![]() |
رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل المائة والواحد والثلاثون بقلم فاطمه عبد المنعم
"إنْ كان في صُدَفِ الأزمانِ رائعةٌ
فإنّك خيرُ ما جادتْ به الصُّدَفُ"
أبيات قالها "علي ياسر" رحمة الله عليه، ولكنها تتصف ببراعة جمال الصُّدف التي تحصل عليها مرة واحدة في العمر، وترسم بدموعنا مرارة خسارتنا لصدفتنا الأروع.
اضطر "عيسى" بعد خروجه من عند طبيبه النفسي إلى تلبية رغبتها وإيصالها إلى هنا، وكأنه ابتعد عن ضوضاء مدينته ليأتي هنا إلى ضوضاء "قسمت"، ولم تكتف بهذا بل فاجأته حين وصل بها أمام منزلها بسؤالها:
_ هو أنت لما كنت بتهتم بيا، كنت بتعمل ده شفقة ولا إحساس بالذنب؟
اتهام توجهه له ونفاه عنه:
لا مش شفقة، وحتى لو كان إحساس بالذنب، بس كان في قبله إنك مهمة عندي، ويهمني تكوني كويسة
أتى انفجارها الآن على هيئة نوبة بكاء انخرطت فيها وصراخها به:
وأنا بحبك... وكنت بتقطع لما شوفتك اتجوزت، بس سكتت علشان مكنتش هقدر أكون موجودة في حياتك وأنا أصلا حاسة إني حتى نفسي خسرتها ... سيبتني قبل كده وبسبب إنك بعدت أنا ضيعت.
التحمت الأعين وقد بان الذهول عليه وهي تكمل:
أنا كنت بصبر نفسي وأنا تعبانة بأمل إنك كفاية لحد دلوقتي متجوزتش ومستني علشاني، قومت سايبني تاني
بان وجعها وهي تصرح:
ولما عرفت من "باسم" إنها كانت حبيبة أخوك، قولت يبقى أكيد اتجوزتها لأي سبب غير إنك نسيتني
ضحكت بسخرية امتزجت بألمها:
لكن أنت بتحبها، وناقص تعمل حداد أربعين يوم كمان علشان طلقتها
هنا فقط رد محاولا استدعاء كل ذرات ثباته المتبقية:
أنتِ عمرك ما قولتي إنك بتحبيني، ولا أنا عمري قولتلك ده
_ علشان كنت مستنياك تقول، وعينيك كان باين فيها ده زمان، وأول ما حسيت إنك هتقولي لقيتك بعدت وكإنك بتهرب من إننا نكون مع بعض
صحح لها وهو ينظر أمامه حتى لا تلتقي عيناه بعينيها:
مكانش حب يا قسمت، كنتي هتبقي علاقة في حياتي بنسى بيها "ندى"، وأنا مرضاش ليكي ده، ومبعدتش من نفسي على فكرة، أنا انشغلت فبعدت.
تحدثت دموعها قبل أي شيء وهي تقترب منه قائلة:
أنت بتكذب على نفسك
ووجعها بقوله:
حتى لو، بس أنا متأكد إن أي حاجة قبل "ملك" مكانتش حب
أدارت وجهه لينظر لها وهي تسأله بألم:
حتى أنا؟
أصبح قربهما أكثر خطورة، هي عالقة في عينيه، تنتظر جواب سؤالها، وهو أنفاسه تتعالى، راق لها قربهما هذا كثيرا، وزادت لهفتها للجواب في لحظات أدركت أن سؤالها فيها مهما كان جوابه لن تُنسى أبدًا، كان على وشك خطوة واحدة من التجاوب معها، على وشك تقبيلها بالفعل، ولكنه ابتعد فجأة قاتلا أملها، ظنت أنها ستتحمل الجواب ولكنها علمت بحماقتها حين قال وهو ينظر لعينيها وهي على مقربة منه:
رخيص أوي يا قسمت الجو ده.
_ أنت عارف كويس أوي إن جواك عكس اللي بتقوله دلوقتي، عينيك بتقول إن الجو الرخيص ده عاجبك
كان ردها ساخرًا، ورد هو عليها بما أشعل الغيظ في فؤادها:
دي حقيقة فعلا، لما تخيلتك في لحظة "ملك" حسيت إن الجو ده هيعجبني جدا معاها، بس اللحظة راحت خلاص وشايفك قدامي "قسمت" أهو وبقولك إنه مش عاجبني.
في لحظة واحدة نجح بكلماته في إبعادها عنه، عادت لمكانها، واعتدلت على مقعدها، وكل حرف من جمله الأخيرة يحرقها لدرجة جعلتها تقول وهي تستدير تطالعه بحدة:
معاك حق، هي يليق عليها فعلا، واحدة نسيت اللي مات علشانها في كام يوم، لا وسبحان الله ضاقت عليها واتجوزت أخوه، ثم تابعت بسخرية لاذعة:
ونار الحب مولعة بينهم، بتعرف تنام جنبك ازاي؟... وأخوك المرحوم وضعه إيه؟... واحدة زيها فعلا يا عيسى يليق عليها الرخص.
