رواية جوازة ابريل الجزء الثالث الفصل الرابع عشر
الخيانة لا تصدر إلا من نفس مريضة، من قلب معتل لا يعرف للطهارة سبيلاً، ولا للوفاء مساراً. فهي تتسلل بخبث إلى الروح، ومن لحظة اكتشافها لا تعود العلاقة كما كانت، لأن آثارها لا تُمحى، فهي لا تُنسى ولا تُغتفر، وجرح غائر في الروح، يترك خلفه خراباً لا يُمكن إصلاحه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت الأجواء تكتسي بسحر خاص ، حيث تجمعت الأضواء والبريق للاحتفال بنجاح منى الباهر.
حبس الجمهور أنفاسه للحظة ، ثم دوّى التصفيق كأنه أمواج بحر تتلاحق ، بينما وقفت منى على المسرح ، تشعر بثقل عيون المئات من الحضور ، لكنها لم تستطع منع نفسها من البحث في الحضور عن عيني عز ، ذلك الرجل الذي يشغل قلبها حتى النخاع ، ملامحها ظلت محايدة ، لكن قلبها كان يغلي من شدة الغيرة.
أنهت مني الحفل بنجاح ، ودخلت إلى الكواليس التي امتلأت بأصوات التهاني وكلمات الإعجاب ، ومع ذلك ، لم تكن منى ترى أو تسمع شيئًا ، فقد اخترقت نظراته العميقة حاجز الحشود ولامستها مباشرة ، فانسلبت كل حواسها باتجاهه وهي تراه يقف على بُعد أمتار منها.
اقتربت مني منه بخطوات مترددة ، بين رغبتها في البقاء قوية وولعها بتلك النار التي تشعلها نظراته بداخلها ، وحين أصبحت أمامه تمامًا ، مدّ يده ببطء وأمسك كفها بامتلاك دافئ ، وهمس بصوته العميق الذي يحمل كل مشاعر العاطفة والاعتزاز : نجاحك النهارده مش جديد... انتي دايمًا وهتفضلي مدهشة .. وبتسلبي عقلي وروحي بإحساسك
رقّ قلبها له مع كل كلمة نطق بها ، فكان صوته الصادق والدافئ قادرًا على تهدئة مشاعرها المتأججة ، وتراجعت غيرتها قليلاً ، وكأن كلماته أطفأت نار قلبها ، وجعلتها تنسى لحظات انزعاجها من رؤيته مع الفتاة قبل صعودها على المسرح.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
خلال ذلك الوقت...
تصدع الصمت في الغرفة ، كأن الزمن تجمد للحظة ، بينما نظرت وسام المصدومة كانت أشبه بخنجر يخترق دعاء بلا رحمة.
قالت وسام بصوت مخنوق : انتي وصلاح... ازاي؟
خطت وسام عدة خطوات للأمام ، وأشارت إلى دعاء بإصبع مرتجف ، وعيناها تقدحان نارًا من الغضب والخيانة : انتي تعملي فيا كده؟! إنتي كنتي أقرب حد ليا في الدنيا!
هزت وسام رأسها بعدم تصديق ، ولم تُمهل دعاء فرصة للرد ، فأضافت بحدة حنجرة ينهشها الألم : جالك قلب؟! ازاي؟ ازاي قدرتوا تخبوا السنين دي كلها؟
قبضت وسام على ذراعي دعاء ، لتهزها بعنف يوازي انهيار روحها ، وصرخت بصوت مليئًا بالانفعال الحارق : اتكلمي! قوليلي ازاي قدرتي تخطفي جوزي مني؟! ازاي طلعتي خاينة ومقرفة وخبيثة بالشكل دا؟!
أغمضت دعاء عينيها بقوة ، فلم تستطع الصمود أمام نظرات وسام الملتهبة ، فانسحبت بخطوة إلى الوراء ، ودموعها انحدرت بصمت على وجهها المرهق ، قبل أن تتحدث بصوت مكسور ، كأنها تجرّه من أعماق روحها المحطمة : مخطفتش حد... ومعنديش كلام يشفع ولا يبرر... أنا مخونتكيش إنتي لوحدك يا وسام .. أنا خونت نفسي وخونت جلال كمان... لما اتجوزته وأنا بحب أخوه اللي مكنش همه غير مصلحته في الدنيا
تسربت الكلمات من دعاء ، وكأنها تقذف حملًا ثقيلًا عن صدرها ، لكن كل كلمة كانت تزيد من اختناق وسام.
