![]() |
رواية عشقه عذاب (أحببته فخذلني) الفصل الثاني بقلم شهد الشوري
في فيلا الراوي، اجتمع الجميع حول مائدة العشاء، حديثهم يتناثر كنسيم خفيف يلامس الأرواح قبل أن يتفرقوا كلٌ إلى غرفته للنوم والراحة
صعد مراد إلى غرفته بخطوات وئيدة، وما إن دخل حتى وقعت عيناه على صورة قديمة لوالديه تعتلي الحائط، صُنعت بحجم كبير وكأنها تحاول أن تبقي ذكرى حضورهما حيّة. ابتسم بحزنٍ مغمور بشوقٍ عظيم، يحاكي صدى طفولته التي خطفها الفقد مبكرًا، لقد غادره والديه وهو في السابعة من عمره، تاركين وراءهم فراغًا لم يُملأ أبدًا
صحيح أن خالته وزوجها أغدقوه عطفًا وحبًا، بل يعترف بأنهما عاملاه بأفضل مما يعاملان به أبناءهما، إلا أن غياب الأبوين يترك حفرة في القلب لا تُردم
أبدل ثيابه، ثم ألقى بجسده المنهك على الفراش، لكن النوم لم يزره بسهولة وبينما كانت جفونه تتثاقل، طرأت على ذهنه تلك الفتاة الشرسة، كريحٍ عاصفة تقتحم السكون تلك النظرات العنيدة، والملامح الشرسة التي تأبى الانحناء !!
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه، وهمس باسمها بصوتٍ مليء بالأعجاب بالكاد يُسمَع :
ورد !!!!!
........
في صباح اليوم التالي
استيقظت رهف بحماس لا يمكنها إخفاؤه، كان شوقها عارمًا للقاء ورد وغرام، غير أن هذا الحماس لم يكن يروق لشاهي، التي كانت تتبعهم بنظرات يغمرها الحقد
مع نهاية اليوم الدراسي، التفتت رهف نحوهما وقالت بمللٍ :
أنا مليش مزاج أروح البيت، إيه رأيكم نخرج مع بعض؟
ابتسمت غرام بهدوء، تحمل في ملامحها نبرة اعتذار خفيفة ثم قالت برقة :
مش هينفع، لازم أكون قايلة لبابا وأخويا قبلها بيوم عشان أعرف هيوافقوا ولا لأ
أيدتها ورد قائلة :
نفس الكلام، لازم أقول لبابا انا كمان قبلها
تنهدت رهف بأسف وهي تلزم شفتيها بحزن، لكن غرام، بملامح حنونة، ربتت على كتفها قائلة بابتسامة مشرقة :
خلاص، تعالي معانا، النهارده ورد وباباها معزومين عندنا، إيه رأيك تيجي تتغدي معانا
ردت عليها رهف بحرج :
مش عايزة أسبب لكم اي إزعاج
أجابتها غرام وهي تبتسم بإصرار :
إزعاج إيه بس، ده انتي هتنورينا، وأكل ماما هيعجبك اوي أنا متأكدة
أومأت رهف برأسها موافقة، فانطلقت الفتيات الثلاث إلى منزل غرام بسيارة رهف في الطريق، أرسلت غرام رسالة عبر أحد تطبيقات التواصل لتخبر والدتها بمجيء ضيفة معهما
عند وصولهم، توقفت سيارة رهف أمام البناية التي تقيم بها غرام وورد، كان الحي بسيطًا، تغلفه أجواء الهدوء، بينما الأطفال يلعبون كرة القدم في الشارع كأنهم يرسمون لوحة من البراءة
صعدت الفتيات إلى الشقة حيث استقبلتهم "ناهد" والدة غرام بترحاب دافئ، وتبعها حسام وأيمن بابتسامات طيبة، التف الجميع حول مائدة الطعام، إلا عز الذي اتصل واعتذر عن عدم مشاركتهم بسبب انشغاله في العمل
