رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل المائة والرابع والاربعون 144بقلم فاطمه عبد المنعم


 رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل المائة والرابع والاربعون بقلم فاطمه عبد المنعم



ليت الأماكن تنطق باسمك حين تغيب..

لتؤنسني بك 

وليت العيون تمنح طيفك في كل ثانية...

ليسكن قلبي بك 

وياليت الأرواح تنادي لتخبرك بعذاب امرأة... 

لم تتداو إلا بك 

وحتى ولو لم تستجب العيون، والأماكن، والأرواح

 فأنا وبالرغم من كل شيء أشعر بك، ولم أقع إلا بك. 


★***★***★***★***★***★***★***★***★***★


لا تغادره صورتها، نظراتها المستغيثة، صوتها وهي تنطق اسمه، من أجلها، لم يكن "بشير" يدري هل ألامه الجسدية أقوى أم الخوف من فقدانها، اعتاد على الذهاب للمشفى كل يوم منذ تحسن حالته بعض الشيء من أجلها، ولكن "علا" ورغم إفاقتها مازالت حالتها لا تطمئن سواء الجسدية أو النفسية، رفض كل محاولات "عيسى" في أخذه معه إلى الاسكندرية، عيسى الذي لم يتركه منذ الحادثة، حتى حين اضطر إلى الذهاب من أجل "ملك"، وعد بالعودة بعد يومين، لم يتركه فيهما وشأنه أيضًا، يهاتفه "عيسى" كل دقيقة حتى أصابه الضجر، ويرسل يوميًا أصدقاء له من أجل الاطمئنان، أخر ما توصل إليه أن وجود ممرض لعدة أيام لن يضر، ابتسم "بشير" على أفعال صديقه التي شرد فيها أثناء جلوسه على المقعد جوار فراش "علا" في هذا المشفى الذي صار يمقت كل زاوية فيه، مسح على كفها بلطف وما إن فتحت عينيها ولمحته حتى همست باسمه:

"بشير".


منحها ابتسامته، وقبل أن تحاول الحركة طالبها:

خليكي زي ما أنتِ.


لم تفارقه عيناها، رأى ألمها فيهما، وعبراتها وهي تصرح:

أنا تعبانة أوي يا " بشير"، أنت بجد كويس ولا بتضحك عليا؟ 


أشار على نفسه يرد عليها مطمئنا:

أنا قدامك زي الفل أهو، متفكريش في حاجة، المهم تكوني كويسة، الدكتور قال إن حالتك بتتحسن، أنا عارف إنه صعب بس علشان خاطري استحملي شوية. 


هزت رأسها وهي تتمسك بكفه، وكأنه سيفر منها، ومسد هو على خصلاتها بينما جلس في الخارج عيسى والذي ما إن مر الطبيب حتى استوقفه سائلا عن حالتها، ورد عليه:

احنا بنعمل اللي علينا والله، هي عملت كذا عملية، وكمان متنساش إن وضعها مكانش مستقر لحد وقت قريب، بالإضافة لحالتها النفسية، كل ده طبيعي يخليها لحد دلوقتي هنا، بس كل اللي يهمنا دلوقتي إنها بتتحسن عن الأيام اللي فاتت، ادعيلها.


وقبل أن يرحل توقف ليقول ما تذكره للتو:

وياريت تتكلم مع والدتها، أخر مرة جت تزورها، عملت مشاكل كتير. 


أبدى "عيسى" استغرابه فشرح له الطبيب كل شيء، وما إن انتهى حتى استأذنه يرحل، وبمجرد رحيله، وجد "عيسى" كوثر أمامه، اعترض طريقها وسعت هي لإبعاده قائلة:

وسع من سكتي، عايزة أشوف بنتي. 


أسند "عيسى" ذراعه على الحائط وهو يلقي على مسامعها:

جوزها عندها جوا، ومبيحبش الإزعاج... 


أتت لتقاطعه فأوقفها حين نطق يكمل ما بدأه:

وتاني مرة لو حاولتي تعملي مشاكل هتصرف معاكي ومش هعمل احترام لسنك، عايزة تاخديها من ورا جوزها وتروحي بيها فين وهي حالتها كده، أنا قولتله بلاش النسب اللي يعر ده بس مسمعش الكلام. 


ودافعت عن حقها في ابنتها بانفعال:

دي بنتي. 


وبنفس الانفعال رد عليها:

بنتك اللي بغبائك سلمتيها لمحسن ولولا "بشير" مكانش زمانها لسه عايشة؟ 

ارجعي من مكان ما أنتِ جاية، أنا فوقتلك بقى خلاص، وبنتك دي تنسيها. 


علا صوتها، وتضاعف اعتراضها حتى يمنعه أحد عما يفعل، ولم يعبأ هو بل قال:

غني بقى من هنا للصبح. 


وحاولت التريث حتى لا يتطور الأمر أكثر فطالبته بهدوء:

أي حد هنا لو عرف إنك مانعني عن بنتي هيدخلني ليها. 


_ جوزها اللي مانعك، أنا مالي. 

قالها ببراءة وكأنه لم يفعل شيء، ومن جديد تحاول معه:

_ اسألها وهي هتقولك بنفسها دخل أمي. 

كان على يقين من أن ابنتها ستفعل ذلك، أغمض عينيه بسأم قبل أن يرد عليها مبتسمًا بتسلية:

حاضر هسألها، بس قبلها هسألك كام سؤال لو جاوبتي عليهم هدخل اسألها علطول. 


انتظرت ما سيقول، وياليته ما قال، لم تكن تدري ما الذي يلقيه على مسامعها وهو يسأل بهدوء:

لماذا في مديتنا؟ 

يصيدون العواطف والعصافيرا 


بدا على وجهها أنها لا تدرك ماذا يريد، وقبل أن تحثه على التوقف، أكمل ما بدأ بنفس ابتسامته:

لماذا نحن قصديرًا؟ 

وما يبقى من الإنسان حين يصير قصديرًا؟ 


حاولت تخطيه وهي تهتف بانزعاج غير مصدقة ما يتفوه به:

قصدير إيه وبتاع إيه اللي بتتكلم عنه ده، وسع خليني أدخل للبت. 


وفشلت محاولاتها بسببه، هو الذي يستمر في قطع الطريق أمامها مكملا وصلته الساخرة:

دي أسئلة سألها نزار قباني، أوعدك لو جاوبتي عليهم هدخلك، من غير ما تندهيلي دكتور ولا تعملي مشاكل، وهخلي "بشير" كمان يسيبها تروح معاكي، بس تقوليلي الأول لماذا نحن قصديرًا؟ 


لو قال لها أحدهم الآن أن الواقف أمامها هارب للتو من إحدى مشافي الأمراض العقلية ستصدقه، ما هذا الذي يسأله ويرغب في الجواب عليه أيضًا! 


وأمام ذهولها هذا داهمها هو:

تيجي نسيبنا من القصدير، وتقوليلي "شاكر" فين؟ 


كانت ابنتها في الداخل، وصل إليها صوتها، شعر "بشير" بارتعادها، زاد تمسكها بكفه وهي تطالبه برجاء:

متخليهاش تاخدني وتمشي من هنا يا "بشير"، لو أنت مش عايزيي طلقني، بس علشان خاطري خليني هنا لحد ما أقف على رجلي وأنا همشي، أمي بتقولي هنروح بيتنا، أنا خايفة منه، خايفة من " محسن".


قالت جملتها الأخيرة وبدأت في نوبة بكاء لم يعهدها "بشير" مسبقًا معها، نوبة لم يساعد في إخمادها سوى صوت "بشير" يخبرها:

محدش هياخدك من هنا يا "علا"، أنا مش هطلقك، ومش هسيبك، متخافيش من أي حاجة، " محسن" ده خلاص مبقاش يقدر يقربلك تاني. 


احتضنها، ولم تفلته هي، ظلت متشبثة به، وصله صوتها الحزين تسأله:

يعني أنت مش زعلان مني، أنا يومها كنت السبب في كل ده، علشان خرجت من وراك وروحت لماما، بس والله أنا كان نفسي أشوفها و... 


قطع عليها طريق الحديث، وأخبرها برفق:

لما تبقي أحسن هنتكلم، متتعبيش نفسك دلوقتي في التفكير، ارتاحي بس. 


كالبلسم هو، وجدت فيه ما لم تجده عند أحد، تخشى وبشدة ضياعه، وبكل أسف تعلم أن تواجدها معه سبب في أذاه، ولكن رغم كل شيء وجدت نفسها حين سيطر عليها خوفها تتمسك به هو، تغمض عينيها بسكينة الآن على صدره، بلا عقاقير تجبر ثورتها على الخمود، تجبرها على النوم، وكأن أفضل دواء لها ليس إلا هو، هذا ما أدركته حين شعرت بقبلته على رأسها، وحينها فقط تمنت لو أن العالم يتوقف عند هذه اللحظة بالتحديد، يتوقف هنا. 


★***★***★***★***★***★***★***★**★***★


لم يغادرها إلا حين انتهى موعد الزيارة، ترفض المشفى تمامًا تواجده كمرافق، لولا هذا لما تركها أبدًا، كان "عيسى" ينتظره في السيارة وما إن ركب "بشير" حتى سمعه يقول:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أنت قالب وشك كده ليه؟ 


ولم يرد بل قال:

أنت لازقلي من الصبح ليه، قولتلك خليك، أنا بقيت أحسن على فكرة، كل شوية بس حد جاي يخبط عليا واكتشف أنت اللي باعته، هتفضل طول عمرك موسوس. 


ضحك "عيسى" بتسلية قبل أن يعلق:

لو كنت جيت معايا إسكندرية كنت رحمت نفسك من وسوستي، عموما أنا جيتلك بنفسي أهو، بس كنت محتاج اطمن على "ملك" اليومين اللي فاتوا. 


_ أنا مش مصدقتش الحاج المرة اللي فاتت لما قال إنها حامل، مش قادر أتخيل إنك أب، ده منظر أب ده؟

سأله "بشير" ممازحًا، ورد عليه صديقه:

ده أنا هبقى أحسن أب في الدنيا، خف أنت بس حقد. 


ضحك "بشير" على قول "عيسى" وأسرع يطالبه:

لو ولد هتسميه "بشير" أنا اللي حجزت الأول. 


وأبدى "عيسى" اعتراضه يخبره:

كفاية عليا "بشير" واحد. 


صمت "عيسى" قليلا قبل أن يقول منبهًا:

على فكرة أمها جت، والدكتور قالي إنها حاولت تاخدها وتخرج من كام يوم، عموما أنا وقفتلها وهي زهقت ومشيت، وأنت أظن كده عامل اللي عليك للأخر، أول ما بنتها تبقى كويسة تبعد نفسك بقى عن العالم دول كلهم. 


رأى "عيسى" في عيني صديقه أن حديثه لا يعجبه ثم أكد "بشير" ذلك حين ألقى على مسامعه:

مفيش حاجة اسمها كده يا "عيسى"، أبعد نفسي يعني إيه، أطلقها يعني؟، أنا "علا" تهمني حتى لو أنت رافض العلاقة دي، بس لازم تفهم إنها بقت مراتي ومش هطلقها، وبحبها كمان على فكرة، وأنا عارف خوفك عليا، بس أنا مش هتخلى عنها، ومش هخسرك. 