تماسك وبشدة حتى لا يتطاول عليها، وقرر أن يكون رده جارحًا بقدر سوء كلماتها ورد:
لو هي كده مكنتش اتجوزتها، و طالما بتتكلمي بقى في مين رخيص ومين غالي، فلو حد كده هيبقى اللي عرضت نفسها عليا دلوقتي، تعرفي إيه أنتِ عن حياة ملك يا قسمت علشان تتكلمي عليها؟
وقبل أن تقاطعه أكمل هو يزرع أشواك عباراته في جسدها:
أنتِ واحدة فاضية يا قسمت، سطحية لأبعد حد،
وأي حد يقول الكلام اللي قولتيه ده زيك بالظبط، فاكر نفسه عارف كل حاجة وقفل اللعبة ويقدر يحكم على الناس، يطلع دي خاينة، ودي وفية لكن الحقيقة إنه مغفل وحمار.
نظر لعينيها ورأت هي الإصرار في نظراته وهو يدافع عن من ذكرتها بسوء هاتفًا:
ملك شافت فريد بيروح قصاد عينيها غدر، حاجة لو أنتِ اللي شوفتيها مكنتيش هتستحملي تكملي في الحياة يومين، عانت كتير، وبسبب الليلة دي بقى عندها خوف من كل حاجة حتى من نفسها، أنا وهي لما دخلنا حياة بعض كان بطلب مني، كان جزء من اتفاقنا
تذكر بداية اتفاقه معها أن يتزوجا، تذكر أغراضه، عودة شاكر، وتحدي "سهام"... كان لديه أسباب كثيرة ليسلك هذا الطريق، أولها أنه رأى رفض زوجة والده للفكرة فقط فنفذها رغما عنها، ثانيها شعوره باحتياج تلك الضائعة من الوهلة الأولى، ثالثهاأمر عودة شاكر لم يكن ليتم إلا بحضور مهدي عمها ليشهد على عقد القران،
استرسل في حديثه عنها يخبر بكل ألم عاشته:
حتى حياتي لما وافقت تدخلها، كان خوف، خوف من ابن عمها، خوف من المستقبل، خوف لتقول لا فتفضل طول عمرها خايفة، وتخسر احتمال إن أنا الوحيد اللي ممكن أحميها...خوف لتكون بقولة لا دي بتضيع حق فريد، حتى لما راجعت نفسها وجت يوم كتب الكتاب قالت لا، ضغطت عليها علشان توافق
ضحك باستهزاء على حديث " قسمت" السابق وحدثها:
اللي بتقولي عليها خاينة دي، يوم ما حست بس إنها بتحبني شوفت دموعها في عينيها وهي بتقولي خايفة أكون حبيتك، صحيح قلبنا مش بإيدينا يحب ومين ويكره مين لكن عقلنا موجود.
بان التأثر في عينيه وهو يهتف بما دق قلبه له:
وأنا كل حاجة حصلت كانت تخليني بقلبي وعقلي اختار "ملك"، لما احتاجت حد ملقتش غير "ملك"،
لما الكل رفضني اختارتني " ملك"، الوحيدة اللي لما شافت وجعي معدتهوش وكإنه شيء عابر، حست بيه وحاولت تعرف ليه، لما حكتلها عن حاجات تخلي أي حد يبعد عن حياتي المليانة عقد، قالتلي إن أنا مستاهلش الحياة دي وإنها لو مليانة مشاكل فمش بسببي أنا، بسبب ظروف وناس غلط، وحتى الحاجات اللي بسببي وريتهالي وحاولت معايا أصلحها، وغصب عني بقيت علطول أحب وجودها، وأحاول أتوجد في حياتها وكإني رجعت مراهق بيتلكك علشان يشوف أو يلمح اللي بيحبها وهو واقف تحت شباك بيتها
كانت الدموع في مقلتي "قسمت" تحكي كل شيء، تسمعه بألم، تجلدها كلماته، وهي ترى من شعرت أن حياتهما لن تكتمل إلا معًا، يحكي عن واحدة آخرى، متأثرًا لهذه الدرجة، يدافع باستماتة ضد كل من ينعتها بالخيانة
أكمل هو في مرافعته ليظهر براءة من أحبها من كل تهمة وُجِهت لها:
بقيت طول الوقت موجود في حياتها، بطلب نوع الاهتمام اللي هي الوحيدة اللي عرفت تديهولي وتحسسني بيه، وفي الوقت ده بقيت أشوف نقط ضعفها وأحاول أساعدها تتخطاها، أشوف إيه اللي بيخليها خايفة، وأحاول أخليها متحسش الإحساس ده تاني، إيه اللي ممكن يساعدها تكون أحسن وأعمله، كنت بحاول أقدملها كل حاجة تخليها كويسة ومكنتش عايز مقابل، كنت عايز بس أشوفها كويسة، وكان كفاية عليا الإحساس الحلو اللي حسيته معاها
وأتى إلى النقطة الأصعب، ولكنه كان بارعًا في التعبير:
أنا وهي محدش فينا نسي فريد، عقلنا حاول بدل المرة ألف يوقفنا عن إننا نكمل، أنا لما اتجوزتها أبويا حلف عليا إن مهما يحصل مش هطلقها، لكن أنا كنت ناوي أخلص اتفاقنا وأسيبها تشوف حياتها، هو أنتِ مفكرة إن هي عايشة حياتها وفرحانة بقى واتخطت "فريد"؟ ..... ملك لو أنا قربت منها بنفس الطريقة اللي حاولتي أنتِ تقربي مني بيها دلوقتي بتتاخد وتتخطف، ملك لحد النهاردة بتتعالج علشان تعرف تعيش عادي، علشان تقدر تتخطى، حتى أنا، جت عليا لحظة من كتر الضغط حسيت إن كان لازم أنا اللي أموت، الحلم كان بتاعها هي وفريد ومينفعش أنا اخده وحاولت انتحر
مصدومة تسمع منه ما لم تسمع من قبل، يعطيها درس قاسي وأكمله بقوله:
احنا الاتنين متخطيناش فريد ولا خوناه، هي كل الحكاية إن كل واحد فينا نصف التاني لما الدنيا كلها خذلته فكان صعب أوي مبنحبش بعض، وحتى لما حبينا بعض الإحساس بالذنب فضل مطاردنا، وحاجز بيننا، وبنحاول على الأقل نتعافى منه، حتى لو أنا مستحقش، فملك تستحق تعيش مرتاحة
ثم احتدت نظراته وألقى على مسامعها:
وأي حد يقول عليها خاينة، أو شافت حياتها ونسيت اللي راح علشانها، يبقى مغفل، محتاج يروح يشوف حياته ويبطل يحكم على حياة الناس اللي معاشش ظروفهم ولا معاناتهم، واللي لو جرب إحساس ألم واحد بس من اللي حسوا بيه هيصدعنا ليل ونهار، زيك كده يا قسمت.
