رواية جمر الجليد الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم شروق مصطفي


رواية جمر الجليد الفصل الثاني والعشرون بقلم شروق مصطفي 

 ظلا يتحدثوا قليلا. 


مرَّ الأسبوع الأول بثقل لا يمكن احتماله. بدأت سيلا أولى جلسات العلاج الكيماوي، وكان الأثر واضحًا على جسدها وروحها. هزلت كثيرًا، وبدا عليها الإعياء الشديد منذ الجلسة الأولى. لم تفارقها مي لحظة واحدة، كانت رفيقة ليلها ونهارها، تمنحها دفئًا وسندًا لم تكن لتستمر بدونه.




لكن سيلا، رغم كل ذلك، كانت تنهار داخليًا. اختارت الانعزال داخل غرفتها، تقضي معظم وقتها في النوم أو في التظاهر به كلما حاولت همسة الاقتراب منها. لم تكن ترغب في أن ترى أختها حالتها، ولم تتحمل فكرة مشاركة ضعفها مع أحد!!. 




همسة، من جانبها، لم تكن غافلة عن حالتها. شعرت بثقل غريب يجثم على قلبها، لكن وجود وليد بجانبها كان كفيلاً بتخفيف هذا العبء. كان وليد حاضرًا دائمًا، يشد على يدها ويمنحها القوة لتظل ثابتة، رغم كل ما يحدث من حولها.




في أعماقها، كانت همسة ترفع دعاءً صامتًا بأن تمر هذه الأيام العصيبة بسلام، أن تعود الحياة إلى طبيعتها، وأن يجد كل من حولها بداية جديدة تستحق.


---


على الجانب الآخر، كان عاصم يعيش صراعًا داخليًا مريرًا. وعند سؤال شقيقه عن من خطفت قلبه يتحجج بأنه لم يرها منذ ذلك اليوم، لكنه في الحقيقة كان يراقبهم من بعيد.




فهو لم يستطع أن يبتعد عن تفاصيل حياتها، فكان يتابع حالتها بعد خروجها من المستشفى، يزور طبيبها المعالج سرًا ليطمئن عليها. أخبره الطبيب أنها تعاني من أنيميا حادة، وتحتاج إلى نظام غذائي خاص ورعاية دقيقة.




في مرة، حاول أن يوقفهم ليحدثهم عن حالتها، لكنهم تجاهلوه ومضوا بعيدًا عنه، تاركينه وحيدًا مع إحساسه بالذنب والحيرة. ومع ذلك، لم يكن ممن يستسلمون بسهولة. قرر أن يمهد الطريق، أن يصل إليها ولو بعد حين.




أما معتز، فقد عاد إلى منزله، لكن روحه بقيت عندها. لم تغب عن باله لحظة واحدة، فقرر أن يخطو خطوة جريئة، أن يذهب إليها ويحدثها، يروي لها الحكاية بأكملها، عسى أن تمنحه فرصة له.


---




في ذلك الوقت، كانت أسرة همسة قد وصلت أخيرًا إلى وجهتهم بعد رحلة طويلة عبر البحر. أول اتصال جاء منهم كان مليئًا بالفرح، طمأنوا همسة وسيلا عن حالهم، وأخبروهم عن سعادتهم بأداء مناسك العمرة. ووعدوا بالاتصال مجددًا قبل العودة، وأغلقوا الهاتف على أصواتهم المليئة بالبهجة.




لكن حين التفتت همسة نحو أختها، تفاجأت بشكلها المرهق. شحوب وجهها وهزالها كانا واضحين. بعد إنهاء المكالمة، جرت سيلا سريعًا إلى غرفتها، كأنها تهرب من أي سؤال قد يفضح ضعفها.




لحقتها همسة بخطوات سريعة قبل أن تدخل الغرفة.


"سيلا... استني!"




التفتت إليها سيلا وقد ارتسم التعب على ملامحها:


"نعم يا همسة؟"




قالت همسة بقلق وهي تقترب منها:


"مالك يا سيلا؟ انتي تعبانه ولا إيه؟ لو تعبانه، قوليلي يا حبيبتي، أنا هنا معاكي."




ابتسمت سيلا ابتسامة شاحبة وقالت بصوت منخفض:


"مفيش... شوية إرهاق مش أكتر. أنا كويسة، بس عاوزة أنام."