_ بس أنا كنت هخسرك بسببهم.

واجهه عيسى بجملته، وأكمل دون انتظار رد بشير: 

وهي مش هتبقى في حياتك لوحدها، معاها أهلها كلهم، وفكرتك عن إنك هتبعدها عنهم أظن فشلها واضح قدام عينك، مع أول فرصة جريت على أمها واتسببت في اللي حصل.


ولم يجد "بشير" قول ليجعله يصمت سوى:

لو هتفضل تتكلم في نفس الموضوع ده يبقى بلاها كلام أحسن علشان أنا تعبان. 


ومجبرًا صمت "عيسى"، ذهب به إلى منزله، وأثناء توجه " بشير" ناحية الغرفة سمعه يقول:

أنت هتعمل فيها زعلان بقى والجو ده، خلاص يا عم أنا غلطان، أنت حر، اطلبلنا أكل بقى علشان أنا جعان.


حرك "بشير" رأسه بمعنى ألا فائدة منه، جلس على الأريكة، وأمامه "عيسى"، ثم سأله:

عرفت صحيح أخر الأخبار؟ 


بدا التساؤل في عينيه، وأرضى " بشير" فضوله بقول:

"باسم" اتجوز "ندى".


ضحك " عيسى" بغير تصديق، وبان هذا في قوله:

لا مش مصدق. 


_ والله اتجوزها، عرفت من واحد صاحبنا. 

أكد له "بشير" المعلومة، وانتظر تعليقه حتى سمعه ينطق:

والله الدنيا دي غريبة، لو كان من كام سنة حد قالي إن كل ده هيحصل مكنتش صدقت، عموما "باسم" بيحبها من زمان، ربنا يوفقهم سوا.


سأله "بشير" بفضول يتشوق لمعرفة جوابه:

أنت زعلان؟ 


طالعه "عيسى" باستنكار قبل أن يرد قائلا:

أنت هتخيب ولا إيه، وأنا إيه اللي هيزعلني يا أخويا، القديم ده كله أنا ماسحه من زمان، وعلى فكرة أنا محبتش غير "ملك"، لو كان اللي حسيته ناحية " ندى" ربع بس اللي جوايا لملك، كان زمان مفيش حد في حياتي لحد دلوقتي. 


علق "بشير" مازحًا:

مخلص أوي. 


_ طبعا عندك شك في كده. 

جوابه هذا أكده "بشير" قائلا:

لا طبعا معنديش، وأنا أنسى لما طلقتها كنت عامل ازاي. 


أبدى "عيسى" عدم رضاه عن حديث صديقه وهو يخبره:

بلاش السيرة دي بقى. 

أنهى جملته وتناول هاتفه، يرسل لها على تطبيق المحادثات وأتاه ردها سريعًا تعاتبه:

بتنزل القاهرة من غير ما تقولي! 


_ محبتش أصحيكي، صعبتي عليا، أنا على بكرا هتلاقيني عندك. 

طمأنها بجوابه، ولم يتوقع أن يكون ردها:

أرجع دلوقتي، ولو عايز تروح تاني خدني معاك. 


ود بالفعل لو عاد في التو ولكنه لن يقدر فأخبرها بأسف:

الدكتورة قالت ترتاحي، وأنا مش هينفع أرجع دلوقتي بشير هيزعل، وعندي شغل كمان لازم يخلص. 


ترفض رفض قاطع وكأنه يسعى لمراضاة "يزيد" وليس هي، وبان هذا في قولها:

بشير بقى كويس الحمد لله

وتسببت في قلقه عليها حين أرسلت:

أنا خايفة أوي يا "عيسى"، كل ما بحاول أنام بحس بحاجة بتخنقني.


تذكر صراخها حين استيقظت من نومها بفزع، لم تطمأن رغم تأكيده أنه جوارها، كانت تتمسك به، ترفض أن يبتعد أبدًا، لم يعد يدري سبب ما يحدث لها كل ليلة، هي حتى لا تقص عليه ما تراه في نومها ويتسبب في إزعاجها لهذه الدرجة. 


مازحها وهو يرد:

نامي النهاردة وخدي "يزيد" في حضنك، وبكرا هتلاقي عم يزيد بنفسه عندك.


وتعلم كيف تثير استفزاز جيدًا، فكتبت له بغيظ:

طب خليك لشغلك وصاحبك بقى، أنا هروح أقعد عند ماما شوية. 


_ لو هناخديني معاكي وتستضيفيني في أوضتك زي أخر مرة معنديش مانع. 

كان يبتسم وهو ينتظر ردها، واتسعت ابتسامته وهي تكتب له:

ده بعينك. 


لم يكن يرد أن يخبرها بسبب ضيقه الحقيقي من العودة، شرد في أخر نقاش مع والده وطاهر، تذكر كيف طالباه بالجلوس من أجل الحديث، جلس في مكتب والده، حل الصمت حتى بدأ والده الحوار قائلا:

"محمد" اللي كان هنا امبارح ده رائد، أبوه كان صاحبي، وعيلته كلها رتب ما شاء الله، أنا اتكلمت... 


استدعى "عيسى" الهدوء قبل أن يستأذن والده مقاطعًا حديثه:

بابا معلش ممكن أقول حاجة قبل ما تكمل كلامك.


انتبه له "طاهر" ووالده باهتمام وتحدث هو بما أراد قوله:

موضوع "شاكر" ده مش هيتحل لو اتقبض عليه، عنده طرق كتير يطلع منها، مفيش حد شاف اللي حصل غير ملك وشهد، وأكيد أنت مش هتوافق إنهم يتبهدلوا، وهمشي معاك للأخر وهفترض إنه جبناه وسلمناه، لما يتقالنا إيه سبب إنهم لما طلبونا قبل كده وقت ما أخته بلغت عنه مأكدناش اتهامه رسمي هنقول إيه، أكيد مش هنقول مكناش عارفين، وأكيد برضو مش هنجيب سيرة ملك وشهد، وحتى لو جبنا وراحوا شهدوا، برضو موقفهم ضعيف، وأقل محامي معاه هيقول إننا طلبنا منهم يقولوا كده.


وضح له "طاهر" ما يرى أنه نقطة قوة بالنسبة لهم قائلا بإصرار:

هو موقفه ضعيف يا "عيسى"، مش هيقدر يبرر سبب إنه اختفى، حتة إنه في الورق الرسمي ميت دي وهو موجود أكتر حاجة تضعف موقفه.


_ حتى دي يا "طاهر" هو برضو يقدر يلاقيلها مخرج، أنت عارف إنه هو و"ثروت" قلبوا على بعض؟

عارف إنه ممكن يروح لحتة إنه يرميها على ثروت، ممكن حتى يقول إنه بعد الحادثة كان عنده مشاكل صحية وفي ألف ممكن وممكن.

توقف هنا، وطالع والده، رأى عدم الرضا في عينيه، فعاد يؤكد محاولا إقناعه ولم يتراجع:

لو في احتمال إنه يتحبس، في قصاده واحد إنه يطلع، أنت عمرك ما كنت عايزه يتحبس، أنت حتى مخلتش حد يقرب من "فريد" الله يرحمه بعد اللي حصل، بس أنا عارف أنت بتعمل كده دلوقتي ليه.


لم يرد "نصران" بقى صامتًا يطالعه بلا إبداء أي تعبير، تنهد بتعب قبل أن يقول بابتسامة:

لا أنت مش عارف، لما تبقى أب هتعرف، لما تخسر عيل من عيالك بعد ما ربيت وكبرت وبقى شاب زي الورد، وتلاقي نفسك خايف كل لحظة تخسر التاني هتعرف يا "عيسى"، أنا كنت غلطان لما من الأول سمحت إنك تكون طرف في الموضوع ده، كنت غلطان لما كنت بسمع كلامك وسايبك وأنت هامل حياتك ومركز في اللي مضيعك.


حاول "طاهر" التحدث، سعى لتهدئة والده ولكن "نصران" أكمل ما بدأه يلقي على مسامع ابنه وداخله يحترق:

عارف امتى اتأكدت إني كنت غلط؟

لما شوفتك بتبيع روحك في الحادثة، كنت فرحان بيك الأول وبقول "عيسى" مبيخافش من حاجة، قلبه جامد، هو اللي هيحاوط على كل حاجة من بعدي، بس لما جربت أخسرك عرفت إني غلطت، أنت طول عمرك بعيد عني، لا عايز تريحني ولا ترتاح، غضبك عاميك، قولت مينفعش "شاكر" يروح علشان هيرتاح، وأنت مش عايزه يرتاح، بس أنا اكتشفت إني مش هبقى مبسوط لو هو بيتعذب وابني حياته ضايعة بس علشان كده.


طالع "طاهر" نصران بعتاب، ربت على كتف "عيسى" الذي ينظر لوالده بحزن، وتحدث بدلا منه:

"عيسى" بيروح لدكتور يا حاج، وحياته غالية عنده ومش هيضيعها علشان في عيلة مستنياه، في مراته وابنه اللي جاي، ومش هو لوحده اللي كان شايف الم..وت راحة لشاكر كلنا كنا شايفين كده

واستدار لعيسى يحثه على محاولة تفهم موقف والده:

وأنت يا "عيسى"، الحاج خايف عليك، خايف علينا كلنا، "شاكر" دلوقتي زي ما أنت قولت في الورق الرسمي مش موجود، لما كان معانا قبل ما أم عز تعمل اللي عملته أبوك كان يقدر يخلص منه بس خاف عليك، خاف بنت ثروت تعمل أي حاجة تجر رجلك، ولا ثروت نفسه يأذيك، أبوك كان هيتصرف من غير ما حد فينا يبقى ليه دعوة، بس الله يسامحها أم "عز".


وأبدى "نصران" خوفه في قول:

أنا مش هرتاح طول ما هو موجود، طول ما أنا قاعد مش عارف هو هيأذيك ازاي، ولا أنت دماغك هتوزك عليه بإيه.


اقترب "عيسى" من والده، تبادلا النظرات، بداخل كل منهما الكثير، خشى "طاهر" وبشدة أن يتصادما، وتضاعف قلقه حين سمع صوت "عيسى":

أنا دماغي مش هتوزني على أي حاجة، مش أنت قولتلي خليك براها، لو هيريحك إني معرفش حاجة عن اللي ناوي عليه أنت وطاهر هخليني براها حاضر.. 


_ وأنا مقولتش تبقى براها، أنا قولت تمشي باللي أنا أقول عليه، وتقول حاضر ومتتصرفش من ورايا. 

أخبره والده بالمطلوب، ورد هو وقد حسم أمره:

لو حاضر بتاعتي هي اللي هتريحك يبقى حاضر على أي حاجة بعيد عن ملـ..... 


وتوقع والده ما سيقول فقاطعه ينبهه:

ملك بنتي، وأكيد أنت عارف إني مستحيل أعمل حاجة تخليها تتمس. 


وأكد طاهر على قول " نصران" يطمأن "عيسى":

الحاج من الأول قايل إن أي حاجة تخص الموضوع ده، محدش من بنات الست " هادية" ليه دعوة بيها. 