بدون أي كلمة، فقط عبرات تعبر عن كل شيء، وكانت هي الرد الذي ردت به على كل ما قاله، اتهمتها بجملة فرد بنص كامل ليثبت لها أنه أحب من يهجرها الآن بصدق، ويخبرها كم هي حمقاء حين ظنت أنها تستطيع إصدار حكم واحد فقط عليها.
★***★***★***★***★***★***★***★
لقاء لم يكن في الحسبان، طلب "بشير" مقابلتها، لم يستطع التوصل لها إلا عن طريق حسابها على موقع التواصل الإجتماعي، كانت "علا" على غير العادة، تطالعه باتهام، ولم تكن نظراته أيضا تختلف عنها، وضع النادل المشروبات أمامهما، وأخيرا تحدث "بشير":
والمرحوم أخباره إيه؟
سألته بحدة:
مرحوم إيه اللي أخباره إيه؟
فواجهها بما عنده دون ذرة تردد:
عيسى كان عنده حق لما قال إنك زيهم.
ضحكت باستهتار قبل أن ترد عليه تُلقي اتهاماتها:
والله؟... وأخلاقك أنت وهو كانت فين؟... لما سلطتوا محسن عليا علشان تجيبوا " شاكر"
_ إيه الكلام الأهبل اللي بتقوليه ده
فدافعت عن حديثها باستماتة قائلة:
ده مش كلام أهبل، دي الحقيقة، فجأة أنت وعيسى تروحوا لمحسن في الحتة المقطوعة اللي مستخبي فيها، ولما تشوفوا أمي هناك، تتخانقوا معاه علشان تحبكوها، وبعدها سبحان الله تنزلوا من هنا، ومحسن يقول لامي تكلمني علشان اجي، ويضحك عليها وينزل ياخدني بالعافية، ولولا "شاكر" أخويا كان زمان مستقبلي كله ضاع
ثم أكملت بدموع محذرة:
أخويا اللي إياك تتكلم عليه نص كلمة، عايزين منه إيه تاني، راح وسابها ليكم، برطع فيها أنت وصاحبك
حديثها هذا يبرهن له أنها لا تعلم شيء عن أقاويل "ندى" بأن "شاكر" حي أو ربما تخدعه، ولم تتح له فرصة في التفكير حين استقامت واقفة وهي تخبره بحسرة:
أنا نزلت بس علشان أقولك، إنك كنت آخر واحد ممكن أفكر إنه يستغلني علشان حاجة، بس الظاهر إن أنا خلاص مبقتش أعرف غير اتخدع في الناس.
برر بهدوء يؤكد البراءة من تهمها هذه:
احنا فعلا روحنا لمحسن لما والدتك كانت عنده بس مش علشانك...لا أنا ولا عيسى لينا علاقة بكلامك ده
ثم سألها، يبث داخلها الشكوك تجاه شقيقها:
تستبعدي عن "شاكر" إن يبقى هو اللي عملها، علشان يبان قدامك في دور المنقذ وترجعي طوع ليه تاني، ولا يبقى "محسن" عملها علشان أخوكي طلع ندل معاه... في كل الأحوال يا "علا" أي حاجة حصلتلك أكيد بسبب "شاكر"، وأنا آخر واحد تتهميه.
_ وأنا مش هصدق كلمة تاني أنت اللي قايلها.
كانت جملتها الأخيرة حاسمة وهي تغادر المكان كعاصفة تحت نظراته التي لا تفارقها وكانت النهاية أن أغمض عينيه بتعب شديد من كل هذا... فما يحدث لا يُحتمل.
قرر إخبار " طاهر" بما وصله من "ندى"، كانت مكالمة هاتفية أكد فيها بعد استفسار " طاهر" عن التفاصيل أكثر:
بقولك رمت الكلمة والخط اتقطع، وبحاول أوصلها مش عارف.
وبعد تفكير أخبره "طاهر":
ولا كإنك سمعت حاجة، ومتحاولش توصلها تاني،
لو حاولت هي تكلمك، هات اخرها، غير كده كإننا معرفناش حاجة
ونبهه بحرص:
عيسى ميعرفش أي حاجة عن المكالمة دي يا " بشير"... أنا هخلي عيني عليهم من بعيد أعرف إيه اللي بيدور هناك والكلام اللي قالته ده لعب ولا لا، ولحد ما نوصل لأي حاجة، خلي عيسى بعيد... ثروت مش سهل، وممكن يكون هو اللي خلاها ترمي المعلومة دي علشان عايز يلبس عيسى في حاجة
وافقه بشير فيما قاله، ورأى أنه بالفعل الحل الأفضل، فمعرفة صديقه بأي شيء يخص "شاكر" تدمر كل محاولات الإصلاح، لذلك رأى أن عدم معرفته مطلقًا هو الخيار الأمثل على الإطلاق.