تركتها سيلا واقفة في مكانها واتجهت إلى غرفتها، مغلقة الباب خلفها، بينما بقيت همسة في مكانها، قلبها يزداد قلقًا، وعيونها تراقب الباب المغلق، وكأنها تعرف أن وراءه سرًا أكبر مما تراه. 


... 


ظل معتز يوميًا يذهب أسفل منزلها، يجلس داخل سيارته لساعات طويلة، عله يلمحها أو يراها ولو من بعيد. كان أمله يتجدد مع كل يوم، لكنه يعود خائبًا في كل مرة. ورغم ذلك، لم ييأس. كان يشعر أن لقائهم قادم لا محالة، وأن صبره سيؤتي ثماره.




وذات يوم، وبينما هو ينتظرها كعادته، لمحها أخيرًا. خرجت من المنزل تحمل حقيبة كبيرة بيدها، تسير بسرعة وكأنها تحاول الهروب من ثقل أفكارها.




لم يتردد لحظة. أدار محرك سيارته وتوقف أمامها فجأة، قاطعًا طريقها. رفعت عينيها بدهشة، لتجده يقف أمامها.


"معتز؟!" نطقت اسمه بتعجب، وكأنها لا تصدق وجوده أمامها.




شعر معتز أن الحياة عادت إليه بمجرد سماع صوته على لسانها. ابتسم لها ابتسامة عميقة، مليئة بالشوق، وقال بصوت يحمل رجاءً:


"أخيرًا شفتك. كنت بدور عليك كل يوم. استحالة أوافق إنك تمشي تاني."




شعرت مي بالخجل من كلماته، ودهشت من صراحته المفاجئة. حاولت أن تبدو ثابتة، لكنها لم تستطع إخفاء ارتباكها:


"بعد إذنك، مش هينفع كده."




نظرت حولها بسرعة، محاولة التخلص من الموقف، ثم قالت بصوت مضطرب قبل أن تهرب من أمامه:


"حمد لله على سلامتك... عن إذنك."




أسرعت بالتحرك بعيدًا عنه، واتجهت إلى موقف المواصلات، عازمة على العودة إلى صديقتها التي كانت تقيم لديها مؤقتًا، بعدما أحضرت بعض الملابس من منزلها.




أما معتز، فوقف مكانه، ينظر إليها وهي تبتعد. لقاء اليوم لم يكن كافيًا، ولن يتركها تختفي مرة أخرى. كانت هذه المرة بداية جديدة، مهما كلفه الأمر.


ــــــــــــــــــــ


مرّت الأيام ثقيلة، وجسد سيلا ينهار أكثر بعد كل جلسة علاج. كانت الآلام تفوق طاقتها، وكأن كل لحظة تمضي تزيد من احتراق روحها وجسدها معًا.




جلست مي بجانبها، تمسك بيدها المرتجفة، تحاول أن تكون مصدر قوة وسند لها، لكن سيلا، بصوتها المتعب، قالت بوجع عميق:


"أنا بموت بالبطيء، يا مي... مش قادرة أتحمل أكتر من كده. جلستين بس، وكل ده يحصل. يا رب امتى أرتاح من العذاب ده؟"




حاولت مي، رغم ألمها، أن تبدو ثابتة وهي ترد عليها بحنان:


"انتي أقوى من المرض يا سيلا. متخليش حاجة تكسر قوتك. خليكي دايمًا فوقه."




نظرت سيلا إلى السقف، كأنها تشتكي لله قسوة ما تمر به، وقالت بحرقة:


"النار بتكوي جوايا يا مي. إحساس مش ممكن يوصف. ربنا ما يكتبه على حد أبداً. نفسي ارتاح، بس مش عارفة امتى."




مسحت مي على شعرها بحنان وهي ترد:


"هانت يا قلبي. شويه كمان، وكل ده هيعدي، وهتقوميلنا بالسلامة. أنا متأكدة إن ربنا هيخفف عنك."




تمتمت سيلا بصوت خافت:


"يا رب."




تذكرت مي شيئا فجأة وقالت:


"عارفة مين شفته وانا جاية؟ معتز."




نظرت إليها سيلا بدهشة وسألت:


"معتز؟ عمل حاجة؟"




 ثم تنهدت بنبرة يملؤها الإرهاق وقلة الحيلة:


"تعبت منهم يا مي... مرة يقولوا نبعد، نبعد. وبعدين يرجعوا يقربوا تاني! طيب ليه؟ ما فيش غير وجع القلب منهم. حتى رودينا بقت زيهم."