هز "عيسى" رأسه موافقًا قبل أن يسأل:

في حاجة تانية المفروض أسمعها أو أقول عليها حاضر؟ 


لم يرد "نصران"، علم أن ابنه يرغب في قول المزيد، هناك ما لم يبح به، وقبل أن يسعى " طاهر" لحل الوضع، هتف "عيسى" بابتسامة:

طيب كويس، بما إن مفيش حاجة تانية، كان عندي طلب صغير يا حاج لو مش هتقل عليك. 


وصرح بطلبه لوالده الذي ينصت له باهتمام:

تبطل تتعامل معايا على إني مجنون. 


وبعد تصريحه لم ينتظر رد، ترك غرفة المكتب وحمد ربه على أنهما لم يحاولا إيقافه، لم يكن يريد لحظتها إلا أن يرحل، يصف حالته الآن عبارات "أمل دنقل" حين قال:

آه .. 

مَن يوقِفُ في رأسي الطواحين

وَمن يَنزعُ من قلبي السكاكين!


★***★***★***★***★***★***★***★***★


لا مأوى لها سوى غرفتها، العالم بأكمله لا يتسع لها، دخل "ثروت" غرفة ابنته، لم تنتبه له، رأى أنها تتناول أحد الأقراص، جلس على المقعد المجاور لفراشها وهو يسألها:

إيه الدوا اللي أخدتيه ده يا "بيري"؟ 


ردت عليه وهي تطالع هاتفها:

مش مهم. 


ابنته تلك الزهرة التي رافقتها الحيوية، يراها الآن ذابلة، وكأنها ليست هي، يفتك به الحزن من أجلها، ربت على كتفها وهو يعطيها وعده:

أنا هدفعه تمن اللي عمله غالي، هعملك كل اللي أنتِ عايزاه، بس علشان خاطري اسمعي الكلام وتنزلي اللي في بطنك ده، علشان متفضليش طول العمر مربوطة بيه. 


ضحكت، وصل له السخرية التي غرقت فيها ضحكتها وتيقن منها حين قالت:

بس أنا عايزة الطفل ده، وعلى فكرة أنا الدكتورة قالتلي إن نسبة إني أجيب طفل تاني ضعيفة، وبعدين متقلقش يا بابا، أنا كده كده طول العمر مش هنسى " شاكر"، سواء بالبيبي أو من غيره

وقبل أن ينطق والدها بحرف، أكملت هي بإصرار:

ولا هخليه ينساني.


النبرة التي تتحدث بها ابنته لم يعهدها من قبل، يخشى عليها مما تفكر فيه، يشعر الآن بأن 

أكبر جرم ارتكبه في حياته هو موافقته على اقتران ابنته بشاكر، وبانت مخاوفه هذه في قوله:

أنا مش عايزك تعملي حاجة تأذي نفسك بيها يا "بيريهان"، أنا طول الوقت كنت بعمل اللي يرضيكي، من أول جوازك منه لحد ما غطيت على اللي بيعمله مرة واتنين وتلاته، بلاش تكسريني يا "بيري". 


ابتسمت، طالعت والدها، والألم تصفه عيناها، وهي تعلق على ما قال:

أنت برضو يا بابا مطلعتش من الجوازة دي خسران، وحتى لو، المصنع اللي حضرتك بنيته على الأرض بتاعة "شاكر" هيعوض أي خسارة. 


ورغم عنه تحدث بانفعال وقد طفح كيله:

ده كان اختيارك يا "بيري"، اختارتي تصدقيه مع إني قولتلك إني مش مرتاح. 


_ وأنت اختارت توافق مع إنك مش مرتاح، اعتبرت قلة راحتك دي وهم، وافقت على الجوازة علشاني اه مش هنكر، بس برضو كان في سبب تاني، أنت وشاكر كسبتوا من بعض كتير أوي يا بابا، وأنا مش زعلانة على فكرة، محدش مسؤول عن قرار خدته غيري، بس ياريت بقى لا تعاتبني ولا أعاتبك.

أنهت حديثها ولم يرحمها من هذا الجدال إلا الدق على باب غرفتها، مديرة المنزل تخبرها أن ابنة عمها هنا، تركها "ثروت" ونبهها أن حديثهما لم ينته بعد، ودخلت لها "ندى" التي هرولت ناحيتها قائلة باشتياق:

وحشتيني. 


اغتصبت "بيريهان" ابتسامة وهي ترد عليها:

وأنتِ كمان، طمنيني عليكي 


رأت السعادة في عينيها، وكأنها تحيا للمرة الأولى، شعرت "ندى" بصورة "باسم" تتجسد أمامها وهي تجاوب:

أول مرة أحس إني كويسة كده. 


انتبهت "ندى" على ابنة عمها، شحوبها، ووزنها الذي خسرت منه الكثير، تشفق عليها منذ ذلك اليوم الذي أخبرتها فيه عن حملها بانهيار، تذكر صراخها، رغبتها في التخلص من هذا الطفل، ثم انعزالها وبعد ذلك تراجعها عن القرار دون إبداء أي سبب، مسحت "ندى" على وجهها وهي تقول بقلق:

"بيري" حبيبتي أنتِ وشك أصفر كده ليه، مينفعش كده، على الأقل تهتمي بنفسك علشان خاطر البيبي اللي اختارتي إنك هتحتفظي بيه، أنا هقوم أقولهم يحضروا الغدا، وهناكل سوا. 


لم تكن تهتم بأي مما يقال، انتظرتها حتى أنهت حديثها، ثم طلبت منها:

معلش يا "ندى" هطلب منك طلب، كنت عايزاكي تكلمي "كوثر" والدة "شاكر" وتطلبي منها تقابليها في أي مكان برا.


طالعتها باستنكار، لم تصدق ما طلبته منها، وبان هذا في اعتراضها:

أنتِ أكيد بتهزري، مش كفاية اللي حصل، عايزة إيه من العالم دول تاني، أوعي تقوليلي إنك بتفكري تسامحيه! 


ولم تمتلك الرد، فقط الرجاء، ربتت على كتف ابنة عمها وهي تطالبها:

علشان خاطري يا ندى تعملي اللي قولتلك عليه، ويلا قومي قوليلهم يحضروا الغدا. 


قالت جملتها الأخيرة بابتسامة، لم تجد "ندى" في نظراتها سوى التيه، ابنة عمها التي كانت تفهم ما يدور في رأسها من نظرة واحدة لم تعد كما كانت، أدركت الآن فقط أن من أمامها نسخة باهتة من أصل ضاع وبكل أسف لم يعد يعلم أين المفر.


★***★***★***★***★***★****★***★**★


تناول الغداء مع صديقه، الذي داهمه النوم بعد أن تناول الدواء، ناداه "عيسى" برفق وما إن استيقظ منتبهًا طالبه:

أدخل نام في أوضتك. 


استجاب "بشير" الذي لم يكن يرى أمامه، وما إن دخل حتى توجه "عيسى" إلى حاسوبه، إنه الموعد الذي أخبره "طارق" طبيبه بإمكانية أن تكون جلستهما فيه اليوم، كانت عبر الإنترنت بسبب استحالة ذهابه إلى شرم الشيخ في هذا التوقيت، بدأت محادثتهما وشعر "طارق" بأن "عيسى" لديه ما يريد قوله فحثه هاتفًا:

تقدر تتكلم دلوقتي. 


طالعه "عيسى" عبر شاشة حاسوبه، هذه المرة يشعر وكأن الكلام هرب منه، لا يعلم من أين يبدأ، تنهد بتعب قبل أن يقول:

بابا، من ساعة ما رجعت من شرم الشيخ وهو متغير، من بعد الحادثة عموما، بقيت حاسس إنه بيعاملني وكإني "يزيد" الصغير، ومهما حاولت أقنعه إن في حاجات كتير قبل الحادثة فيا غير بعد الحادثة مش بيقتنع، مقتنع بحاجة واحدة بس، إن اللي بيسوقني غضبي، الكلام اللي كان الزفت الدكتور القديم قايله. 


استفسر منه "طارق" محاولا البحث عن سبب لهذا:

من وقت ما رجعت من شرم الشيخ عملت أي حاجة تخليه يفكر كده، يعني مثلا انفعال وعصبية على حاجات متستاهلش، خناقات مبتقدرش تتحكم في نفسك فيها، النوبة جتلك قدامه، أي حاجة من دي؟ 


_ مفتكرش لا، بالعكس أنا من ساعة ما رجعت بحاول أكون أهدى، بتحصل حاجات كتير تخليني اتعصب وبحاول اتحكم في العصبية دي وأحجمها، حتى لما حصلت مواقف كبيرة زي حادثة "بشير" ونصحتني وقتها أمنع أي استجابة لو في ردود فعل سريعة عايز أخدها حاولت أعمل ده، ساعات كنت بحس ببوادر النوبة بس برضو ده مكانش قدامه، أنا بعمل كل اللي بتقولي عليه، حتى العلاج مش بنساه، أنا متأكد إن مفيش حاجة حصلت قدامه من بعد ما رجعت تخليه يقلق. 

وضح كل شيء، وهو يحاول تذكر إن كان قد فعل شيء في الأونة الأخيرة يجعل والده يقصيه هكذا من كل شيء ولكنه لم يجد


انتبه حين سمع "طارق" يعلق:

طيب هو عموما مش لازم تبقى عملت حاجة الفترة الأخيرة، عادي ممكن تكون معملتش أي حاجة، لكن تصرفاته دي نابعة من خوفه إنك تعمل، والدك لسه متوقف عند وقت الحادثة، دماغه واقفة عند نقطة إنه ممكن في أي لحظة يسمع إنك عملت حاجة وفي خطر وهو عرف بعد ما الوقت اتأخر، واقف عند النقطة قبل ما تنتظم في الجلسات وعلاجك، وقت ما كنت بتروح لدكتورك القديم تقضية واجب كده. 


سأله "عيسى" بعدما استمع إلى كل ما ألقاه عليه:

يعني هو شايف إن ممكن عادي أبقى متابع مع الدكتور بس مش مهتم، فالموضوع زي ما هو، لسه غضبي اللي بيحكمني. 


_ جايز طبعا بنسبة كبيرة، وعايز أقولك حاجة هو مش عايز يبعدك عن أي شيء إلا لسبب إنه خايف تعمل تصرف يخسرك بسببه، أنت قولت إنه أهم حاجة عنده استقرارك الفترة الحالية، افتكر إنه خايف الاستقرار ده يبوظ تاني، فحاطك تحت عينه علشان ميبقاش طول الوقت خايف، وممكن طبعا يكون الموضوع زاد منه لدرجة وصلتلك إنه بيعاملك على إنك صغير، بس لازم تفتكر إن اللي اتعرضله من شوية، هو خسر ابنه الأول، وكان معرض يخسر التاني، وحتى لما مخسروش شاف حياته وهي بتبوظ، فطبيعي مفاهيم كتير عنده هتتغير، خوفه هيزيد، وتصرفاته كمان. 

وضح له "طارق" كل شيء، شعر "عيسى" أنه رغم عدم غفلته عن أغلب هذه النقاط إلا أنه كان بحاجة للتذكير. 


