رواية جمر الجليد الفصل الخامس عشر 15 بقلم شروق مصطفي


رواية جمر الجليد الفصل الخامس عشر بقلم شروق مصطفي 

جلست سيلا على طرف السرير، وضغطت على يدها المصابة بحذر، وهمست لنفسها: "حيوان" فاكرني هخاف منه! 


لفت نظرها السوار الملفوف حول معصمها، وظلت تحدق فيه باستغراب، تتساءل بصوت خافت:

"إيه ده؟ بتاع مين؟ مين اللي لبسهالي؟"


رغماً عنها، غلبها الإرهاق فأغمضت عينيها وغرقت في نوم متقطع. لم يمر سوى نصف ساعة حتى دخلت الدادة فاطمة لتطمئن عليها، لكنها فوجئت بحرارتها المرتفعة وبالكلمات المتقطعة التي تهلوس بها بصوت مبحوح وغير مفهوم.


على الفور، تركت الغرفة مسرعة لتبلغ عاصم بالأمر. وقف بجدية وهو يستمع، ثم قال بحزم:

"اعملي لها كمادات مبللة أولاً، وبعدين ندّيها الحقنة."


نفذت الدادة التعليمات، بينما ظل هو جالساً بجانبها يراقبها عن كثب. كانت شفتاها تهمسان بأشياء مبهمة، اختلط فيها الغضب بالوجع:

"بكرهك... ابعد عني... بكرهك... ابعد عن طريقي... رودي... لا... ليه؟ بكرهكم..."


ظلت الدادة منهمكة في عمل الكمادات، بينما وقف عاصم متصلباً ينظر إليها بشرود. ما إن انتهت حتى أشار إليها قائلاً:

"خلصي الكمادات، وناديني أول ما تنزل الحرارة."


ترك الغرفة وخرج إلى الفناء، حيث استقبله الهواء البارد بصفعات منعشة. أخرج سيجارة من جيبه، وأشعلها بحركة آلية. ظل يدخن، واحدة تلو الأخرى، يراقب الدخان وهو يتلاشى في الهواء. فجأة، قطعت الدادة شروده بندائها:

"يا بيه، الحرارة نزلت."


دهس السيجارة الأخيرة أسفل حذائه، وأخذ نفساً عميقاً قبل أن يعبر عتبة المنزل مرة أخرى. دخل الغرفة بخطوات ثابتة، أعطاها الحقنة بهدوء ثم دثرها جيداً باللحاف، وأغلق الأنوار. همس للدادة وهو يخرج:

"خلي بالك منها."


توجه بعدها إلى مكتبه. جلس خلف الطاولة، وبين يديه الملفات والأوراق. حاول أن يغرق في عمله، لكن عقله كان يتسلل بين الحين والآخر إلى الغرفة المجاورة. أجرى بعض المكالمات، يتابع مستجدات القضية التي كانت تؤرقه منذ أيام. الوقت يمضي، لكنه ظل عالقاً بين عمله وهمومه، وبين الغموض الذي يحيط بها وبحالها المتدهور.


على الجهة الأخرى، كان معتز في مكتبه، يمشي جيئة وذهاباً وقد تملّكه الغضب. قبض بيده على هاتفه بقوة، ملامح وجهه توحي بأنه على وشك الانفجار. توقف فجأة، ونظر إلى إحدى الملفات أمامه ثم أزاحها بعصبية، قبل أن يتمتم بحدة:


"إزاي ترفض تقابلني؟!"


أخذ نفساً عميقاً ليهدئ غضبه، لكنه فشل. جمع أوراقه بعشوائية، ثم أمسك بمفاتيح سيارته وخرج من المكتب بخطوات ثقيلة وحازمة. فور جلوسه خلف عجلة القيادة، أجرى مكالمة قصيرة بصوت متهدج، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه شيئاً فشيئاً.


أنهى المكالمة بابتسامة واسعة، خبيثة، تشي بنصر داخلي. تمتم بصوت منخفض، وكأنه يخاطب شخصاً غير موجود:

"لما أشوف بقى هتنزلي الشغل تاني إزاي."


أدار محرك السيارة، وبدأ بالتحرك بسرعة ملحوظة، متجهاً إلى منزله. عقله مشغول بخطته القادمة، وقلبه ينبض بنشوة الانتقام.