أيدتها مي وهي تتأمل ملامحها المنهكة:


"أنا كمان شايفة كده. المهم دلوقتي مش هم، المهم انتي. لازم تاكلي كويس يا سيلا. شايفة شكلك عامل إزاي؟"




هزّت سيلا رأسها بضعف وقالت:


"مش قادرة، بجد يا مي. كل مرة أحاول أكل حاجة، مش بستحمل."




عبست مي وهي ترد بحزم:


"انتي كده بتضري نفسك أكتر. أنا مش هعرف أتعامل معاك كده، وهقول لأختك همسة تتصرف معاكي."




رفعت سيلا يدها بسرعة بإشارة رفض:


"لا، بلاش همسة. هي مش هتستحمل تعرف. وأنا مش قادرة أتكلم. خلاص، هاكل... هاتي يا ستي."




ضحكت مي بصوت عالٍ وهي تهتف مازحة:


"أهو كده! ناس تخاف من العين الحمرا!"




ابتسمت سيلا رغم ضعفها، وللحظة، شعرت بأن حب من حولها هو الدافع الذي تحتاجه لتكمل هذه الرحلة القاسية.




قاد معتز السيارة خلف مي، متابعًا خطاها حتى وصلت إلى منزل صديقتها. انتظرها قليلًا حتى اطمأن عليها، ثم استدار بسيارته، عائدًا إلى مكتبه ليكمل العمل المتراكم عليه. جلس لساعات طويلة، غارقًا في أوراقه واجتماعاته، حتى كاد ينهي كل المهام المؤجلة. لكنه، مع تقدم الوقت، شعر بالإرهاق يتسلل إلى جسده، فقرر العودة إلى المنزل للراحة.




بينما كان يغادر المكتب، التقى بعاصم عند المدخل.




معتز: "أه، أنا تعبت شوية. رايح البيت. تيجي معايا؟"


عاصم: "يلا بينا. أنا كمان خلصت، وكنت عاوز أتكلم معاك في موضوع مهم."




ركبا السيارة، وتولى عاصم القيادة. كانت لحظات من الصمت تخيم على الأجواء، حتى قطعها معتز بسؤال:


"كنت عايز تكلمني في إيه؟"




تردد عاصم قليلاً، ثم أخذ نفسًا عميقًا وأعاد ضبط المرايا الأمامية:


"ناوي على إيه؟"




نظر معتز إليه باندهاش:


"في إيه؟"




التفت عاصم نحوه للحظة، ثم أعاد تركيزه على الطريق:


"في حياتك."




تأمل معتز السؤال قليلاً، ثم أجاب بصوت يحمل بعض الحيرة:


"هتصدقني لو قلت لك إني معرفش؟"




ثم تابع بعد لحظة صمت:


"بجد نفسي أرتاح. تعبت من كل حاجة حواليا. أظن كفاية لحد كده. إحنا مش بنظلم غير نفسنا. شفت الموت بعيني، شريط حياتي كله كان قدامي. كنت خايف أموت، أوصل للنهاية وأنا كلي معاصي. الضربة دي..." وأشار إلى صدره، "فوقتني."




أخذ عاصم يحدق في الطريق بينما يتحدث معتز:


"اكتشفت إن الدنيا مش مستاهلة. الانتقام من اللي مالوش ذنب؟ اللي غلط وأذنب؟ خلاص، مات وشبع موت. اللي باقي له الرحمة بس. قررت إني أعيش صح المرة دي."




مد عاصم يده، وأمسك بيد معتز بقوة:


"وأنا مش هسيبك. في ظهرك، وهساعدك بما إنك ناوي تتغير."




نظر الاثنان لبعضهما بابتسامة أمل، وعاصم أكمل:


"وأنا كمان هرمي كل حاجة ورا ضهري وأبدأ من جديد."




معتز: "بس الطريق طويل، وهنقابل عقبات كتير."


عاصم: "قدها؟"


معتز: "طبعًا قدها."




ضحكا سويًا حتى وصلا أمام الفيلا، وكانت ابتسامتهما مشبعة بطاقة جديدة لم يشعروا بها منذ سنوات.