★***★***★***★***★***★***★***★
دقات خفيفة على باب غرفة "بيريهان" لم ترد عليها، فدخل والدها سائلا:
صاحية يا "بيري" ؟
كانت بالفعل مستيقظة ولكنها صامتة لا ترد على أي مما يوجه لها، ذهب ناحيتها وجلس جوارها وهو يواسيها:
معلش يا حبيبتي، مجراش حاجة، أنتِ صغيرة، والعمر قدامك، إن شاء الله هيكون في حمل تاني.
هكذا كل شيء عن والدها، سهل للغاية، لا مشاعر، لا حزن، وحتى أحيانا، لا فرح، فقط تعويض الخسارة.
ابتلعت ريقها بمرارة وهي تقول:
إن شاء الله.
_ندى حكتلي اللي حصل و...
قبل أن يكمل ردت بغضب قد تمكن منها تجاه ابنة عمها:
متجبش سيرتها لو سمحت.
غضبها هذا حاول ثروت أن يخفف من حدته بقوله وهو يمسد على خصلاتها:
"بيري" حبيبتي، ندى أختك، وأنتِ عارفة إنها بتحبك،
هي فعلا اتصرفت بغباء، لكن متخافيش من حاجة يا روح بابا
ولكن قوله لم ينجح وتأكد من ذلك حين هتفت ابنته بقهر:
والبيبي اللي راح بسببها، وتبليغها لبشير بالسر اللي استأمنتها هي الوحيدة عليه
_حبيبتي، الدكتور من الأول قالك إنك مش حمل أي ضغط، هي ملهاش ذنب يا بيري، أنتِ اللي ضغطتي نفسك زيادة، بالنسبة لمكالمتها لبشير فمفتكرش إنه لحق يسمعها أصلا هي قالتلي شاكر شد منها الموبايل وقفله علطول، وحتى لو سمعها متشيليش هم، اللي يقدر يثبت حاجة يثبتها.
زاد من تأثيره عليها حين احتضنها، وربت على ظهرها ناطقًا بحنان:
أنا عملت علشانك كل حاجة يا "بيري"، علشان متكونيش حزينة، مش عايز أقولك " شاكر" الشخص الغلط علشان بتزعلي، لكن أنا مش هقدر أقدمله أكتر من كده، ومش هفضل ماشي أراقبه طول الوقت، أنا نفذت طلبك وخليته بعيد عن عيون الكل، في بعد أكتر من إنه بقى بالنسبة للكل ميت، لحد ما يجمع نفسه ويشوف خطوته الجاية
شعر بعبراتها التي تتابعت على وجنتيها ومع ذلك استرسل:
بس أنا مش هسيبك ليه يا بيري، حتى لو بتحبيه، مش هغامر بيكي وبسمعتي، واحنا معدناش محتاجين منه حاجة، كل اللي عنده بقى بتاعك، وكفاية عليه أوي الفترة اللي اتشرف وربط اسمه بإسمي فيها... لكن الولد ده ملاوع، وأنتِ متعرفيش اخره يا بيري، وصدقيني هتطلقي ومجرد ما عدتك تخلص هتتجوزي واحد أحسن منه بعيد عن المشاكل دي كلها، أنا اللي رابطني بيه لحد دلوقتي تمسكك بيه يا بيري
لم ترض أبدا، اعتدلت تخبره بإصرار:
أنا بحبه يا بابا، وهو بيحبني، أنا عارفة إنه ممكن يكون متورط في كذا حاجة، لكن على الأقل هو الوحيد اللي عرف يخليني أتخطى علاقاتي الفاشلة قبله، عارف هو قالي إنه مستعد يروح يسلم نفسه ويحكي كل حاجة لو بس هقف جنبه
سألها والدها بغير رضا عن كل ما تفوهت به:
وأنتِ مصدقاه، حتى لو هو يا بيري مبيلعبش من ورانا فعلا، مش عايز يقصر الشر ليه، بيتردد على عيسى ليه، يوم الحادثة إياها رجالتي كانوا وراه، هو اللي راح لغاية بشير بنفسه، وتحت بيته قابل عيسى، هو اللي داخل العربية برجليه
وسريعا ما بررت له:
راح لبشير علشان يبعد عن "علا"، بشير، وعيسى كانوا ورا خطف محسن لعلا، وحتى لو مش علشان كده، قبلها بمفيش كان نازل يوصل ندى مكان وعيسى هو اللي اتهجم عليه الأول، وأكيد شاكر مش هيفضل ساكتله يا بابا، ما أنت شايفه مش سايبه في حاله وكل شوية يبوظ مليون حاجة ليه وشاكر كان بيسكت علشانك، لما مرة واحدة رد بقى وحش.
أخبرها والدها بما جعل فؤادها يهوى أرضًا:
لو السما اتطبقت على الأرض، شاكر مش هيروح يسلم نفسه للبوليس إلا لو ضامن 90 في المية إنه هيخرج منها، ولو معندوش أي ضمان هيسافر ولو رفضتي تسافري مش هيستناكي.
_ بس المحامي قالي إن في أمل يطلع منها، على الكلام اللي حكاه شاكر، في أمل
فرد عليها بما بث الذعر داخلها:
لو القضية اتفتحت، مش شاكر بس اللي هيحكي يا بيرهان.
