رواية علاقات سامة الفصل الثالث عشر
عدة أيام مضت على الجميع بهدوء، كل يقوم بأعماله باعتيادية، كعادتها تذهب إلى والدها بمقر عمله، ترى وقاره هيمنته على جميع الضباط تحت أمرته؛ فتشعر بمكانته ومكانتها تحت وصايته، جلست جانبا تتابعه أحيانًا وتعبث بهاتفها أخرى، دلف إليه طارق ومؤنس يناقشون معه بعض أمور العمل؛ فتابعت مؤنس خفية، ظنًا منها عدم ملاحظته، وبعد فترة انتهى الاجتماع.
جلست سارة فترة بسيطة ثم تحركت مغادرة، تعمدت المرور قِبَل مكتب مؤنس، الذي كان ينتظرها ويوقن من مرورها أمام مكتبه، أسرع إليها مناديًا، مما أصار تعجبها لفعله غير المتوقع:
- آنسة سارة ازيك؟
- دي حقيقة ولا تهيُؤات! معقول بتكلمني عادي!
ابتسم بمجاملة وقد أدرك نبرة التهكم بكلماتها:
- تخيلي، عايز اتكلم معاكِ شوية، يا ريت نستأذن سيادة العقيد ونتقابل بوقت يناسبك.
- حقيقي! متأكد من كلامك!
- آنسة سارة أنا أكتر حاجة لاحظتها فيكِ وحقيقي حازت إعجابي هي الصَّراحة، اللي أحيانا بيكون مبالغ فيها، فبلاش تخيليني أغير فكرتي.
- امم كمان، طيب ممكن نروح نقعد في مكان دلوقتي.
- مش نشوف رأي سيادة العقيد الأول، على الأقل بشكل رسمي.
- بابي مش هيعترض أنا متأكدة.
- لازم طبعًا، ثواني.
- هاجي معاك، استني.
لم يُخلِف والدها ظَنَّها، تفرسهما بتدقيق، حدثها بلغة العين يحثها ألا تتهور، ثم حدث مؤنس بكلماتٍ منذرة إن أذى مشاعرها أو تخطى حدوده، طلب أن يكن موطن ثقة وألا يخذله.
جلسا بمطعم راقي هادئ، طالعته صامتة، تتوق لسماع ما تحمله كلماته، اقسمت داخلها ألا تخطو الخطوة الأولى وإن سعت لها، تحدد مبتغاها عكس مؤنس سدور داخله صراع ونزال، لا يعلم إن كانت خطوته هذه صحيحة أم أحمق خطوة قد يخطوها يوما؟ بالنهاية قطع الصَّمت بكلماته، فلا مجال للتراجع:
- تحبي أكون عملي وأتكلم بصراحة ولا أذوق الكلام.
ابتسمت بتهكم:
- ليه تسأل وأنت عارف الإجابة؟ وأنها طريقتي وأسلوبي؛ فأتكلم بصراحة.
- عايز أعمل معاكِ اتفاق.
أثارت كلماته علامات استفهام وطالعته بترقب وهو يدرس ردود افعالها لوقع كلماته، فاخرج ما بجعبته وكلاهما يتابع ويحلل:
- عارف أنك معجبة بالهالة اللي حواليا، الكل بقى عارف حكاية حبي المستحيل، ورفضي الجواز، وأنت عايزة تبقي الأميرة اللي قدرت تخترق حصوني.
ضيقت عينها بغَضَب وتحدثت بهدوء:
- حضرت الظابط، أحب أقولك في فرق بين الصراحة والوقاحة.
- آسف لو ضايقتك، أنا بكلمك كأني بكلم نفسي، المهم الظروف حواليا تجبرني ارتبط، فكرت فيكِ للسبب اللي ذكرته من شوية، وحبيت أكون صريح معاكِ، آنسة سارة أنا بعرض عليكِ نرتبط، سنة خطوبة لو قدرتي تتحملي طبعي وتفكيري في غيرك، وقررنا احنا الاتنين نكمل نتمم الزواج، لو حد تعب أو قرر البعد نفسخ الخطوبة وتكون تجربة وخلصت بالحلو والمُر.