تهاوت دعاء على حافة السرير ، بعدما خانتها ساقاها تحت وطأة الانهيار ، ورفعت يدها لتجفف دموعها ، لكنها فشلت في إخفاء ارتجافة أصابعها ، وأكملت بصوت متقطع يقطر ندمًا : ماقدرش أقول إني مظلومة... أنا اللي اخترت الطريق ده .. وأنا اللي ظلمت نفسي وضيعت حقي .. وياريت علي ده بس لا! ظلمت ابني كمان في حاجة مالوش ذنب فيها غير اني امه .. وضيعت حقه واذيته .. لما قبلت يتكتب بإسم حد تاني غير اسم ابوه... ويعيش عمره كله يتيم وابوه عايش
اتسعت عينا وسام بصدمة أخرى زلزلت كيانها ، ووضعت يدها المرتعشة على فمها لتحبس شهقة صاعقة خرجت منها بصوت هامس : عز... يبقى ابن صلاح؟
ارتعشت وسام بقوة ، وهي تستوعب أن الطفل الذي كبر أمام عينيها ، والذي ظنّت أنه ابن أخ زوجها ، هو في الحقيقة ابن زوجها نفسه ، فتحولت نظراتها إلى خليط من الاشمئزاز والذهول ، وانفجرت كلماتها كطوفان الثائر : كنتي بتخوني جلال مع صلاح؟!
حاولت دعاء الدفاع عن نفسها ، لكن كلماتها خرجت متعثرة وسط دموعها التي لم تتوقف ، فمسحتها ببطن كفها البارد ، وهي تنطق اعترافها المثقل بالإثم : جلال... رمى عليا يمين الطلاق قبل ما يسافر لما عرف اللي في قلبي ناحية اخوه .. وصلاح قرب مني في لحظة ضعف وبعدها جالنا خبر استشهاد جلال وهو مكنش طلقني رسمي .. كنت في نظر الكل ارملته .. وبعدها اكتشفت اني حامل..
توقفت للحظة تلتقط أنفاسها ، ثم تابعت بخزي أشد ، وعيناها مثبتتان على الأرض: لما ولدت عز كتبه صلاح بإسم جلال .. واتحجج إنه ماينفعش نعترف إنه ابنه .. قال إنها هتبقى فضيحة في العيلة ومش مستعد يواجههم دلوقتي .. واتجوزني بعدها بأسبوعين عرفي... عند محامي
كانت وسام تنظر لها بذهول وإحتقار ، وكأن عقلها يرفض تصديق كل كلمة تسمعها ، فرفعت حاجبيها وصوتها خرج مليئًا بالدهشة والغضب في آن واحد :
مش قادرة أصدق إن كل ده عملتوه من ورا الكل... وليه دلوقتي؟ ليه دلوقتي قررتي تتكلمي وتكشفي السر ده؟
رفعت دعاء عينيها إليها ، بنظرة مليئة باليأس والحسرة ، وصوتها انفجر كصرخة ألم : عشان فاض بيا!! خلاص مابقتش قادرة اعيش في الدوامة دي ..
نهضت من مكانها ، واكملت بإنهيار : هيحصل ايه؟ هكون لوحدي!! ما انا بقالي سنين لوحدي وهو عايش معاكي في النور وانا سنين مدارية في الضلمة .. بس خلاص مش قادرة اتحمل اشوف ظلمو لإبنه اللي عايش تايه في الدنيا وهو ولا سأل فيه!!
حدقت وسام فيها بنظرة مشبعة بالاشمئزاز ، كأنها ترى شخصًا غريبًا ، كائنًا لا يمكن وصفه إلا بالخسة والخيانة ، قالت بصوت تقطّره المرارة والاحتقار، وهي تخطو نحوها بخطوة واحدة واثقة ، وتقذف كلماتها الحادة كالسهام :
زي ماقولتي بلسانك .. انتي اللي وصلتي نفسك لكده .. وتستاهلي كل اللي انتي فيه .. انا اللي صعبان عليا هو عز .. حرام اوي واكبر ظلم ليه ان امه واحدة زيك..