بدا حائرًا، ولا يعرف المخرج وهو يستفسر: 

طب والحل؟ 


وأعطاه "طارق" أحد الحلول مقترحًا عليه:

ممكن نجرب الحوار، هتستمر زي ما أنت بتحاول ترجعله ثقته في تصرفاتك تاني، وإن لحظات الانفعال الشديدة مبقتش موجودة طول الوقت زي قبل كده، هو قالك هتخليك تحت عيني وتقول حاضر، حققله اللي هو عايزه، وواحدة واحدة ممكن تبدأ تتكلم معاه، وتعبر عن اللي بيضايقك، وتسمع منه، وأهم حاجة، أسمع ومتحكمش ولا حتى تحاول تدافع، كل اللي أنت هتعمله إنك هتسمع وتطمنه.


يطمأنه، هذا ما يخبره طبيبه أنه يتوجب عليه فعله، والده لا يحتاج سوى أن يطمأن، واتخذ قراره بأن يبذل قصارى جهده حتى يجعله كذلك. 


★***★***★***★***★***★***★***★***★


منذ أن استيقظت "ملك" وهي تبحث عن "رفيدة"، أثناء بحثها هذا ناداها " نصران"، تحركت ناحية غرفة مكتبه، لم يكن بابها مغلق، دخلت وسألها هو:

عمالة تلفي كده، بتدوري على مين؟ 


أخبرته بابتسامة وهي تجلس على المقعد المقابل له:

على "رفيدة" بس مش لاقياها، هي باين عليها مش كويسة خالص يا عمو، حتى "عيسى" قالي ابقى أنزل أتكلم معاها، أنا هاخدها ونروح عندنا، تقعد شوية وشهد ومريم بيعملوا صداع ينسي أي حد هو زعلان من إيه. 


ضحك على قولها الأخير، وعلق عليه قائلا:

ده كده أنا اللي محتاج اقعد معاهم. 


ابتسمت، وقال هو وقد طرأ على باله للتو القهوة التي تعدها والدتها:

عارفة يا بت "ملك" أنا نفسي في فنجان قهوة من اللي بتعمله الست "هادية".


_ على فكرة أنا بعرف أعمله زيها. 

أخبرته بضحكة واسعة، ورأت حماسه وهو يطالبها:

طب ما يلا، اعمليلي فنجان. 


وأحبطت أمله حين قالت:

عيسى قالي لو لقيتك أصلا بتشرب قهوة، أخدها منك. 


حرك رأسه وهو يردد ألا فائدة من أفعال ابنه، ثم سألها باهتمام:

طمنيني عليكي، أنتِ متعرفيش فرحتي كبيرة ازاي بالعيل الجاي ده. 


وفرحتها أيضًا، إنها تتلهف لرؤيته، لمسه، ترغب وبشدة لو أتى الآن، وبان هذا في جوابها:

أنا الحمد لله كويسة أوي، وعيسى راح معايا للدكتورة كمان، حاسة إن " عيسى" برضو أحسن، ومبسوط أوي، مش مصدق نفسه. 


تملكه شعور الرضا، هذه العبارات يمكنها أن تسعده لأعوام قادمة، بعد ذلك لمحت "رفيدة" فسمح لها "نصران" بالخروج، توجهت إليها وبصعوبة أقنعتها بأن تأتي معها، تركتها لشقيقتيها، وتوجهت هي إلى والدتها في المطبخ، أخذا يثرثرا معًا، وانتبهت "ملك" لقول والدتها:

رغم إني مبطقش الست "سهام" دي، بس أنا مقدرة خوفها على بنتها. 


واعترضت "ملك" قائلة:

مش بالطريقة دي يا ماما، ده حتى عمو مش راضي عن اللي عملته. 


كانت "هادية" تفتح الفرن لتطالع الموضوع بداخله حين وصل لأذنيها باقي قول ابنتها:

صحيح يا ماما، عمو قالي النهاردة إنه هو نفسه أوي في فنجان قهوة من بتاعك، بس أنا.... 


_ آه. 

لم تكمل بسبب التأوه الذي صدر من والدتها التي أفقدها الحديث انتباهها فتسببت السخونة في أذاها.


تحركت "ملك" ناحيتها ولكنها طمأنتها وهي تضع يدها أسفل الماء: 

مفيش حاجة أنا اتلسعت بس. 


وتابعت تسألها وهي تحاول إخفاء اهتمامها:

هو قالك كده ليه، إيه المناسبة يعني؟ 


_ عادي قالها في وسط الكلام. 

قالت هذا، ولم تكن تشعر بوالدتها التي تتسارع دقات فؤادها الآن، ابتسمت "هادية" بحنين امتزج بحسرتها على حب لم تطله أبدًا، وحياة تمنتها وبكل أسف لم تحظ فيها بلحظة واحدة. 


ذهبت "ملك" إلى غرفتها مع شقيقتيها، وجدت "مريم" و"رفيدة" على الفراش، وتقف "شهد" أمامهما تستعرض ثوب زفافها وهي تحثهم:

ما تخلصوا وتقولوا رأيكم، هو احنا هنفضل كتير في الحزن والنكد ده، كله من الرجالة، والله تخلوني أفكر متجوزش.


وما إن رأت "ملك" حتى سألتها:

أنتِ كمان جوزك مزعلك؟ 

وأشارت ناحية "مريم" قائلة:

مش قادرة تسامح اللي جارحها

وبعد ذلك "رفيدة" وهي تتابع:

ودي جارحة واحد ومش قادر يسامحها.


رأت "ملك" ابتسامة "رفيدة" و"مريم" فضحكت هي الأخرى وهي تشير لهم على شقيقتها بألا يهتما بحديثها، ولكن "شهد" جذبت انتباههم من جديد وهي تذكرهم:

أنا فرحي قرب خلاص، يعني كلكم كده تركنوا حزنكم على جنب وتهتموا بيا علشان نرتب كويس ويطلع يوم جميل. 


وقبل أن تنطق أي واحدة منهن وقفت هي أمام المرآة وضعت الثوب عليها وهي تقول بابتسامة:

هبقى أحلى عروسة في الدنيا. 


ونظراتهم لا تحمل سوى السعادة، وكأنها نثرت من حماسها عليهن فأصبحت كل واحدة منهن متشوقة بشدة لهذا اليوم. 


★***★***★***★***★***★***★***★***★***★


لم تكن تعلم "ندى" كيف ستنفذ ما طالبتها به ابنة عمها، لم تكن تصدق حتى أنها ستقوم بالاستجابة لها، ولكنها وبكل أسف وجدت نفسها بعد أيام تجلس في أحد المقاهي في انتظار والدة "شاكر"، لم تكن الجلسة ودية على الإطلاق، وما إن انتهت حتى توجهت " ندى" إلى سيارة ابنة عمها المتوقفة في الخارج، ركبت جوارها وبدأت "بيريهان" بسؤال:

قالتلك إيه؟ 


_ قالت متعرفش عنه حاجة، واتكلمت بمنتهى قلة الذوق، وقعدت تعدلي في المصايب اللي عندها وكإني سبب فيها. 

أخبرتها "ندى" بهذا وتنهدت "بيريهان" قبل أن تسألها:

وأنتِ قولتيلها إيه؟ 


أبدت "ندى" عدم رضاها وهي تخبرها:

قولتلها اللي حضرتك قولتيلي أقوله، لما قالت إنها متعرفش عنه حاجة ادتها رقمك الجديد وقولتلها لما تعرفي ياريت تقوليله بيريهان محتاجاك عايزة تقابلك، لكن أنا عمري ما هسيبك تروحي تقابلي الحيوان ده، أنا لحد دلوقتي بعملك اللي أنتِ عايزاه، بعد كده لا. 


هزت "بيريهان" رأسها موافقة، وهي تقود سيارتها لمغادرة المكان هنا، كانت تنتظر أي استجابة منه بعد ما أوصلته لوالدته، حمدت الله ألف مرة على سفر والدها الذي أخبرها أنه سيستغرق عدة أيام تقريبًا، بقى فقط أمر الحراسة المشددة التي فرضها عليها في غيابه، لا تتحرك دونها، ولكن قررت أن تجد حل لهذا. 


لم يمر سوى أيام، حتى وصلها على هاتفها رسالة من رقم لا تعرفه، احتوت على موقع، وموعد أيضًا، حسمت أمرها وقررت الذهاب، كانت في أبهى طلة، أتت لها "ندى" ونزلت هي، كانت "ندى" تنفذ ما طلبته وهي غير مقتنعة تمامًا، حيث نبهت أحد الحراس:

بيريهان هتيجي معايا بيتي، ملوش داعي تكونوا معاها. 


وحين أتى ليرفض أتت "بيريهان" التي ردعته قائلة بحدة:

أكيد مش هتلازموني عند بنت عميس كمان، قول لبابا لو كلمك إني معاها هو هيطمن، وأنا كمان هبلغه.


وهكذا رحلت برفقتها، لم تكن "ندى" تعلم أي شيء، وظلت تحاوطها بالأسئلة بإلحاح:

قوليلي احنا هنروح فين، إيه ال location ده، وبعدين باسم أنا قايلاله إني عندك، لو عدى هناك ياخدني هتبقى مشكلة. 


_ ابقي قوليله خرجنا في أي مكان. 

هكذا جاوبت ببساطة وهي تعيد وضع الحمرة على شفتيها، تطالع مظهرها في المرآة برضا. 


كل هذا جعل ندى تقول بلا تصديق:

أنتِ رايحة تقابلي "شاكر"؟... أنا هرجع، مستحيل أمشي معاكي في اللي بتعمليه ده. 


واقترحت " بيريهان" وقد طفح كيلها:

انزلي واطلبي أوبر، واديني عربيتك أخلص مشواري أنا. 


هذه الأفعال لو أقسم لها أحدهم سابقًا أنها ستصدر من ابنة عمها لم تكن لتصدقه، قبل الموقع بمسافة ليست بالطويلة طالبتها "بيريهان":

نزليني هنا بقى، واركني واستنيني في العربية. 


تمسكت " ندى" بيدها أخذت تلح عليها بنبرة باكية:

بيري علشان خاطري، أنا خايفة أوي، بلاش تروحيله.


تجاهلت ما تسمعه تمامًا، أغلقت باب السيارة، وتحركت وهي تطالع هاتفها حتى وصلت إلى حيث أُرسل لها، مكان أشبه بدكان متهالك، كانت البوابة مفتوحة، دخلت ولكنها لم تجده، لم تناد عليه، أخذت تدور بعينيها في المكان تتأمله والاشمئزاز يحتل وجهها، وبغتة دخل استدارت فورًا حين شعرت به وهو يقوم بإنزال البوابة حتى أغلقها، وقفت أمامه تتأمله، إنه حبيبها، إنه خذلانها الأكبر، لم يقترب، كان يطالعها بشغف لأول مرة تراه في عينيه، نطق اسمها بلهفة لم يكن يكذب فيها أبدًا:

"بيري".


اقتربت منه، وقفت هي أمامه، وضاع في عينيها وهو يبدي ندمه على ما بدر منه:

أنا أسف. 


ولم يتوقع أبدًا أن يكون الرد قبلة، تجمد مكانه، ولا يتملكه سوى الذهول الذي تضاعف وهو يسمع همسها:

وحشتني. 


