحدة بس، ومش عارف الاقيها.
رمقته غاضبة وبكلمات تحمل بطياتها التهديد تحدثت؛ لعله يلين وينفذ مبتغاها:
- لو فضلت معاند اعتبر اني مش موجودة وما تتكلمش معايا ولا لسانك يخاطب لساني .
غادرت الغرفة حاقنة غاضبة، فشعر بالضيق؛ تتكاتف عليه الحياة وتضيق سبلها أمامه، يعلم مدى إصرار والدته وعنادها لنول مبتغاها ومرادها.
ببطء مر الليل ونثرت الشمس اشعتها الحارقة، جلس مؤنس خلف مكتبه بضيق، يطرق بأصابعه علي سطحه برتابة وشُرُود؛ فلم يستمع لطرقات بابه، الذي فُتح ودلف منه صديقه طارق:
- بقالى ساعة بخبط.
- آه، صباح الخير.
- هو أيه اللي أه! وبعدين يا مؤنس، ختفضل موقف حياتك على واحدة عايشة حياتها عادي، زمانها خلفت كمان وأنت محلك سر، أنت كمان بسببها مش بتركز في الشغل أحيانًا.
تنهد بقلة بيأس:
- أمي مصرة اتجوز.
- والله عندها حق، يمكن تنساها وتخلص.
- بص يا طارق عشان ما نخسرش بعض ما تجيبش سيرتها، تمام.
ضحك بتهكم واستنكار:
- حاضر، طيب إرضي والدتك واتجوز، أيه رأيك في بنت سيادة العقيد «سارة»، كويسة ومعجبة، بتلمح لك والبعيد جِبِلَّة.
- أنت كمان، يا جماعة دي باصة للمظاهر وبس.
طالعه بشرود مفكر، ثم نظر إلى صديقه بسكون حادأثار ريبته فتساءل:
- مالك يا مؤنس سرحت ليه؟
ثبت مقلتيه على صديقه وعقله شارد يعرض عليه أمرًا نوى فعله، ثم ناقشه بأمور العمل ومر اليوم.
عادا من عيادة الطبيبة النسائية والصَّمت يحلق بينهما، لديها ما تود البوح به ويلجِّمها الخوف، اختار شهاب أحد ثيابها النسائية ووضعه على الفراش، أمرها بمقلتيه بارتدائه، امتثلت ثم تحركت نحوه بوهن راجي، تابعها بنظرات الثاقبة، تركها بحيرتخا حتى أقتربت وقابلته واقفة، حينها صدح صوته الماكر:
- عايزة تقولي إيه وخايفة؟ قولي سامعك.
جثت ارضًا، وضعت كفه بين راحتيها وتحدثت مع دموعها راجية متوسلة:
- عشان خاطر ربنا يا شهاب، وحياة كل حاجة غالية عليك، سيب الحمل يكمل المرة دي، نفسي أكون أم، الطفل ده هيكون حته منك، هتربيه زي ما أنت عايز، امتداد لك.
قبَّلت يديه اثناء حديثها، وكل كيانها يرجوه الرحمة؛ فتحدث بتجبر وتعالٍ:
- أنت اللي مش بيكمل لك حمل يا طيف، العيب عندك.
- الدكتورة قالت بسبب عنف العلاقة، كل مرة بتقول كدة، مش هقول لك عشاني بس عشان ابنك او بنتك، مامتك كمان نفسها تشوف لك طفل، عشان خاطرها، وأنا والله من ايدك دي لايدك دي اللي تؤمر به زي العادي هعمله، بس سيب لى الطفل ده يكبر جوايا، بلاش يحصل زي كل مرة، أبوس ايدك.
نظر لها بخبث يتقنه وتحدث بنبرة تعلم دومًا لإخفائها ما يؤذي:
- ماشي، هفكر، اقفي وقربي.
بارتجاف استقامت أمامه وقلبها يدعو الله راجيًا استمالة قلبه اليابس، ليرحم نطفة تنموا بأحشائها، وضعت يديها حول خصرها بحماية، مستجيبة له.
حل الصباح محمل ببعض العواصف الترابية؛ تشعر بالألم يضْـرَب جسدها من بعد حملة من الجوع والبطش، آنت روحها وصَرَخَ البدن، لم تنزف ككل مرة، لكنها متعبة لا تستطيع النهوض، حاولت دون جدوى، تحت نظراته الباسمة المراقبة، تركها تركها لفترة ترثي جالها، ثم جاءها صوته ناهياًا:
- لو قومتي هيحصل نزيف، خليكي نايمة، ما تعمليش حاجة النهاردة، ماما هتطلع لك تشوفك وتساعدك، طيف ده له مقابل هتعرفيه في وقته، لو ما حصلش نزيف لبكرة هتصل بالدكتورة تتابع معاكِ، نامي.
همَّت أن تومئ له فتذكرت تلذذه بطاعتها الذليلة:
- حاضر.
ابتسم بانتصار باتت مطيعة أكثر من اللازم.
جلس بغرفته يذاكر بتركيز، فحياته أصبحت الدراسة وجده وجدته هم كل دنياه، لا يرى دونهما، بات منغلق على نفسه، لا أصدقاء له من الجنسين، والداه يدورا بفلكهما وهو خارجه، غفلا عنه، وهو اجتهد حتى ينحيهما بعيدًا عن مشاعره وتفكيره، انهكه الاشتياق حتى إعتاد الجفاء والبعد.
دلف إليه جده بابتسامة حنونة
- دكتور رامي مش ناوي ينام ويرتاح شوية عشان بكرة في جامعة ولا ايه؟ شكلك ناوي تروح نايم.
- أنا خلصت خلاص بالظبط ربع ساعة.
- ربع ساعة بس وتعالي اشرب اللبن ونام.
- يا جدو أنا كبرت على شرب اللبن.
- كله إلا اللبن ده مهم للعضم، ويهدي الأعصاب عشان تنام بعمق.
- والله بشربه عشان خاطركم؛ بتزعلوا لو ما شربتش.
- ربع ساعة بالظبط عشان اللبن ما يبردش، هجهزه عشان شهيره تعبانة.
انتَـفَض داخله، وامتلأت نبرته بالخوف القلِق:
- مالها تيته؟ حاسة بإيه؟
كاد يذهب إليها يتملَّكه هاجس يخشى وقوعه، الفقد، جذبه جده لاحضَـانه، يربت علي ظهره ويمسد على راسه بحنان:
- ما تخافش كدة يا حبيبي، الضغط مش مستقر، بتدوخ ساعات، هي ترتاح وهتبقي زي الفل.
نظر إليه برجاء، يخشي فراقهما؛ فهما كنزه الثمين، هما والداه الحقيقيان.
- خلاص هكمل مذاكرة بكرة، هاجي أقعد معاكم نتكلم شوية، وبعدين أنام.
أومأ الجد له مبتسما وتحركا معًا.