صمتت للحظة ، قبل أن تضيف بصوت مخنوق ، نظرتها تهتز بين الحزن والإزدراء : مش عارفة ازاي كنت عايشة مخدوعة في اكتر اتنين بثق فيهم في الدنيا!! دا انتو طلعتو مقرفين اوي...
صوتها ارتفع فى نهاية جملتها ، ورعشة الغضب واضحة في جسدها كله ، قبل أن تهمس بصوت مليء بالقهر : حسبي الله ونعم الوكيل فيكم
وسام استدارت بعنف ، وخرجت من الغرفة ، وهي تجر خلفها ما تبقى من روحها المدمرة بصواعق الخيانة ، تاركة دعاء وحيدة وسط حطامها وخطاياها التي لا تُغتفر.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
عند باسم
استفاق باسم من نومه ، وعقله يترنح بين النوم واليقظة ، تتدافع فيه صور كابوسه المتكرر الذي دائما يراوده كأنه أشباح تُلاحقه بلا هوادة منذ سنوات ، بينما صوت الرعد القوي بالخارج يتداخل مع دقات قلبه التي كانت تنبض بعنف.
اتسعت عيناه في الظلام الذي يغمر الغرفة ، مدّ يده بحركة متعجلة نحو المصباح الكهربائي بجانب الفراش ، ولكنه لم يستجيب ، ففهم أن الكهرباء قد انقطعت.
تنفس بعمق عدة مرات ، محاولًا تهدئة نفسه ، وتلمس جبينه بتوتر ، فوجد نفسه مبللًا بالعرق ، وجسده كله قد غمرته حرارة غير طبيعية ، وهو يشعر بكل عضلة فيه مشدودة كوتر مشدود على وشك الإنكسار.
أدار رأسه ليجد إبريل نائمة بعمق بجانبه ، وجهها هادئ كالبحر الهادئ في الليل ، بينما هو غارق في فوضى أعماقه ، تأمل عيونها المغلقة ، وكأنها في عالم لا يشبه عالمه ، هذا الهدوء الذي يحيط بها جعل فوضاه تبدو أكثر وحشة.
نهض باسم ببطء من السرير ، متجهًا نحو الشرفة ، وحينما دفع باب الشرفة ، وجد نفسه في مواجهة الطبيعة في أسوأ حالاتها ، الأمطار تتساقط بغزارة ، وأصوات الرياح تعصف بشدة من حوله ، بينما السماء ملبدة بالغيوم القاتمة ، والجو بأسره يحمل في طياته شعورًا خانقًا يضاعف من ضيقه ، لكنه وقف تحت المطر بعدم اكتراث ، محاولاً التقاط أنفاسه بقوة.
_باسم...
قالتها ابريل برقة ، وهي تمد يدها برفق ، ووضعت كفها على ذراعه ، لكنه انتفض بعيدا فور ان شعر بلمستها ، وتلفت نحوها بعينين مترقبتين مليئتين بالذعر.
_دا أنا... أنا إبريل يا باسم؟
قالتها ابريل بخوف وحيرة ، أما هو بدون تفكير جذبها إلي حضنه بشدة ، وجسده يرتعش كطفل خائف كأنه يخبئ نفسه فى دفئ ذراعيها التى تحيطه ، بينما يدفن وجهه في حنايا عنقها.
شعرت ابريل بنبضات قلبه السريعة من خلال ارتعاشة جسمه الملتصق بها ، فإستفسرت بقلق : مالك يا باسم؟
ابتعدت ابريل برأسها عن حضنه ، ورفعت وجهها إليه ، وعينها تفيض بالأسئلة واستكملت بنبرة حانية معاتبة : في ايه ؟وإزاي واقف تحت المطر في الجو الوحش ده؟!
نظر باسم إليها عميقاً ، وشعره المبلل يلتصق بجبهته ، ثم أجاب بصوت رجولى مبحوح : بكره الكهرباء لما تقطع مابكونش مرتاح..