وليد جلس في غرفته، يتأمل السقف بصمت. كان أمرًا يشغل باله منذ فترة طويلة، لكنه ظل يؤجل مواجهته مرارًا وتكرارًا. شعر أن اللحظة قد حانت الآن، فمد يده إلى هاتفه وتردد قليلاً قبل أن يطلب الرقم.


رنّ الهاتف للحظات حتى جاءه صوت أخيه من الجهة الأخرى، هادئًا ومطمئنًا كعادته. بدأ وليد الحديث بتردد، لكن سرعان ما انساب الكلام منه كما لو كان سدًا انفتح فجأة. أخبر أخاه بكل ما يدور في ذهنه، بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي أبقته مستيقظًا ليالٍ طويلة.


كان أخوه يستمع بصبر، ولم يقاطعه إلا بين الحين والآخر ببعض الكلمات المشجعة التي جعلت وليد يشعر براحة لم يعهدها منذ وقت طويل. انتهت المكالمة أخيرًا، وابتسامة ارتسمت على شفتيه، مزيج من الارتياح والثقة.


وضع الهاتف جانبًا، ونهض من مكانه. نظر حوله في الغرفة بعينين حازمتين، ثم بدأ بترتيب أولوياته. الآن وقد أزال هذا الحمل عن كاهله، بات مستعدًا للمضي قدمًا، بخطوات واثقة نحو ما ينتظره.


في منزل رودينا بالغردقة، كانت الحياة تمضي وسط ضحكات الأطفال وضجيجهم المعتاد. جلست رودينا على الأرض بين توأميها، كنزي وكرما، بينما الصغيرة كرما تطالبها بوجبتها المفضلة بطريقة طفولية:

"ماما جوعانة... بشاميلو!"


ضحكت رودينا بمرح وهي ترد:

"بشاميلو مرة واحدة؟ حاضر يا عيون ماما، خليكي هنا وأنا هقوم أعمل الأكل."


هزت كرما رأسها ببراءة وجلست مكانها، لكن عقل رودينا كان في مكان آخر. همست لنفسها وهي تدير رأسها بحثاً:

"فين كنزي؟ البت دي هتجنني! مش سامعة لها حس... آه ياني، شكلها بتعمل كارثة!"


نادت بصوت عالٍ:

"كوكي! يا كوكي! بتعملي إيه؟"


جاء الرد من كنزي، بصوت بريء وهي تهمهم:

"مم... مم..."


دخلت رودينا المطبخ على عجل لتتفاجأ بالكوارث المنتشرة أمامها. البيض موزع في كل مكان، وكنزي تقف أمام الثلاجة مفتوحة، تحمل شيئاً بيدها. صرخت رودينا بدهشة وهي تقترب منها:

"والله زي ما انتي! أوعي تتحركي! بتعملي إيه يا قلب ماما؟"


ردت كنزي بابتسامة عريضة:

"ماما... مم!"


شهقت رودينا وهي ترى البيض المكسور والأرضية الملطخة:

"مم! وفتحتي الثلاجة وتقوليلي مم! طب والبيض ده؟ موزعاه كده؟ آه ياني! تعالي هنا يا حبيبتي، تعالي أعملك مم... لا، تعالي أحميكي الأول!"


أخذتها إلى الحمام، وهي تحدث نفسها بصوت مسموع:

"أول إيه؟ ده ثالث ولا رابع مرة! أنا اتجننت... بكلم نفسي بجد!"


بعدما انتهت من تنظيفها، أجلستها بجانب أختها كرما. وفي اللحظة ذاتها، سُمع صوت مفاتيح الباب. قفزت الفتاتان بحماس نحو الباب، وركضتا ليحتضنا والدهما.


"بابا! تيت؟" سألت كنزي بحماس.


ضحك عامر وهو ينظر إلى طفلته الصغيرة:

"لا يا ملاكي، لسه متتش!"


ثم ضحك أكثر عندما سألته كرما ببراءة:

"بابا تيفونك؟"


رد عليها بابتسامة واسعة:

"كل يوم تثبتوني اتفضلي يا ست البنات، خدي التليفون وفرجي أختك معاكي."


