رواية عشقتها فغلبت قسوتي الجزء الثالث (ولعشقها ضريبة) الفصل الثاني
لا تخافي الحبُ يا رفيقة قلبي...
علينا أن نستسلم إليه...
رغم ما فيه من ألم وحنين و وحشة
كانت الأرض السيراميكية على وشك التحطم أسفل خطواته الهمجية..الغاضبة بـ شدة..وعيناه خير دليل على ما قد يرتكبه..وصل إلى الطاولة ومن دون مقدمات قبض على معصمها بـ قوة قادرة على تهشيم عظامها..فـ شهقت بـ ألم وذعر وهى تراه بـ تلك الحالة التي لا تجد لها وصف...
رمقها بـ نظرات قاتمة أسرت الرعب في جسدها..ولكنه أبعد عيناه عنها إلى مراد الذي نهض وعلى وجهه أبتسامة باردة وتشدق بـ نبرة أكثر برودة
-جاسر الصياد!..عاش من شافك...
وكأن صوته هو البطاقة الخضراء كي يندفع إليه كـ الثور الهائج قابضًا على عنقه بـ شراسة وبـ صوتًا جهوري أفزع من حوله
-لو قربت من مراتي تاني..هاخد روحك بـ إيدي
-ليزيد الطين بلة وهو يقول بـ خبث:تقصد طليقتك..مش كدا ولا إيه؟...
إتسعت عيناه من وقاحته وإشتدت يده حول عنقه..فـ سرعان ما تحولت الدهشة إلى غضب يكاد يغرق الجميع ثم هتف بـ فحيح أفعى سامة
-عالله يا مراد أشوفك بس قريب منها..ساعتها هتكون حفرت قبرك بـ إيدك...
ثم دفعه بـ قوة جبارة تراجع على إثرها عدة خطوات أفقده إتزانه فـ وقع..رفع جاسر رأسه إلى بسنت ثم إلى الجميع وإبتسم بـ شراسة قائلًا
-السهرة خلصت..أتمنى تكونوا إستمتعتوا بيها...
وبلا أي مقدمات أطاح الطاولة بـ يده لتسقط ويسقط ما عليها مُحدثة دويًا عالي..ثم نظر إلى بسنت بـ غضب وقال هادرًا
-يلا..أنتي لسه قاعدة...
فـ نهضت بسنت سريعًا وهى ترى ذلك المارد المُرعب وتحركت أمامه عدة خطوات..ثم نظرت إلى مراد الذي نهض وقالت بـ همس
-أسفة...
أومأ مراد بـ رأسه ولم يرد..بينما تحرك جاسر بضع خطوات قبل أن يأتيه مدير المطعم قائلًا بـ حرج
-جاسر باشا..مينفعش اللي حصل دا..كدا أنت أرهبت الزباين
-ليرد جاسر بـ عنف:أمشي من قدامي أحسنلك
جحظت عينا المدير بقوة وإتسعت عيناه رُعبًا إلا أنه قال بـ تردد
-طب والخساير!...
كز جاسر على أسنانه ثم أخرج حفنة من الأموال وقذفها بـ إزدراء هاتفًا بـ نبرة مُحتقرة
-أظن دي تكفي و تفيض..يلا غور...
وبدأ في التحرك جاذبًا إياها خلفه بـ قوة عنيفة إلا أنها فضلت الصمت وخنوع فـ هو ليس في أفضل حالاته...
إتجه جاسر إلى طاولته التي تجلس عليها صغيرته تُتابع ما يحدث بـ عينًا مُتسعة رهبة وخطواته تدوي في المكان الصامت..هدر جاسر بـ الصغيرة
-جُلنار..يلا...
إنتفضت الصغيرة على هتافه وإمتلأت عيناها بـ عبرات..ولكنها جذبت حقيبتها ونهضت..إلتفت إلى داليدا وقال بـ صوتٍ قاتم
-معلش يا مدام داليدا..هنأجل الأجتماع لظروف عائلية...
نهضت داليدا وهى تحت تأثير الصدمة تومئ بـ رأسها ب شرود..تتعجب من رجل الأعمال الراقي الذي كان يجلس أمامها مُنذ دقائق ليتحول إلى هذا الهمجي في أقل من ثوان...