قصمت جملته الأخيرة ظهرها، ولم ينتظر هو بعدها أكثر، غادر الغرفة وتركها وحدها تفكر في كل ما قيل وبداخله أمل كبير بأنها ستعيد كل حساباتها وتختار ما أراد.
★***★***★***★***★***★***★***★
يوم جديد، ولكنه مازال عالقًا في يوم مضى عليه أسبوع ، فيما فعلته " قسمت" وفي ردوده عليها، قرر أن ينفض التفكير هذا، وينزل ليبتاع ما يحتاجه إلى هنا، توجه إلى أقرب مكان لشراء مستلزمات المنزل، سحب عربة ليضع بها ما يريد، وأثناء سيره قابل "طارق" ومعه ابنته وابنه، توقف أمام المشهد وهو يسمعه يقول لكل منهما:
كل واحد حاجة واحدة بس، احنا اتفقنا.
ابتسم "عيسى" ولاحظه "طارق" فرحب به وحث كليهما:
سلموا على عمو.
نفذا رغبة والدهما، فعلها الابن أولا، وتلته الابنة التي رد "عيسى" على سلامها وهو يداعب أنفها:
وبتقوليها من غير نفس كده ليه؟
ضحك "طارق" ثم سأله:
لو تحب هات حاجتك وتروح معانا.
_ بلاش، أنا ممكن اتأخر شوية.
قال هذا ثم توجه إلى أحد الأقسام، تناول منه عبوتين من الشوكولاتة، وتوجه بعدها ناحية الصغار، مال ليصل إلى مستواهما وقال بلطف:
أنتوا اعتذرتولي المرة اللي فاتت، المرة دي دوري بقى.
ابتسم وهو يناول كل منهما عبوة مردفًا:
أنا أسف.
ابتسم "طارق" ولاحظ تفاعل أبناءه السريع معه بعد لفتته الطيبة هذه، وتمنى لو استطاع حقًا مساعدته للخروج من محنته.
أنهى "طارق" تبضعه ورحل مع ابنه وابنته، بينما تجول "عيسى" قليلا حتى وجد مقهى يطل على المياه، قرر المكوث فيه، يشبه مقهى أحبه كثيرا في الاسكندرية، يشبه ذكرياته، توجه ليقف أمام البحر ليتأمله خاصة وأن لحظة الغروب هذه ذكرته بكل شيء، وكأن المشهد نفسه يُعاد، ذلك اليوم حين أراد أن يصالحها وطلب من شقيقه أن يأتي بها إلى مقهاه المفضل، دخلت إلى المكان واتسعت ابتسامتها وهي ترى البحر أمامها، كان المقهى أمام البحر لذلك سارت ناحية البحر وقفت أمامه تتأمله ومشهد الغروب أضفى هيبة، هيبة وطمأنينة، و ابتسامة حزينة ظهرت على وجهها وهي ترفع رأسها تطالع الغروب، شردت في الكثير حتى وجدت أحدهم يحتضنها من الخلف فجأة فشهقت بصدمة وسريعا ما التف هو ليصبح أمامها بضحكته الواسعة على ذعرها، حاربت ضحكتها التي كادت أن تخذلها وتظهر ولكنها لم تفعل.
وابتعدت عنه وعادت تنظر أمامها تتأمل مشهد الغروب وتتجاهله وكأنه غير موجود فاقترب يقف جوارها وهو يقول:
وحشتيني طيب.
استطاع رؤية تمنعها ومحاولاته في إرضائها وقولها:
أنت مدوستش على رجلي بالغلط علشان تقولي
ما ازعلش.
ورده بنبرة أسرتها حيث أردف:
محدش غبي ومبيفهمش غيري، علشان زعلتك.
حين تذكرت ما قاله يومها لمعت عيناها بالدموع فانكمش حاجبيه بحزن وهو يراضيها:
أنا مكنتش قادر اتكلم الفترة اللي فاتت، مكنتش هعرف حتى اتكلم معاكي في اللي عملته.
خيم الحزن عليه يرى نفسه برفقتها الآن في لحظة غروب هذه ويسترسل في تذكر تمنعها:
أنا لسه زعلانة.
_ اسمعي بقى أنتِ هتتصالحي دلوقتي حالا... وبعدين سؤال، مفيش ولا مرة في الأيام اللي فاتت فكرتي تسألي عليا؟... جالك قلب يا ظالمة تنامي بعيد عن حضني كل ده.
سألته بانزعاج وهي تلقي عليه نظراتها الغاضبة:
يعني تبقى غلطان فيا وأنا اللي كلمك، وجالي قلب اه زي ما أنت جالك قلب.
رد عليها بابتسامة واسعة:
لا ما هو أنا مكنتش بنام.
_ أنا كمان مكنتش بنام.
كان هذا ردها الذي جعله يقول بمراوغة وهو يقف أمامها من جديد:
ما هو اللي ينام في حضني مرة، ميجلهوش نوم بعيد عنه أبدا.
ابتسم بحنين واشتياق لهذه اللحظات معها، وكأن صورتها تتجسد أمامه، تطارده في كل مكان، ولكنها المطاردة الأفضل التي يتمنى ألا تتوقف أبدا، حتى لحظة الغروب هذه تجسدت فيها.
قرر الرحيل إلى منزله أخيرا، ليتفاجأ بقسمت أسفل منزله من جديد، ولكن هذه المرة ينتظرها سائقها، بدا الانزعاج على وجهه، وظهر هذا في تأففه قبل أن يسألها:
خير يا قسمت، عندك كلام ناقص جاية تزوديه، أظن أنا قولت كل اللي هيتقال.