عند المدخل، كان وليد يتحدث في الهاتف. بمجرد أن لمحهم، أغلق مكالمته واقترب بدهشة ممزوجة بالابتسامة:


"إيه ده! داخلين بتضحكوا كمان؟ يا رب تستر. أكيد بتخططوا لحاجة كبيرة."




ضحك معتز، ورد عليه بحسم:


"قررنا نعيش."




نظر عاصم إلى وليد بثقة وقال:


"عندك مانع؟"




أسرع وليد نحوهما، واحتضنهما معًا بقوة:


"مانع؟ أحلى خبر سمعته في حياتي!"




ارتسمت الابتسامة على وجوههم جميعًا، وكأنهم وجدوا خريطة طريق جديدة لحياتهم، مليئة بالأمل والإصرار على التغيير. كانت لحظة فارقة، لحظة توافقهم مع أنفسهم، ووعدهم بأن يواجهوا المستقبل معًا، بعيدًا عن الماضي وهمومه. 


ـــــــــــــــــــــــــ


كانت مي مستلقية بجانبها، ترفض أن تتركها وحدها حتى يعود والداها من السفر. همست سيلا بصوتٍ مطمئن:




"لو عاوزة تروحي يا بنتي، روحي. أنا كويسة، ولو احتجت حاجة هقول لهمسة."




ابتسمت مي برفق وأجابت:


"هعمل إيه يعني؟ خليني معاكي، ما وراياش شغل ولا أي حاجة. وبعدين ماما قاعدة عند خالتي... بيتفقوا على هيثم. عقبال عندك!"




رفعت سيلا حاجبيها بدهشة:


"بيتفقوا عليه ليه؟"


كتمت مي ضحكتها بصعوبة وقالت:


"أصل هيثم فاجئ ماما تاني يوم ما رجعنا من المستشفى وقرر يخطب بنت خالتي! ومن وقتها ماما مقيمة عندها، مصدقة إنه أخيراً جه منه!"




تنهدت سيلا براحة:


"أخيراً فكر صح وأخذ أول خطوة. ربنا يتممله على خير."




ردت مي بابتسامة:


"يا رب، وعقبالنا إحنا كمان."




ابتسمت سيلا ابتسامةً مكسورة وقالت:




"عقبالك إنتِ وهمسة يا رب."




ضحكت مي وقالت مازحة:


"وإنتِ قبلنا، يا رب. أو أنا وإنتِ في يوم واحد... ياااه، تخيلي!"




ظلّت مي تدعو بصدق أن يكون يوم فرحهم جميعًا في يومٍ واحد، ولم يكن أحد يدري أن أبواب السماء قد تكون مفتوحة، وربما تُستجاب الدعوات.




بعد لحظة صمت، التفتت سيلا إلى مي وقالت:




"مش ناوية تدوري على شغل جديد؟ ليه وقفتي؟"


تنهدت مي بإحباط وأجابت:


"مين قال إني ما دورتش؟ أنا لفيت على أكتر من جريدة، لكن أول ما يسمعوا اسمي يعتذروا. ربنا يسامح اللي كان السبب."




قالت سيلا بحزم:


"هكلم بابا يكلّم أستاذ أحمد علشان يرجعك تاني. إوعي تزعلي نفسك."




هزّت مي رأسها بإحباط وقالت:


"مبقتش فارقة."




في هذه اللحظة، أطلت همسة برأسها من باب الغرفة وقالت مازحة:




"ممكن أنام معاكم؟ مش عارفة أنام لوحدي."




ابتسمت سيلا بحب وردت:


"طبعًا يا حبيبتي، تعالي."




تسللت همسة إلى السرير ونامت في المنتصف، وبدأ الثلاثة يتبادلن الأحاديث في مواضيع مختلفة حتى قطعت مي الصمت وسألت:




"لسه زعلانة مننا يا همسة من يوم خطوبتك؟"




ترددت همسة قليلًا قبل أن تقول:




"بصراحة؟ آه، كنت زعلانة جدًا، وحمّلتكوا السبب. بس لما فكرت، لقيت إنكم مالكوش ذنب. لكن زعلت إن محدش حاول ياخد بخاطري."


ردت مي بأسف:


"يا حبيبتي، متزعليش. والله كلنا زعلنا يومها. كانت صدمة، ومكنش حد فاهم حاجة. كنا مرعوبين وتايهين بجد."


همسة:


"خلاص، مش زعلانة والله. بس بابا وماما وحشوني أوي. مش متعودة يغيبوا عنّا كده."