لم يأبه جاسر لصدمتها بل أمسك بـ يده الأخرى يد صغيرته بـ حنو ثم إتجهوا جميعًا إلى الخارج...
وضع جاسر يده على ظهرها كي يدفعها إلى الخارج ولكنه تفاجأ بـ ملمس بشرتها الناعمة أسفل يده الخشنة..نظر إلى الثوب من الهلف ليجده عاري الظهر..كور قبضته بـ غضب حتى إبيضت مفاصلها وعيناه تحولتان إلى جمرتين مُشتعلتين غضبًا قاتم كـ قتامة ملامحه...
أمسك جاسر يدها جاذبًا إياها إليه وأجبرها على الإلتفات..فـ واجهته بـ أعين مُتسعة رهبة وخوف..ليقول هو بـ نبرة كفحيح الأفاعي
-فتحهالي ع البحري يا روجيدا!!...
حاولت النطق وإستجلاب الكلمات ولكنها فشلت أمام هذا المارد الضخم الذي بدا على وشك إفتراسها..وجدته يترك يدها بـ حدة ونزع عنه سترة بذلته و وضعها عليها..ثم دنى إلى أُذنها وهمس بـ شراسة
-إما قفلتهالك ع القبلي مبقاش أنا جاسر الصياد!...
ثم دفعها لكي تتحرك ونظر إلى بسنت قائلًا بـ صوتٍ مكبوت
-يلااا..إتحركوا قدامي...
وإمتثل الجميع إلى أوامره إتقاءًا لشره الغير مُبرر بالنسبة لهم...
*************************************
جلس الجميع بـ السيارة والصمت يطبق على المكان حتى بات خانقًا..كانت روجيدا تجلس بـ جانبه عاقدة حاجبيها بـ غضب وذراعيها أمام صدرها..شفتيها مزمومة بـ حنق وعيناها تخترقانه بـ قوة...
وبسنت تجلس بـ جانب الصغيرة بـ الخلف بعدما هدأتها بـ رقة وحنو..وذلك لم يمنع ضربات قلبها التي تتقافز داخل قفصها الصدري كـ الأرنب المذعور...
أما جاسر فـ بدى في عالم غير عالمنا..يداه تشتدان على المقود بـ درجة كبيرة حتى كادت تُهشمه..وعيناه العسليتان تحولت إلى اُخرتين عنيفتين..شرستان..قاتمتان..وتيرة أنفاسه العالية هى التي شقت السكون حولهم..ولم يغفل عليه نظرات روجيدا التي تخترقه بـ غضب..ليلتفت إليها على حين غُرة فـ إرتبكت وقالت بـ تعلثم حاد
-ممكن..أعرف..إيه سبب المسرحية دي!...
لم يرد جاسر بل بدى وكأنه لم يسمعها من الأساس وبقى يُحدق بها بـ غموض أربكها وجعلها تنظر أمامها ب حنق..تحرك بـ نظره من المرآه الأمامية إلى بسنت التي تعض على أناملها خوفًا..ثم قال بـ هدوء حاد
-كنتي بتعملوا إيه مع مراد النويهي!...
إبتعلت بسنت ريقها وهى ترى نظراته تخترقها بـ قوة أحرقتها ثم قالت بـ خفوت مسلوب الإرادة
-كنت بشتغل عنده فـ الشركة لما كنت فـ المنحة..وكنا فـ عشا عمل بنتكلم ع الشغل فـ مصر
-رفع أحد حاجبيه وأكمل بـ نفس الهدوء:وأختك المصون بتعمل معاكي إيه؟!...
أدارت روجيدا له وجهها بـ عنف ولكنه لم يُعرها أي إنتباه..فـ إشتعلت غيظًا لتلتفت إلى الصغيرة وأمسكت حقيبتها تُخرج منها حاسوبها المُصغر..وقامت بـ تشغيل فيلم رسوم مُتحركة تلتهي بها الفتاه..ثم عادت تلتفت إلى جاسر تقول بـ عنف لم تستطع السيطرة عليه
-وأنت مالك..ها!!..بتدخل ليه؟..ثم إيه أختها المصون دي!...