بعد الغداء، اجتمعت الفتيات في غرفة غرام، يتبادلن الحديث بمرح وسعادة، ولم يشعرن بمرور الوقت حتى قطع حديثهن صوت طرقات الباب، تلاه صوت "عز" شقيق غرام
فتحت غرام الباب، وما إن دخل عز حتى تصنم جسده في مكانه، عيناه تشخصان نحوها....نحو تلك الفتاة التي أسرته من اللحظة الأولى "رهف"....إنها هي الجنية التي سرقت قلبه دون استئذان، وربطته بعشق لم يستوعب كُنهه بعد، لكن، ماذا تفعل هنا؟ في منزله؟ وفي غرفة شقيقته؟
كان شارداً بها، يحاول تفسير هذا اللقاء المفاجئ،أما هي، فكانت تخفض وجهها بخجل، تشعر بحرارة الموقف تحيط بها
أفزع شروده صوت ورد، قائلة بتعجب :
عز، مالك سرحان في إيه؟
أجابها بتيه، وهو يحاول لملمة أفكاره :
ها....مفيش
سألته غرام برقة :
كنتي عايزني في حاجة، يا عز ؟
أومأ برأسه وقد حاول جاهداً أن يزيح عينيه عنها، ثم وضع كتابًا على الطاولة بجواره وقال بصوت هادئ :
الكتاب اللي طلبتيه مني، اهو
غادر عز الغرفة وهو يشعر أن قلبه قد استُلب نهائيًا، أما رهف، فاستأذنت قائلة بحرج :
أنا لازم أمشي دلوقتي، الوقت اتأخر، أشوفكم بكره في الجامعة
خرجت رهف من المنزل، لكنها لم تستطع مقاومة الالتفات سريعًا لتودع عز بنظرة خاطفة قبل أن تغادر، وعيونها مليئة بخجل لم تستطع السيطرة عليه، وبعد مغادرتها، التفتت ورد إلى غرام وقالت بتعجب :
إيه اللي حصل لأخوكي، ماله سهم في البت رهف
حركت غرام كتفها بتلقائية، وقالت بعدم معرفة :
مش عارفة، ممكن يكون مستغرب عشان أول مرة يشوفها معانا
ردت عليها ورد بنبرة تحمل شُكوكًا :
ممكن...!!!
مرت دقائق قليلة منذ مغادرة رهف، إلا أن تلك اللحظة لم تنتهي بالنسبة لعز، الذي اقتحم غرفة شقيقته بخطوات سريعة تُخفي اضطرابًا لم يجرؤ على البوح به، ونطق بجدية يحاول أن يغلفها بالمنطق :
رهف الراوي كانت بتعمل إيه هنا؟
نظرت إليه غرام بدهشة حقيقية، وقالت :
أنت تعرفها؟
أومأ برأسه بسرعة وقد بدأ صبره ينفد :
أيوه، لازم أعرفها طالما هي بنت صاحب المستشفى اللي أنا شغال فيها
هزت غرام رأسها وهي تتذكر :
أيوه، صح....إزاي نسينا الموضوع ده
أما ورد، فقد رمقته بنظرة مريبة وقالت بفهم مصطنع :
عشان كده كنت سرحان في البنت أول ما دخلت؟
حدق بها عز للحظات، ثم قال بنفاذ صبر وقد بدأ الغضب يتسلل إلى صوته :
انطقوا كانت بتعمل إيه هنا؟
ردت عليه ورد بسخرية :
مهتم أوي كده ليه يا عز
بينما كانت غرام تراقب المشهد بصمت، لاحظت أن شقيقها، الذي لم يكن من النوع الفضولي أبدًا، بدا على وشك الانفجار، كان فضوله غريبًا، مبالغًا فيه، لم تعهده منه من قبل !!
