رواية علاقات سامة الفصل الرابع عشر
لم يكن لديها خيار جلست حيث أمر، ابتسم بانتشاء منتصر وقف أمامها بعنجهية، رمقها بغلظة:
- ارفعي وشك عشان القلم ينزل في مكانه، وأياكِ تتحركِي.
تلاحقت أنفاسها، شحبت وتمنت الموت، صدرها يعلو ويهبط من فرط رعبها، امتثلت عسى أن يرؤف بها، وضع أنامل يده اليسرى أسفل ذقنها يعدل وضع وجهها نظر إليها بوعيد، ثم دون مقدمات صفعها، ألمتها رأسها من فرط قوتها، عدل وضع وجهها من جديد، وأعاد فعلته، مرة تلو أخرى بنفس التسلسل وذات الهدوء حتى اكتفى، تركت أصابعه أثرها محفورا على وجنتها وروحها، بكت بنحيب امتعه، لم يشفع لها رجفة ذعُـرها وأنين روحها، كاد قلبها يتوقف من شدة بكائها، ظنت أنه انتهى عندما حدثها بوقـاحة فـاجِـرة:
- -صوابعى اللي علمت على وشك هتفكرك إن صوتك ما يعلاش ابدا في وجودي أو حتى مع نفسك.
يحرك وجهها بأنامله اليسرى مع كلماته، وحين صمت ثبت وجهها وصَـفَـعها بظهر بده.
- ودي عشان ما اسمعش حس وأنا بربيكي، تأجلى العياط والشحتفة لما تكوني لوحدك وإياكِ توصل لسمعي غير كدة تكتمي، فاهمة.
أومأت تحاول إخراج صوتها المسلوب وسط شهاقاتها المتوالية دون توقف.
- فا.. فاهمة.
- ده حساب اللي حصل عند بابا، لسه حساب عدم التزامك بالاتفاق واعتراضك، خمس دقايق وتحصليني على الأوضة.
وضعت يديها على فمها تكتم صوت بكائها وشهقاتها المتلاحقة؛ كي لا تقع على مسامعه، أصاب الخدر وجهها المتوهِّج والمُتورِّم، لملمت شتاتها بصعوبة لتتبعه، تخشى ما هي مقبلة عليه، توقن تذوقها لفن مختلف من البَطش، تدعوا الله أن يحفظ جنينها.
جلس على الفراش بنفس الموضع الذي رجته فيه، وقفت بمدخل الغرفة تنتظر توجيهه؛ ولم يبخل عليها بسمومه:
- اقعدي بنفس الوصع اللي اترجتيني فيه اسيب الحمل يكمل.
نفذت حاوطت خصرها بحماية، يقرع قلبها كالطبول يتساءل عقلها عمَّا ينتويه! حدجها ببرود يزيد رهبتها، ثم وضع أنامله أسفل وجهها يوحي إليها بتكرار أثمه؛ فشددت من إغلاف مقلتيها وأطبقت شفتيها شددت عليهما، تحبس تأوهاتها؛ ضحك متهكمًا وأملى عليها بعض توجيهاته يضرب براحة يده على فمها:
- ده بس اللي يتقفل عينك لأ.
الانتظار يؤلم ويرهب، ربما أكثر من الفعل أو يماثله، لا قدرة لها للمزيد من التحمل. وقف خلفها بهدوء، لحظات مرت تتأهب بكل لحظة أن يباغتها بفعلٍ. تركها لتخيلاتها، ثم تحدث ينهى الصَّمت:
- قولت لك مش هتتحملى عقابين ورا بعض وما فيش فايدة، ركزي في تعليماتي الفترة الجاية، والتزمي بها أحسن لك:
o ممنوع تقعدي مع ماما لوحدك.
o الضرب بند في عقابك.
o ترجعي تعملى شغل البيت بالكامل، هعمل لك جدول تمشي عليه بالحرف مش عايز غلطة.
o اللي بيحصل بينا لو خرج بره -حتي لماما- مسئوليتك ويا ويلك وقتها.
تلتزمي بكلامي؛ أحفظ شكلك قدام الناس، بمعني أنت هنا تحت رجلي، لكن أمام الناس مش هاسمح لحد يغلط فيكِ، زي ما النهاردة كدة قولت لبابا إن مراته ضايقتك، ولو كنت خِرستِ كنت جبت لك حقك، ده توضيح لخطة حياتنا، مش هتروحي لماما إلا لمَّا وشك يخف ومش هاتطلع لك؛ لأني هَقفل عليكِ بالمفتاح طول ما أنا بره، أما بالنسبة لعقابك التاني ولأنك لسه مضــروبة فعقــابك هو قعادك كده حسب ما أحدد، ساعة اتنين اليوم كله مش عايز نفس ولا حركة.