نظر لها جاسر بـ طرف عيناه ب برود ثم عاد ينظر إلى بسنت قائلًا
-مسمعتش إجابتك!...
نظرت بسنت إلى روجيدا التي كانت تستشيط غضبًا ثم قالت وهى تبتلع ريقها بـ صعوبة
-آآ..هى جت عشان مبقاش لوحدي...
ثم ضحكت بـ بلاهة وقالت بـ نبرة مازحة مُتوترة
-ما أنت عارف يابو الجواسير...
رفع حاجباه بـ ذهول ثم ما لبث أن تحول إلى غضب عارم رجّ السيارة
-نعم يا روح أمك!
-هتفت روجيدا بـ حدة:جاسر!!..إيه اللي أنت بتقوله دا؟
-نظر إليها بـ شراسة وقال:أنتي تخرسي خالص دلوقتي..أنا مش طايقك أصلًا...
جحظت عينا روجيدا بـ صدمة ولكنها عادت تهتف بـ غضب يوازي غضبه
-متتكلمش معايا كدا
-هدر بـ عنف:أتكلم زي ما أنا عاوز...
رفعت الصغيرة وجهها عن حاسوبها المُصغر ثم قالت بـ نبرة طفولية غاضبة مع ملامح منقبضة
-بس بقى يا بابي بطل تزعق..مش عارفة أتفرج على الكارتون
-وضع جاسر يده على رأسه وصرخ بـ غضب:أه يا ولاد الـ*** هتجبولي سكتة قلبية
-زجرته روجيدا بـ حدة:متقولش الألفاظ دي قدام البنت...
و رُغمًا عنها إبتسمت لمرآه..كان وجهه أحمر من كثرة الإنفعال..شعره الأسود مُشعث بـ طريقة مُحببة..أنفاسه تتسارع في محاولة يائسة في كبت غضبه..لم يكن أكثر جاذبية و وسامة في أي وقتٍ مضى...
لاحظ جاسر إبتسامتها..كان من المفترض أن يثور ويغضب إلا أنه وجد الإبتسامة تشق وجهه لتزيده جاذبية..زفر يأسًا وحاول إقصاء غضبه فما بينه وبين مراد لا أحد يعلمه سوى صابر وعائلته..وبقى هذا الأمر طي النسيان من أجل المُضيّ في الحياه...
نظر جاسر إلى طفلته التي إندمجت مع الفيلم بسرعة مُتناسية ما حولها ثم توجه بـ بصره إلى بسنت وقال بـ خبث هادئ
-ويا ترى أبو الصوابير يعرف إنك رجعتي مصر!...
تعلثمت بسنت وبان الإرتباك على وجهها فـ لم ترد..بل أخفضت رأسها أرضًا ليبتسم جاسر بـ شر قائلًا
-امممم..واضح إن سبع الرجال ميعرفش..وماله يعملك زيارة مفاجأة...
إنتفضت بسنت بـ فزع وتساءلت بـ صراخ
-جاسر أنت بتهزر مش كدا!!..قولي أنك بتهزر...
لم يرد عليها جاسر لحظات ثم أوقف السيارة وتشدق بـ هدوء
-يلا يا بسنت إنزلي..تصبحي ع خير
-جاسر...
-يلا الوقت إتأخر...
وأخذ يطرق على المقود بـ لحنٍ رتيب..نظرت بسنت إلى روجيدا بـ إستغاثة فـ بادلتها بـ أخرى مُطمئنة..زفرت بسنت بـ قنوط ثم ترجلت من السيارة و توجهت إلى منزلها...
فور دلوف بسنت تحرك جاسر بـ سيارته..تابعته روجيدا قليلًا قبل أن تنظر إلى الطريق فـ عقدت حاجبيها وهى تراه يسلك طريق غير طريق منزلها فـ إلتفتت إليه وتساءلت بـ توتر
-جاسر دا مش طريق شقتي...
تجاهلها جاسر..فـ إرتفع صوتها بـ حدة
-جاسر نزلني هنا..أنت موديني فين!
-نظر جاسر إليها بـ هدوء وقال:وطي صوتك البنت نايمة...
و بـ عفوية أدارت رأسها إلى الخلف لتجد جُلنار بـ الفعل نائمة..زفرت بـ قنوط ونفاذ صبر ثم جذبت من أحضانها حاسوبها المُصغر وأعادته إلى حقيبتها...