غلب الإرهاق سيلا فنامت دون أن يشعرن بها.




بعد لحظات، التفتت مي نحو همسة وقالت:




"هانت. الأسبوع هيجري بسرعة. البت دي ليه ساكتة فجأة؟"




نظرت همسة إلى سيلا وأجابت مبتسمة:


"نامت!" 




ضحكت مي وقالت:


"وعاملين نرغي وهي ولا هنا!، مش جديدة عليها. دي تنام في أي وقت."




ردت همسة ضاحكة:


" أه فاكرة لما كانت متعصبة من عاصم وقت وقعت في البسين ونامت وهي قاعدة؟"




ابتسمت مي وهي تتذكر:


"آه، يوم ما يتنسيش!




 هتفت همسة: بس حاسة إنها تعبانة؟حاسة إنها مش طبيعية. مش بتخرج من الأوضة خالص."




أجابت مي بتردد وهي تلجلج:


"ها... لا، هي بس زعلانة علشان السفر وكده."




همسة دون اقتناع: "مش عارفة، بس حاسة إنها متغيرة فعلاً."


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


في صباح اليوم التالي، استيقظت سيلا باكرًا على غير عادتها، وقد أعدت وجبة خفيفة لتناولها قبل موعد الجلسة. جلس الثلاثة يتناولون إفطارهم في جوٍّ مرح، وكأن شيئًا لم يُثقل صدورهم بالأمس. عادت همسة إلى طبيعتها، وقد نفضت عنها ما وسوس به الشيطان من أفكارٍ لا مكان لها.




قالت همسة بحماس وهي تتناول رشفة من كوب الشاي:




"أنا النهارده هنزل مع وليد نتفرج على الأجهزة... عاوزاكم معايا، لأني محتارة أوي! إيه رأيكم؟"




ردّت سيلا وهي تنظر لمي مبتسمة:




"ممكن مي تروح معاكي، وأنا هخلص مشوار وأحصلكم بعد كده."




أضاء وجه همسة بالسعادة وقالت:




"تمام أوي! ربنا يخليكوا ليا يا رب!" ثم أضافت وهي تقوم من مكانها:




"ألحق أكلم وليد أشوفه جاي إمتى."




اختفت همسة في غرفتها لتجهز، تاركةً مي وسيلا وحدهما.




نظرت مي نحو سيلا بحدة وقالت معاتبة:




"إنتِ دبستيني ليه؟ وهسيبك إزاي؟"




ردّت سيلا بنبرة جادة لكنها مليئة بالحنان:




"عشان مش هينفع أرفض لها طلب، وخصوصًا وأنا شايفة الفرحة في عينيها. ماقدرش أكسر فرحتها، وأقولها إني تعبانة. خليتك تروحي معاها وأنا أخلص الجلسة وأحصلكم بعدين."




قالت مي بإصرار:




"وإزاي أسيبك لوحدك؟ إنتِ مجنونة! مش هقدر أسيبك، انتي بتتعبي جامد بعدها."




ابتسمت سيلا مطمئنة وقالت:




"متخافيش عليا، هخلص وأركب تاكسي وأجي على طول."




تنهدت مي وقالت بحذر:




"طيب... خلي بالك من نفسك، عشان خاطري."




بعد دقائق، خرجت مي مع همسة، حيث التقوا بوليد، وركبوا جميعًا سيارته.




قال وليد مرحبًا:




"أهلاً، مي! عاملة إيه دلوقتي؟"




أجابت مي بلطف:




"الحمد لله، بخير."




سأل وليد:




"وهي سيلا مش هتيجي معانا؟"




ردّت مي:




"آه، هتيجي. بس عندها حاجة تخلصها وهتكلمني علشان تيجي على طول."




قاد وليد سيارته إلى أحد أكبر المراكز التجارية، الذي يضم كل ما يحتاجونه من أجهزة وأثاث، بالإضافة إلى كافيهات، متاجر للملابس، ألعاب للأطفال، وغير ذلك. وصلوا أخيرًا، وأوقف السيارة في المكان المخصص لها.




ما إن نزلوا حتى تلقى وليد مكالمة هاتفية. كان صوته متحمسًا ومشحونًا بشيء من المزاح:




"حبيبي، فينك؟ وصلنا ولسه قاعدين. انجز بقى، الدنيا زحمة!"