تركها لفترة طويلة عجت عن تحديدها، تجمدت الدماء بساقها، كادت تعدِّل وضعها قليلًا، عسى أن يهدأ ألمها، فجلستها شكلت ضغط كبير أسفل بطنها، لكنها انتفضت عندما استمعت لصوته الهادر:
- اثبتي مكانك.
جَـاهَـدت لتستمر على وضعها، لكن زاد الألم وفاق قدرتها:
- رجلي وجعتني قوي، كفاية عشان خاطر ربنا، تعلمت خلاص، الضغط على بطني شديد، عشان خاطر الطفل كفاية، حقك عليا، مش هضايقك تاني بجد توبت والله، عشان خاطر ابنك أقوم.
ابتسم بانتصار وامتلأت نبرته بالتهكم الصريح:
- عرفتي مقامك يا طيف؟ قولي لي يا طيف، أنت هنا إيه؟
- أنا ملك ايدك، زي ما تشوفني.
- امم.. هعتبرها صح، بس إجابتها يا طيف خدامة، وموميس ليَّا، عيدي كلامي عشان تبقى إجابتك صح.
اختنقت الكلمات بحنجرتها، وحشر صوتها داخل فمها بالكاد خرج:
- خدامة وموميس.
- طلباتي إيه؟
- أوامر.
- لا، لا، برافو حفظتي الدرس، قومي، حدخل الحمام أخد دوش تكوني جهزتِ لى هدوم.
خرج من الغرفة فالقت جسَـدها على الأرض تبكي بانهيار وقهر، لحظات ذُل أسود عاشتها لم تتخيلها يوما، وضعت راحتيها على فمها تسْجِن شهقاتها، بكـائـها ونشيِـجِها، لم تعد تعلم للخلاص طريق أو عنوان، كلما استسلمت للواقع كلما ازداد سوءًا ومرارًا، سقطت ببئر مظلم وطيس أسود، لا نهاية له ولا خلاص منه.
ظلت على حالتها تلك لفترة، احترقت جفونها. اختفي صوت الماء؛ فانتفضت من مكانها وضعت ملابسه على الفراش، ثم دخلت المطبخ وقفت بأحد أركانه، تخفي وجهها به، تستند بجسدها على الحائط، تضع راحتيها على فمها، تبكي بانهيار، حتى كادت ان تفارقها روحها، لكن حتى هي تمردت عليها وأبت أن تذيقها الراحة.
لا تعلم كم مر من الوقت، لكنها انتفضت على صوته يأمرها بالحضور؛ فغسلت وجهها وحاولت تمالك نفسها وتحركت إليه مسرعة:
- بعد كدة وقت النوم تكوني واقفة هنا، وأول ما أنام تدخلي جنبي إلا إذا كنت محدد لك حاجة تانية، أدخلي الحمام خمس دقائق تكوني هنا وزيهم تكوني في السرير، هدوم عادية أنا مش طايقك، يلا مش عايز ثانية تأخير.
جَـاهَـدت كي لا يغشى عليها، ثم هَرَبَت إلى النوم، لينتهي اليوم، تتمنى أن تكون نومتها الأخيرة.
بالصباح كبلها بأوامره لتنظيف المنزل وإعداد الطعام، وضع لها جدول يحسب به كل دقيقة حتى وقت عودته، بالنهاية أغلق عليها متراسه، يعيقها ويمنعها عن الحياة، ينتفض جَسَـدها مع صوت إغلاف المفتاح، اسرعت لذات الركن الذي شهد بكائها بالأمس، وقفت كالأمس، أغلقت فمها براحتيها على فمها تكتم آهاتها، اخرجت باقي حزنها وقهرها، وليته ينتهي! بكت حتى اكتفت، ثم تحركت مسرعة تنفذ جدولها.
بمنتصف اليوم صعدت والدته؛ لتطمئن على طيف طرقت الباب دون مجيب، يَئِست من إجابتها؛ فعادت وهاتفت شهاب.
- السلام عليكم، ازيك يا ابني؟
- بخير، عاملة إيه النهاردة؟
- الحمد لله، مراتك فين يا شهاب؟
- فوق يا ماما خير؟
- بخبط عليها ومش بتفتح، ليكون جرى لها حاجة، هي تعبانة يا ابني؟
- لا، مش تعبانة، هي مكسوفة تقولك اني قفلت عليها بالمفتاح أو يمكن نايمة.