كان جاسر يُتابعها بـ إبتسامة حانية مُغلفة بـ بعض التسلية..وما أن أعادت رأسها إليه حتى رسم الجمود على وجهه..عقدت روجيدا يدها أمام صدرها وتساءلت رافعة أحد حاجبيها
-ممكن أفهم إحنا رايحين فين!
-رد جاسر بـ بساطة:المنيا
-شهقت روجيدا وقالت:أنت بتقول إيه!!..جاسر بطّل هزار ونزلني
-مط جاسر شفتيه وقال دون النظر إليها:أولًا أنا مبهزرش...
ثم صمت دون أن يُكمل لتتساءل بـ صوتٍ مكتوم
-وثانيًا؟!
-مفيش ثانيًا..إحنا رايحين المنيا وأنتي جاية معانا
-نفخت روجيدا بـ نفاذ صبر وتشقدت بـ حدة:جاسر..أسلوب البرود دا مش هينفع معايا..بعد إذنك روحني بيتي
-تشدق جاسر بـ بساطة وكأنه واقع:ما هناك برضو بيتك
-لترد روجيدا بـ ألم وإندفاع:مبقاش بيتي من ساعة أما إنفصلنا...
وساد الصمت الكئيب والموجع بـ المكان..فقط صوت تنفس جاسر الذي علا بـ درجة مُخيفة..لتجده فجأة قد صفّ السيارة على جانب الطريق وترجل من السيارة يقف أمامها واضعًا يده في جيبي بنطاله..تعلم أنها ذكرى قاسية بل أكثر قسوة و وجع لـ كِليهما...
راقبته روجيدا بـ ألم دون أن تبكي فـ قد فقدت القدرة على البكاء لتلك الذكرى القاسية..زفرت روجيدا بـ حسرة ثم ترجلت هي الأخرى من السيارة و وقفت جانبه..أخذت نفسًا عميق ثم قالت بـ صدق
-أسفة يا جاسر مكنش قصدي أفتكر ولا أفكرك بـ اللي حصل..بجد أسفة...
لم يرد ولم يلتفت بل كان في عالم أخر..أغمضت روجيدا عيناها بـ ندم على ذكر ذلك اليوم على الرغم من أن الألم يُمثل لها أبشع صور الماضي إلا أن جاسر يُعايش مثله ملايين المرات...
فتحت فاها تُريد الحديث إلا أنه توقف عند حلقها..حاولت أكثر من مرة ولكنها عجزت في كل مرة..ولكن جاسر سبقها وتحدث بـ جفاء وجمود قاس
-أخبار العلاج الفيزيائي إيه!
وضعت يدها على ظهرها فوق العمود الفِقري مباشرةً دون تفكير. ورغم تعجبها إلا أنها ردت بـ هدوء
-خلص..أخر جلسة كانت الشهر اللي فات
-وبـ نفس الجفاء تساءل:والنتايج إيه!
-أخذت نفسًا عميق ثم قالت:الدكتور قالي أسبوع وأعمل أشعة عشان يطمن على إستقرار وضعي
-ليرد عليها بـ صرامة:تمام..عرفيني عشان أكون معاكي...
كادت أن ترد ولكنه إلتفت إليها وهالها تلك النظرة الجامدة في عيناه بـ الرغم من الألم الواضح وضوح الشمس بهما إلا أنها تظل جامدة...
وبلا أي مُفدمات إرتمت روجيدا بـ أحضانه تُحيط بـ عنقه وتتعلق به وكأنه حبل النجاه..لم يحتاج جاسر إلى التفكير فـ قد كان أكثر حاجة منها إلى ذلك العناق..فـ إلتفت يداه حول جسدها بـ قوة لتسقط السترة عنها تاركة ليده الحرية التحرك على ظهرها...
كان ذلك العناق دافئ بدد الصقيع المُحيط بـ الطريق مُفقر الحياه..دفن جاسر وجهه في عنقها وهمس بـ صوتٍ لا يكاد يُسمع
-وحشتيني..وحشتيني وكأني مكنتش عايش فـ بعدك...