أمسكت ابريل وجهه بين كفيها برقة ، فأغمض عينيه وهو يشعر بدفء يتخلل أوصاله ، بينما نظرت إبريل إلى قطرات المطر التي تلمع على صدره العاري ، وهمست بحنان : انت غرقت مطر ومش لابس تيشرت حتى .. كده هتتعب وأنا كمان .. تعال ندخل وهنشغل الفلاش اللي جوا
شابكت أصابعها في خاصته ، وسارت معه إلى الداخل.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
في ذات الوقت
عند مني
فوجئت منى بتوقف السيارة فجأة أمام مطعم فخم، فأدارت عيناها نحوه، وتحدثت بنبرة مفعمة بالاستفهام والدهشة : هو وقف هنا ليه؟ مش المفروض إننا راجعين على الأوتيل؟
ابتسم عز ابتسامة هادئة، وثقة مطلقة تملأ عينيه، ثم أجاب بنبرة هادئة :
أنا اللي قولت للسواق ياخدنا على مطعم نتعشى فيه عشوة حلوة ونحتفل بنجاحك مع بعض
لم تستطع أن تقاوم سحر حديثه، حتى لو كانت في أعماقها تتردد، وجدت نفسها تجلس على الطاولة، متأثرةً بجاذبية لحظتهما، تحاول الحفاظ على هدوئها رغم الاضطراب الذي تسلل إلى قلبها.
بدأ حديثه معها بلطف، وكل كلمة يلفظها تحمل حبًا عميقًا وفخرًا لا يستطيع إخفاءه، وهما يتناولان الطعام معًا،
بينما نظراته تلاحقها بشغف ودفء، وكل لمسة خفيفة من يده على يدها كشرارة تشتعل في قلبها، توقظ فيه مشاعر الاشتياق التي لا تهدأ.
أنهيا عشائهما، لكن عز لم يتركها لحظة، كانت عيونه تغلفها، يكاد لا يفارق وجهها، ليؤكد لها دون كلمات أن حبّه لها لا يتغير.
حين وصلا إلى الغرفة، همت بالذهاب إلى الحمام، لكن عز أوقفها بلمسة ناعمة على معصمها.
نظرت مني إليه بدهشة، وفتحت شفتيها لتتحدث، لكن عز اقترب منها بصمت، وعيناه تتغلغل في عينيها، وكأنهما تتوسلان إليها برفق.
رفع عز يده ومسح على وجنتها برقة، ومال نحوها ببطء شديد، مبتسمًا بعذوبة، وغمغم بصوت أجش جذاب : كنت فخور وفرحان بيكي أوي يا منى... وأنا شايفك واقفة بتغني على المسرح
رفعت مني حاجبها، وأجابت بخفوت:
متأكد يا عز؟
أجاب عز بثقة جادة، وكلماته تعكس تمامًا ما يشعر به : طبعا يا مني .. وهي دي المشكلة للي بينا .. تفكيرنا احنا الاتنين كان غلط .. انتي كنتي شايفاني ممانع نجاحك .. وانا حبي ليكي وانانيتي فيكي مخليني مش عاوزك تشوفي غيرك
عقدت مني ذراعيها أسفل صدرها، ونظرت إليه بعينين مليئتين بالغيرة الحارقة، وقالت بنبرة يتخللها سخرية وغيظ : وشوفتني إزاي على الستيدج؟ وأنت مكنتش موجود .. باين كنت مندمج أوي مع كاريمان بنت المدير الفني
غمرته سعادة عارمة وهو يلاحظ غيرتها، مؤكدةً له أنها ما زالت تعشقه كما يذوب هو بها، بينما هى دفعته فى صدره، واستدارت لتفتح باب الحمام، لكن يده سبقتها إلى المقبض، فالتصق جسده بظهرها، بينما تملك خصرها بيده الأخرى، وهمس بالقرب من أذنها بنبرة خبيثة تنبض بالحرارة : علي ما افتكر .. كنتي مشغولة بطلوعك للجمهور .. ماكنتش واخد بالي انك مركزة معايا اوي كده؟
استمر عز في حديثه بنبرة جعلتها تشعر، وكأنها زهرة تتفتح في لهيب النار :
عموما .. لو يهمك تعرفي ومتأكد انه يهمك .. مفيش ست في الدنيا قدرت تملي عيني غير مراتي .. حبيبتي .. ملكة قلبي .. وعمري ما هقدر ابص لغيرها