- قفلت عليها بالمفتاح! ليه يا ابني هى طفلة؟
- ماما، لو سمحتي دي حاجات شخصية، هي غلطت وده عقابها، ولا تحبي أضربها؟!
- تضربها! انت بتهددني! يا ابني مراتك بنت ناس وطيبة، مش هتلاقي زيها، حرام عليك أنا بشوف خوفها منك، وساكتة، مش عايزاك تبقي كدة، كلها كام شهر وتبقي أب، خليك حنون معاها.
- حقيقي أنا مش فاضي، وعشان ننهي النقاش، هي مش هتنزل عندك فترة طويلة وطلوعك لها وأنا بره يكسفها؛ لأني هافضل قافل عليها بالمفتاح، ومش فارق معايا شكلها، لكن مش حابب الجيران يشفوكِ على الباب ومحدش بيفتح، و بردو لما ارجع مش هتنزل لك، وده أخر كلام وبدون نقاش، ده لو أنت مش حابة لها تضرب قدامك خلي الموضوع بيني وبينها أحسن.
أنهى المكالمة وسط ذهولها وصدمتها، تساءلت هل بات نسخة محدثه من والده؟ لكن متي وكيف؟ وإلى أي مدى وصل؟ عاد بها الزمن إلى الماضي، فترة مرض والدها، الذي غمرها بحنانه واحتواها بعد وفاة والدتها -فهي وحيدتهما- ثم وفاته، كانت شابة بعمر الزواج؛ فأرغمتها العائلة على الزواج بابن عمها-والد شهاب- بظرهم هو الأحق بها، سيرعاها ويصونها، لم يهتموا لكونها تخشاه وتتجنبه، فهو معروف بصرامته وحدته المتناهية، عنــيف حتى بكلماته، تسمع عن عنــفه مع إخوته البنات، رفضت؛ فلم يستمع لها أحد، وتمت الزيجة.
فوجئت به يضْـربها ويعنــفها أمام الجميع لأهون الأسباب، لا يقبل تدخل أحد ليحول بينهما، اشتكت لأعمامها دون مغيث، يجتمعون به يلقون عليه بضع كلمات، يقنعون أنفسهم أن هذا جَل ما يستطيعون، اعترضت واعترضت، ولا مجيب أو مهتم، سريعًا اكتشفت حملها، غُرست قدمها أكثر معه، وبالرغم من ذلك لم يرؤف بها يُهِيـنها لأقل الأسباب، يحرص ألا يسبب عنفه ضررًا يؤذي الجنين، تحملت عامها الأول والأخير معه بشق الأنفس، ثم قررت الفرار بابنها، أملا ألا يصبح نسخة منه أو شبيهًا له.
تضطره ظروف عمله بالقوات المسلحة للتغيب أحيانًا لعدة أيام، فاستغلت الفرصة جمعت حقائها وسحبت الكثير من الأموال من إرث والدها، استأجرت مكان بعيد، ثم لجأت إلى أصدقاء والدها، منهم من رفض خشية حدوث عداوة معه، حتى وجدت من قَبل مساعدتها، رشح لها محام جيد السمعة وماهر بعمله، وبعد الإجراءات القانونية المعتادة، اثبتت علامات التعنيف بجسدها واثبتت تعديه عليها.
عندما علم بفعلتها ثَـار وهَـاج، إن رآها حينها كانت ميتة لا محالة، بعد محاضر وجلسات عائلية وقضايا، اضطر لتطليقها خوفًا على سمعته. كرهت جنس الرجال من بعده، قررت عدم الزواج والعكوف على تربية شهاب. أعوام مرت تنعم بحياة هادئة مع ابنها، حتى بدأ شهاب يسأل عن والده بإلحاح، عن بُغض اضطرت للبحث عنه، علمت إنه نزوج بمَن تشبهه، تحب ما يُفعَل بها برضى، فهي مريضة تعشق مرضها، حدثته وعقدت اتفاق معه، قررا تنحية خلافاتهما مِن أجل مصلحة ابنهما، لم تمنعه عن شهاب، يراه متى شاء، وعندما كبر بات يقضي معه بضعة أيام، يعود بعدها بقمة سعادته، ابتهجت بتحسن حالته النفسية، لدرجة جعلتها تشكر والده بعد كل وقت يقضيه معه، لم تكن تدرك إنها بذلك خلفت وريثا له يحمل مرضه سرطانه، بل أكثر خبثا.