- قصدك جو جواز على الورق وشوية ونقول ما ارتحناش والسيناريو الهابط ده.
- أكيد لأ، الخطوبة عشان نتأكد ونشوف الموضوع مستحيل ولا نقدر نكمل، الخطوبة لازم فترة سنة على الأقل، ممكن أكتر، لكن أكيد مش أقل، المهم تكوني عارفة حقيقة واحدة استحالة تتغير.
- وأيه هي؟
- إني بحب طيف رغم كل الظروف والصعوبات، هي ساكنة كياني ومستحيل أنساها، السؤال: هل تقبلي تتجوزي واحد قلبه ومشاعره مع واحدة تانية؟ ومهما طال الوقت استحالة الحقيقة دي تتغير.
حديثه أثار تحديها، فمن ذا الذي يقاوم حسنها، هي بشهادة الجميع الأصدقاء وحتى الحاقدين جميلة لدرجة تجذب الناظرين، بشرة نقية بيضاء تحافظ عليها وتعتني بها، قامة مثالية، شعرها ناعم طويل، كأمنية كل فتاة، رشيقة رياضية، تساءلت داخلها: أيتحداها؟ هل يعتقد أنها لن تستطيع اختراق حصونه؟
- أيه الظروف اللي تجيرك؟ ممكن تستمر في بحثك، يمكن تحصل معجزة!
- والدتي مُصرة، وحابب أريحها، السؤال اللي توقعته «ليه أنت؟ وليه صارحتك بكل الوضوح ده؟» وإجابة السؤالين واحدة، أنك عارفة كل التفاصيل وعندك روح المغامرة يعني مش هغشِّك، وعارفة إن الجواز تقليدي بدون مشاعر، قائم على الاحترام والتقدير، بس.
- ما تعودتش أخد قرارات زي ده بسرعة، لازم أفكر كويس.
- أكيد طبعا، المهم إنك مش رافضة المبدأ.
- مش شايف الصراحة الزيادة ممكن تفسد الجواز، ويفشل بسرعة، ودي مجازفة كبيرة ليَّا؟
- كلامك مظبوط عشان كده لازم خطوبة في الأول، في العادى فترة الخطوبة كل طرف بيتجمل ويظهر أفضل ما فيه، لكن كلامنا من البداية صريح وبدون تجميل، لو كملنا سنة أو سنة ونص عادى يبقي نقدر نكمل، ولو في أي وقت تعبتي، بمنتهي السلاسة ننهي الزواج، اللى هيتم بطبيعية جدًا، يعني كل التفاصيل العادية شبكة وفرح، وأولاد مش هنقص من حقوقك أى حاجة.
- تنقص بند مش الزامي، لكنه مهم هبقي طول عمرى متأكدة إن جوزي بيخوني بمشاعره.
- اللي بتقوليه صحيح مع تعقيب واحد مهم، إني بخونها هي معاكِ، مش العكس.
- تخونها!! تخونها هي بجوازك مني! بالرغم أن جوازنا هو الشرعي، أنت مجنون؟!
تنهد بضيق:
- آنسة سارة مش مسموح لحد فينا يغلط في التاني لأي سبب.
- هو ده ردك؟!!!
- أيوه، أنا صريح معاكِ لأبعد الحدود، باختصار شديد
Take it or leave it.
القرار راجع لكِ، اعتقد كده خلصنا، يلا أوصلك لسيادة العقيد زي ما طلب، وأشوف شغلي.
تحركت معه بغَضَب، بداخلها غيرة من خصم هزمها دون لقائها، تسبب بجرح كبريائها، ثار بداخلها سؤالا: ما هو شكل من سلبت لُبُّه وقلبه؟!، وجعلته حبيبًا وفيًا رغم استحالة اللقاء.
توجهت سارة لمكتب والدها؛ فسألها باهتمام عمَّا دار بينهما وسبب اللقاء، تبدوا كمن خسر أمواله بالبورصة:
- ضايقك؟
حاولت إخفاء غضبها وتحديها لمؤنس وطريقته:
- ماحدش يقدر يضايقني يا بابي، كان مستفز شوية، لكن في العموم ما حصلش حاجة.
- متأكدة!
- عايز يتقدم لي، سألني عن رأيي.
