![]() |
رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل المائة والثاني
" فى عيون تشبه عنينا...صافيين و قريبين .
وعيون تشبه مدينة...مفيهاش ناس طيبين.
وعيون حزن وسكوت...وعيون حضن وبيوت.
وعيون تقدر تفوت...جواك فى ثانيتين.
في ناس بنشوفها بالألوان...وناس جواها مش بيبان.
وناس اسود وناس...أبيض وناس محتاجه بس أمان.
وأكتر ناس تآمنهم ما بيجي الجرح غير منهم.
وناس انت بعيد عنهم بتنسي معاهم الأحزان”
{صلاح چاهين}
دائما في أسوء كوابيسها تتذكر الأيام الفائتة، تجمع ما حدث وتربطه حتى تصل من جديد إلى نقطة أنها في الهاوية الآن، وهذا ما تفعله "ملك" الآن حين مر أمام عينيها أحداث من الأيام الماضية، في منزلها تنام منعمة بالهدوء، حتى اقتحم الغرفة شقيقتيها بمشاجرة سمعت فيها صوت "مريم" أولا تقول:
هو أنا مش قولتلك متلبسيش البلوزة، هخرج بيها
أنتِ مستفزة يا "شهد"
بررت "شهد" بمبرر واهي:
قولتلك ملقتش غيرها
وأمام قولها هذا اشتبكت معها شقيقتها أكثر حتى صرخت "ملك":
في إيه؟... هو أنتوا جايين تتخانقوا هنا جنب ودني وأنا نايمة؟
اقتربت " شهد" تجلس جوارها وهي تقول بابتسامة:
بصراحة لا، احنا حسينا إن من يوم ما رجعنا من عند الحرباية إنك زعلانة، وعلطول نايمة
ماثلتها "مريم" في جلستها وهي تكمل:
فقولنا نفتعل خناقة علشان تقومي تفضي بيننا، بس ده لا يمنع إن شهد مستفزة وبتاخد لبس غيرها.
ضربتها "شهد" بخفة على كتفها، وابتسمت "ملك" على تصرفاتهم المشاغبة، وصرحت:
لا يا ستي أنتِ وهي أنا مش زعلانة.
واسترسلت تبثهما حزنها الدفين عكس قولها الأول:
اتعودت، أو بقيت أحاول اتعود، والحياة بتمشي،
أنا بس اتخضيت، أكتر من 8 شهور معرفش عنه حاجة، ولما اعرف يبقى اعرف إنه مشارك الوحيدة اللي عرفها مكانه لما كنا كلنا مش عارفين.
أخرجت لهما ورقة وأكملت بحسرة:
الرسالة دي كان كاتبهالي مرة، أنا طيرت بيها، دلوقتي بتقطعني مية حتة، لدرجة إني يوم ما رجعت من عنده قطعتها، بس مقدرتش ولزقتها تاني.
أخذتها شقيقتها منها وقرأت من أكثر ما أثار انتباه عينيها:
حتى ولو رحلنا، وفرقتنا الطرق، وعدت الغريب التائه بين طرقات المدينة، سأتذكر دائمًا أنه حين فقد "يعقوب" فلذة كبده "يوسف"، راح البصر حزنًا على الحبيب، وما أراني إلا فاقدًا لنفسي إن فقدتك..
فلو أُرْغِمنا على فعل ما لم نرد، فلتعلمي أن " عيسى" فقد "عيسى" الذي وجده فقط بجوارك، وكيف لا يفقده؟.....
ربما يصف ببلاغة ما أردت التعبير عنه قول "علي بن أبي طالب" لروحه السلام:
"فقد الأحبة غربة"
تأثرت "مريم" وبشدة مما جعلها تقول:
كلامه حلو لدرجة مخلياني عايزة أقولك متظلميهوش وتقولي إنه عاش حياته ونسي، محدش عارف ظروف حد.
أخذت "شهد" الورقة وأكملت هي القراءة:
إن كُتِب علينا مرها، وتغربنا، كلي أمل أننا سنعود يومًا ما، سيفارقنا الشقاء، ويصادقنا الفرح، أنا وأنتِ بعيدًا عن ضجيج الحياة، وغوغاء البشر التي لم تلق بكِ يومًا ما يا "ملك".