عادت من بحر ذكرياتها الضحل، ودموعها تغرق وجهها تتمنى ألا يكون ابنها بنفس قسوة وجبروت والده، استمعت إلى رنين الهاتف لم تكن سوى طيف.
- ازيك يا طنط، حضرتك خبطت عليا النهاردة، أنا آسفة تعبانة شوية، وما قدرتش افتح.
الاختناق بصوتها واضح وجلي، تخشى أن تعاود حماتها الصعود إليها، ولم تكن حالة حماتها أقل منها ألمًا، اختنقت بجوفها الكلمات؛ فتحدثت تزيل حرجها البادي بصوتها:
- ولا يهمك يا بنتي المهم إنك بخير.
هوى قلبها بعودته، مع صوت كله تكة للمفتاح تتأكد من اتمام كل ما حدد، ثم وقفت بمنتصف الصالة تستقبله محنية الرأس. ابتسم لحالتها، تتروض بسهولة يبغضها أحيانا، جال بالمكان كدورية تفتيش وهي نتبع خطواته، ثم بدل ملابسه، نظر بساعة يده، ثم رفع عينيه تجاهها؛ فهرعت للمطبخ تضع الطعام على المائدة ووقفت تنتظر قدومه، جلس فوزعت الطعام، ثم جلست وارغمت نفسها على تناوله من أجل طفلها، تتجمع الدموع بمقلتيها من حين لآخر، وهو يتابع متلذذ، ساد الصَّمت افترة طويلة، حتى حلَّ وقت النوم، سبقها للغرقة واعتلى الكرسي بها، وقفت كما أمر باليوم السابق تنتظر تعليماته، باغتها بسؤاله:
- ماما طلعت النهاردة وخبطت.
نظرت له بصمت لصوانٍ، وعقلها يتساءل: أهذا سؤال أم إقرار واقع؟ فاستطرد ساخرًا:
- الهانم كانت نايمة؟
- لا، والله! ما عرفتش أعمل أيه؟ خوفت أقول إن الباب مقفول.
رمقها بنظرة غاضبو؛ جعلتها كورقة في مهب الريح ثم تابع:
- انكسفتِ تقولي أني بعيد تربيتك!
- مش قصدي والله! لكنك قولت لى محدش يعرف اللي بيحصل بينا حتى طنط.
أحكم سيطرته، عليها، كلماتها خرجت مهزوزة مرتعبة، استقم وخطى نحوها بتمهل، دار حولها قابضًا على كفه خلف ظهره، بدا كمحقق يستجوب مجرم ويرهبه ليشل عقله لينتزع اعترافه بسهولة، وهي كانت كعصفور وليد، وقع بشرك صياد ماكر؛ فاحكم قبضته ومنع عنه مقومات الحياة.
- عملت أي حاجة غير اللي حددتها لك؟
فاجأها بسؤاله، يجب عليها الآن إعلامه باتصالها بوالدته، فإن علم من والدته لن يرحمها، سقطت دموعها:
- اتصلت اعتذر لطنط عشان ما فتحتش.
قابلها بوقفته، امتلك الغَضَب ملامحه، رفعت يدها أمام وجهها بدفاع واعتذرت مبررة:
- ماكنتش عايزها تزعل، آسفة.
جمع خصل شعرها بكفه، وجذبه لأسفل حتى جعلها تجثو أسفل قدمه، بدا لها كمارد ضخم قوي عتيد، وهي لا حول لها ولا قوة وتحدث بفحيح:
- التزمي بجدولك، لا تزودي ولا تنقصي، ممكن اضربك تاني!
ترك شعرها فهوى قلبها أرضًا كجَـسَـدها، فتح خزانة الملابس واخرج إحدى الملابس النسائية الحمِـيمِـيَّة.
- البسي ده
الضرب أهون؛ ستخوض مَعْـرَكَة هو الوحيد المتلذذ بها والظَّـافر، مَعْـرَكَة هو فقط مَن يملك أسلحتها، حفلة تعْـذِيب يستمتع فيها برجائها ومحاولتها للفرار من بين براثنه، لم يبذل جهدًا لتقيدها؛ فقد ازدادت هزلًا من بعد زواجها. انتهى فوالاها ظهره، وغفى، أغمضت عينيها تنظم أنفاسها، ثم وضعت راحتها على بروز بطنها الصغير تربت عليه بحنان افتقدته، تهون عليه وعلى نفسها حتى غلبها النوم.