ولم يتوقع أبدًا أن يكون ردها:
أنا أسفة، انسى أي حاجة قولتها
_ ما هو اللي أنتِ قولتيه مينفعش يتنسي، ولا ينفع تنسي ردي عليه
كان هذا جوابه الذي ردت عليه بإصرار لمحه في عينيها الحزينتين:
لا أنا هنسى اللي قولته، احنا أخوات وبس يا "عيسى" زي ما كنا، أنا محتاجاك جنبي، لو متعرفش فأنا قفلت الجالري بتاعي اللي كنت فتحته من فترة
انكمش حاجبيه باستغراب، لا يعلم ما شأنه في أمر كهذا فأكملت هي موضحة:
و خدت مكان هنا، علشان كده بقالي فترة في شرم الشيخ، وهفتح واحد جديد، عايزة أبدأ حياتي واعمل حاجة الفترة اللي بابا مسافرها، وعايزاك تكون شريكي
رفض عرضها قائلا:
أنا مبحبش غير العربيات، ومفتكرش في حاجة هحب اشتغل فيها غيرها.
ابتسمت بهدوء تحاول إقناعه وهي تحثه:
اعتبرها هدنة من العربيات، حاجة مؤقتة لحد ما المكان يقف على رجله، بعد كده لو عايز تفض الشراكة معايا فضها
أعطته بطاقة وأكملت:
ده عنوان المكان، أتمنى توافق، وتنفذلي طلبي.
كان هذا الرجاء الأخير قبل أن ترحل وتتركه يطالع البطاقة التي تركتها له لثوان قبل أن يستدير ليصعد إلى منزله.
★***★***★***★***★***★***★***★
بتمر ساعات بعد لقانا
والروح لوجودك عطشانه
بتوحشني عنيك
وبلاقي الدنيا بقت فاضيه
مع إن الناس رايحه وجايه
وأنا بحلم بيك
كلمات غنتها "وردة"، تصف الحالة التي يعيشها كل منهما، حتى مع مرور الأيام، حتى مع مرور أكثر من ثمانية أشهر، مازالت روح كل منهما متعطشة للآخر،
أخذت حياة " عيسى" منحنى آخر، تمحورت حياته حول الذهاب للعيادة لدى "طارق"، ومرواغة أبناء طبيبه، والعمل في مشروعه مع قسمت، كانت مكالماته مختصرة، فقط يطمئن على الجميع، يطمئن على العمل من " بشير" و يساعد بما يستطيع، شبه انقطع كليا عن أي شيء عدا هنا، ومع ذلك لم يستطع نسيانها قط، أكثر من ثمانية أشهر، لم ير حتى طيفها، روحه فارقته طوال المدة هذه
كان شاردا حتى أتت إحدى الفتيات منبهة:
عيسى
_في إيه يا "جنى"؟
" جنى" صديقته صاحبة محل الزهور في الاسكندرية والتي استدعاها طالبًا منها أن تعمل معه هنا، حين علم بإغلاقها لمحلها الخاص بعد مرورها بضائقة.
ردت على سؤاله بضيق:
في واحد تنح، بقاله ساعة بيلف في الجالري، كإنه تايه من حد.
فجاوبها باستغراب:
ما يلف يا ستي ويتفرج براحته.
_ ما هو ملففني وراه، ياريته بيلف لوحده.
استقام "عيسى" واقفا، ليرى من هذا، كان الشخص يتفحص شيء ما، فنطق عيسى من الخلف:
في حاجة معينة بتدور عليها؟
استدار له باسم يهتف بسخرية:
اه أنت.
مط "عيسى" شفتيه بغير رضا ورد:
مش معقول بعد الغيبة دي، يبقى أول وش أشوفه وشك.
سأله "باسم" باستهزاء متغاضيا عما قاله:
سيبت العربيات وبتشتغل في الجو ده، هو بيكسب أكتر ولا إيه؟
ابتسم "عيسى" ابتسامة صفراء قبل أن يجاوبه بكلمة:
مزاجي.
ضحك "باسم" وهو يصارحه غامزا:
ما أنا جيت على الصيت، عرفت إن أنت وقسمت مولعين الدنيا هنا.
تأفف "عيسى" بضجر قبل أن يسأله منوهًا:
لو جاي ترازيني فأنا مش فاضي، هتاخد حاجة ولا توريني عرض كتافك.
وكان القول الآتي يمهد للأصعب حين ألقى باسم على مسامعه:
سمعت إن في كوليكشن حلو أوي هنا، أنا عايزه هدية،
أصل في واحدة جديدة.
_ أنا مسألتكش أصلا.
هكذا قال له "عيسى" ليسمع باسم بعدها يقول:
"ملك"
طالعه "عيسى" بعينين غاضبتين، وثانية آخرى وكان سيتطاول عليه فسأله "باسم" متصنعًا المزاح:
مالك اتاخدت كده ليه؟... هو مش في كوليكشن برضو هنا اسمه "ملك" ؟
فهم أنه يرمي إلى تلك المجموعة التي أسماها بإسم زوجته، ولكن طريقته الملتوية هذه جعلته يشك، لذلك هتف "عيسى" وهو يدفعه للخارج:
روح.
فلامه "باسم" بقوله:
ده أسلوب تعاملوا بيه الزباين المحترمين؟
هز "عيسى" رأسه مؤكدًا:
أيوه احنا هنا أسلوبنا وقح، أنا بحب الزباين قليلة الأدب، المحترمين بطردهم ... يلا يا محترم على برا
أخرجه بالفعل، وتبع ذلك تنويهه:
لو عرفت إن ملك شافتك بالصدفة حتى هتزعل مني،
جرب تبطل صيد في الماية العكرة، حياتك هتبقى أحسن وهتبطل فراغ إن شاء الله.