أخذت كرما الهاتف وركضت مع كنزي للجلوس معاً، تتابعان مقاطع يوتيوب. أما رودينا، فقد دخلت لتقابل عامر بنبرة عتاب:

"اتأخرت ليه كده؟"


أجابها بإرهاق ظاهر:

"شغل كتير، والله لسه مخلص وهلكان. هموت وأنام."


ردت بابتسامة:

"طيب، غير هدومك، الأكل جاهز."


اجتمعوا جميعاً على السفرة، وكانت الأجواء مليئة بالضحك والحديث العائلي. فجأة، سألت رودينا بحماس:

"هنآخد إجازة إمتى؟ وحشوني أوي نفسي أشوف إخواتي!"


ابتسم عامر وقال:

"هانت، قريب أوي هنزل. وليد كلمني النهارده... وعاوز يخطب!"


ابتسمت رودينا بفرحة:

"بجد؟ الله! أخيراً، مين بقى اللي شقلبته كده؟"


قهقه عامر:

"من ناحية شقلبته، فهي شقلبته فعلاً. مش عارف ياخد منها حق ولا باطل، بس هيحدد مع والدها الأول، وبعدها نروح نطلبها منه."


فرحت رودينا:

"يا رب... عقبال ما نفرح بيهم كلهم!"


في هذه الأثناء، كانت كارما تحاول لفت انتباه والدتها:

"ماما... بعت!"


نظرت رودينا إليها وضحكت:

"لا، كلي يا كوكو. دي طيب!"


لكن كارما ردت بإصرار طفولي:

"توتو نو!"


تدخلت كنزي، وهي تقول ببراءة:

"ماما، توتو أنا!"


ضحكت رودينا وقالت:

"اللي هاكل الكوكو كله، عندي له مفاجأة!"


وبين ضحك ولعب الطفلتين، تابعت رودينا حديثها مع عامر حول الهاتف المحمول، مشيرة إلى مخاطر جلوس كارما الطويل على اليوتيوب. وافقها عامر الرأي، وأقترح عليها البحث عن حلول على الإنترنت.


أنهى عامر حديثه قائلاً:

"ما عندناش أغلى منهم. أنا معاكي في أي خطوة تاخديها."


ابتسمت رودينا وقالت:

"طيب، ادخل نام شوية وأنا هخلص شغل البيت وأنيم البنات."


ـــــــــــــــــــــــــــ

في صباح اليوم التالي، دخلت مي مبنى الجريدة بخطوات متوترة، شعور بالقلق يسيطر عليها منذ استدعائها إلى مكتب المدير. بالكاد ألقى عليها أحد الموظفين التحية حتى قيل لها:

"الأستاذ عاوزك فورًا."


طرقت الباب برفق ودخلت. كانت عينا المدير حادة وهو ينظر إليها مباشرة. بادرها بالسؤال بلهجة صارمة:

"قوليلي يا مي... عملتي إيه في مشوار امبارح؟"


ارتبكت مي، وبدأ صوتها يتلعثم:

"أ... أ... أصل أنا... ت..."


قاطعت كلماتها المتقطعة نبرة المدير الغاضبة:

"بلاش شغل العيال ده يا مي! احنا مش فاتحين الجريدة عشان نلعب. لما أبعِت حد لمهمة، المفروض يرجع بنتائج. ولو مش قد الشغل، كنتِ تقولي، ونبعت حد غيرك."


حاولت مي تبرير موقفها:

"أنا... أنا آسفة، بس أنا..."


لكن المدير لم يمهلها وقتًا:

"مفيش بس. اللي حصل إمبارح خلا اسم الجريدة يتضرر جدًا مع واحدة من أكبر الشركات العالمية. عارفة ده معناه إيه؟ معناه إني مضطر آسف أنهي شغلك معانا. استلمي ملفك النهاردة، وآخر يوم ليكي عندنا. عدي على أستاذ شوقي في قسم الحسابات وخدي باقي مرتبك."


شحب وجه مي، وحاولت الدفاع عن نفسها بصوت مكسور:

"بس... يا فندم، دي أول غلطة أغلطها. وأنا شغالة هنا بقالى أكتر من ثلاث سنين!"


نظر المدير إليها بعينين جامدتين وأردف:

"للأسف، ده أقل عقاب بدل ما الجريدة كلها تتقفل."