- مؤنس!!! متأكدة من اللي سمعتيه، مؤنس عامل زي قيس بيدور على ليلاه، يتقدم لك إيه بس! سارة أنا عارف دماغك، بلاش تتهورى وتوافقي، هتتعبي، طول عمرك هتفضلي رقم اتنين، انبساطك بحكاية الوحيدة اللي نسيته حبه والكلام ده هيروح مع الوقت، ويفضل الإهمال والبرود مسيطرين على حياتكم، قدري اللي ناوية تدخليه.
صمتت تفكر فوالدها محق، لكن أيمكنها هي التخلي عن مرادها؟ تريد الدخول لقلب الهالة المحيطة به، مستقبله المهني مرموق، فوالدها دائم المدح بشخصه، خلقه وعائلته، إذن فلمَ لا تخوض التجربة؟! فترة الخطوبة طويلة بشكل كافٍ، شبه حاسمة لأمرها، لكنها تريَّثت، حدثت نفسها بالتمهُّل في اتخاذ قرارها، لتصل لقرار صائب؛ فالأمر يستحق.
جلست نادية شاردة الذهن، تتابعها أختها بتوجس، فمنذ فترة طويلة وهي بعالم أخر، حدثتها شيماء بقلق فاعادتها من شرودها.
- نادية مالك؟ إيه اللي شاغلك كدة؟ في حاجة مزعلاكِ؟
طالعتها بتيه وصمت؛ فازداد قلق شيماء:
- مالك؟ جدو تعبان قوي؟! أنتِ عارفة حاجة ومخبياها؟
- جدو كويس ما تقلقيش الدكتور قال حالته استقرت واتحسن عن الأول، المهم يفضل كدة وما حدش يضايقه، أو يزعله.
- طيب مالك؟! أكتر من ساعة وأنت سرحانة ووشك كل ساعة بشكل.
- قلبت اشكيف!!
- بتتريقي! أنا بطمن عليكِ، هو حالتك دي بسبب كلام جدو! من يومها وأنتِ متغيره، هو جدو زعلك، بس هو مش بيزعلنا خالص، كلميه، أكيد مش قصده.
- لا مش مزعلني، هو بس قال حاجة مستغرباها، بس خلاص عادي، خلصتِ مذاكرة، أنتِ إعدادية السنة دي يعني شهادة شدي حيلك بقي، عايزين درجات كويسة.
- مالك قلبتي على جدو كده ليه؟
- خلصي مذاكرة خلينا نروح نقعد مع جدو.
- صح، في دي عندك حق.
ركزتا بدروسهما، ثم دلفتا للجد، تسامروا معه حتى غط في نومٍ عميق.
أيام لم تحوِ جديد سوى لطيف، فكل تفاصيلها مختلفة، اختلاف أسود، أتخذ شهاب نهج جديد في تعامله معها، منحني مختلف أجله بالسابق، يتحين له اللحظة المناسبة، وها هي اتت مزينة ومهداه مِن القدر، حملها، ورجاؤها الذي حققه بمقابل مجهول لها، كعادته يرتب ويخطط، وينتهز الفرص لاحْـتِلال روحها.
على غير عادته، هادئًا مريحًا، لا أوامر سوى لراحتها، لتجنب حدوث نزيف أو ما شابه، أتبع تعليمات الطبيبة، بأدق تفاصيلها، أكد عليها لتناول الأدوية بمواعيدها المحددة.
بعد عِدَّة أسابيع سمحت الطبيبة بالحركة بأضيق الحدود ودون مجهود، فاصطحبها للذهاب إلى والده، مرا على والدته قبل المغادرة؛ فتعجبت منه:
- رايح بمراتك فين؟! الدكتورة قالت ترتاح وبلاش حركة، يا ابني نفسي أشوف لك طفل.
- رايح لبابا ابشره، الدكتورة سمحت بالحركة، هنروح بعربيتي يعني مفيش تعب.
رمقته بتفرس حدثته بكلمات تحمل بطياتها معانٍ ومغزى قصدته:
- أبوك! ناسي إن الحالة النفسية للحامل مهمة، حرق الأعصاب لها وحش.
- أنتِ عارفة بابا كويس، مش هتقدر تعمل حاجة.