وكلما شددت من إلتفاف يدها حول عنقه..شدد هو على إحتضانها حتى رفعها عن الأرض بضعة سنتيمترات..كان صدرها ينبض بـ عنف بـ التزامن مع ضربات قلبه التي تضربها بـ قوة حتى ظنت أنه يكاد يفر إلى قفصها الصدري..وهمست بـ المثل
-وحشتني لدرجة إني حسيت إن مفيش حياه بعدك...
ولم يسمع أحدهما عبارة الأخر..بل كانا ذائبين في حلاوة ودفء العناق..ظلا إلى وقتٍ لم يستطيعا عده إلى أن إبتعد عنها وأخذ يُبعد خُصلاتها التي تعلقت بـ ذقنه النامية قليلًا..ثم أخذ يتطلع إلى وجهها البهي والذي لاحظ تحوله إلى اللون الوردي دون حديث..وقد نطقت عيناه بـ إشتياق لا حد له..ولكن يبقى الماضي عائق لإكمال حياتهم...
إبتعد جاسر عنها بـ بطئ وكأنه لا يُريد هذا الإبتعاد..لتتدهل يديها إلى جانبها بـ يأس و تدلى وجهها إلى أسفل..نطق جاسر ما أن وجد صوته
-يلا عشان الطريق طويل...
ثم إنحنى وألبسها سترته مرة أخرى ولكن هذه المرة تطلع إلى جيدها بـ تدقيق..ليجد جيدها مُزين بـ تلك القلادة الخاصة بـ والدها ولكن مُضاف إليها خاتمْ الزواج فـ بدى في غاية الروعة..لم تلحظ تلك الإبتسامة التي زينت ثغره وتلقائيًا نظر جاسر إلى حلقته الفضية التي لا تزال حول بنصره الأيسر..فـ إتسعت إبتسامته أكثر...
مدّ يده يتلمس تلك القلادة من بدايتها خلف عنقها إلى نهايتها..فـ كانت أنفاسها المُتوتر تلفح يده بـ سرعة وتتالي..وإستشعر نبضات قلبها التي تتقافز بـ قوة فـ إبتسم أكثر...
رفع نظراته إليها ليجدها تنظر إليه بـ رهبة ممتزجة بـ إشتياق لم يستطع ألا يلمحه..وحين إقترب منها إنحدر إلى فكها يُقبله مُطولًا ثم قال بـ صوتٍ ملئ بـ العواصف
-دي عشان لسه حافظة عهدي...
لم يبدُ عليها الفهم وقبل أن تتفوه كان قد إستدار بها إلى مقعدها وأجلسها ثم قال بـ إبتسامة جذابة
-الجو برد وطريق السفر طويل...
ثم أغلق الباب وإتجه إلى مقعده الخاص وأدار المُحرك..كان يختلس إليها بعض النظرات ليجد عيناها مُتسعتان بـ شدة و وجهها شاحب تظهر عليه بوادر صدمة..ولكنه وجدها تضع رأسها على زجاج نافذتها وأغلقت جفنيها لتذهب في سُبات عميق..تشد جانبي السترة إليها تبثها الدفء..فـ إرتسمت على شفتيها إبتسامة طفيفة كانت أكثر من كافية لتبعث في نفسه الراحة والأمل..صحيح طريقه مُيسر ولكن ذكرى ذاك اليوم تبعث الرهبة والخوف بـ قلبه...
*************************************
وصلا إلى قرية الصياد التي لم تطئها روجيدا لمدة سنتين..كانت تغط في سُباتٍ عميق وجاسر يرمقها بـ نظرة كل ثانيتان...
وصلت سيارته إلى القصر وفُتحت أبوابه على مصرعيها إستقبالًا لجاسر الصياد..أغلق المُحرك ثم ترجل من السيارة وأدخل صغيرته والتي رحبت بها فاطمة بـ حبور..دثرها جيدًا في الفراش الخاص بها ثم تحرك خارج الغُرفة وهبط الدرج وكاد أن يخرج إلا أن والدته تساءلت بـ تعجب
-رايح فين!!
-رد بـ إقتضاب:هجيب روجيدا...
إرتفع حاجبيها بـ صدمة و ذهول ثم تساءلت بـ نبرة ذات مغزى
-و روجيدا بتعمل إيه هنا!