اغرورقت عينا مي بالدموع، لكنها لم تستطع قول المزيد. أومأت برأسها بخضوع وهمست:

"تمام يا فندم... بعد إذنك."


خرجت من المكتب، وكأنها تحمل على كتفيها جبلًا من الحزن والخذلان. كانت خطواتها ثقيلة، والدموع تغطي وجهها.


في الخارج، بينما كانت تحاول استيعاب الصدمة، لم تلحظ السيارة السوداء المتوقفة على بعد أمتار منها. جلس داخلها معتز، يراقبها بابتسامة خبيثة مرسومة على شفتيه. تمتم بسخرية:

" ولسه! انتي لسه ما شفتيش حاجة. هكسّرك كمان."


ارتدى نظارته الشمسية، وأدار محرك سيارته، ثم انطلق مبتعدًا، تاركًا وراءه مي غارقة في حزنها.


استقلت مي سيارة أجرة، متجهة إلى منزل صديقتها همسة. ما إن فتحت همسة الباب حتى ألقت مي بنفسها في أحضانها، تشهق بالبكاء:

"شفتي... شفتي اللي حصل؟"


احتضنتها همسة وهي تحاول تهدئتها:

"اهدي... اهدي يا مي، مالك؟ تعالي دخلي جوا واحكيلي."


جلست مي على الأريكة وهي تضع يديها على وجهها وتبكي بحرقة:

"اترفدت! أنا اترفدت! وهو السبب... هو اللي عمل كده فيا. ليه؟ ليه يعمل كده؟! أنا مش مصدقة لحد دلوقتي. المدير قال إن ده أقل عقاب بدل ما الجريدة كلها تتقفل."


ربتت همسة على كتفها:

"طيب، طيب، اهدي... ده واصل قوي على كده؟"


هزت مي رأسها وقالت بغضب:

"أكيد، ما هو أخو ضابط، وعندهم ناس تقيلة. لكن ليه؟ ليه يعملوا كده فيا؟"


صمتت همسة قليلاً، ثم حاولت تهدئتها:

"بصي، فكك يا مي. اللي خلق الجريدة دي خلق غيرها. الدنيا مش هتقف على كده. شوفي جريدة تانية تشتغلي فيها. استني، أنا هعملك عصير ليمون يروق دمك."


مسحت مي دموعها ونهضت من مكانها بتصميم:

"صح! أنا مش هستسلم. هشوف جريدة تانية، ومش هسيبه يفرح فيا."


حذرتها همسة وهي تنظر إليها بجدية:

"مي، ابعدي عنه. طالما هو غبي بالشكل ده وقطع رزقك، خليكي بعيدة أحسن."


أجابت مي بحزم:

"طيب، أنا همشي دلوقتي. يلا، سلام."


نادت عليها همسة:

"استني! اهدي الأول، وأنا هعملك ليمون."


لكن مي هزت رأسها واعتذرت:

"لا، مش قادرة. أنا تعبانة، وعاوزة أنام."


ربتت همسة على ظهرها وهي تودعها:

"خلي بالك من نفسك... مع السلامة."


غادرت مي منزل همسة وعادت إلى منزلها، ترتمي على سريرها، محاولة لملمة شتات نفسها والاستعداد لبداية جديدة.


... ..

بعد مرور يومين...


بدأت سيلا تستعيد عافيتها تدريجيًا، لكنها اختارت تجنب أي مواجهة مباشرة مع عاصم. كانت تقضي وقتها في استعارته للكتب من مكتبه، تقرأها، ثم تعيدها دون أن تثير انتباهه.


في إحدى المرات، أثناء استعارته كتابًا، لاحظت شيئًا غريبًا مخفيًا خلف الكرسي. حاولت التظاهر بالهدوء والخروج كالمعتاد، لكن عقلها كان يعج بالتساؤلات. عادت إلى غرفتها وظلت تفكر كيف يمكنها الحصول على هذا الشيء دون أن يُمسك بها.


انتظرت بصبر حتى سمعت صوت سيارته يغادر المنزل. نزلت مسرعة إلى مكتبه، متظاهرة بأنها تبحث عن كتاب آخر. التقطت أحد الكتب لتغطي تحركاتها، واستغلّت معرفتها بمواقع الكاميرات داخل الغرفة.