ظل الجميع على حالهم، طيف بمعاناتها، حسن لازمته رتابة أيامه واهمال والديه، رامي مع حنان جديه واحتوائهما له، شيماء تتابع حالة جدها غير المستقرة، فبفترة يتحسن ويسترد صحته ثم ينْتَـكِـس ويزداد تعبه، كما تتابع حال أختها واستمرار شرودها وازداده، أما نادية من فترة وهي تلاحظ متابعة أحد زملائها واهتمامه بها، ظنت بالبداية إنه زميل بكليتها، ولكن الباطلو الأبيض الذي حمله وشى به، فلا يرتديه سوى طلاب طب وعلوم، يقدر تعجبها تجاهلت الأمر كله، لا ترى إلَّا مستقبلها وجنس الرجال مستبعدين من قاموسها؛ فلا أمان لهم أو معهم، جدها استثناء وحالة خاصة.
مر الوقت، وتسربت الأيام، وبعض الشهور أصبح حمل طيف عمره ثمانية أشهر، لاحظت والدت شهاب هزل جسدها الواضح، ووجهها الأصفر والشاحب، ضعيفة بالكاد تقوى على الحركة، بكل يوم يزداد يقينها أن ابنها أصبح نسخة أخرى من والده، نسخة أشد قسوة، وهي لا تقوى على المواجهة، لكن أقسمت أن تساعد طيف قدر استطاعتها، هاتفت ابنها أصرت على حضورهما لمشاركتها طعام الغداء، فامتثل لها.
عاد البيت مارس إجرائه الذي بات روتينيًا من تفتيش وتقييم أدائها، بالكاد تقف، تُجَـاهِـد لالتقاط أنفاسها، وهو لا يرى سوى تقصيرها:
- ما خلصتيش كل اللي قولت عليه!
- تعبانة والله! تعبانة قوي، الحمل تاعبني، المجهود اللي بعمله أكبر من طاقتي، ارحم حملي وبنتك عشان خاطر ربنا! والله مش قادرة حتى أقف!
- اللي حددته يخلص في ثلاث ساعات مش خمسة يا طيف، بس واضح أني تساهلت معاكِ، حظك أننا هنتغدى مع ماما؛ فعقابك مؤجل لحد ما نرجع.
لا حيلة لها معه، لا سند ولا معين، رافقته إلى والدته، التي اشفقت عليها فذبولها جليا، وحالتها الصحية متأخرة، علامات الانكسار منحوتة بنظرتها، دلفتا للمطبخ ، أرغمت طيف عاى الجلوس، وأعدت هي كل شيء ووضعته على المائدة، ويوقت الطعام اعدت لطيف طبقها و ضعت به جميع الاصناف الشهية تلتي اعدتها من أجلها:
- كلي يا حبيبتي كويس، أنت ضعفانة والولادة عايزة صحة قوية، كُلي عشان صحة البيبي، مش كدة يا شهاب.
لا يحب تدليلها لطيف، تفسد ترويضه بأفعالها:
- -كُلى أنت وهي هتاكل على قد نفسها بس.
حملت كلماته رسالة صريحة «تأكل كما يحدد لها فقط» فكل شيء يتم بأوامره، يكاد يعد عليها أنفاسها، جادلته والدته معترضه:
-لا يا شهاب، مراتك ضعيفة، كدة ممكن تتعب وقت الولادة، لازم تتغذي كويس.
ناولته الكيق الذي أعدته لطيف، تثبتت مقلتيها داخل خاصته، وتحدثت متمنية أن يخلف ظنها:
- حط الطبق قدام مؤاتك عشان تاكل يا شهاب.
- كلى أنت يا ماما هي مش صغيرة.
أيمنع الطعام عن زوجته؟! لقد تخطى والده بالفعل، ليته أخلف ظنها! وقفت معترضة صارخة:
- والله يا شهاب! وعزة وجلال الله! لو ما حطيت الطبق قدام مراتك، ما هتشوف وشي تاني، أقولك هي هتفضل معايا هنا لحد ما تولد وتتم نفاسها كمان.