★***★***★***★***★***★***★***★***★***★


لم تعد تعرف للنوم طريق، الأحلام المزعجة لا تتركها أبدًا، تشعر بالاختناق وفجأة استيقظت تصرخ بفزع، لم يكن جوارها، انتبه على صوتها من الخارج فأسرع إليها، أصابه الضيق من أجلها مما طرأ عليها الفترة الأخيرة، أعطاها الماء وهو يجلس جوارها، تناولته واستندت على صدره، وأخذ يمسح على خصلاتها، ثم طالبها برفق:

طيب قوليلي في إيه بيخليكي كل يوم تقومي مفزوعة بالشكل ده؟ 


كانت قد سكنت جزئيا، تحدثت وهي تحاول طمأنته:

كوابيس متلغبطة، صدقني مفيش حاجة أحكيها.


هل تخبره أنها رأته الليلة يُقتل، كان غارقًا في الدماء في منامها، حاولت التقاط أنفاسها ثم سمعته يقول:

أكيد بتفكري في حاجات تسبب ده، حوالي بعد كده قبل ما تنامي متفكريش في حاجة مش كويسة.


هزت رأسها بابتسامة، احتضنتها نظراته وهو يمسح على خصلاتها، ويقول لها:

يلا تعالي كملي نوم، هنام أنا كمان أحسن تعبت أوي النهاردة. 


تمددت من جديد، أعطته وجهها، أغمات عينيها باطمئنان وهي تشعر بلمساته على خصلاتها، هذه اللمسات التي توقفت فجأة وفتحت عينيها وهي تسمع:

تصدقي إني حمار. 


لم تكن تفهم مقصده، إلا حين توقفت أنامله أسفل أذنها، أدركت حينها أنه لمح ما أخفته عنه فابتسمت وهو يلقي على مسامعها متابعًا:

وحمار كبير كمان، بقى هي هنا بقى. 


وتصنعت عدم الفهم وهي تحاول إبعاد يده سائلة:

هي إيه اللي هنا. 


لم تبتعد يده، ظلت أنامله عليها وهو يخبرها:

التفاحة، مش أنا قولتلك هعرف مكانها لوحدي، بس على فكرة كده ظلم، المكان ده مش شائع. 


علت ضحكاتها، وحذرته بنظراتها قبل قولها:

طب خليني أنام بقى، علشان لو صحيت خمس دقايق كمان، مش هخليك تتهنى بنوم النهاردة. 


ورد هو ضاحكًا، يصرح برضا تام:

وأنا أطول "ملك" بنفسها تضيعلي وقتي، عيسى ونوم عيسى تحت أمرك. 


ضمته وهي تحثه وقد نال قوله إعجابها:

رضيت عنك، خلاص نام يلا. 


وبالفعل تمدد جوارها، ضمها هو الأخر، وتبدلت حالتها كليًا، حضوره وأد فزعها الذي استيقظت به قبل قليل، وتحول الآن إلى سكينة تامة فقط لأنها في حضرته. 


★***★***★***★***★***★***★***★***★***★


هناك أمسيات تحمل معها كل ما هو مصيري، كذلك كانت هذه الأمسية، حيث على سطح منزل "نصران" وأعلى أحد الأسوار جلس "عيسى" وبجواره "طاهر"، كانت العتمة مسيطرة على الأجواء عدا ضوء القمر، نفث " عيسى" دخان لفافة تبغه بعدما أشعلها وعرض على "طاهر" الذي اعترض قائلا:

أنت مش بطلت يا بني؟ 


هز رأسه مؤكدًا:

قللت اه علشان "ملك" وابنك بيتضايقوا منها، 

هتصدعني أنت كمان هرميك من هنا. 


ضحك "طاهر" وضربه على كتفه قبل أن يقول:

بكرا يجيلك اللي يطلع عينك، ابنك ولا بنتك بقى هما اللي هيربوك بجد. 


بادله "عيسى" الضحكة وبان رضاه في قول:

موافق جدًا.


حل الصمت لدقائق قبل أن يسمعا خطوات تأتي من الخلف، نظرا لبعضهما في إشارة إلى ألا يهتما بهذه الخطوات، وبالفعل استمرت حالتهما هكذا حتى نطق الواقف في الخلف:

افتكر إني مش محتاج مسدس، قعدتكم على السور دي ممتازة جدًا، هتخلي كل حاجة أسهل. 


انتظر الواقف خلفهما جواب، وطال انتظاره حتى سمع دندنة كان مصدرها "عيسى" الذي أغمض عينيه وارتسمت الابتسامة على وجهه وهو يقول:

بانو بانو بانو على أصلكم بانو

والساهي يبطل سهيانه


أكمل "طاهر" الغنوة متجاهلا هو الأخر من حدثهما قبل قليل:

ولا غنا ولا صيت

دولا جنس غويط

وكتاب ما يبان من عنوانه


وبضحكة واسعة هتف "عيسى" معه منهيًا الغناء:

بانو أيوه بانو

ثم علق بإعجاب:

الله عليك "طاهر"... 

بقولك إيه سمعت حاجة من شوية؟ 


هز " طاهر" رأسه نافيًا، وأكد "عيسى" بتسلية:

ولا أنا. 


ثم عادا للغناء، وكأن ما قيل لهما لم يكن سوى سراب، سراب صاحبه يقف خلفهما، وكل ما يريده أن يأكد لهما أن السراب يجب أن يخافه المرء أيضًا.


ولكن ما يريده لن يتحقق هنا، في منزل "نصران"، بادر " عيسى" بالنزول وتوجه ناحية الواقف، كان أمامه ويسمعه وهو يقول:

محتاج أتكلم معاك. 


ولو يتوقع أن يتم مقابلة طلبه، باستمرار دندنة "عيسى" الذي تابع ما بدأه مع "طاهر":

دوروا وشكوا عني شوية 

كفياني وشوش.


ولم يجد إلا أن الواقف أمامه يجاريه، يخبره ضاحكًا:

الكلام اللي هقوله مهم أوي بخصوص الوش اللي غدر بيك بالتحديد. 


_ لا طالما ناوي تسمعنا حاجة، يبقى تعالى يا " طاهر" بقى، أنت حتى فرحك كمان كام يوم، وأكيد محتاج تسمع حاجة حلوه. 

كان "طاهر" بالفعل في طريقه إليهما، توقف جوار "عيسى" وسمعا الواقف أمامهما يسأل باهتمام لم يسع لعدم إظهاره:

فرحك على "شهد" ؟ 


وكان رد "طاهر" إشارة على السور خلفه وقول:

السور اللي ورانا ده أنا اللي هرميك من عليه لو نطقت اسمها تاني. 


نظر لعيسى الذي رفع كفيه مؤيدًا:

وأنا معاه، مبسيبش أخويا.


_ بس أنا بقى بسيب أخويا. 

قالها "جابر" صراحة، كانت مفاجأة كبرى، رأى في نظراتهما عدم فهمهما، فأكمل بلا تراجع:

أنا أخويا حبيبكم أوي، تعرف "شاكر" ابن مهدي. 


قول جعل "عيسى" يصرح:

حتة عالية أوي اللي أنت ضاربها دي. 


وبإصرار أكد "جابر":

كان نفسي والله أبقى ضارب فعلا، بس للأسف اللي بقوله ده الحقيقة، اللي واقف قدامك... 

وأشار على نفسه متابعا ونظراته تنذر بكل شر:

أخو " شاكر مهدي".

وبضحكة ساخرة نطق:

أنا بنفسي اللي اتفقت مع الرجالة اللي خلصوا على "مهدي" بالغلط، خلصوا على أبويا.


وكل هذه الأقوال دفعة واحدة، تجعل الليلة ملحمية، تجعلها تضاف إلى قائمة مميزة ما يأتي بعدها لا يشبه ما قبلها، قائمة الليالي التي لا ننساها أبدًا.

❤❤❤❤❤

الجزء الثاني 


لماذا أراك على كل شيءٍ

كأنكِ في الأرضِ كل البشر

كأنك دربٌ بغير انتهاءٍ

وأني خلقت لهذا السفر..

إذا كنت أهرب منك .. إليك

فقولي بربك.. أين المفر 


"فاروق جويدة" 


************************************************


حتى أبعد أمانينا ربما تتحقق، هذا ما شغل عقل "شاكر" وهو يتذكر اللقاء مع "بيريهان"، رغم كل شيء يخفق قلبه لها، وأصبح لا يدري هل مازالت تكن له الحب حقًا أم لا، مر أمام عينيه الآن اللحظة التي اقتربت منه فيها، قبلتها، وهمسها بأنها تشتاقه، كانت جميلة، مشرقة، هو الذي ظن أنه سيلتقي بنسخة باهتة منها وجدها أمامه كتلة من الحيوية وتسأل باشتياق:

كل ده متسألش عليا؟ 


حاول التحدث، لم تسعفه الكلمات، نظر إليها وجاهد حتى ينطق:

بيري أنا... 


قاطعته ورأى في نظراتها العتاب، وهي تلومه:

أنا مكنتش أتوقع إنك تعمل كده فيا، أنا هونت عليك أوي كده يا " شاكر".


وأسرع يحاول تبرير ذنبه، يقسم لها وكله إصرار أن تغفر ما حدث:

"بيري" أنا مكنتش فايق، أنا لحد دلوقتي مش عارف أنا عملت كده ازاي، أنتِ عارفة أنا بحبك ازاي، والله العظيم مكنتش أقصد ده يحصل، أنا عارف إني مهما قولت ميبررش اللي عملته، أوعدك هبطل شرب، هبطل أي حاجة ممكن توصلني للحالة اللي أذيتك فيها

وقبض على كفيها وهو يرجوها بعينين رأت فيهما تمسكه بها:

بس متسيبينيش يا "بيري".


العبرات تتحدث عن نفسها، داهمت مقلتيها وهي تنظر له، وتستمع إليه، ندمه هو الدواء الأنسب لجرحها منه، هذا ما ظنه هو، أما هي فقالت:

هبقى بكدب عليك لو قولتلك إني هقدر أنسى اللي حصل، أنا المفروض دلوقتي أبقى بكرهك جدا، بس أنا مع الأسف مش قادرة أكرهك، وبالذات بعد ما عرفت. 


_ عرفتي إيه؟ 

سألها بقلب وجل، شعر بما تنتوي قوله، هذا أخر ما يريده الآن، تمنى لو كان أخطأ الظن وتخبره بأي شيء أخر ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، تناولت كفه وضعته حيث يستقر جنينها وأخبرته بابتسامة لا تمت بصلة للألم في نبرتها وعينيها:

أنا حامل. 


ربما تكذب، تلعب معه بنفس طريقته، أي شيء سيكون أفضل من أن تكون تحمل في أحشائها طفلهما حقًا، وصرح هو بهذا، وهو يضحك باستهزاء:

أنتِ بتحاولي تلاعبيني يا " بيري"؟ 

بتضحكي عليا وأنتِ ومعالي الوزير مدبرينلي كمين


ابتسمت، وأغمضت عينيها وهي تتنهد بهدوء قبل أن تقول:

لو عندك الجرأة تيجي معايا لحد أي دكتورة نسا هتقدر تتأكد بنفسك، وبالمناسبة البيبي ده ممكن يبقى أخر فرصة ليا إني أخلف، يعني حتى لو أنا مش عايزاه منك مضطرة أقبله، مضطرة أفضل مربوطة بيك لأخر عمري. 