مرر عز أنفاسه الحارة على عنقها المرمري، كأنها لهب ناعم يلتهم جلدها بشغف، ثم لثم رقبتها قبلة عميقة، فأغمضت عينيها بتيه من الغرق في إحساسه ، وهمست باسمه، فردد بصوته المفعم بالرجولة الجذابة، لينساب في أذنها كهمسات دافئة : نعم يا ملكة قلبي وروحي
قضم شحمة أذنها بتأنٍ، ليشعر بجسدها يرتعش من الإثارة، فنبست بصوت ضعيف : اللي بتعمله دا مش عدل
رد عز عليها بحزم، وهو يعيد إلتفاتها نحوه بلطف : ولا عدل اللي بتعمليه فيا دا... كفاية قسوة منك علينا
حدقت مني إليه بعينيها المتلألئتين بالدموع والعتاب، وهمست بلهجة يتخللها الحزن واللوم : عارف لو كنت كل مرة بتقف دقيقة واحدة بس .. وتاخدني في حضنك بعد كل مشادة بينا .. وبعدها تمشي زي ما انت عايز مكنش حصل اللي حصل
انسابت عبراتها على خديها بهدوء، وتابعت بنبرة مفعمة بعشق ينبض تحت قسوة الجوى : ومضايقة من نفسي عشان لسه بحبك... مع انك اكثر انسان في الدنيا وجعتني وكسرت قلبي واذيتني .. وطلقتني في وقت ما كنت محتاجة بس منك كلمة تحسسني بالامان
ضغط عز على كفيها بين يديه برفق، ورفعهما كلاهما إلى شفتيه ليقبلهما بحب وندم، وهمس بصوت يفيض عشقًا : أنا آسف... آسف وأناني .. وبعشقك بكل ما فيا
أحاط عز وجهها بين راحتيه، وأسند جبهته على جبينها بحنين مشبع بالاحتياج، بينما ترقرقت الدموع في عينيه تحمل أسف رجل عاشق يعتذر بكل نبضة من قلبه
رفع عز رأسه ببطء، متأملاً عقدة حاجبيها، وعينيها المغمضتين، ثم مرر أطراف أصابعه على دموعها وكأنها جمر يطفئه بحنان، قبل أن يطبع قبلة على عينيها وخديها بنعومة شديدة، واعترف بنبرة تختلج فيها عشقه وندمه : غيرتي عليكي حرقتني زي ما حرقتك .. بعدك عني ماكنش هين ولا عادي .. عشان انتي مش حتة مني .. انتي روحي اللي مقدرش استغني عنها يا مني ومش هتخرجي من جوايا غير لما افارق الدنيا دي
نطقت مني لا شعوريًا وسط عاصفة مشاعرها : بعد الشر عليك يا عز...
اختطف عز الحروف من شفتيها وهو يلتهمها بلهفة واشتياق مهلك، في قبلة نارية تمزج بين الشغف والجنون، جعلتها تستسلم لأمواجه الجامحة بينما تطوق عنقه بذراعيها، وأصابعها تغرس في شعره الكثيف.
عمق قبلته أكثر وهو يخلل أنامله في شعرها الكثيف، ينهل من شهدها بنهم، فيما يده الأخرى تهيم على منحنيات جسدها في توقٍ ملتهب، وتصل أطراف أصابعه إلى سحاب فستانها ليبدأ في فتحه برقة، وكأنها بداية لاحتراق جديد بينهما، يوازي اشتعال نبضاتهما، لتغرق حواسهما في عاصفة مشاعر تملأ الفضاء، وتنساب أرواحهما معًا في تناغمٍ تام وعشق محموم.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
في تلك الأثناء
خرجت إبريل من الغرفة إلى الصالة بالغطاء ذو القماش القطيفة الناعم بين يديها، لتذهب نحو باسم الذى يجلس على الأريكة، والضوء الخافت للكشاف يضيء المكان.
اقتربت منه بهدوء، وعينيها مليئة بالقلق، وهى ترى جسده ما يزال يرتجف من آثار المطر الذي غرق فيه قبل قليل، لتهمس بحذر : مرتاح في الاضاءة دي كدا يا باسم؟
أنهت جملتها، وهى تناوله الغطاء، لكنه وضعه بجانبه بعقل شارد، وأجاب بصوت هادئ، ووجهه لا يخلو من الشحوب : اه كويسة
قضمت على شفتيها بخفة، ونظراتها لم تفارق جسده المرتعش، فواصلت بإهتمام : برادن؟ انت لسه بتترعش..