هل اشتكت لوالدته؟ رشَقها بنظرات نارية جعلتها تنتفض، أعادت ظهرها للخلف تؤمئ نافية عدة مرات تسقط عنها اتهاماته الباطلة، تحدث شهاب يحاول انهاء الموقف دون تفاقمه:
- ماما طيف مراتي، مكانها بيتي، ليه تقعد هنا؟
- مراتك تعبانة بص في وشها، لو انت مش بتشوف انا بشوف وعندي قلب يا شهاب، بحس وبفهم، ولو اخدت مراتك مش هتلمحني باقي العمر، هموت غَضَبانة عليك، أسأل أبوك لما قولتها زمان عملت إيه؟
عمدت تذكيره بوالده، تؤكد له علمها بما يفعله بزوجته، علم بمحاولتها لحماية طيف منه، وطيف تتابع بذعر هي هالكة بكل الأحوال لا محالة، إن صعدت معه اليوم؛ ستذوق الأمرَّين وإن بقت هنا ستذوق العذاب لاحقًا، و ستتألم كما لم تفعل من قبل، أفكار سوداء أرعبتها وجعلت جسدها يقشعر خوفًا وهلعًا، ثوانٌ متوترة صامتة مرَّت ثم كَـسَرَها شهاب بنبرته الباردة التي تحوي تهديد مبطن، ونيَّة مؤكدة:
- هي مهما قعدت في الأخر راجعة بيتي.
سيطرت الصدمة على خلاياها، هو يعي مقصدها ويعلمها بإصرار، متى وصل لهذا الحد وكيف؟ ما هو خطأها الذي اقترفته لتنكن تلك ثمرة تربيتها؟! تراجعت بوهن حتى جلست بانهزام، ستحاول إنقاذها ولو بشكل مؤقت:
- بردو يا شهاب، لو أخدتها قبل ما تتم النفاس، هأنسحب من حياتك من غير رجوع.
اهتز قليلًا ارؤية والدته بهذه الحالة، لم يُرد تلدخول معها بمزيد من الجدال، لن يخسرها بسبب طيف، سيفكر بتمهل في عقاب لها بحجم ما حدث بينه وبين والدته بسببها، أجاب بغير رضى:
- خلاص يا ماما، موافق، وابقى أبات هنا كل كام يوم.
- أكيد يا حبيبي بيتك، المهم تبقي عارف هنا أنت وهي ولادي، دلوقت يا ريت نكمل أكل.
- كُلي يا طيف طبقك كله، اسمعي كلام ماما.
بالرغم من رعبها إلا أن الحمل فرض نفسه، تشعر بجوع رهيب تمكن منها وغلب على عقلها وخوفها، وكأن جنينها جعلها تتصرف دون تفكير وبانفصال عن الواقع، رمقتها حماتها بابتسامة حنونة، لم تندم على ما فعلت بل تأخرت كثيرًا.
ثقلت جفونها كجَـسدها بعد الانتهاء من الطعام، شعرت والدته ببعض الرضى أصرَّّت ألا تعاونها طيف، غابت عنهما لثوانٍ تعد الشاي وتدخل بعض الاصناف للمطبخ، وكانت فرصة شهاب للاختلاء بها قبل الانصراف، يُملي عليها قواعدها فترة مكوثها مع والدته:
- وجودك هنا مش هيفرق كتير، وكل حاجة خالفتيها أو هاتخلفيها يا طيف عقابها كبير، مش هسيب هفوة طول فترة قعادك هنا، هتدفيعهم مرة واحدة، ده غير اني هاجي يوم كل أسبوع واوعدك هيكون صعب! صعب فوق ما تتخيلي! تفتكريه طول عمرك، مش عايز ماما تشتكي منك، تساعديها، وتنفذي أي حاجة تقولها، تصحي في مواعيدك اللي محددها لك هاجيب لك موبيل ما يتقفلش ويلازمك زي ظلك، إياكِ اتصل وتكوني نايمة، شغل البيت عليكِ وتُصري تقومي به لو مارضتش لوحدك يبقي معاها، لو عرفت انك مش بتشتغلى معاها يا طيف والله أربطك من ايدك ورجلك وانزل عليكِ بالحِــزام! فاهمة.
فارقها النوم، بل كاد يغشى عليها، الذعر فقط هو ما تشعر به الآن، سيُقَـيدها حتى في البعد، تهديده مخيف، هو قادر على تنفيذه بدم بارد، بل قادر على فعل الأبشع، هكذا ترى زوجها، أداة للتَـعْـذِيب، وخلق الألم، أومأت بذعر عدة مرات حتى استدعت صوتها، صدح صوتها مختنق كمن ينازع الروح:
- -حا حااااضر.
خرجت إليهما والدته مسرعة معتقدة أنها أنقذتها وأن ابنها لم يؤذها بقول أو فعل، لكن ذهبت آمالها هباءً برؤية نظرت طيف المرتعبة.