-زفر جاسر بـ نفاذ صبر:طب أجيبها الأول وبعدين نكمل التحقيق دا...
ثم تركها وتحرك خارج مُحيط القصر و والدته تُتابعه بـ أعين كـ الصقر...
توجه إلى المقعد الخاص بها ثم فتح الباب و أحل حزام الأمان..وضع يد أسفل ظهرها وأخرى أسفل رُكبتيها وحملها بـ رفق..قربها جاسر من صدره كثيرًا حتى باتت أنفاسها تلفح نحره فـ تبعث رجفة مُحببة إلى قلبه..و تباطئ في خطواته إلى داخل القصر...
كانت فاطمة تضع يدها في خصرها رافعة أحد حاجبيها..ليُضيق جاسر عيناه بـ حدة ثم تشدق بـ فتور
-والله هفهمك..بس أطلعها
-إبتسمت بـ مكر وقالت:هو أنا قولت حاجة..طلع البِنية..الجو برد عليها...
زفر جاسر وإستغفر ربه بـ صوتٍ عال ثم صعد الدرج..دلف إلى غُرفة صغيرته و وضعها بـ جانبها على الفراش المُقابل لفراش الصغيرة ودثرها جيدًا..أزال بـ يده بضع خصلات هاربة من جديلتها عن عينيها..ثم إنخفض بـ جزعه ولثم جبينها بـ قوة وكأنه يوشمها بـ اسمه ثم إرتفع مرة أخرى قبل أن يرمقهما بـ نظرة مُطولة ودلف خارج الغُرفة...
هبط الدرج وهو يُدلك عيناه بـ إرهاق وجلس بـ جانب والدته التي ربتت على ظهره وقالت بـ حنو
-جعان يا حبيبي!..أعملك عشا؟
-وضع يده على يد المقعد ثم قال بـ تعب:لا يا أمي..أنا لسه راجع من عشا عمل...
وصمت ليستشعر نظرات والدته تخترقه فـ فتح عيناه وإلتفت إليها وكما توقع كانت تنظر إليه بـ خبث..فـ تأفف بـ ضيق ثم قال بـ نفاذ صبر
-بصي يا ماما..أنا قابلت روجيدا صدفة وحصلت كام حاجة كدا
-وإيه هي الكام حاجة دي؟!
-أشاح جاسر بـ يده ثم قال:هتعرفيها بكرة فـ صفحة الفضايح...
إرتفع حاجبيها ب ذهول وألجم لسانها هول ما نطق ولكنه أكمل حديثه دون أن يعبأ بـ ذهولها
-و جُلنار شبطت فيها فـ جبتها معايا وهى مرتضش تزعل بنتها
-إبتسمت فاطمة وقالت بـ براءة مُصطنعة:ااااه..قولتلي..فيها الخير روجيدا..هي هتقعد كام يوم!
نهض جاس ثم تشدق وهو يتحرك إلى الأعلى
-معرفش..وقت أما تحب ترجع هبقى أرجعها...
ثم أكمل صعوده تحت أنظار والدته والتي أخذت تدعوا لهما بـ صلاح الحال...
دلف جاسر إلى غُرفته وأبدل ملابسه تاركًا جزعه العلوي عار كما يُحب ثم تمدد على الفراش وكاد قلبه يتوقف عن نبضه من فرط الحماس..فـ ها هي تنام معه تحت سقفًا واحد وإن كاتت في غُرفة غير الغُرفة ولكن يكفيه أنهما يتشاركان المنزل..فـ همس قبل أن ينام
-هنسى أي وعد وعدته إني هبعد عنك..حتى لو على موتي يا فراولتي...
*************************************
نهضت بسنت بـ كسل وأخذت حمامًا سريع ثم أبدلت ثيابها..أمسكت هاتفها وإتصلت بـ مراد..ليأتيها الرد بعد بضع ثوان
-صباح الخير يا أنسة بسنت
-ردت بسنت بـ خفوت:صباح النور يا مستر مراد...
أخذت نفسًا عميق ثم قالت بـ حرج
-أسفة لو كنت إتصلت بدري كدا
-جاءها صوت مراد الهادئ:لا أبدًا..أنا صاحي من زمان وطالع ع الشركة
-تنحنت بسنت وقالت:أنا حبيت أعتذر عن اللي حصل إمبارح..بجد أسفة...