- غريب إن جوازهم مكمل!
- عشان هما زي بعض.
- صح هما زي بعض، بس أنا مش زيهم ولا هكون يا شهاب، المهم أنت زي مين؟ زيه؟!
سلطا نظراتهما تجاه طيف، التي توترت من حديثهما بالبداية، وارتبكت من مطالعتهما لها، يرمقها شهاب بلهيب مستعر ووعيد إن كان ظنه صحيحًا، عكس حماتها تطالعها برجاء متسائل تخشى تأكيد مخاوفها، اخفضت هامتها هروبًا وتسارعت دقات قلبها، اشفقت عليها والدته؛ فتحدثت تنهي الموقف.
- خلى بالك من مراتك يا شهاب، وحاول ما تطولش هناك، مروا عليَّا لما ترجعوا.
- ما اعتقدش يا ماما طيف لازم ترتاح من المشوار، مش كده يا طيف؟
ارتجفت بدنها وشعرت بالقلق مما ينتظرها؛ فأجابت مسرعة:
- اللي تشوفه، أنت ادرى بمصلحتي وتعليمات الدكتورة.
اخفضت وجهها خجلًا من نفسها، تقصد أوامره هو لا الطبيبة، يدرك ذلك، يعلم انها باتت مطيعة لدرجة كبيرة، ولكن لن تحميها طاعتها كما تظن، فهو يحمل لها بطياته الكثير، أخفى ابتسامته سريعًا وتحدث بعملية:
- يلا.
أجواء متوترة سادت السيارة عقب صعودها، لم تدم كثيرًا فشق الصمت صوت شهاب المتوعد الصارم، دون أن يوجه بصره إليها:
- معنى كلام ماما أيه؟! بتشكي يا طيف!
شكوتها سُبَّه، فاسرعت تدفعها عن نفسها:
- والله العظيم أبدا، حتى لما بتسالني عن معاملتك معايا بقول بيعاملني كويس، حتى .. حتى...
- أنطقي.
انتفضت بارتجاف:
- لما سألتني بتضربني ولا لأ؟ بقولها لأ، ومش بقول على اي حاجة، والله!
يذكرها بوضعها متعمدًا، ينسيها راحتها يؤكد استمرار سيطرته عليها.
- تقصدي عقابك! ولا لما سيبتك عند أبوكِ! اللي بيغلط يا طيف لازم يتحاسب، صح ولا ايه؟
- صح، صح، وأنا والله بسمع وهاسمع الكلام، مش هخالفك أبدًا.
- هنشوف.
تحرك إلى والده القاطن بشقة فاخرة، بمكان راقي، زوجته الثانية لم تنجب، وليس له أبناء سوى شهاب، يوجد اختلاف جذري وتباين والدي شهاب بالرغم من قرابتهما فهي ابنة عمه تزوجها بعد وفاة عمه مباشرةً، ولم يستمر زواجهما سوى عامان، ثم انفصلت عنه بالمكان، اكتظ عامهما الأول بالتوتر والخلافات بل المنازعات، كما عجَّ عامهما الثاني بالجلسات العائلية التي لا تنتهي، ومحاولات الصلح، ثم تحررت منه بمعاناة، وفضلت الاعتكاف لتربية شهاب، وهجرت جنس الرجال.
استقبلتهما زوجة والده بفتور، تركتهما واتجهت للداخل، جلسا برسمية حتى أتى والده، رمي طيف بنظرات باردة مبهمة، تكاد تجزم أنها تغلف بداخلها احتقار، تجهل سببه ولكن مع شهاب وعائلته، كل غريب هو أمر عادي، بل أن الأمور العادية هي العجب ذاته؛ فتجاهلت نظراته وابعدتها عن مجال رؤيتها.
لم تخفَ نظرات ومقصدها عنه؛ فهو يرث كل طباعه، لكن بطريقته وطبيعته، سعد بحرب النظرات التي شنها والده عليها؛ فهي تكمل ما يصنعه بها.