قررت أخيرًا أن تخبره ما حدث الأيام الماضية، وبهدوء، بدأت غرام تسرد الأحداث التي جرت، وكيف أن رهف أصبحت جزءًا من صداقتها مع ورد، كل كلمة كانت تُضاف إلى القصة كانت تُشعل في عز حيرة أكبر، لكنه ظل صامتًا، يراقب الكلمات وهي تلتف حول قلبه كحبال تُضيق عليه الخناق، وما إن انتهت غرام، غادر عز الغرفة دون أن ينبس بكلمة
في غرفته، أغلق الباب وراءه وألقى بجسده على الفراش وكأنه يحاول الهروب من كل شيء، لكن عبثًا في تلك اللحظة، كان عقله مسرحًا لصورة واحدة فقط، صورة تلك الفتاة التي أحبها منذ اللحظة الأولى
عاد بذاكرته لعام مضى، حين قابلها لأول مرة، يومها، كانت برفقة والدتها التي أُصيبت بكسر في قدمها، وجاءت لتلقي العلاج في المستشفى حيث يعمل، لم يكن لقاءً اعتياديًا، ولم يكن مجرد صدفة عابرة، كانت تقف بجانب والدتها، تتحدث بلطف، وعيناها تمتلئان بالقلق، لم يجرؤ وقتها على الاقتراب أو الحديث معها، لكن شيئًا ما فيها اجتذبه بقوة
لم يكن يعلم ما الذي جذبه؛ هل كانت عيناها؟ أم ملامحها التي تحمل حكايات لم تُحكَ بعد؟ أم ذلك الحضور الذي يخترق الصمت؟ كل ما يعرفه أنه كان عاجزًا عن التوقف عن النظر إليها.
حاول عز بعدها أن يُطفئ تلك النار التي اشتعلت بداخله، أن يقنع نفسه بأنها مجرد فتاة عابرة في حياته، وأنه لا مكان في قلبه لتلك المشاعر لكن مع كل محاولة للنسيان، كان قلبه يتشبث بها أكثر، وكأنها أصبحت جزءًا منه لا يمكن نزعه
بات يراقبها من بعيد كلما أُتيحت له الفرصة، لم يكن يطلب شيئًا، فقط لحظات يتأملها فيها بصمت، وكأن عينيه تبحثان عن تفسير لما يشعر به، كانت تلك اللحظات هي الملاذ الذي يهرب إليه حين يثقل قلبه
والآن، بعد كل هذا الوقت، تدخل هي فجأة إلى حياته، ليس كطيف يراه من بعيد، بل كواقع يُجبره على المواجهة، شيء ما بداخله يخبره أن هذه اللحظة ليست عبثًا، وأن القدر ربما رسم لهما طريقًا لا يعرف مآله بعد....لكن قلبه، رغم كل هذا الصخب، كان ينبض باسمها، ينبض بحبٍ أثقل كاهله وعقله
........
استعدت ورد وغرام للخروج من المنزل صباحًا، تتناوب بينهما مشاعر الحماس والاعتياد.د، كان اليوم يبدو عاديًا، لكنه حمل بين طياته مفاجآت لم تتوقعها أيٌّ منهما
التقين برهف عند مدخل الجامعة، وسرعان ما انطلقن نحو القاعة لحضور المحاضرة وما إن انتهت المادة، حتى وقف الدكتور يعلن بصوته الجاد :
شركة الراوي للمعمار قررت السنة دي تستقبل متدربين عندها، والتدريب هيكون مخصوص لطلاب كلية الهندسة من جامعتنا وأنا هختار أفضل عشر طلاب بينكم
أخرج ورقة صغيرة من حقيبته، يتأملها للحظات قبل أن يعلن:
أسماء الطلاب هما.....