وبعد أن قرأت " شهد" هتفت بغيظ:
ده مش كلام حلو لا، ده كان بيخطط للغدر بصياعة،
هو شكله عايز يطفش من زمان، والرسالة دي حاجة كده تحفظ ماء الوجه لما يمشي.
قطع جلستهم دخول والدتهم والتي طالبت بأن تنفرد بملك، انفراد دار فيه حوار طويل كان الأعمق و الأكثر حنانا منذ طلاق ابنتها.
★***★***★***★***★***★***★
طالبتها "ميرفت" أن تقضي معها يومين، في البداية رفضت وفي النهاية خضعت للموافقة خاصة أمام قول "ميرفت":
أنا نفسي أشوفك، متكسريش خاطري
كفاية عليا كده يا ملك.
عارضت والدتها الذهاب لا تريد لابنتها أن تخوض من جديد فيما يضاعف ألمها، تحاول وبكل الطرق قطعها عن كل ما يخص "عيسى" ولكن هذه المرة لم تستطع خاصة مع طلب "ميرفت" منها والذي بدد معارضتها.
فاقت "ملك" من شرودها حين توقفت السيارة أمام منزل "ميرفت"، دقائق وكانت في الأعلى تسمع ترحيبها الحار:
وحشتيني يا حبيبتي.
احتضنتها "ملك" قبل أن تدخل إلى المنزل بقلبٍ وجل، هذا المنزل الذي شهد لحظات كانت ترفرف فيها بسعادة، واخرى كانت تواجه فيها بشجاعة، لحظات يراضيها، ولحظات يُغضبها، وكأن كل إنش هنا حُفِر عليه اسمه، فاقت من شرودها هذا حين تنبهت لسؤال "ميرفت":
عاملة إيه ؟
طمأنتها على حالها وقبل أن تسألها عن أي شيء يخصه هتفت "ملك":
أنا شامة ريحة أكل حلو...قوليلي إن ده محشي ومتقتليش الأمل جوايا.
ضحكت "ميرفت" وجاوبتها:
لا مش هقتله، هو محشي...قومي غيري بقى وارتاحي عقبال ما احضر.
_ لا أنا هغير واجيلك احضر معاكي، واهو بالمرة نرغي شوية، أنا بحب رغي المطبخ.
أنهت حديثها وتوجهت تلقائيا ناحية الغرفة التي اعتادت البقاء بها معه، بمجرد ما أغلقت الباب عليها شعرت بالبرودة، برودة هجره التي لم تفلح معها دفء ذكرياتهما معًا.
تتذكر جيدًا في هذا الركن كان يحتجزها، تعالت ضحكاتهما معا هنا، واشتعل شجارهما أيضا هنا
فاقت من شرودها هذا، ولم تسترسل في انخراطها في سجنه، تنفض ذكرياتها معه بقسوة وكأنها جرم كبير لا ينبغي عليها ارتكابه، بدلت ملابسها وارتدت ملابس منزلية مريحة، ومشطت خصلاتها قبل أن تخرج لتساعد الواقفة في المطبخ بمفردها، توجهت إلى ميرفت وقدمت مساعدتها:
سيبي الفراخ أنا هحطها في الفرن.
لم تعترض "ميرفت"، ساد الصمت قليلا ولكنه لم يطل حيث قطعه سؤال "ميرفت":
هو عي...
قاطعتها "ملك" تخبرها بابتسامة:
معرفش عنه حاجة، ولو هنجيب في سيرته يبقى بلاها،
خلينا نتكلم في حاجة تانية أحسن من وجع الدماغ ده
_ هو خلاص كده يا "ملك" ؟
جاوبتها وهي تضع الصينية وتشعل الموقد:
أيوه خلاص، واطمني هو مبيتعذبش في بعدي ولا حاجة، عايش حياته ولا على باله عادي
ثم هتفت وهي تستند على طاولة المطبخ:
نتكلم في الأهم أحسن، الخلطة اللي أنتِ متبلة بيها الفراخ دي لونها حلو أوي .