سمعت قهقة مراد تحترق أُذنها لتعقد حاجبيها بـ تعجب..ثم سمعت صوته يقول بـ مرح
-متعتذريش يا أنسة بسنت..هو دا جاسر الصياد..أنا عارفه وكنت متوقع منه حاجة زي دي..بصراحة لو مكنش عمل كدا..كنت هحس إن فيه حاجة غلط...
إزداد إنعقاد حاجبي بسنت وقبل أن تتفوه بـ حرف أكمل مراد حديثه
-المهم..أنا هستناكي فـ الشركة..أكيد مش النهاردة يعني..بس هستناكي تستأنفي الشغل فـ فرع القاهرة
-ردت عليه بـ ذهول عفوي:إيه دا بجد!..أنا فكرت إنك مش هتبقى طايق تشوف وشي
-تشدق هو بـ رزانة:وليه مبقاش طايقك!!..أنتي معملتيش حاجة..وقولتلك أنا عارف جاسر وعارف إن لسه الموضوع مخلصش ودا مش ذنبك...
صمت قليلًا وكذلك هي لُيتابع حديثه
-مش هنتكلم فـ الموضوع دا كتير..أكيد هكون أكتر من سعيد لما تستأنفي الشغل معايا..و وقت أما تكوني جاهزة..أنا هكون فـ إنتظارك...
-ردت بـ إمتنان حقيقي:بجد مش عارفة أقولك إيه!..أنا مُتشكرة جدًا
-متشكرنيش..دا شرف ليا إنك تشتغلي معايا
-بجد مرسيه...
ساد الصمت لعدة لحظات قبل أن يقول مراد بـ إعتذار
-معلش أنا مضطر أقفل دلوقتي يا أنسة بسنت..فـ إنتظارك...
ثم أغلق بعدما بادلته التحية..ليجد من تتعلق بـ عنقه من الخلف وتتساءل بـ دلال
-فـ إنتظار مين يا سيادة المدير؟...
وضع مراد يده على يدها المُحيطة بـ عنقه ثم رفعها وقبلها بـ هدوء قائلًا
-بسنت..البنت اللي قابتلها لما كانت بتاخد منحة فـ باريس...
حلّت يدها عنه ثم جلست على رُكبتيه وأحاطت عنقه مرة أخرى..وأحاط هو خصرها فـ تابع
-وتصدقي طلعت مين!
-ضحكت وأكملت:أخت مرات جاسر الصياد
-عقد حاجبيه وتساءل:عرفتي منين!
-داعبت أنفه بـ طرف إصبعها وقالت:أخباركوا مغرقة السوشيال ميديا...
ضحك مراد بـ صخب وقال
-هما لحقوا!!..يا ترى جاسر عمل إيه؟!
-ملناش دعوة عمل إيه..المهم أنت هتعمل إيه!
-تساءل بـ خفوت:أعمل إيه فـ إيه؟
نظرت له مُطولًا مصحوب بـ سؤال قرأه على الفور..فـ شدد على إحتضان خصرها وقال بـ جدية صارمة
-هكمل شغلي معاها..هي ملهاش دعوة بـ اللي بيني وبين جاسر الصياد..ولا جاسر الصياد له دعوة بيها وبشغلي..أظن جوزها هو اللي من حقه يعترض...
أخذت دينا نفسًا عميق ثم حاولت الحديث بـ هدوء
-يا حبيبي مش قصدي..بس إحنا كنا قفلنا ع صفحة جاسر الصياد
-فـ رد عليها بـ قوة:ولسه هتفضل مقفولة يا دينا..أنا سبق وعرفتك إن روجيدا هتكون فـ العشا وأنتي معارتضيش..فـ مش هنحكي فـ الموضوع دا كتير...
حاولت الإعتراض والحديث إلا أنه أشار بـ يده أن تصمت وقال بـ صرامة نازعًا يدها عن عنقه وإستقام واقفًا
-أفتكر إنك قولتي مش هاجي عشان الحرج..وأفتكر إني لسه قايل الموضوع دا هيتقفل لحد هنا يا دينا..ويلا عشان عندي شغل...