بدأ يقرأ الأسماء واحدًا تلو الآخر، كل اسم يُحدث صدىً بين الطلاب الحاضرين، كانت غرام وورد من بين الأسماء المُعلنة، وكذلك رهف، ولم يكن مفاجئًا أن يكون اسم شاهي بينهم، رغم سمعتها التي تتردد كهمسات بين الجميع، إلا أن تفوقها الدراسي كان حقيقة لا جدال فيها
بعد انتهاء المحاضرة، اجتمع الطلاب العشرة بمكتب الدكتور الذي شرح لهم التفاصيل والخطوات اللازمة، وأكد عليهم ضرورة الالتزام بالحضور كان الجميع متحمسين، باستثناء شاهي التي خرجت متعالية، تلوح بابتسامة خفيفة وكأنها تُظهر أن الأمر لا يستحق وقتها
في طريق العودة، كانت غرام تتحدث بسعادة لا تخفيها، نبرتها تحمل أملًا جديدًا :
هتبقى فرصة حلوة أوي....تدريب ومعاه مرتب كمان
توقفت للحظة بحرج قبل أن تُكمل بصوت خافت :
أنا الصراحة بتكسف أطلب فلوس من بابا أو عز
نظرت إليها ورد متسائلة :
تتكسفي ليه؟
أجابت غرام بصوت يفيض بالخجل :
في العموم مش بحب أطلب فلوس من حد، وبابا المعاش بتاعه بنصرف منه في البيت، وعز بيديني مصروف من مرتبه، اللي المفروض يحوش منه عشان يجهز العيادة بتاعته اللي لسه مقفولة لأنه مش قادر يجهزها
أومأت ورد متفهمة، ثم استمر الحديث بينهما حتى وصلن إلى المنازل
بعد قليل في منزل غرام
عندما أخبرت والدها وشقيقها عن التدريب، لم يُبدي أي منهما اعتراضًا، بشرط ألا يتأخر الوقت، الحال ذاته كان مع ورد، فكلاهما كانت الليلة تملؤها مشاعر الحماس والانتظار لما سيحمله الغد من تجارب جديدة
لكن القدر، كعادته، كان يخبئ خلف حماستهما مزيجًا من السعادة لأحدهما، والشقاء للأخرى !!!!!!
.......
في فيلا الراوي دخلت رهف بخطوات هادئة، محاولة كتمان تعب يومها، استقبلها والدها بنظرة صارمة، ونبرة جادة :
اتأخرتي اوي يا رهف، مين صحابك دول اللي بقيتي تتأخري معاهم كده
اقتربت رهف منه، تقبل جبينه بلطف، وقالت معتذرة :
حقك عليا، عارفه اني اتأخرت بس الوقت سرقنا ومخدتش بالي
لم يبدُ ليث مقتنعًا، فسألها بحدة :
صحابك دول مين، ووساكنين فين؟ وطلعوا منين؟ أول مرة تعمليها
أخبرته رهف بهدوء بعنوان ورد وغرام، رفع حاجبيه باستنكار ثم قال بنبرة غاضبة :
إزاي رجلك تعتب مكان زي ده أصلاً، صحابك دول مش من مستواكي، فوقي، متنسيش إنتي بنت مين
صمت لبرهة، وكأنه يحاول ضبط غضبه، قبل أن يُضيف بضيق واضح :
مش كفاية أصلاً إنك دخلتي الجامعة دي، ورفضتِ تدرسي في أكبر جامعة في مصر
رهف، التي اعتادت على مثل هذه الانتقادات، حاولت كتمان ابتسامتها بصعوبة، كانت تتذكر ورد عندما قالت لشاهي ذات مرة، بطريقة ساخرة جعلتها تنفجر ضحكًا :
لو الكلب كان بص على ديله مكنش اتريق على غيره
رغم أنها لم تفهم تمامًا من أين جاءت ورد بهذا المثل الغريب، إلا أنها شعرت في تلك اللحظة أنه الأنسب لوصف حديث شقيقها
أعادها صوت ليث الصارم إلى الواقع :
سمعتي أنا بقول ايه ؟
أومأت له بهدوء، دون أن تُظهر أي اعتراض، ثم صعدت إلى غرفتها، ألقت حقيبتها على السرير وجلست تتأمل الجدران بصمت، لم تكن كلمات ليث غريبة عليها، لكنها باتت تثقلها مع الوقت
فهي بداخلها كانت تعلم أن حياتها، رغم كل مظاهر الترف، تخضع لسلسلة لا تنتهي من القيود، قيود اسم العائلة، قيود التقاليد، وقيود رغبات شقيقها وجدتها التي ترفض حتى أن تُظهر ابتسامة خالية من المظاهر
لكن رهف، بطريقتها الهادئة التي تُخفي تمردًا داخليًا، اختارت دائمًا أن تتجاهل تلك القيود، كانت تعرف أن حريتها لن تُنتزع منها بسهولة، حتى لو كان الثمن مواجهة غضب من تحبهم
........