لمساته الحانية على وجهها، لا تصدق أنه نفسه الذي أذاقها الويلات في ليلة سابقة، والآن يقسم لها:

"بيري" ربنا عايز كده، أنا بحبك، كل حاجة بتخلينا نفضل مع بعض، أنتِ كمان بتحبيني، أنا هنسيكي كل حاجة، أوعدك أي حاجة جرحتك هتنسيها، تعالي نبدأ حياة جديدة، حياة بعيد عن هنا خالص، اختاريني وأوعدك إنها أخر مرة هطلب منك تختاريني فيها. 


توقف لثوان يحاول أن يقرأ في نظراتها أي شيء، قبل أن يتابع والرجاء يرافقه:

أنا هسافر يا "بيري"، هسيب كل حاجة وامشي، أنا عايزك معايا، هتتخلي عني؟ 

كان بارعًا كما عهدته " بيريهان" دائمًا، من يراه الآن يقسم أنه ملاك استضافته الأرض بالخطأ، انتظر ردها على أحر من الجمر، لا يراها إلا جزء أساسي من حياته التي يخطط لها. 


_ أنا محتاجة وقت أفكر. 

جملة مختصرة أنعمت عليه بها بعد صمتها الذي طال، ولكنها لم ترضه أبدًا بل علق عليها معترضًا:

أنا مفيش قدامي وقت كتير يا "بيري"، مش هعرف استنى.


والإصرار في عينيها لم يصدقه، حتى نبرتها وهي تؤكد بابتسامة:

هتعرف، علشاني هتعرف.


ثم طالعت هاتفها وهي تخبره:

أنا لازم امشي دلوقتي، لو احتاجتك أوصلك ازاي؟


ولم تنل جواب، توقعت هذا وقال هو:

أنا هعرف أوصلك.


في نفس التوقيت كان القلق يأكل "ندى" على ابنة عمها، هي على يقين من أن أفعالها المتهورة هذه ستجعل العواقب وخيمة، دفعها الخطر لمهاتفة "باسم" بمجرد ما غادرتها "بيريهان" وتركتها هنا في سيارتها تنتظرها، لم يتأخر "باسم" عليها كان لحسن الحظ قريب منها، وصل إلى هذا حيث تقف سيارتها، كان المكان شبه خالي من المارة، توجه ناحيتها وانتبهت فنزلت من سيارتها له تتلقى سؤاله وهي ترى الانزعاج في عينيه:

أنتِ واقفه هنا كده ليه؟

وفين بنت عمك اللي قولتيلي تعالى بسرعة علشانها.


لم تكن تدري ماذا تقول له، استشعر توترها، حديثها المتلعثم مما دفعه ليقول بانفعال:

خلصي وقولي أنتِ هنا ليه


وقبل أن ترد لمحت "بيريهان"، تتوجه ناحياهتهما وفي نظراتها الضيق من ابنة عمها، وصلت لهما وسأل "باسم":

كنتي فين يا بيريهان؟


وسريعًا نطقت "ندى" تحاول حل المأزق الذي وضعت نفسها به:

احنا كنا بنلف شوية بالعربية، بس بيري فجأة تعبت ونزلت، كده برضو يا بيريهان اللي عملتيه فيا ده، ينفع الحالة اللي كنتي فيها؟

 وطالعت "باسم" وهي تتابع:

قعدت تصرخ فيا مجيش وراها، وأنا كنت مرعوبة عليها، فجأة سابت العربية ونزلت وكانت حالتها مش كويسة.


_ أنا دلوقتي أحسن، ياريت نمشي.

جملة مختصرة قالتها "بيريهان" طالعت بعدها ندى زوجها بتخوف وكانت على يقين من أنه لم يصدق حرف مما قيل، تعلم أن صمته الآن لن يستمر طويلا، ذهبت مع ابنة عمها إلى السيارة وهو في سيارته خلفهما، توقف عند منزل "بيريهان"، نزلت ندى وابنة عمها التي طالبته:

خلي ندى هتبات معايا النهارده.


أمسك بذراع زوجته وهو يرد عليها:

أنا اللي لسه كنت هقولك خلي عربية "ندى" هنا وهبقى ابعت حد ياخدها، علشان هتيجي معايا دلوقتي.


حاولت "ندى" الحديث ولكنه لم يعطها فرصة حيث ألقى على مسامعها:

امشي من غير ولا كلمة 

ولم يستمع لأي شيء أخر، حركها معه حتى سيارته بطريقة مهينة، وهي تعارضه هاتفه:

باسم مينفعش كده...

يا باسم بقولك استنى.


وجدت نفسها في السيارة وقد ضرب باعتراضاتها عرض الحائط، ركب هو الأخر وتحرك بسيارته تحت نظرات "بيريهان" وما إن ابتعدا حتى نطق:

قوليلي بقى كده أي حاجه غير الفيلم الهابط اللي اتعمل من شوية ده علشان مش مصدقه.


ولم ترد على ما طرحه بل واجهته بغضبها: 

أنت إيه الأسلوب اللي اتعاملت معايا بيه قدام "بيري" ده.


وقبل أن يرد أكملت هي بانزعاج حقيقي:

أنت مستنش حتى أقول كلمة واحده، شدتني وكإني مليش رأي وبطريقة مفيش حد يقبلها.


_ المفروض كنت أتصرف ازاي يا مدام "ندى"؟

سألها والسخرية تملأ نبرته، وردت هي عليه:

تتصرف بهدوء وتحترمني حتى يا شيخ لحد ما نروح البيت.


وبحدة علق على قولها:

احترمك لما متكدبيش عليا.


لم ير العبرات في مقلتيها ولكن نبرتها نبهته:

تحترمني في أي وقت يا "باسم".

يمر أمام عينيها الآن لحظات تبغضها، تذكرت كل المرات التي عنفها فيها "جابر" زوجها السابق، إهانتها التي كان يعتبرها تسليته الوحيدة، لم يحترمها قط، تتذكر حتى اللحظة تلك المرة التي تم نقلها إلى المشفى بعد وصلة من ضربه لها، فاقت من شرودها ومسحت عينيها قبل أن تتحدث:

احنا لما اتكلمنا يا "باسم" اتفقنا إننا هنبتدي من جديد، وعلشان أنا نفسي نكمل أتمنى اللي حصلي قبل كده ميحصلش تاني، أنا لحد اللحظة دي بقلق لو حد صوته علي شوية حتى لو كان كلامه مش معايا أصلا، مش عارفة أنت هتفهمني ولا لا بس أنا لما حسيت إني خايفة كلمتك علشان عارفة إني هتطمن، بلاش تخلي الإحساس ده يضيع، لو عندك أي سؤال أو تعليق على حاجه عملتها ممكن نتكلم بهدوء علشان أي طريقة تانية صدقني أنا مش هستحملها.


أنهت حديثها وحل الصمت باقي الطريق، كان رفيقهما عبراتها وقد انتبه هو لهذا الرفيق جيدًا، بمجرد أن وصلا قررت النزول، ولكن لم يمهلها "باسم" الفرصة، هي الوحيدة التي تحرك داخله مالم تحركه إحداهن، أشفق على حالتها الآن، يعلم أن تجربتها السابقة مازالت جزء منها، احتضنها وقدم اعتذاره قائلا:

أنا لسه عايز أعرف اللي حصل بس ده ميمنعش إني اعتذر عن طريقتي، أنا أسف.


أراحت رأسها على صدره، رفعت عينيها إليه، وأدرك هو أن كل ذرة ثبات لديه اهتزت وهي تطالبه:

متعملش كده تاني يا "باسم".


_ حاضر.

قالها باستسلام، وكأنه تحول إلى طفل مطيع يعد أمه ألا يحزنها من جديد، أدرك للتو أنها قادرة على فعل الكثير، يكفي فقط قدرتها على سلبه منه، معها يفقد كل تمرده ويعلن هزيمته بكل رضا طالما كانت الهزيمة هذه بين أحضانها هي.


**********************************************


هناك أقوال تربك كل شيء، هذا ما تيقنت منه "رزان" بعد تصريح والد زوجها، حتى الآن يتردد في أذنيها ما نطق به حين صرح: 

هو مش ابنه، ابني أنا.


يكرر أن ابنه ليس ابن لـ "مهدي"، أكثر ما كانت تخشاه هو ثورة "جابر" ولكنها في نهاية الأمر أخبرته بما سمعته من والده وعللت ذلك قائلة:

تلاقيه بيخرف يا "جابر"، أنت مبقالكش كتير مبطله الدوا اللي كنت بتديهوله، ممكن لسه مأثر عليه.


ولكنه لم يستجب، رأت الحريق في عينيه، ذهابه إلى غرفة والده في لحظات، الباب الذي أغلقه بالمفتاح عليهما، لم تستطع سماع أي شيء، ولكن بعد هذه الجلسة المطولة أدركت أن القادم أسوء.


عاصرت صمته لأيام، انعزاله، وغيابه عن المنزل لساعات، لم تعد تطمئن للوضع لذا قررت أن تتواصل مع "عيسى"، والذي ما إن رد عليها حتى سمعت قوله الساخر:

خير، اتطلقتي الطلقة رقم كام؟


_ لا أنا متطلقتش.

قالتها والقلق ينهشها بينما هو رد عليها:

مبتتصليش بيا غير في المصايب، عايزة إيه يا "رزان"؟


جاوبته وهي تتمنى لو يساعدها حقًا:

أنا هحكيلك بس أنا معرفش كل حاجه، هحكيلك اللي أعرفه واللي حصل.


أنصت لها وقصت هي عليه ما حدث بداية مما سمعته من والد زوجها حتى الآن، ليس لديها أي معلومة سوى ما قاله "منصور"، لا تعرف حتى ما دار بينه وبين ابنه، وكان أول ما ذهب إليه "عيسى" هو والده، لمحه بعد الفجر وقبل أن يذهب إلى غرفته ذهب إليه مطالبًا:

عايز أتكلم معاك.


انتبه له "نصران" وأبدى استغرابه قائلا:

دلوقتي؟


هز "عيسى" رأسه مؤكدًا، ونفذ له والده رغبته، ذهبا معا إلى غرفة المكتب، وبدأ عيسى في الحديث الذي جعل والده ينصت له:

أنا عارف إن ثقتك فيا قلت.


_ اسمها خايف عليك.

هكذا صحح له والده، وتابع يوضح له وهو يطالعه:

وأنا على فكرة مش بعاملك على إنك صغير زي ما أنت قولت، أنا بس خايف يا "عيسى"، أبوك نفسه يتطمن، ومبقاش حمل إنك تبعد عنه تاني ويشوفك تايه ومش عارف يساعدك، مش عايز أفضل شايل على كتافي ذنب إنك ضيعت بسببي زمان ودلوقتي.