أنهى عيسى حديثه بإغلاق بوابة المكان، ونادى على "جنى" قائلا:
لو جه هنا تاني، اطرديه، ولو عمل مشاكل، اطلبيله البوليس.
وافقته على هذا، بينما في التوقيت نفسه عادت "ملك" إلى منزلها، هي أيضا تغير بها الكثير، ساعدها "نصران" في الخروج من محنتها بإنهاكها في العمل، طلبها على شكل مساعدة، ولم ترفض هي، يراها الجميع أقوى مما سبق، أصابهم التعجب من ظهورها وكأنها تخطت قصة حبها الأسطورية، ولكن الحقيقة هي وحدها تعلمها، تعلم مدى الضعف، كم أنها هشة بدونه...لمحت "نصران" أمام دكانهم قبل صعودها للمنزل فرحبت به:
ازيك يا عمو... عامل إيه؟
رد على سلامها، ثم طلب منها:
كنت عايزك تيجي وتجيبي الست هادية واخواتك، عازمكم على الغدا، وعندي خبر حلو هقوله.
_ بلاش أنا.
قالتها بحزن واستدارت لتخفي عينيها وهي تتصنع أنها تعد له الشاي، حتى تأتي والدتها التي لا تعلم أين هي، فعارض قولها بقوله:
أنتِ أهم واحدة.
امتلئت نبرتها بالرجاء وهي تطالبه:
أنا ما صدقت أقف على رجلي، مترجعنيش لنقطة الصفر تاني، عايزني اجي علشان ألاقيه جاي
ابتسم "نصران" بأسى وقال مطمئنًا:
لا متخافيش يا بنتي هو مش جاي، هو هجرنا خلاص،
أنا عايزكم علشان حاجة تانية
شعرت بالحزن في نبرته فربتت على كتفه معتذرة:
متزعلش مني يا عمو، إن شاء الله يرجع لحضنك، وربنا يوفقه في حياته.
هل هناك حياة له بدونها، هذا ما سألته لنفسها، ولكن الجواب أن بالتأكيد له، حتى وإن تعمدت ألا تعرف شيء عن أخباره، ولكن عدم قدومه طوال هذه المدة يدل أن له، وافقت على طلب "نصران"، وبالفعل ذهبت مع والدتها وشقيقتيها إلى هناك، تابعت الطاولة ببصرها، وهي تتأمل مقعده الفارغ، بينما جلست
" شهد" جوار "طاهر" وابنه، وهمست له:
ما تقول لتيسير تخرج الأكل بقى... هو احنا جايين نجوع هنا.
رمقها بغيظ وهو يرد عليها:
بلاش توريني قد إيه أنتِ معذبينك ومانعين عنك الأكل عندكم في البيت، حاولي تباني قدامي بأسلوب أشيك.
ضربته في كتفه تحت نظرات "سهام" التي لا تفارقهما مما جعل "شهد" تهمس له من جديد:
أنا مش عارفة لما أمك بتبصلنا كده واحنا مكتوب كتابنا بس، الخطوة الجاية إن شاء الله هتبصلنا ازاي؟
ارتفع "طاهر" يطالع والدته فرسمت له "سهام" ابتسامة، بادلتها "شهد" إياها قبل أن تدير وجه طاهر لها هامسة:
بصلي أنا هنا، هو أنا جاية اتغدى عندكم، علشان تتبادل النظرات مع أمك، اتبادلها معايا أنا.
أخبرها بنفس الهمس:
اسمها طنط، ما اسمهاش أمك... ارتقي.
ثم وضع كفه على وجنته وهو يطالعها مكملا:
تعالي أتبادلها معاكي بقى.
أربكتها نظراته هذه، فأعادت وجهه بعيدا عنها مرة ثانية وهي تهتف بتوتر:
لا خلاص متتبادلهاش معايا...خليك مع طنط أحسن.
ضحك، ونظرت هي حولها لترى هل أتى نصران أم لا، جميعهم في انتظاره، وأيضا والدتها ومريم وقد سبقتهما هي و "ملك"، قطع صمت الجلسة سؤال "سهام":
وأنتِ بقى يا " ملك" عاملة إيه في حياتك؟
_ الحمد لله، زي ما حضرتك عارفة، بساعد عمو في الشغل، وبعمل حاجات تانية تشغل وقتي.
جاوبتها بابتسامة راضية فردت "سهام":
متعرفيش أخبار عن عيسى؟
طالع " حسن" و"رفيدة" والدتهما بانزعاج، وقبل رد "ملك" هتفت "شهد":
وهو يا طنط لو هنروح نعرف أخبار اللي اتطلقنا منهم، هنتطلق منهم ليه؟... الجديد كله عنه أكيد عندكم يعني
كان رد " سهام" جافًا وهي تقول:
اتعلمي يا حبيبتي مترديش إلا لما حد يوجهلك الكلام...عيب أنتِ كبيرة مش لسه هنعلمك.
ابتسمت "شهد" وهي تخبرها:
لا عادي علميني، أنتِ زي ماما، وأنا بحب الكبار يعلموني.
_ بس يا "شهد".
كان هذا قول " طاهر" الذي ردعها لتصمت ثم نظر لوالدته سائلا:
أكيد مش هنمسك في بعض دلوقتي، ياريت نعدي اليوم يا ماما علشان خاطري.