في صباح اليوم التالي
كان الطلاب ينتظرون في بهو شركة الراوي المعمارية، أعينهم تراقب الباب بترقب مشوب بالقلق، تتسابق تساؤلاتهم حول المسؤول الذي سيتولى تدريبهم، بين هذا الحشد، كانت شاهي تقف جانبًا، عيناها تتقدان بشر مستتر، وعقلها يخطط بخبث، كانت نيتها واضحة وهي إقصاء ورد وغرام من هذا التدريب بأي وسيلة، بل والأكثر، إخراجهما من الشركة بإهانة كبيرة تُترك وصمة......في كرامتهما !!!!
على الناحية الأخرى
توقفت سيارة سوداء أنيقة أمام بوابة الشركة، خرج منها ليث بخطوات غاضبة، يتبعه مراد، وكلاهما يحمل هالة من الثقة الجامحة، كان الغضب واضحًا على وجه ليث، فقد أزعجه بشدة رفض رهف الذهاب معه في الصباح، متحججة بأنها مثل بقية الطلاب، كيف لها أن تجرؤ على مقارنة نفسها بهؤلاء الأقل شأنًا منها، كيف يمكن لرهف الراوي أن تقلل من نفسها لتلك الدرجة !!!!
.......
في فيلا الراوي كانت فريدة تمسك بورقة بين يديها، تقلبها بشوق ولهفة، بمجرد أن وقعت عيناها على الرقم المدون عليها، اتصلت سريعًا، وما أن أتاها الرد، غمغمت بشوق وحب غامر :
وحشتيني أوي يا ناهد !!!!!
..........
داخل شركة الراوي كانت غرام تجلس بملل، تتأمل الساعة بين الحين والآخر، ثم قالت متذمرة :
هو إحنا هنفضل مستنين كتير؟
أجابتها رهف، وهي تنظر إلى ساعة يدها أيضًا :
المفروض دلوقتي ليث ومراد يوصلوا ويعرفونا مين اللي هيمسك تدريبنا والنظام هيبقى إزاي
تساءلت ورد بفضول :
طب ليث وأخوكي، مين مراد ده؟
ابتسمت رهف بخفة وقالت :
ابن خالتو الله يرحمها، كمان هو بيساعد بابا وليث في إدارة الشركة
أومأت ورد بصمت، لكن الهدوء لم يدم طويلًا، قطعه اقتراب شاهي التي بدت متعجرفة كعادتها، رمقت ورد وغرام بنظرة احتقار وقالت بصوت ساخر :
طبعًا إنتي وهي مكنتوش تحلموا تدخلوا مكان زي ده غير في أحلامكم
كادت ورد أن ترد عليها بعنف، لكن يد غرام أوقفتها، نظرت غرام إلى شاهي بهدوء أثار استفزازها، وقالت بابتسامة هادئة :
مركزة معانا أوي ليه يا شاهي، شاغلة دماغك بينا ليه؟
صرخت عليها شاهي بغضب، وصوتها بدأ يرتفع :
هركز معاكي إنتي وهي بتاع إيه يعني
ردت عليها غرام بهدوء أكثر :
اسألي نفسك إيه اللي عندنا مش عندك عشان نبقى حرقينك أوي كده
أضافت ورد بتهكم :
يمكن عندها عقدة نقص يا غرام، ما هو في ناس كده، مش بتحب تشوف حد أحسن منها، حقودين بقى، ربنا يكفينا شرهم
دفعت شاهي ورد بكتفها بقوة، فاختل توازنها وكادت أن تسقط، لكنها استقامت سريعًا فصاحت شاهي بغضب :
أحسن من مين يا بتاعه، اتكلمي عدل، ما بقاش إلا إنتي والجربوعة دي تتكلموا مع أسيادكم كده
تدخلت رهف محاولة تهدئة الموقف، لكن الشجار احتدم بين الفتيات، وتعالت الأصوات حتى صدح صوت ليث غاضبًا :
إيه اللي بيحصل هنا ده؟
كان صوته كالسوط الذي أوقف الجميع في مكانهم، تقدمت شاهي نحوه، تمثل دور الضحية، وقالت بدموع زائفة :
الحقني يا ليث، البنتين دول غلطوا فيا وقالوا كلام ما ينفعش أقوله من كتر ما هو قليل الأدب، مستقوين عشان صحاب اختك
التفت ليث نحو ورد وغرام، وعيناه تشتعلان بالغضب، لكن قبل أن يتحدث، صرخت ورد محاولة تخليص يدها من غرام :
يا بنت الكدابة، والله لو مسكتك ما هسيبك إلا وانتي في المستشفى
اقترب ليث بخطوات ثابتة، وصوته خرج كالرعد :
دي شركة محترمة، والألفاظ دي مكانها الشارع مش هنا، شركة الراوي ما بتقبلش غير الناس المحترمة.....وبس
رفع يده مشيرًا بإصبعيه وأضاف بحزم :
قدامكم حلين، يا تعتذروا لشاهي، يا تخرجوا من هنا حالًا
تدخلت رهف وقالت بغضب :
شاهي هي اللي بدأت و......