ترك مقعده، وتوجه ناحية والده، تناول كفه ومال عليه مقبلا، وهو يطالبه برجاء:

اوعى تقول كده تاني، أنت مقصرتش في أي حاجة، أي حاجه أنا اختارتها بنفسي أنت مش هتشيلها، أنت حاولت كتير زمان تقربني، حاولت تعرف مالي، عملت كل حاجه تقدر تعملها، أنت أحسن أب في الدنيا، ولو هعيش طول عمري أسد في اللي عملته مش هيكون كفاية.


أثر به ابنه، ابتسم وهو يمسح على خصلاته بحنان وهو يقول له:

يا عبيط أنت ابني، أنت حتة مني يا "عيسى"، لو مش هشيل همك أنت هشيل هم مين.


وطمأنه وهو يعطيه وعد قرر أن يكون صادقًا فيه:

أنا عايزك تطمن، هعملك كل اللي أنت عايزه، أنا حتى جاي دلوقتي علشان أقولك على حاجه مهمة عرفتها، وقولت أنت لازم أول واحد تعرفها معايا.


أنصت له والده وقص هو له مكالمة "رزان" وما إن انتهى حتى نطق "نصران":

في حاجه ناقصة، الحكاية كاملة أكيد عند "جابر" و"منصور"، مفتكرش كلام البت دي صدق، لكن لو ظني خاب يبقى الحكاية كاملة هنعرفها ومش بعيد من "جابر" نفسه.


وصدق والده، لم يمر الكثير حتى علما بقدوم "جابر"، يطالب بمقابلة "عيسى"، كان "عيسى" و"طاهر" على سطح المنزل، حين طالب "نصران" ابنه "حسن":

هتطلع "جابر" وتنزل.


اعترض "حسن" مبديًا رغبته في التواجد:

ليه أطلعه وأنزل، ما اطلعه وأفضل.


وكرر والده ما قال بلا تراجع:

لا هتطلعه وتنزل علشان أنا عايزك.


واستجاب لوالده، رافق ضيفهم إلى سطح المنزل، كان القلق يراوده، هناك أمسيات تحمل معها كل ما هو مصيري، كذلك كانت هذه الأمسية، حيث على سطح منزل "نصران" وأعلى أحد الأسوار جلس "عيسى" وبجواره "طاهر"، كانت العتمة مسيطرة على الأجواء عدا ضوء القمر، نفث " عيسى" دخان لفافة تبغه بعدما أشعلها وعرض على "طاهر" الذي اعترض قائلا:

أنت مش بطلت يا بني؟ 


هز رأسه مؤكدًا:

قللت اه علشان "ملك" وابنك بيتضايقوا منها، 

هتصدعني أنت كمان هرميك من هنا. 


ضحك "طاهر" وضربه على كتفه قبل أن يقول:

بكرا يجيلك اللي يطلع عينك، ابنك ولا بنتك بقى هما اللي هيربوك بجد. 


بادله "عيسى" الضحكة وبان رضاه في قول:

موافق جدًا.


حل الصمت لدقائق قبل أن يسمعا خطوات تأتي من الخلف، نظرا لبعضهما في إشارة إلى ألا يهتما بهذه الخطوات، وبالفعل استمرت حالتهما هكذا حتى نطق الواقف في الخلف:

افتكر إني مش محتاج مسدس، قعدتكم على السور دي ممتازة جدًا، هتخلي كل حاجة أسهل. 


انتظر الواقف خلفهما جواب، وطال انتظاره حتى سمع دندنة كان مصدرها "عيسى" الذي أغمض عينيه وارتسمت الابتسامة على وجهه وهو يقول:

بانو بانو بانو على أصلكم بانو

والساهي يبطل سهيانه


أكمل "طاهر" الغنوة متجاهلا هو الأخر من حدثهما قبل قليل:

ولا غنا ولا صيت

دولا جنس غويط

وكتاب ما يبان من عنوانه


وبضحكة واسعة هتف "عيسى" معه منهيًا الغناء:

بانو أيوه بانو

ثم علق بإعجاب:

الله عليك "طاهر"... 

بقولك إيه سمعت حاجة من شوية؟ 


هز " طاهر" رأسه نافيًا، وأكد "عيسى" بتسلية:

ولا أنا. 


ثم عادا للغناء، وكأن ما قيل لهما لم يكن سوى سراب، سراب صاحبه يقف خلفهما، وكل ما يريده أن يأكد لهما أن السراب يجب أن يخافه المرء أيضًا.


ولكن ما يريده لن يتحقق هنا، في منزل "نصران"، بادر " عيسى" بالنزول وتوجه ناحية الواقف، كان أمامه ويسمعه وهو يقول:

محتاج أتكلم معاك. 


ولو يتوقع أن يتم مقابلة طلبه، باستمرار دندنة "عيسى" الذي تابع ما بدأه مع "طاهر":

دوروا وشكوا عني شوية 

كفياني وشوش.


ولم يجد إلا أن الواقف أمامه يجاريه، يخبره ضاحكًا:

الكلام اللي هقوله مهم أوي بخصوص الوش اللي غدر بيك بالتحديد. 


_ لا طالما ناوي تسمعنا حاجة، يبقى تعالى يا " طاهر" بقى، أنت حتى فرحك كمان كام يوم، وأكيد محتاج تسمع حاجة حلوه. 

كان "طاهر" بالفعل في طريقه إليهما، توقف جوار "عيسى" وسمعا الواقف أمامهما يسأل باهتمام لم يسع لعدم إظهاره:

فرحك على "شهد" ؟ 


وكان رد "طاهر" إشارة على السور خلفه وقول:

السور اللي ورانا ده أنا اللي هرميك من عليه لو نطقت اسمها تاني. 


نظر لعيسى الذي رفع كفيه مؤيدًا:

وأنا معاه، مبسيبش أخويا.


_ بس أنا بقى بسيب أخويا. 

قالها "جابر" صراحة، كانت مفاجأة كبرى، رأى في نظراتهما عدم فهمهما، فأكمل بلا تراجع:

أنا أخويا حبيبكم أوي، تعرف "شاكر" ابن مهدي. 


قول جعل "عيسى" يصرح:

حتة عالية أوي اللي أنت ضاربها دي. 


وبإصرار أكد "جابر":

كان نفسي والله أبقى ضارب فعلا، بس للأسف اللي بقوله ده الحقيقة، اللي واقف قدامك... 

وأشار على نفسه متابعا ونظراته تنذر بكل شر:

أخو " شاكر مهدي".

وبضحكة ساخرة نطق:

أنا بنفسي اللي اتفقت مع الرجالة اللي خلصوا على "مهدي" بالغلط، خلصوا على أبويا.


وعند هذه النقطة بالتحديد تحدث "طاهر":

يعني أنتوا اللي ضربتوا نار على مهدي ليلتها، وكنتوا عايزين احنا اللي نلبسها.


_ مش هتفرق بقى، احنا عملناها، أنتوا اللي عملتوها في الأخر أنا اللي هشيل، اللي راح ده أبويا.


علق عيسى على جوابه قائلا:

لا ألف سلامة، الله يرحم أبوك يا حبيبي.


وبسلاسة صرح "جابر" وكأنه يلقي على مسامعهم أحوال الطقس:

كان ×××، اتجوز الشغالة عرفي ولما كوثر عرفت خلع، مفكرش حتى إنها ممكن تكون شايلة في بطنها عيل منه، وطبعا الست كوثر مينفعش ابنها يبقى أخو ابن الخدامة، اللي ربنا كتبلها إنها تخلف.


يتردد في أذنيه الآن صوت "منصور"، الرعشة في نبرته وهو يخبره:

كوثر كانت صاحبة مراتي، كانت عارفة إننا نفسنا في عيل، داست على الجرح، قعدت تتكلم عن خدامتهم اللي غلطت مع واحد وخلفت وراحت للي خلقها، وتتصعبن، لحد ما الست اللي نفسها في ضفر عيل قالتلها اديهوني.


من حالته أدرك "طاهر" صدقه، نظر إلى "عيسى" وفهم من عينيه أنه يتفق معه في حكمه، وبان هذا أيضًا في قوله:

وأنت عايز إيه دلوقتي يا "جابر"، أنا مش فاهم برضو أنت جاي ليه


تحركه رغبته في رد كل شيء لمن تسبب في وصوله إلى هذه النقطة، ظهر هذا بوضوح في قوله:

عايز حقي، عايز أحسرها على ابنها، وافتكر أنتوا كمان عايزين ده، فتبقوا معايا وسكتنا واحدة أحسن.


هز "عيسى" رأسه نافيًا وهو يخبره:

لا يا حبيب أخوك مش أحسن ولا حاجة.


_ يعني إيه؟

سأل "جابر" وتلقى الرد من "طاهر" الذي قال له:

يعني منك ليه.


ووضح طلبه أكثر يلقي على مسامعهما:

سلموه ليا وبعد كده مني ليه.


صحح له "عيسى" متوقعًا نواياه:

قصدك بعد كده تلبسهالنا احنا، وتبقى ضربت عصفورين بحجر واحد.


نفى "جابر" هذا وهو يخبره غامزا له:

أنتوا متهمونيش، أنا اللي يهمني هو، وجيت هنا علشان عارف إن سكتنا واحدة، وعلشان تخلص قدام عين أمه ومحدش فينا ياخد فيه يوم واحد...

أنا عرفت إن صاحبك متجوز أخته، يعني كده احنا في إيدنا....


لم يكمل حديثه بسبب مقاطعة "عيسى" الذي استوقفه هاتفًا:

لا صاحبي ولا صاحبك، بشير ومراته ملهمش دعوة بالليلة دي كلها، ومن الأخر كده زي ما "طاهر" قالك منك ليه.


_ أنا مش هعتبر دي كلمة أخيرة، وهجيلكم تاني، تكونوا خدتوا رأي كبيركم وشوفتوا هتعملوا إيه، وياريت بسرعة.

هكذا رد "جابر" وقرر المغادرة وأثناء رحيله توقف يقول وقد تذكر شيء: 

بالمناسبة سعاد حسني في أخر الفيلم اللي غنت فيه بانو بانو قتلها أخوها، افتكر دي إشارة حلوة أوي.


ضحك بعد قوله هذا وأكمل طريقه تحت نظرات "عيسى" و"طاهر" الذي ما إن غادر حتى هتف:

جابر مش سالك، عايز ياخد كل حاجة وميتلطش، كلم رزان قولها تعرف إيه اللي حصل بالظبط بينه وبين أبوه علشان غالبا الفترة الجاية هو هيعك كتير.


هز "عيسى" رأسه موافقًا، أخرج هاتفه وقد كرر التواصل معها، بينما في نفس التوقيت علا صوت "شهد" في الأسفل والتي أتت من أجل شقيقتها ولكن استوقفتها "سهام" عند البوابة قائلة:

ازيك يا "شهد".


_ الحمد لله.

جاوبت باختصار حتى لا تنخرط معها في أي حديث قد يسبب شجار، ولكن لم تفلتها "سهام" التي قالت:

"رفيدة" قالتلي إنك جبتي الفستان، بتقول إنه حلو و..