طالعتها "ميرفت" بذهول، ودفنت "ملك" أي اهتمام قد يظهر للحديث عنه وأكملت في إعداد الطعام وهي تثرثر حول عملها مع "نصران"، ووقتها الذي تقضيه في أشياء ممتعة، وبادلتها ميرفت الحديث وقد خضعت لرغبتها ولو مؤقتًا في عدم ذكر ابن شقيقتها، شعرت بالتعب بعد تناول الطعام فذهبت للنوم، وكانت قد غفت ولم ينبهها سوى صوت الدق على باب المنزل، أثار هذا استغرابها، وتجمدت مكانها وهي تسمع:
وحشتيني يا "ميرفت".
هل هذا صوته حقا، تسمعه في الخارج، ترحيب "ميرفت" اللامتناهي، ونبرته التي افتقدتها قرابة العام وهو يقول:
هو أنتِ عندك حد؟
لم تعلم بماذا تجيب هل تخبره بتواجدها أم لا فوجدت نفسها تقول:
لا معنديش
_ جزمة مين اللي برا دي؟
توترت وكان الجواب كاذب أيضا:
دي جزمة البنت اللي بتساعدني.
تحفظ تعابيره عن ظهر قلب وتقسم الآن أن التعبير المتربع هو عدم التصديق، كل حرف في هذه الجملة لم يصدقه، وبان هذا في قوله:
هو أنتِ تعبانة فجايباها تبات معاكي؟
هربت بقول:
كنت تعبانة شوية فقولت تيجي تقعد معايا كام يوم.
كان التوتر هو السائد وتضاعف حين سألها:
ملك هي اللي هنا صح؟
لم تتحمل الواقفة في الداخل أكثر، جذبت حقيبتها تخرج ملابسها، وهي تسمع حوارهما في الخارج، ارتدت سريعًا ووضعت وشاحها على رأسها، بقت في الداخل عل شيء يتغير وتستطيع الخروج دون أن تراه ولكنها سمعته يقول:
طب لو مش ملك هي اللي هنا، ادخلي صحي البنت عايز اسألها على صحتك
_ يا عيسى بقولك نايمة.
فرد عليها باستنكار:
إيه نايمة يعني، صحيها وهعتذرلها إنك صحتيها،
بس أنتِ مش هتعملي كده علشان اللي جوا "ملك".
ولم تتوقع هي أن تفعلها القابعة في الداخل وتخرج، فتحت ملك الباب وخرجت لهما، لحظة توقف فيها الزمن على كليهما، ثبتت عيناه عليها، كأنها البحر الذي يغرق فيه برضا تام، أما هي فلم تكن تعلم أن رؤيته ستجعلها تشعر وكأن لم يتغير شيء، كل منهما لم يتغير في أنظار الاخر فقط صار أجمل خلال الفترة هذه..
كان هو المبادر بعد صمت قد طال، ولأول مرة يشعر بأن المبادرة صعبة للغاية، لا يعلم ماذا يقول، ولم يساعده سوى قول:
ازيك يا " ملك".
جاوبته بهدوء شديد:
كويسة جدا الحمد لله.
لن يكذب إذا قال أنه لا يريد الهدوء هذا، يريد ثورتها، يريد أي شيء يشعره أنها لم تنس مثله تماما، وأكملت تسأله بما لم يتوقع أن تتفوه به:
أنت هتبات؟
_ ليه؟
سألها فردت بلا أي تعبير:
ولا حاجة... علشان لو هتبات أنا همشي.
تطرده بأسلوب ملتوي، ونست أنه مالك لهذا الأسلوب فرد لها قولها حين هتف:
هتمشي؟... معاكي حد يوصلك ولا إيه،
أنا مش هوصلك
جاوبته بابتسامة هادئة:
وأنا مطلبتش منك توصلني، ومش هقعد في مكان واحد معاك، مش علشان حضورك مسبب مشكلة ولا حاجة لا عادي مش فارق، أنا معنديش أي مشكلة معاك، لكن احترامًا لنفسي مش أكتر.
لم يرد، كانت عيناه عليها وهو يجاوب على هاتفه الذي دق للتو، مكالمة مختصرة أغلقها، وتحدث:
طب بما إنك لابسة، وعلشان مجهود "ميرفت" في إنها تجمعنا ميروحش بلاش
فطالعتها بعتاب ولم يرد هو أن يصرح بأنه لم يكن بعرف، وهذه هي الحقيقة، تفاجأ بها كما تفاجأت هي به، تجاهل نظراتها اللائمة لخالته وأكمل:
عايز اتكلم معاكي برا شوية.