قاطعها ليث بنبرة أكثر حدة :
اسكتي انتي يا رهف، وحسابي معاكي بعدين عشان روحتي صاحبتي اتنين من الشارع عمرهم ما يحلموا يتكلموا معاكي، وهعلمك بعد كده ازاي تستنضفي الناس اللي تصاحبيها !!!!
نظرت ورد إلى ليث بغضب وقالت :
اسمع يا اسمك ايه انت، احترم نفسك عشان لو هتقل أدبك، إحنا كمان بنعرف نقل أدبنا، ما تجبرناش نوريك بتوع الشارع بيعملوا إيه !!
وقفت غرام، عيناها تلمعان بالغضب والقهر، كأنها أسد جريح يحاول الحفاظ على كبريائه، نظرت إلى ليث نظرة امتزجت فيها الجرأة بالاستهزاء، ثم قالت بنبرة تحمل في طياتها سمًّا هادئًا :
من غير غلط يا أستاذ، إحنا أصلًا هنمشي، لأنه ما يشرفناش نشتغل هنا
ثم تابعت بلهجة أكثر قسوة، نبرة التحدي تُثقل كلماته ا:
شركتك مش بتقبل ناس من الشارع، بس بتقبل اللي بيتعاملوا بجهل ورجعية، بس هقول إيه....إذا كان مدير الشركة كده، هستنى الناس اللي فيها يبقوا إزاي
صمت المكان للحظات، لكن الصمت هذه المرة كان أشد صخبًا من أي كلمات قيلت، مراد، الذي كان واقفًا كصخرة تحاول منع انهيار جرف، تدخل بصوت هادئ لكنه حازم :
ـليث، اهدى شوية مايصحش كده
لكن ليث لم يكن يسمع، كان الغضب يُعمي بصيرته، يحجب عنه أي منطق، قاطع مراد بنبرة حملت صرامة لا تقبل النقاش:
هي كلمة واحدة يطلعوا بره، مالهمش مكان هنا خلاص
رهف، التي كانت تقف كجدار هش أمام شقيقها، شعرت بأن الكلمات كادت تخنقها، لكنها لم تستطع أن تصمت، تقدمت بخطوات واثقة، لكن في عينيها بريق تحدٍ قُرئ بسهولة :
اسمع منهم الأول يا ليث
لكن ليث استدار نحوها، وكأن نظراته سيوف تُمزق التحدي الذي حاولت إظهاره، وقال بغضب :
ليث الراوي مش بيرجع في كلامه، خليهم يطلعوا بالذوق بدل ما أطلب الأمن
استشاطت رهف غضبًا، لكنها كظمت أنفاسها لترد بثبات :
لو خرجوا من الشركة، أنا كمان هخرج منها يا ليث
تجمدت الكلمات في الهواء، كأن الجدران ذاتها تنتظر الرد، ليث، الذي كان يشتعل كالبركان، استدار نحوها، وخرج صوته كالصاعقة :
هتقفي في وش أخوكي عشان الاتنين دول؟
نظرت إليه رهف مباشرة، وكأنها تلقي بنفسها في فوهة النار، وقالت:
اه، هقف في وشك طالما شايفاك غلطان
تحركت رهف نحو الباب، لكن صوته الغاضب أوقفها :
لو خرجتي من باب الشركة، ملكيش تدريب هنا
لم تلتفت رهف، اختارت صمتها هذه المرة ليكون الرد، لكن خطواتها كانت تحمل أكثر من تحدٍ، شعرت بلهيب نظراته يطاردها، لكنها لم تبالي !!!!!