دار بينهم حديث فاتر، تم تجاهل وجود طيف بها، جلسة تنبعث منها البرودة كادت تجمد المكان، التزمت طيف بالصَّمت، تحرك شهاب مع والده لشرفة المجلس منفردان، اغلقا باباها بجلسة سرية، أدرك شهاب أن زوجة والده لن تضيع تلك الفرصة هباء، تصنع له فرصته ذهبية مزدوجة الهدف، سيهدي لزوجة والده هدية زيارته، وتكن بداية لنهجه الجديد لترويض طيف، منحى خطر يلزمها بدلوفه، ضريبة الإبقاء على طفلها.
بإتمام إغلاق الشرفة بدأت حرب شنتها زوجة والده، التفَّت إلى طيف وحدجتها بنظرات مستحقرة وتحدثت باستفزاز:
- مبروك الحمل، أتمنى يكمل المرة دي، شكل عيلتكم ما لهاش في الخلفة، مش اختك ماتت من القهر لما جوزها اتجوز عليها ومراته ولدت مرتين، حظها حلو مامتك، لو كانت زيك أنت واختك كان زمانها ماتت مقهورة بدل ما تموت مجلوطة من أبوكِ.
صدمت طيف من فظاظة حديثها، أتعايرها بقهر اختها؟! تعايرها بموت الأحباب، تعايرها بوالدها، وبكل صراحة بل وقاحة.
وقفت عاضبة، لن تقبل لأحبابها الراحلين الإهانة وإن لم تدركاها، ستدافع عنهما مهما كلفها، فصرخت بوجهها:
- ما اسمحلكيش تتكلمي عن اختي وامي، الحمل كمل أو لأ، حاجة بايد ربنا، وأنا راضية بأمره، لكن تغلطي في حد منهم، لأ وألف لأ، لحد هنا وكفاية قوي.
خرج إثر صوتها حماها تلاه شهاب، الذي توقع ما حدث؛ فشيء واحد فقط ما يجعلها تثور، وقد عاقبها بسببه مرارًا بطرق شتي، تحدث والده غاضبًا:
- إيه المهزلة دي؟ ازاي تعلي صوتك فوجودي؟ مفيش احترام ليا ولا لجوزك، إيه يا شهاب مش عارف تعلم مراتك ولا أيه؟
- يا عمي...
كادت تشرح وتوضح، لكن نظرة واحدة من شهاب اخرستها، وارعبتها أيضًا، وتحدث يوضح لوالده:
- أكيد في حاجة كبيرة حصلت، أكيد مرات حضرتك قالت لها حاجة صعبة.
حالتهما، نظرة شهاب لزوجته التي تعلمها وتدرك مدلولها جعلتها تتسرع في الإجابة، متناسية ما سيحل بها:
- قولت حقيقة موت أمها وأختها، تمنيت حملها يكمل، مش عارفة عملت كدة ليه! أنا ما غلطتش.
ابتسم شهاب بانتصار وصل لمراده، بينما حدج والده زوجته بنظرة باردة، تحدث وهو يتحرك للداخل:
- خلى بالك من حفيدي، كلمني الصبح، لما الولاد ينزلوا تعالي بسرعة عايزك.
انتبهت على جملته الأخيرة، اختلت بسمة شماتتها وأدركت وقوعها بالشِرك الذي أعدَّه شهاب، رمقها بسخرية شامتة، وتفوه بكلمات تأكدها:
- سلام يا طنط سهرة سعيدة.
تابعت رحيله بنظرات تقطر غيظًا ووعيدًا؛ فمنذ عودته وهو يوقعها بخبثه في شرك نفسها، وهي تفشل بجدارة في مبادلته المثل، فوالده أكثر عنفا، بل منبع العنف، مَن غرس فسيلته داخله، علمه وتربي على يديه، يعاقب، يحرم من الطعام والشراب، يجلد دون رحمة، الفارق ألَّا خصوصية لوالده، يفعل ما يريد وقتما شاء، لذا فشل زواجه من ابنة عمه، التي رفضت تلك الطريقة من اليوم الأول، بل تمكنت من الانفصال رغم معارضة العائلة كلها، حاربت ولم تيأس، بحثت بين أصدقاء والدها حتى وجدت فيهم من دعمها، وحرص على ألا يعادي زوجها وباقي عائلتها، أما زوجته الحالية، فهي مثله، مريضة بنفس المرض، هو يعشق العقاب، وهي تحب الألم، تعشق رجفتها وقت العقاب، هما حقًا مرضى، كلاهما يستحق الآخر.