قاطعها باسم بتنهيدة : هبقي كويس دلوقتي يا ابريل
أمسكت إبريل بالغطاء بإصرار، لفته حوله بحنان، كأنها تريد أن تغلفه بحبها وتمنحه دفء قلبها وهمست برقة : هتبقي كويس يا حبيبي.. لما تحط دي كدا وتدفي نفسك
ابتسم بضعف على عنادها، وفتح ذراعيه لها، وهو يشعر أن حضنها هو المأوى الوحيد للدفء الذي يحتاج إليه، وقال بصوت هامس وجذاب : انا محتاج دفاكي انتي .. تعالي في حضني
ارتسمت ابتسامة على وجهها الذي شع بحرارة فاتنة، ودون تردد انزوت في حضنه، وسندت رأسها على صدره، بينما رفعت ركبتيها على الأريكة.
غمرها بين ذراعيه بالغطاء مما جعلها تشعر بحميمية ودفء، وأسند ذقنه فوق شعرها، مستنشقًا شذاها التي ملأت قلبه بالسكينة.
سألها باسم بصوت مكتوم بعد لحظات من الصمت، وهو يدفن وجهه فى رقبتها : انتي مابتخافيش من الضلمة يا ابريل؟
رفعت أنظارها إليه بإستغراب، وردت بإبتسامة رقيقة لا تخلو من الحنين : وهو في حد مابيخافش منها؟ تعرف المنطقة بتاعتنا في المنصورة الكهرباء كانت تقطع فيها كتير .. بس انا كنت بستخبى في حضن ستي وهي بتقعد تقرأ لي قرآن لحد ما انام
_باسم..
_نعم!!
قالت إبريل بصوت خافت يملؤه التردد : ممكن أسألك سؤال؟
هز باسم رأسه موافقًا في صمت، فنظرت إليه بهدوء ، قبل أن تتابع هي بسؤال حائر : ليه بحس ان خوفك من الضلمة زيادة شوية!! هو انت من صغرك مابتحبش الضلمة؟
سؤالها كان عاديًا في ظاهره، لكن بالنسبة له كان كعاصفة هوجاء تعصف بأعماقه، ظل صامتًا لا يعرف كيف يشرح لها الإحساس المظلم الذي يطارده بلا رحمة.
ترددت من جديد صرخة أشرف المذعورة في أذنه، ولاحت في ذهنه صور سريعة،
وسرحت عينيه في الفراغ، غير قادر على النطق بكلمة واحدة، وعندما لاحظت إبريل صمته ولمعان العبرات بمقلتيه، تحدثت بصوت مرتبك : اسفة لو سؤالي ضايقك!!
أخذ باسم نفسًا عميقًا، وأغمض عينيه بشدة وهو يهمس بتعب، وكأن الكلمات ثقيلة على قلبه : هيفضل يطاردني طول عمري... مهما حاولت أهرب منه بيرجع تاني
_مين اللي بيطاردك؟
تساءلت إبريل، وقد علت نبرتها بالكثير من الحيرة.
أجاب باسم بصوت ثقيل، ممزوج بالحزن : الذنب...
بدأ باسم يسرد لها ماضيه المظلم، حيث انغمس في عالم محفوف بالمخاطر، وانخرط في سباقات سيارات لا حصر لها ليهرب من غيوم غضبه وآلامه، ولكن انتهى آخر سباق بشكل مأساوي، حين فقد أعز أصدقائه، ومنذ تلك اللحظة، أصبح شبح الذنب يطارده بلا هوادة
كانت ابريل تجلس أمامه، وهو مستمر في حديثه : لسه فاكر لحظة ما فتحت عينيّ في العربية بعد ما تقلبت... مكنتش شايف غير سواد من كل ناحية .. وأشرف جنبي قاطع النفس وأنا عاجز مش قادر أعمله حاجة
تأثرت إبريل بشدة من كلامه، ورأت في عينيه بريقًا من الألم والعذاب، فاقتربت منه أكثر، وضمت رأسه إلى صدرها بحنان، كما لو كانت تحاول أن تخفف عن قلبه هذا الثقل الذي يهلكه، ثم همست في أذنه بصوت حنون ومهدئ، وهي تتلو القرآن بصوتها الرقيق، حتى غفا بين ذراعيها دون أن يشعر، محاطًا برائحة المطر التي لازالت تملأ الأجواء، وزخاته التي تنساب بغزارة فى الخارج.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
كان صلاح يقود سيارته بحذر شديد، فالرؤية تكاد تكون معدومة بسبب الأمطار الغزيرة التي تضرب الزجاج الأمامي بعنف، وأنامله مشدودة على عجلة القيادة، وعيناه تراقبان الطريق بحذر.