.......
بعد ان غادرت الفتيات الشركة، وقفت شاهي، تراقب المشهد بعينين تتلألآن بشماتة وانتصار، كأنها ملكة على عرش من الحقد، ابتسامتها الخبيثة كانت تعلن احتفالها الصامت بما حدث !!!!
بجوار الموقف الملتهب، نظر مراد نحو موظف يقف في الزاوية، وقال بجدية لم تخلُ من الحزم:
أستاذ معتز، عرفهم كل حاجة بخصوص التدريب، هيكونوا مسئوليتك، أي تقصير هرجعلك انت
أومأ معتز سريعًا، وقال بجدية واضحة :
تمام يا مراد باشا، متقلقش
ثم استدار مراد نحو الجميع، وألقى كلماته كأنها محاولة لتبديد التوتر :
بالتوفيق يا شباب
لكنه لم ينتظر ردهم، بل ركض سريعًا نحو الباب، يحاول اللحاق بالفتيات، كان يعلم تمامًا أن ليث مخطئ، لم يكن عليه أن يتصرف هكذا
كان مراد يعي ايضًا أن هذه الفرصة يجب ألا تُفقد، وأن ما حدث لا يجب أن يكون النهاية !!!!
..........
في الخارج، وقفت رهف تتوسل إليهم بنبرة مخنوقة يعلوها الحرج، وكأن كلماتها عالقة بين شفتيها وكبريائها، قائلةً بصوت مرتعش :
معلش، متزعلوش، حقكم عليا......
لكن قبل أن تكمل جملتها، قاطعتها غرام بعينين يملؤهما الضيق ونبرة صارمة رغم الحزن الذي خيم على وجهها :
قولتلك، انتي مغلطيش عشان تعتذري يا رهف، ماتحميلش نفسك حاجة مش ذنبك
وفي لحظة صمت قصيرة كانت تثقل الأجواء، تقدم مراد بخطوات حذرة بعدما التقط أطراف الحديث، بدا متردداً، لكنه قرر التدخل بنبرة هادئة تحمل اعتذاراً ضمنيًا :
أنا هحاول أقنع ليث إنه يسمحلكم ترجعوا تتدربوا في الشركة......الموضوع ممكن يتحل
لكن الرد أتى كطلقات رصاص اخترقت سكون اللحظة، حيث قال ورد بضيق وغضب مكبوت :
هو حد قالك إن إحنا معندناش كرامة ؟
وكأن غرام حملت على عاتقها أن توصد الأبواب المفتوحة على احتمالات العودة، فأكملت بصلابة لم تخفِ وراءها مرارة خيبة الأمل :
بص حضرتك، إحنا خلاص مش عايزين ندرب في الشركة دي، بعد اللي حصل، زي ما هو غلط فينا قدام الناس كلها، لازم ييجي ويعتذر قدام الكل.....ودي أقل حاجة
نظرت إليها رهف بصدمة، وكأن ما قالته غرام هو شيء من المحال، وقالت بتردد :
يعتذر مين، مستحيل يقبل ده عمره ما عملها !!!!
ردت عليها ورد التي اشتعلت بداخلها نار الغضب بنبرة حاسمة :
يبقى خلاص، مش هنرجع وياريت نقفل الموضوع ده لو سمحتوا
ساد الصمت بين الجميع، كانت كلمات ورد أشبه بسقف حديدي أطبق على أي محاولة للنقاش، لم يجد مراد سوى أن يكرر اعتذاره قبل أن يعود إلى عمله، أما رهف، التي أصرت على إيصال غرام وورد إلى منزلهما بنفسها، لم تهدأ إلا حين رضخت غرام لإصرارها !!!!!