عند مرورها قرب الكرسي، تظاهرت بالتعثّر، ووقعت على الأرضية بطريقة طبيعية. مدّت يدها بخفة والتقطت الشيء المخفي خلف الكرسي، دون أن تُظهر الكاميرات أي شيء مريب. استقامت بسرعة وخرجت إلى غرفتها، وقلبها ينبض من فرط الإثارة. أخيرًا، حصلت على ما تبحث عنه.


---


في يوم المسابقة...


أنهت همسة تجهيز لوحاتها وسلمتها للمعرض قبل يوم واحد من المسابقة. وفي صباح يوم الحدث، كانت العائلة تستعد للذهاب. والدها، محسن، ووالدتها، نرمين، انشغلا بالتجهيز، بينما همسة قالت بلهفة:

"بابا، ممكن نعدي على مي ونأخذها معانا في الطريق؟"


ابتسم محسن وهو يرتدي معطفه:

"حاضر يا ست الكل."


نرمين من غرفة أخرى:

"أنا جاهزة يا همسة، إنتِ مستعدة؟"


همسة تنهدت بحزن:

"كان نفسي سيلا تكون معانا النهارده."


ربت محسن على كتفها مطمئنًا:

"قربت ترجع لنا، خلاص القضية قربت تخلص، ومش هيطولوا لحد ما يمسكوهم."


نرمين بتفاؤل:

"يارب يا حبيبي، إن شاء الله."


أسرعوا للخروج، مروا على مي واصطحبوها معهم إلى المعرض.


في قاعة المسابقة...


قدمت همسة لوحاتها وسط توتر وحماس، وبنهاية اليوم حازت على المركز الثالث. فرحتها لم تكن مكتملة بسبب غياب سيلا، لكنها شعرت بالفخر بما حققته.


وبينما كانت تتلقى التهاني، تفاجأت بحضور وليد. شعرت بالتوتر فور أن رأته يتقدم نحوهم مبتسمًا، وقال:

"أهلاً يا عمي، عامل إيه؟ الصدفة الجميلة دي!"


نظر إليه محسن محاولًا تذكره:

"أهلاً وسهلاً، إحنا اتقابلنا قبل كده؟"


رد وليد بابتسامة:

"آه، اتقابلنا لما اتبدل تلفوني بتليفون بنت حضرتك."


تذكر محسن الموقف وابتسم:

"آه، فعلاً. أهلاً يا بني."


نظر وليد إلى همسة مباشرة، وقال بصوت عميق:

"مبروك."


توترت همسة وردت بخجل:

"الله يبارك فيك."


لاحظ محسن نظرات وليد، فسأله ليقطع الصمت:

"إنت مشترك في المسابقة ولا جاي مع حد؟"


انتبه وليد للسؤال بسرعة وأجاب:

"ها... لا، أنا جاي مع صديق مشترك في المسابقة."


ثم أضاف:

"طيب، بعد إذنك، أروح أشوفه."


أومأ محسن برأسه:

"تفضل."


ابتعد وليد قليلاً عن المجموعة، لكنه ظل يراقبهم من بعيد. انتظر حتى وجد همسة تنسحب من وسطهم متوجهة إلى زاوية هادئة. انتهز الفرصة وتقدم نحوها بخطوات واثقة...

... 

بعد دخول الحمام...


كانت سيلا تعلم أن الحمام هو المكان الوحيد في المنزل الذي يخلو من الكاميرات. دخلت بخطوات مترددة، وأغلقت الباب خلفها بإحكام. أخرجت حقيبتها الصغيرة من تحت معطفها، واحتضنتها لثوانٍ كما لو كانت تحمل كنزًا لا يُقدر بثمن. فتحت الحقيبة بسرعة وأخرجت منها جهاز لابتوب صغيرًا كان مخفيًا بعناية.


وضعت الجهاز على الأرضية، ثم أخرجت شاحنه ووصلته بالكهرباء. جلست بجانبه للحظات، تراقب ضوء الشحن وهو يضيء. كان قلبها ينبض بشدة؛ شعور من الخوف والحماس يملأ صدرها.


همست لنفسها بصوت خافت:

"لسّه بدري... لازم كل حاجة تكون في الوقت المناسب."