قاطعتها تصحح لها بابتسامة:

لا مش أنا اللي جبته، "طاهر" اللي جابه، هو مقالكيش ولا إيه؟


رأت الانزعاج في عينيها، ولكنها سريعًا ما وأدته وهي ترد:

مش مهم "طاهر" ياما جاب، حتى اسألي كده عن اللي قبلك هتعرفي إنه مجابلهاش شوية المهم بس متبقاش أخرتك زيها، في لحظة طاهر طلقها ومشيت.


_ هو أنتِ عايزة إيه؟...إيه مشكلتك معايا، ما تجربي تصارحيني يمكن أعرف أساعدك.

سألتها "شهد" وردت هي بهدوء:

مش عايزة حاجة، أنا بكلمك لمصلحتك، أنتِ خلاص داخلة البيت ده ولازم هنتعامل مع بعض، فمتحاوليش تخسري طاهر أمه علشان محدش هيطلع خسران غيرك.


بمجرد أن أنهت حديثها أتى "طاهر"، بان استغرابه، وسأل:

في إيه؟


استدارت "شهد" وحدثته بابتسامة:

كنت جايبة حاجة لملك وهمشي علطول، بس طنط وقفتني بتقول كلام غريب كده، كلمها أنت بقى يا "طاهر".


قالت جملتها الأخيرة وهي ترفع كتفيها ببراءة ثم غادرتهما، وحينها نطق "طاهر":

هو أنتِ مش عايزاني أرتاح؟


سألها وبررت هي:

أنا معملتش حاجة، أنا كنت بقولها تاخد بالها منك بس.


ونبهها هو محذرًا:

ماما لو كنتي فاكرة إن لو حصل مشاكل بينك وبين شهد أنا هطلقها فده مش هيحصل، لو حصل مشاكل أنا هنقل في بيت برا لوحدي، فياريت متوصليناش للنقطة دي، وياريت برضو تهتمي أكتر برفيدة اللي بسبب ضغطك عليها مبقتش عارفة هي عايزة إيه.


لم ينتظر ردها غادرها وقد طفح كيله من أفعالها، انتظر "شهد" عند البوابة، لم تبق طويلا عند شقيقتها، وما إن لمحها حتى ناداها:

"شهد".


وقفت تنتظر ما يريد قوله، ظنت أن الأمر يخص حديثه مع والدتها ولكنه فاجأها حين قال:

أنا عارف إني مشغول عنك اليومين دول، بس مش لدرجة مترديش على مكالماتي يعني.


وردت هي عليه تعاتبه بغيظ:

علشان أنا اتصلت بيك عشر مرات ومردتش.


_ في حد بيتصل بحد عشر مرات ورا بعض؟

سألها وقد انتقل له غيظها، ولكنه سريعًا ما أبعده وهو يقترح بابتسامة:

أنا عندي ساعتين فاضيين تيجي نخرج؟


اتسعت ابتسامتها، وهزت رأسها تعلن موافقتها، وهي تخبره:

موافقة علشان أنت وحشتني أوي الأيام اللي فاتت، وكمان علشان عايزة أتكلم معاك في موضوع.


_ لا طالما عايزة تتكلمي يبقى نخلي الساعتين أربعة.

قوله هذا أسعدها كثيرًا، شعورها بأنه متواجد دائمًا يطمئنها رغم كل شيء، رغم حتى والدته التي لا تكف عن السعي جاهدة لتعكير صفو علاقتها به.


************************************************


في صباح اليوم التالي استجاب "عيسى" لمطلب زوجته، يجلس الآن مع والدتها في المحل، يتناول فنجان القهوة الثاني، والذي ما إن أنهاه حتى قال:

نشرب شاي بقى بس بلاش سكر.


_ هو أنت يا بني جاي تقعد معايا شوية، ولا تشغلني قهوجي؟

سألته بضجر، وببراءة جسدها يامتياز رد:

أنتِ شكلك زهقانة مني، أنا هقوم امشي.


تذكرت كل توسلات ابنتها بأن تنتهي جلسة بينهما بلا أي شجار، لذلك ردت بابتسامة صفراء وهي تنفي:

لا طبعا هزهق من جوز بنتي، عموما حاضر من عينيا الاتنين، هقوم أعمل الشاي، بس لو نفسك راحت لمشاريب تانية هتقوم تعملهالنا احنا الاتنين.


وأثناء ذهابها لإعداد ما طلب سمعته يقول:

لا مشاريب تاني إيه، احنا هنتغدى بقى.


لا فائدة منه، هذا ما قالته لنفسها أما هو فأرسل لزوجته التي صعدت لشقيقتيها عبر تطبيق المحادثات حيث أخبرها:

قاعد مؤدب أهو، أي شكاوي تجيلك مني اعرفي إنها افتراء.


_ مش مصدقاك.

كتبت له هكذا وكان جوابه مقطع صوتي أخبر أثناء تناوله للشاي من يد "هادية" وهو يخبرها:

أنا مبحبش الشاي، بس بتاعك مخصوص بيخليني أحب الشاي، وعيون الشاي، واللي بيشربوا الشاي.


طالعته "هادية" باستغراب قبل أن ترد:

شكرا، إياك تفضل غزالتك رايقة كده علطول.


وما إن أرسل هذا المقطع لملك حتى وجد ردها:

بس أنا مبحبش الشاي يا "عيسى".


ابتسم وهو يكتب لها: 

طب ما بلاها شاي خالص.


انتبه على صوت "هادية" التي سألته:

هو الحاج نصران عامل إيه؟


_ الحمد لله، بيوصلك السلام.

قال هذا ثم تفوه بما لم تتوقع أن ينطق به أبدًا:

مش كان اتجوزك أنتِ بدل سهام اللي طلعتلي في البخت دي.


وقبل أن توبخه "هادية" تابع:

ولا أحسن إنه معملهاش، كان زمان "ملك" أختي.


رأى في عينيها غضبها، كفها القابض على الطاولة بغل فهتف قبل أن تنطق:

أنا شكلي هتطرد، بصي اعتبري مقولتش حاجة.

نطق بقوله الأخير غامزًا وهو يبتسم أما هي فأرادت لو زجت به خارج محلها الآن، يدرك الآن فقط أنه لو كانت النظرات تقتل لأصبح مقتله على يدها هي.


**********************************************


في بعض الأحيان يدفعنا الغضب لفعل كل ما هو غير منطقي، نقطع طريق طويل نبحث عن شيء ما وربما أن نكتشف في نهايته أن ما بحثنا عنه لم يكن سوى سراب.


لم تفكر "بيريهان" في أي شيء سوى أنها تريد كل التفاصيل التي أخفاها عنها، تريد معرفة كل حرف خدعها فيه، ولقد نالت ما أرادت، نالت "ملك"، جلسة تجمعها معه ومعه في آن واحد.


لم تصدق "ملك" أنه تراه أمام عينيها، هرولت ناحية الباب تحاول فتحه ودقات فؤادها تتسارع وقبل أن يقترب "شاكر" منها صرخت فيه:

ابعد عني، إياك تقرب مني، أنا عايزة أخرج من هنا، افتح الباب ده.


وبشجاعة تملكتها في هذه اللحظة هتفت:

أنا مش خايفة منك، لو فكرت تعملي حاجة، عيسى ه....


قاطعها صارخًا فيها:

متنطقيش ولا كلمة، وبعدين مش أنا اللي جايبك هنا، أنتِ اللي جيتي.


لا مغيث الآن، كل ما يطمئنها لمحات من صوته وهو يخبرها أن كل شيء سيكون بخير، احتضانه لها عقب كوابيسها المفزعة كل ليلة، رأت "بيريهان" فهرولت ناحيتها تتحدث بانفعال:

افتحيلي الباب ده، خرجيني من هنا حالا.


_ لما يقول الأول.

هكذا أخبرتها ببساطة، وصرخت فيها "ملك":

يقول إيه؟


ابتسمت "بيريهان" وهي تطالعه وتنطق:

قتل فريد ليه؟


شعرت "ملك" بفؤادها يهوى أرضا، لمحت مطفأة السجائر فشعرت بأنها النجدة، تناولتها سريعًا وقبل أن تهددهما بها وجدت "شاكر" يقترب منها وعينيه في عين زوجته وهو يخبرها بابتسامة:

وأنا هقولك اللي عايزة تسمعيه.


تناول ذراع "ملك" التي كانت ترتعد خشية على جنينها قبل أي شيء، وهتف وقد انتقلت نظراته لها:

علشان عايزها.


جملة مختصرة ولكنها تحمل الكثير، تملكه، وكل الأنانية التي انفرد بها، وقبل أن تضربه "ملك" بالمطفأة حذرها هو:

اعمليها كده بس متزعليش بقى لما محدش يطلع من هنا سليم.


بصقت في وجهه ولا تعلم كيف خلصت ذراعها منه، هرولت ناحية إحدى الغرف ولكنه لحق بها، وتحت نظرات "بيريهان" أمسكها محاوطًا إياها من الخلف وهو يقول:

لا استني علشان بيري تسمع الحكاية كاملة.


وقبل أن تصرخ "ملك" كمم فمها، وحينها توجهت "بيريهان" ناحيته تطالبه:

ابعد عنها.


ولكنه لم يتراجع، ظل متمسكًا بها وهو ينطق:

لا مينفعش، لو كنت بعدت عنها مكانش بقى في الحكاية اللي عايزة تسمعيها.


وختم بابتسامة:

وأنا هسمعهالك دلوقتي كاملة.


الدموع تحكي الكثير، عبرات "ملك" التي تجمعت في مقلتيها، ورغبتها العارمة في الصراخ باسمه الآن، "عيسى"، يمر أمام عينيها الآن لحظاتها في الصباح معه، كان يتناول إفطاره وانتبه إلى أنها لا تأكل فسألها:

"ملك" مبتاكليش ليه؟


_ بحب اتفرج عليك.

قالتها بابتسامة انتقلت إليه وهو يرد عليها:

ده أنا حظي حلو أوي على فكرة.


أكدت له والحب في عينيها يدل على صدقها:

أنا اللي حظي حلو، عايزة أخلف ولد شبهك، أو بنت عادي، المهم أفضل شايفاك علطول.


تستطيع بكلمات قليلة أسره وبان هذا في قوله:

ده أنتِ راضية عني أوي النهاردة، واللي جاي ده كمان محظوظ على فكرة، كفاية إن أمه هتبقى أنتِ، الست اللي كل مرة بقولها بحبك أحس إنها أول مرة، أمهم ملك اللي اختارتني واللي لما ببعد عنها شوية بتوه، ياريت لو عرفتك من زمان يا "ملك".


كلماته هذه كلمسات حانية تشعر بها الآن تحتضنها رغم "شاكر" الذي يحاوطها، رغم صوتها الذي سجنه، ودموعها التي خذلتها، رغم كل شيء لا تشعر بسواه الآن، يجسدها ببراعة أبيات "فاروق جويدة":

لماذا أراك على كل شيءٍ

كأنكِ في الأرضِ كل البشر

كأنك دربٌ بغير انتهاءٍ

وأني خلقت لهذا السفر..


وهي على يقين من أنها خُلِقت لهذا السفر وترضى به، ولا ترغب في هذه اللحظة إلا أن تهرب إليه، تهرب إلى موطنها وأمانها الوحيد، إلى عيسى.



الفصل المائة والخامس والاربعون من هنا


تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1