دلفت بخطًى ثقيلة، تخشى وتحب ما سيقع عليها، تفكر كيف سيكون العقاب، فاجأها ككل مرة، وما هي إلا لحظات ورج صِـرَاخها غرفتهما تتلوي بين يديه القوية الباطشة.
تحركت بقلب يرتجف فزعًا، لم تندم لدفاعها عن أحبابها، ولكن تخشى فقد طفلها، موقنة من عاقبها تجهل الكيفية، أما شهاب فوصل لمراده، خطط لحدوثه، يتعمَّد الصمت ليُرهبها، يتخيل رد فعلها، صمت وهدوء يسبق العاصفة.
دلف وهي خلفه وقف بمنتصف الصالة يشعر برجفتها خلفه، تخشى التحرك فيزداد غَضَبه، قلبها يحدثها بوقوع كارثة فوق رأسها، لحظات صمت، ثم التفت إليها، رمقها بنظرة جعلتها ترتد للخلف مرتَـعِدة، وكأن ضربتها صاعقة، اسرعت تخفض وجهها هروبًا؛ فأتاها صوته أمرًا:
- -ارفعي وشك.
فاجأها بصفعة مدوية، يعاقبها دوما، إلا أن هذه المرة الأولى التي يعاقبها فيها بدنيًا، كان يستنزفها معنويا حتى يرهقها بدنيا دون تلامس. طالعته بصدمة، تحركت قدمها للخلف عدة خطوات دون شعور منها، يجول بذهنها حتمية الفرار للنجاة بطفلها من قتامة هذه الحياة، تركها تكمل جرمها كما يرى للنهاية، وحين تحركت نحو الباب، وأدارت مقبضه، تحدث متسائلًا سؤال حمل ببطانه التهكم:
- على فين؟!
- همشي، مش قاعدة.
ضحكة ساخرة دوت بالأرجاء وزلزلت كيانها، تحرك نحو مقعده الدائم وجلس بتكبر، وضع ساق فوق الأخرى وتحدث باستهزاء:
- تمام، على فين العزم؟ عند أبوكِ؟!
ادعى التفكير واسترسل بحدة أعين تقدح شـرًّا:
- يبقي الطفل اللى بوستي إيدي عشان يعيش هيتقتل على ايده، نسيتي أنك راجعة من عنده والحزام معلم عليكِ كلك ووشك وارم، ده غير ان أبوكِ هيفضحك، مش هتعرفي ترفعي وشك.
عاد يدعي التفكير:
- يمكن تروحي لماما، اممم.. يبقي انا هنزل اربيكِ تحت، وأكيد على ما أمي تفصلني عنك، أكون عملت كل اللي عايزه، و بردو هاخدك على أبوكِ يكمل عليكِ، ما هو مش طايقك ولا عايزك يا طيف.
اعتدل في جلسته وتحدث بنبرة عنـيـفة حـادَّة رجت كيانها:
- مالكيش غيري يا طيف، أنا المُتَحَكِم الوحيد فيكِ، لو عايزة تنزلي للشارع روحي، وقتها ابنك هيموت بردو، أنتِ نفسك هتتعرضي لحاجات كتير تجارة أعضاء وتجارة بالستات وحاجات كتير.
نظر لساعته بعملية شديدة:
- قدامك دقيقتين تقرري يا تفتحي الباب وتتحركي لاختيار من التلاتة، أو تقعدي على الكرسي اللي هنا ده وايدك جنبك، وإياكِ تحاولى تحركِ إيدك مهما حصل.
أغلقت الباب، اخفضت رأسها بخزي من نفسها ومن العالم أجمع، فلا مهرب منه، هذه حقيقتها وواقعها المرير، انسابت دموع القهر من عينيها تخرج كل دمعة متألمة تزلزل جسدها قلبها وكيانها، تشعر بالذُّعـر والرُّعـب على مستقبل طفلها، فأتاها صوتها حادًا:
- فاضل دقيقة واحدة ووقفتك دي مش اختيار من اللي قولته.