وأمام الرجاء قالت "سهام":
علشان خاطرك بس أنا هسكت.
ابتسم لها، وعاد إلى شهد التي همست له بغضب:
اشمعنى أنا تقولي بس بزعيق، وهي تقولها علشان خاطري وتضحكلها.
فرد عليها وقد طفح كيله:
هي أمي، واتكلمي عنها بأسلوب أحسن شوية، بدل ما أقوم واسيبهالكم أنتوا الاتنين خالص.
رمقته بضيق وهي تتمتم:
سفيه.
سمعها فنظر لها، وقال وهو يتوعدها:
ماشي يا متدنية، ليكي روقة.
تناولت " ملك" كوب المياه لتشرب وأثناء ذلك سمعت "سهام" تقول:
مش كانت "ميرفت" فضلت معانا يا طاهر، أو حتى كانت راحتله شرم الشيخ، هتقعد في القاهرة لوحدها يعني، كانت راحت هناك ونسته، وأكيد بيكون محتاج حد لما بيرجع من شغله
تصنعت "ملك" عدم الانتباه، وأكملت ارتشاف المياه، وتابعت "سهام":
والله أنا ما عارفة هيهدى ويرجع امتى علشان حتى يريح الحاج، بقى سايب شغله اللي كان بيكسبه دهب، ورايح يلف مع بنت الصاوي ومحدش عارف عنه حاجة... دي عمايل مراهق، ولا إيه رأيك يا " ملك"؟
سعلت " ملك" بقوة، وأنزلت الكوب من سريعا من على فمها، هل قالت ابنة الصاوي، هل حياته طوال هذه الفترة "قسمت" متواجدة بها، وكأن دلو ماء بارد سُكِب عليها، وشعرت "شهد" بالأسى على شقيقتها وهتفت:
حرباية.
طالعها الجميع بغير تصديق فبررت كاذبة:
الحرباية بتغير لونها علشان تعرف تتكيف مع اللي حواليها، فعادي يا طنط، متستغربيش إنه عايش حياته هناك.
لم يعلم "طاهر" من أين علمت والدته هذا، ولكنها سريعا برر:
عيسى مبيلفش مع حد، قسمت أصلا بقالها فترة مبتهوبش ناحية شرم الشيخ، الكلام ده غريب يا ماما.
استقامت "ملك" واقفة وقد شعرت بأنها تريد الهرب من كل شيء، حديثهم، ونظراتهم، والمكان بأكمله، خشت أن يلاحظوا أكثر من ذلك تبدل حالتها فاستئذنت:
هطلع أرن على ماما وجاية.
وقبل أن تخرج استدارت تنبه "سهام":
صحيح يا طنط، أخبار عيسى، آخر حاجة يهمني أعرفها، فياريت متاخديش رأيي في شيء ميخصنيش تاني، هو حر، يتصرف تصرفات مراهق ولا تصرفات شايب حتى، عيسى مبقاش يفرق معايا، ولو قاعد معانا بيتغدى دلوقتي، هقعد عادي كإني معرفهوش، حبيت بس أوضح لحضرتك علشان متسألينيش عن رأيي تاني
ثم ابتسمت خاتمة:
عن إذنكم
أسرعت في الخروج، وبمجرد ما خرجت بدأت في محاولة التقاط نفسها بعمق بعد أن كادت على وشك فقدانه، هزيمتها كبيرة، ولكنها أمرت روحها ألا تعود لنقطة الصفر من جديد، مسحت عينيها قبل أن تفر الدموع منهما وأخذت نفس عميق قبل أن تقرر العودة للداخل مرة أخرى.
★***★***★***★***★***★***★***★
نقطة، تلك التي عندما نصل عندها تكن الأصعب، تمر الأيام وما إن نصل إليها نشعر وكأنه قد استحال العيش، كانت "ملك" وحدها في منزل عمها، المنزل الذي شهد على كل المآسي، أتت إلى هنا وأُغلِق الباب، ولكن رائحته تملك المكان، تكاد تقسم أنه هنا، هي لا تتوهم، وصدق ظنها، فُتِح باب مكتب عمها فانتفضت هي وقد رأته أمامها، كما هو، يخرج بابتسامته التي لم تنسها قط ويهتف بنبرة لطالما بغضتها:
مساء الخير يا ملوك.
سرق أنفاسها، ومن غير "شاكر" بارع في سرقة الأنفاس، وأكمل سرقته وهو يقترب منها بخطوات واثقة، وقبل أن تهرول كان يجذبها، وبان الشماتة والفرحة في نبرته وهو يقول مواجهًا عينيها:
مبروك الطلاق يا روحي.
★***★***★***★***★***★***★***★
مشاهد متوالية، المفقود منها ستذكره الحياة رغمًا عنا، ولكن المشهد الحالي هو وقوف "شاكر" في قسم الشرطة، وقد ذهب بنفسه، دون إرغام ورد على تساؤلات الضابط بهدوء وابتسامة:
أنا قدامك عايش أهو... وجاي كمان اعترف
_ بإيه؟
كان سؤال الضابط والذي لم يصدق الوضع بأكمله واكتمل عدم تصديقه بقول "شاكر":
اعترف بإني قتلت " فريد نصران".
وهنا يتيقن المرء من صدق مقولة "بعض الكلمات قبور"، ولقد كانت كلماته هذه أشد ظلمة من أعتى القبور، لا تُصدق وخصيصا لأنها خرجت منه، خرجت منه هو، الذي لا يعرف سوى الإنكار،
خرجت من " شاكر"!!
الفصل المائة والثاني والثلاثون من هنا