رن هاتفه فجأة، ليُصدر صوت إشعار رسالة قطع ذلك الصمت الثقيل.
ألقى نظرة خاطفة على الشاشة التي أضاءت بجانبه، فرأى اسم دعاء ، تردد للحظة، قلبه ينبض بشدة، ففى آخر لقاء بينهما في زفاف لميس كانت تتعامل معه ببرود وتحفظ وكأنهما غريبان.
التقط الهاتف وفتح الرسالة : اعترفت بكل حاجة لوسام... مش هقدر أواجه عز لما يعرف... وأحسن حل إني أنهي حياتي... أنا ملعونة في الدنيا والآخرة
تجمدت عيناه على الشاشة، واتسعتا بصدمة وفزع، وكأن الوقت توقف من حوله.
بسرعة ضغط على زر الاتصال بها، رن الهاتف مرة... مرتين... ثلاثًا، ولا إجابة.
ازداد قلقه، وأعاد المحاولة مرة أخرى، وصوته يلهث بعبارات غير مسموعة، أخيرًا، بالكاد يُسمع، فانفجر فيها بصوت مليء بالارتباك والغضب : إيه اللي انتي عملتيه يا دعاء؟! انتي اجننتي إزاي تقولي لوسام؟! ليه؟! انتي فاكرة اللي قلتيه هيفيد في حاجة؟!
أجابت دعاء بصوت مبحوح : كان لازم تعرف الحقيقة مني..
صاح صلاح بها بانفعال : الحقيقة دي دمرتي بيها كل حاجة يا دعاء؟ عز؟ فكرتي في عز لما يعرف؟!
صمتت دعاء للحظة ، ثم نطقت بنبرة يائسة كمن اتخذ قراره : مش هكون موجودة لما يعرف يا صلاح...
قاطعها صلاح بغضب يمتزج بالفزع : إيه اللي بتقوليه ده؟ انتي مجنونة؟!
جاءه صوتها منهارًا ، بالكاد تستطيع الرد ، والدموع تتخلل أنفاسها : انا عملت ليك كل حاجة يا صلاح .. اتنازلت ليك عن كل حاجة قلبي وكرامتي وعمري كله .. وانت عمرك ما ضحيت عشاني بحاجة..
غيّر مسار السيارة بقوة نحو الطريق الآخر ، وهتف بسرعة : أنا هجيلك حالًا بس أوعي .. أوعي تفكري تعملي حاجة غبية! فاهمة؟!
أتى صوتها ضعيفًا وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة : متأخر اوي يا صلاح .. خد بالك من عز وقوله يسامحني
شعر صلاح بزلزال داخلي يهز كيانه، ونبضات قلبه اشتعلت بخوف حارق، فزاد من سرعة السيارة، مائلًا بجسده إلى الأمام، وقال بنبرة أشبه بالتوسل : قربت اوصلك .. اتمالكي نفسك .. دعاء!! الو .. دعاء ردي!!!
ظل صلاح ينادي عليها بجنون دون رد، فزاد من سرعة السيارة متجاهلًا الطقس العاصف والطريق الزلق، وقلبه يخفق بذعر، ويداه تقبضان على عجلة القيادة بقوة.
وأثناء عبوره أحد المنحنيات الحادة، انزلقت العجلات على الطريق المبتل، وحاول السيطرة على السيارة، لكن الأمطار الكثيفة أخرجتها عن مسارها.
تحطمت السيارة في لحظة، وانقلبت على جانب الطريق، وتطاير الزجاج والشظايا في كل اتجاه، وصلاح ملقى بين الحطام، وجهه غارق في الدماء، وعيناه نصف مغمضتين، كلمات دعاء الأخيرة تردد في ذهنه قبل أن يغرق في الظلام، معلنًا عن نهاية كل شيء.