قررت أن تترك الجهاز داخل الحمام لبعض الوقت حتى يكتمل شحنه. خرجت من الحمام وكأن شيئًا لم يكن، واتجهت إلى غرفتها. هناك، فتحت النافذة بهدوء وأخذت تراقب الخارج بعينين حذرتين. عندما رأت السيارة تدخل إلى ساحة المنزل، أسرعت عائدة إلى الحمام.


التقطت الجهاز المشحون وأخفته بعناية بين أغراضها. عادت إلى غرفتها بخطوات ثابتة، وأغلقت الباب وراءها. وضعت اللابتوب في مكان آمن وابتسمت بشعور من الانتصار.


همست مجددًا:

"كل حاجة بوقتها... وهعرف أتصرف."


جلست على سريرها تحاول أن تبدو طبيعية، لكنها لم تستطع أن تهدئ من تسارع دقات قلبها. كانت تعلم أن ما ستفعله قد يكون مخاطرة كبيرة، لكنها لم تكن على استعداد للتراجع الآن.


ـــــــــــــــــــــــــ


بعد انتهاء المسابقة...


بعد أن انتهى الحفل وكرّمت همسة لحصولها على المركز الثالث، تقدم وليد إلى محسن بطلب مهذب:

"لو سمحت يا عمي، ممكن أتكلم مع حضرتك في موضوع مهم؟"


ابتسم محسن بترحيب:

"اتفضل، قول اللي عندك يا بني."


وليد أشار إلى الخارج قائلاً:

"طيب ممكن نطلع برا شوية؟ الجو هنا دوشة وازدحام."


هزّ محسن رأسه بالموافقة:

"ماشي، اتفضل."


خرج الاثنان إلى ساحة المعرض بعيدًا عن الضوضاء، وهناك تحدث وليد بنبرة جادة:

"بصراحة يا عمي، أنا عارف إن الوقت ممكن ميكونش مناسب، بس أنا جاي أطلب إيد بنت حضرتك. شوف الوقت المناسب ليكم إمتى، وأنا هاجيب أخويا وابن عمي ونتقدم رسمي."


تفاجأ محسن قليلاً لكنه رد بتروي:

"والله يا بني، الموضوع كبير وبيتطلب تفكير. البيت عندنا مش مهيأ للحاجة دي دلوقتي، وبنتي سيلا مش معانا..."


قاطعه وليد بسرعة وبحزم:

"أنا فاهم، وأنا مش مستعجل على حاجة. اللي بفكر فيه دلوقتي مجرد تعارف. لو حصل قبول ونصيب، مش هنتمم أي خطوة إلا لما بنتكم تكون موجودة ومعانا، وكمان في حضور عاصم، لأنه أخويا ومش بس ابن عمي. فحضرتك فكر براحتك وخد وقتك."


أجاب محسن بتأنٍ:

"طيب، خليني أرجع البيت وأشاورهم الأول، وكمان أتكلم مع البنت. وبعد كده هرد عليك إن شاء الله."


وليد رد بابتسامة ممتنة:

"تمام، مفيش مشكلة. ممكن أخد رقم حضرتك عشان أتابع معاك؟"


تبادل الاثنان أرقام الهواتف، واتفقا على أن يتم الرد خلال الأيام المقبلة. استأذن وليد بعد ذلك بالانصراف، بينما عاد محسن إلى الداخل حيث انتهت همسة من تسلم جائزتها.


---


في طريق العودة...


استقلوا السيارة، وأعادوا مي إلى منزلها قبل التوجه إلى بيتهم. طوال الطريق، بدا محسن شارد الذهن، مما دفع نرمين إلى سؤاله:

"مالك يا محسن؟ شكلك سرحان كده!"


ابتسم محسن بخفة وقال:

"لا مفيش حاجة، بس كنت بفكر في اللي حصل النهارده. على فكرة، وليد طلب إيد همسة."


نظرت نرمين إليه بدهشة، بينما همسة شعرت بتوتر شديد وهي تسأل:

"طلب إيدي؟ إمتى ده؟ وإزاي؟"


حكى محسن بإيجاز عن الحديث الذي دار بينه وبين وليد، ثم أضاف:

"بس قلتله هفكر وأشاوركم الأول، ومش هيتم أي حاجة إلا لما نكون كلنا مستعدين."