ردّ الطرف الآخر ممازحًا:




"ما أنت لسه سايبني! إيه، وحشتك؟"




ضحك وليد وقال:




"رخم أوي! تصدق تساعدني؟ مش قايلك على كل حاجة إمبارح. المهم... جت معاكم؟"




ردّ وليد بضحكة مكتومة:




"آه، ياسيدي، جت. إحنا في قسم الأجهزة، هتلاقينا هنا. يلا سلام بقى، يا عم روميو، وربنا معاك. ده أنت هتشوف أيام عسل!"




سمعت همسة جزءًا من الحديث وسألت بفضول:




"مين يا وليد اللي جاي؟"




خفض وليد صوته وقال لها:




"معتز. بس متجيبيش سيرة لمي. شكله جاي يعملها مفاجأة."




ابتسمت همسة بحماسة وقالت:




"الله! بحب المفاجآت أوي."




أشار لها وليد أن تهدأ وقال:




"هسس... يلا ندخل المحل."




وبينما كانوا يتجولون بين الأقسام، لاحظت همسة أن مي لم تكن معهم. التفتت حولها وقالت:




"مي؟ مش لاقياها!"




قال وليد بهدوء:




"كلميها، وقوليلها إحنا في قسم الأجهزة."




ابتعدت مي قليلاً لتترك مساحة بينهم، بينما كانت تتجول بمفردها بين الأقسام. أعجبتها المعروضات وسرحت للحظات، حتى شعرت بشخص يصطدم بها عند مدخل أحد المحلات.


التفتت بعصبية وقالت:


"ما تفتح! إنت أعمى ولا إيه؟!"




لكنها توقفت فجأة، واتسعت عيناها دهشة وهي تراه أمامها. 


معتز، بابتسامة مشرقة أضاءت وجهه: "أنا فعلاً أعمى لكن فتحت عيني بمجرد ماشوفتك!."




مي، دون أن تنطق بحرف، تركته ورحلت بخطوات متسارعة. شعرت أنها ستفقد أعصابها لو ظلت واقفة أمامه، لكنه لم يتركها تبتعد. تبعها بخطوات واثقة، والابتسامة لم تفارق شفتيه، يده في جيب بنطاله وكأنه يمسك بها مفتاح حوار جديد.




 انضمت مي إلى همس وليد، ارتفع صوت وليد بدهشة مصطنعة:


"معتز! ياااه، إيه الصدف الحلوة دي، يا راجل!"




رد معتز بنبرة مليئة بالغرور:


"جيت أتفرج على حاجة كده، عندك مانع؟"




وليد، راغباً في إضفاء جو من المزاح على الموقف، قال بمرح:


"اتفرج براحتك، يا سيدي. يلا يا همسة، يلا يا مي، نمشي من هنا."




لكن معتز أسرع بالمقاطعة:


"إزايك يا همسة؟ عاملة إيه مع الغتت ده؟"




فهمت همسة مغزى كلامه، فأجابت بابتسامة باردة:


"الحمد لله، بس انت جاي تتفرج على إيه هنا يا معتز؟"




ثم وجهت نظرها نحو وليد قائلة بخبث:


"استنى يا وليد، يمكن محتاج رأينا."




رد وليد وهو يرفع حاجبه بسخرية:


"عشان خاطرك بس يا حبيبتي، هقوله رأيي."




ثم أضاف بقهقهة، يلعب بحاجبيه بطريقة فكاهية، فضحك الجميع واندمجوا في الحديث. تنقلوا بين الأماكن، ومعتز يحاول اختلاق أي حديث يجذب اهتمام مي، لكنها كانت تتجاهله تماماً، كأن وجوده غير مرئي بالنسبة لها.




همس معتز لنفسه بتصميم:


"شكل عاصم عنده حق... واضح أننا هنواجه عقبات كتير، بس مش هَيأس."




في وقت لاحق، استقلت سيلا وسائل المواصلات حتى وصلت إلى المستشفى. تم تجهيزها لإجراء جلستها الطبية. قضت عدة ساعات داخل غرفة العلاج، وحين انتهت، نقلتها الممرضة إلى غرفة أخرى لتستعيد اتزانها قبل المغادرة.




فتحت باب الغرفة بتثاقل، لكنها تفاجأت بوجود أخر شخص يقف داخلها...!


الفصل الثالث والعشرون من هنا



تعليقات



×