_ لا.
رفض قاطع لم تصرح إلا به، فاستخدم بطاقة إثارة الاستفزاز وهو يقول:
غريبة، مع قولتي من شوية إنك معندكيش مشكلة معايا، وإني مبقتش فارق، فاعتقد نص ساعة برا مش هيكون فيها مشكلة، إلا بقى لو لسه في حاجة جواكي
احتدت نبرتها وهي تقول:
حاجة إيه بالظبط؟
مط شفتيه ببراءة في إشارة تمثيلية لأنه لا يعرف، وزاد الضغط عليها حين طلبت "ميرڤت":
ممكن توافقي؟... على الأقل تسمعوا بعض.
تسخر داخلها ألف مرة من هذه الجملة، هل تظن
" ميرڤت" أن نصف ساعة كافية لإصلاح كل ما حدث، ترغب في النقيضين الرفض وبشدة، والموافقة بسبب نظراته هذه التي تشعر وكأنها تفضح ما بداخلها، وكأنها لو رفضت الآن ستعلن نظراته بشماتة أن رفضها هذا تعبير حار عن حبها ولوعتها من الهجر.
استغرق الأمر قليلا حتى هتفت:
مفيش مشكلة.
والنتيجة هي أنها الآن معه في سيارته، صامتة لا تبادر بأي حوار، تلاحظ اختلاسه للنظرات كل دقيقة، حتى قطع هو الصمت بسؤال:
حياتك ماشية ازاي؟... سمعت إنك بتساعدي بابا في الشغل.
_ حلوة جدا الحمد لله، حياتي بقت ماشية زي ما أنا عايزة، هادية ومستقرة، مفيهاش مشاكل وتنطيط لإنصاص الليالي، وضغط وشد أعصاب 24 ساعة، وفعلا بساعد عمو، وده خلاني بقى عندي خبرة شوية في الشغل والتعامل علشان لو اشتغلت في أي مكان.
ابتسم وهو يقول:
ده أنتِ بتلقحي بقى.
بينت عدم اهتمامها وهي ترد عليه ببرود:
لا وهلقح ليه، أنت سألت وأنا بجاوب،
حياتي فعلا بقت أهدى، وأنت حياتك أخبارها إيه، سمعت إنك بتشتغل وشاركت "قسمت"، لو الكلام صح برافو والله... كنت واعدني إنك هتتجوزها، إن شاء الله اسمع عنكم أخبار حلوة قريب.
أصابه الذهول من معرفتها بعمله مع " قسمت"، ولم يتردد في سؤال:
مين قالك كده؟
قالت صراحة:
طنط "سهام" قالت قدامي، وطاهر قال محصلش، بس أنا مستبعدش إنه يحصل عادي يعني
_ وسألتي بقى بشتغل في إيه لو كان الكلام صح يعني؟
سألها وقد وصلا إلى أحد المطاعم، نزلا من السيارة ونجحت هي في إفساد مزاجه وإشعال الحريق داخله:
مهتمتش اسأل، مش حاجة مهمة بالنسبالي، أنا أصلا أول ما لقيت الحوار هيبقى عليك، كبرت دماغي منه.
طالعها بنظرات ترى فيها ضيقه وهما يجلسا على مقاعدهما على الطاولة التي ذهبا إليها، وبعد أن استقرا نطق:
_ لا شكلك اتعلمتي.
سألته باستغراب وهي تتناول كوب المياه:
اتعلمت إيه.
كان الرد مشابهًا لرد سمعته في الماضي مكون من كلمة واحدة فقط:
البجاحة
أتى النادل ليقطع جلستهما، ولم تطلب شيء سوى كوب من العصير، أما هو فطلب طبق المعكرونة بالدجاج المفضل ليه، وبعد رحيل النادل تحدث عيسى:
بتروحي لدكتور؟
فهمت أنه يرمي للطبيب النفسي ولم تجاوب بل ردت السؤال بسؤال:
أنت بتروح؟
هز رأسه بالإيجاب، فقالت:
كويس، علشان نفسك.