نرمين تحدثت:

"ربنا يكتب اللي فيه الخير، بس لازم نسأل البنت رأيها الأول."


همسة، التي لم تتوقع الموقف، قالت بتوتر:

"أنا محتاجة وقت أفكر، ده موضوع كبير."


محسن ابتسم وقال:

"خدي وقتك يا بنتي، أهم حاجة تكوني مرتاحة."


عادوا إلى المنزل، وكل منهم يحمل في ذهنه أفكارًا مختلفة حول ما سيأتي لاحقًا.


داخل المكتب المظلم...

جلس الرجل الثائر على مكتبه، يتحدث إلى رجاله بصوت صارم:

"سننفذ بعد الغد. لا أريد أي تأخير أو أخطاء. سأتي أنا ورجالي، قم بتجهيز السيارات وكل ما يلزم."


رد الرجل الآخر باحترام:

"تم تجهيز كل شيء يا سيدي، لا تقلق. الأمور تحت السيطرة."


---


في منزل عاصم...


بدأ الجرح في ذراع سيلا يلتئم قليلاً، لكنها ما زالت متوترة من برودة أعصابه وتقلبات شخصيته. أحيانًا يبتسم ببرود كأن شيئًا لم يكن، وأحيانًا تتحول ملامحه إلى غضب ثائر دون سابق إنذار. بينما هي في غرفتها، همست لنفسها بغضب:

"مجنون... بارد... وغبي. يض،ربني بالنار ويقول قرصة ودن! المرة الجاية هيم.وتني، مريض متخلف!"


كلما حاولت نزع السوار حول معصمها، تفشل. قررت أن تواجهه، وذهبت إلى مكتبه وهي تغلي من الغضب. دفعت الباب دون استئذان وصرخت:

"أنت! أنا مش عايزة البتاعه دي. واجعة إيدي. فكها زي ما ركبتها!"


نظر إليها للحظة، ثم أعاد نظره إلى الأوراق أمامه دون أن ينبس بكلمة، كأنه لم يسمعها.


اشتعلت غضبًا وضربت الأرض بقدميها:

"أنت بارد كدة ليه! أنا مش طفلة عشان تلبسني دي كأني هضيع!"


توقف عن الكتابة، ورفع رأسه فجأة بغضب حاد. لكنها لم تمنحه الفرصة للرد، تركت المكتب وخرجت بقوة، وأغلقت الباب خلفها بصوت عالٍ.


عادت إلى غرفتها تتمتم:

"بارد! لوح ثلج مستفز... صبرني يا رب. والله ما أنا سايباك كده!"

---


داخل غرفتها...

جلست سيلا بغضب، ثم استجمعت أفكارها. فتحت حقيبتها وأخرجت الحاسوب المحمول الذي خبأته بعناية. دخلت الحمام لتجنب كاميرات المراقبة، وجلست لتبدأ خطتها.


فتحت صفحتها على الإنترنت، وبدأت بنشر صور ومعلومات عن الشركات التي يملكها، خاصة الشركة الجديدة في الغردقة. كتبت:


"كيف يمكن لرجل ثلاثيني أن يمتلك عشر شركات بهذا الحجم في وقت قصير؟ أموال هذه الشركات مشبوهة، وغالبًا ما تكون مرتبطة بغسيل أموال تابع للماف.يا. تابعوا هذه القضية للتأكد من مصداقية هذه الادعاءات."


نشرت المقال على أكثر من موقع كبير، وأضافت صورًا ومستندات تعزز شكوكها. عندما انتهت، رسمت ابتسامة انتصار على شفتيها وأغلقت الحاسوب.


خرجت من الحمام وهي تهمس:

"دلوقتي تعرف إني مش سهلة."


لكنها تفاجأت عندما فتحت الباب، لتجد عاصم يقف أمامها مباشرة، ملامحه جامدة ونظراته تخترقها. في يده كان يحمل هاتفًا يظهر إشعارًا بالمقال الذي نشرته، وصوته الهادئ والمخيف قال:

"كنتي فاكرة إنك هتلعبي عليا؟"


شعرت سيلا برعب يتسلل إلى قلبها، لكنها حاولت التماسك، متسائلة في داخلها: كيف عرف؟!

الفصل السادس عشر من هنا

 

تعليقات



×