_ بس أنا مش بروح علشان نفسي بس يا "ملك"
جوابه مربك، والصدق في عينيه موتر أكثر ولكن الجرح الذي تركه أكبر ولائمه جواب:
وأكيد علشان الجوازة الجاية متفشلش إن شاء الله.
فتحدث صراحة بدلا من لعبة القط والفأر هذه:
تبقي عبيطة لو فكرتي إني بجب قسمت أو هتجوزها
وضع النادل الطلبات أمامهما وهي تخبره:
والله أنت اللي قولت مش أنا.
وبعد رحيله شرع في تناول طعامه بهدوء صامتًا وبدأت هي في مشروبها، ولم تعلم كيف نطقت:
خسيت أوي.
تندم وبشدة، تود لو صفعت نفسها على ما تفوهت به، جملة تُبدي اهتمامها، تُبدي أنها تفحصته، ولاحظت أنه ليس بخير
كان رده حانيًا بقدر جملتها المهتمة وهو يقول:
وأنتِ بقيتي أحلى ....عينيكي كل مرة بشوفك فيها يا "ملك" بتبقى أحلى من اللي قبلها.
_ ملهوش لزمة الكلام ده.
كان هذا ردها الذي جاوب رافعا كتفيه ببراءة:
ما أنتِ عارفة، أنا صريح، مبقدرش أخبي.
عادت إلى العصير من جديد، وهو إلى طعامه، أنهى كل منهما ما أمامه وتنهد هو بهدوء قبل أن يقول:
أنا عايزك تسمعيني، وأي قرار هتاخديه أنا هنفذهولك.
انتبهت حيث شعرت بأهمية ما سيقول وهو حاول استجماع قوته ليصارحها قائلا بحذر:
أنا رديتك و....
قاطعته حيث علا صوتها، وبانت الصدمة على وجهها وقد تملك منها عدم التصديق:
نعم، يعني إيه؟.... أنت ازاي أصلا تعمل حاجة زي دي من غير ما تعرفني، ولا حتى تشوف أنا موافقة ولا لا؟
حاول تهدئتها مطالبا منها برجاء أن تسمع البقية:
اسمعي بس
ضربت على الطاولة بيديها وهي تقول بانفعال:
أنا مش هسمع حاجة منك، هو الكلام اللي انت بتقوله ده ينفع معاه اسمع ولا اهدى؟
تنهد بضجر وألقى سؤاله على مسامعها بحدة هاتفا:
وبعدين يعني؟... مش هتهدي علشان نتكلم، قولتلك اسمعيني وبعدها هعملك اللي أنتِ عايزاه، حتى لو عايزة تروحي للمأذون واطلقك دلوقتي هحترم قرارك وانفذهولك.
هزت رأسها نافية وهي تقول بإصرار:
لا مش ههدى، ومش هسمع حاجة
نبرتها العالية لفتت الأنظار لهما، وهتف هو:
طب هاتي اخرك بقى، علشان نتكلم.
استقامت واقفة وهي تخبره وقد ثارت ثورتها:
عايز تعرف اخري؟
هزت رأسها وقالت:
حاضر
ثم بكلتا يديها ألقت بمحتويات الطاولة على الأرضية فأصابه الذهول مما يحدث، يطالعها بغير تصديق
وطالعته هي وكأنها لم تفعل شيء وهي تحذره:
إياك تيجي ورايا عند "ميرفت"، هرتكب فيك جناية النهاردة.
_ يابنت المجنونة.
همس بها وهو يراها تغادر، وقد تركته لتوبيخ صاحب المكان ودفع ثمن إصلاح ما أتلفته هي بعد أن أتلف هو أعصابها.
★***★***★***★***★***★***★***★***★**★
لقاء لم يتوقعه "جابر" عدو والده اللدود يجلس لديهم بل ويسأل عنه:
فين أبوك يا جابر؟
رد وكان كاذبًا:
تعبان يا حاج نصران ادعيله.
_ خليني أشوفه طيب... اسلم عليه.
وحتى أمام هذا القول رفض "جابر"، وبرر:
مش هينفع، الدكتور قايل الأفضل ميقابلش حد
ضحك نصران بهدوء وطالعه بنظرة بدت له وكأنها تكشف خباياه وهو يسأله:
دكتور إيه ده؟... دكتور البهايم؟
أتت "رزان" بالشاي ووضعته أمامهما، كانت تطالع "نصران" خلسة، وقال هو متخطيًا جابر:
طلعيني لحماكي يا بنتي
فوقف "جابر" معترضًا طريقه وهو يقول:
عيب يا حاج نصران هتركب نفسك الغلط
_ يعني إيه؟
كان هذا سؤال "نصران" الذي تبعه قول "جابر":
يعني لو شوفته مش هتخرج من هنا على رجليك.
في نفس التوقيت كانت "رزان" داخل المطبخ تتيقن من وصول رسالتها له بأن زوجها يحتجز "كوثر" والدة "شاكر" هنا.
★***★***★***★***★***★***★***★***★**★
قضت "ملك" الليلة عند "ميرڤت"، وبمجرد حلول الصباح رحلت، رافضة كل محاولات " ميرڤت" في الحديث في الموضوع، ولم تكن تعلم ما ينتظرها في الاسكندرية، أتاها أثناء عودتها اتصال من اخر شخص تتوقعه، من "علا" وكان أول ما ردت به:
أنتِ جبتي رقمي منين؟
بان في نبرة "علا" البكاء، بان انهيارها وهي تطالبها برجاء:
عايزة اشوفك، أنا محتاجة مساعدتك أوي....
أرجوكي يا "ملك".
رق فؤادها لحالتها هذه ورغم محاولاتها لمنع نفسها بمجرد أن سمعتها تقول:
أنا في البيت لوحدي، تعاليلي بالله عليكي، أنا لو محدش لحقني هعمل حاجة في نفسي.
وكان نتيجة المكالمة، إلغاء العقل، والسير وراء القلب والعواطف التي عصفت بها إلى منزل عمها، فتحت لها الباب الخادمة، ثم تركتها، كانت "ملك" وحدها في منزل عمها، المنزل الذي شهد على كل المآسي، أتت إلى هنا وأُغلِق الباب، ولكن رائحته تملك المكان، تكاد تقسم أنه هنا، هي لا تتوهم، وصدق ظنها، فُتِح باب مكتب عمها فانتفضت هي وقد رأته أمامها، كما هو، يخرج بابتسامته التي لم تنسها قط ويهتف بنبرة لطالما بغضتها:
مساء الخير يا ملوك.
سرق أنفاسها، ومن غير "شاكر" بارع في سرقة الأنفاس، وأكمل سرقته وهو يقترب منها بخطوات واثقة، وقبل أن تهرول كان يجذبها، وبان الشماتة والفرحة في نبرته وهو يقول مواجهًا عينيها:
مبروك الطلاق يا روحي.
لم تصدق أبدا حين قيل لها أنا كابوسها غادر الحياة، بكت كثيرًا وقتها، وأخذت تتساءل، هل بالفعل نجت منه، وكان الجواب دائمًا الشك، تراه الآن حي أمامها يتحداها بنظراته ولا يأبه شيء، يبارك على الطلاق بشماتة، استجمعت قواها، وقررت إن كان الموت فلتنله بشرف، تذكر حديث طبيبها النفسي عن موجهة مخاوفها، وتذكرت حديث "عيسى" عن أن "شاكر" لا شيء، ودعمها هذا للرد عليه بشماتة أكبر:
لا تباركلي على الرجوع بقى، أصله ردني، ولسه راجعة من القاهرة دلوقتي علشان كنت معاه هناك.
صدمته بالحديث وأثناء صدمته حررت يدها التي كان يقبض عليها، وأكملت محاولة التماسك:
والله كنت شاكة يا "شاكر"، أصل مش معقول تموت مسالم كده، بس كنت بكدب نفسي كل يوم وأقول غار في داهية.
بان الشر في عينيه وقبل أن يتطاول عليها رفعت سبابتها تحذره:
اعقل كده، لو قربت ناحيتي البلد كلها هتعرف إن المرحوم عايش، واه على فكرة أنا معرفة " شهد" ولو اتأخرت هتقول ل" عيسى" إني هنا وشوية وهتلاقيه داخل علينا.
_ بتخوفيني بقى؟
سألها ضاحكا باستهتار فهزت رأسها نافية وهي تخبره:
بحذرك بس، مع إني عارفة إن اللي من صنفك مينفعش معاهم الكلام ده.
ضحك عاليا وهو يسألها باستهزاء:
يعني مش خايفة مني؟
ستكون كاذبة وبشدة إن قالت نعم، تخشاه وبشدة، تحاول أن تواجه خوفها الأكبر، ومع المحاولة هذه استخدمت الكذب وهتفت:
اه يا شاكر مش خايفة منك، حاجة كمان أنا معايا رقم بيري، وقولت لشهد لو اتأخرت ازيد من نص ساعة تكلمها وتجيلنا بقى هنا، نشوف مين بيخاف من مين.
هاجمها بعبارات نبعت بصدق من داخله:
"بيري" دي انضف من مليون زيك... واه على فكرة أنا بحبها وهكمل معاها، وأنتِ هخليكي تعيشي كل يوم تتحسري وتفتكري بس اللي بعمله فيكي.
سألته بسخرية:
المفروض اقعد اعيط بقى وأقولك لا حبني أنا كمان، الحقوني يا ناس هيجرالي حاجة أصل شاكر مبقاش يحبني، ما طظ فيك يا "شاكر" أنت عامل أزمة ليه؟
جاوبها بابتسامة رغم مجاهدته بان فيها وجعه:
مين قال إني مبقتش أحبك، ده أنا غلطة عمري إني بحبك.
طالعته باشمئزاز وأكمل هو:
الكلام اللي عمالة تهلفطي بيه من ساعة ما دخلتي هنا ده، حسابه عندي كبير أوي، بس أنا مش هحاسبك عليه دلوقتي، الحساب يجمع يا "ملوك".
ثم أشار ناحية الباب وختم:
ودلوقتي تقدري تمشي، كنت عايز أشوفك علشان وحشتيني، وجيبتك لحد عندي وشوفتك.
شعرت بالغدر، تلاشت الرد عليه وخرجت من هنا، وحتى بعد خروجها بأمان، ظلت تشعر بأنه يرتب لكارثة... وبمجرد أن وصلت وقبل أن تقص أي شيء وجدت ما هو مرسل إليها، حقيبة أنيقة شحنها أحدهم إلى هنا، ولكن تفكيرها في أي كارثة يدبرها " شاكر" منعها من فتحها الآن.
وبدأت الكارثة بذهابه لقسم الشرطة، وقد ذهب بنفسه، دون إرغام ورد على تساؤلات الضابط بهدوء وابتسامة:
أنا قدامك عايش أهو... وجاي كمان اعترف
_ بإيه؟
كان سؤال الضابط والذي لم يصدق الوضع بأكمله واكتمل عدم تصديقه بقول "شاكر":
اعترف بإني قتلت " فريد نصران".... مش ده اللي عايزني اعترف بيه؟
رد عليه الضابط محاولا الإتيان بكل ما لدى الجالس أمامه:
محدش عايزك تعترف بحاجة، حضرتك تم اتهامك في محضر رسمي من أختك بكده، وأنت أنكرت الكلام ده، وبعدها القضية وقفت لما جه خبر بوفاتك
_ وأنا جاي بنفسي اهو، بسلم نفسي، وأنا...
قاطعه الضابط قائلا ما صدمه:
بس الوضع دلوقتي اتغير، دلوقتي مبقتش اختك بس، "طاهر نصران" اتهمك في محضر رسمي بإنك أنت اللي عملت كده في ابن عمه.
تبدل كل شيء، نقطة لم يكن يتوقعها أبدا ولكنه حاول استدعاء ثباته وهو يقول:
وأنا هقول اللي عندي، واللي معايا عليه شهود
ثم ألقى قنبلته:
وكمان هتهم "طاهر نصران" بقتل أبويا الحاج
"مهدي عبد الباسط فؤاد".
زاد تعقيدها وما أراده الآن الضابط قبل أي اتهامات هو تفسير واضح لكيف يجلس أمامه حي الآن، بعد إجابة واضحة عن هذا، يعلم أنه ستبدأ معركة هي الأشرس بين عائلتين كل منهما يتهم الآخر بما سيؤدي به إلى المشنقة.
الفصل المائة والثالث والثلاثون من هنا