ثم تحرك من أمامها عدة خطوات..فـ تهدل كتفيها بـ يأس..تخشى دلوف جاسر الصياد أو كل ما له علاقةٍ به أن يُفسد عليها حياتها التي بدأت بـ الإستقرار حديثًا..أغمضت عيناها لتشعر بـ رطوبة شفتيه على وجنتها ثم همس بـ عذوبة
-مش معنى إني أمشي كلمتي وأزعلك..إني مخدش حقي الصبح...
ربت على وجنتها بـ رقة وقال بـ حنو
-لما أرجع هنبقى نتكلم فـ الموضوع دا..المهم حضريلي عشا حلو..عشان مزاجي يبقى حلو وأعرف أسمعك...
ثم تركها ورحل..لتجد الإبتسامة تشق وجهها بـ سعادة حاسدة نفسها على تلك الحياه الرائعة التي تحياها..لربما أخطأت كثيرًا وتُخطئ أكثر ولكنها تُحاول إصلاح نفسها بـ شتى الطُرق وحبيبها مراد يُساعدها بـ صدرًا رحب..تنهد بـ حب ثم بدأت في إعداد نفسها والبيت من أجل عشاء رائع لتحظى بـ ليلة أكثر روعة...
************************************
إستيقظت روجيدا في الصباح بـ خمول وأخذت تفرك عينيها الناعستين تستكشف المكان..لتنتفض فزعة وهى ترى نفسها في بيتٍ غير بيتها..فـ تذكرت أخيرًا أن جاسر جلبها إلى قصر الصياد بـ المنيا..زفرت روجيدا بـ ملل وضيق ثم قالت
-برضو عمل اللي فـ دماغه...
ثم نهضت عن الفراش وأخذت تتطلع إلى الغُرفة الخاصة بـ صغيرتها وعلى وجهها إبتسامة..لا تنكر شعورها بـ هذا الدفء الرائع الذي إنتابها في ظل عودتها إلى القصر...
بحثت على الفراش المقابل لها عن صغيرتها ولكنها لم تجدها..بل وجدت فراشها مُرتب وكأنها لم تنم..وبعد لحظات سمعت صوت الباب يُفتح و جُلنار تدلف وهى تصيح
-هيييه..أخيرًا أنتي صحيتي يا مامي...
توجهت إليها روجيدا ثم حملتها وقبلتها قائلة بـ حنو
-أه يا قلبي صحيت
-أدارت الصغيرة يدها حول عنق والدتها وقالت بـ براءة:تعرفي يا مامي إني فرحانة أوي عشان جيتي معانا هنا...
داعبت روجيدا بـ أنفها وجنة الصغيرة وهتفت بـ شرود
-وأنا كمان مبسوطة عشان جيت...
أخذت نفسًا عميق ثم تساءلت
-هى الساعة كام!...
رفعت الصغيرة أصابعها أمام وجه والدتها وقالت
-طنط كريمة قالتلي إنها عشرة...
صُدمت روجيدا أنها نامت كل ذلك الوقت بل لم تشعر كيف صعدت إلى هنا..أخر ما تتذكره أنها نامت في السيارة..أخمدت تفكيرها وتساءلت
-أومال فين بابي!
-ردت الصغيرة وهى ترفع منكبيها:لسه مش صحي
-عقدت ما بين حاجبيها وهتفت:جاسر عمره ما إتأخر فـ نومه كدا...
خطر بـ بالها أنه قد يكون مريض..فـ أُصيبت بـ التوتر وهتفت بـ هدوء خائف
-طيب يا روحي أنتي فطرتي!...
أومأت الصغيرة بـ رأسها فـ تشدقت روجيدا
-طب يا جوجو..إلعبي بـ لعبك عما أشوف بابي وأجيلك...
ثم وضعتها على الأرض لتركض الصغيرة إلى الجزء الخاص بـ ألعابها بـ الغرفة..أما روجيدا تحركت مُهرولة لتلحقه...
بحثت في كل غُرف الطابق فـ هى تعلم من إبنتها أن جاسر يُقيم بـ نفس طابق غُرفتها أي ليس طابق جناحهما السابق..فـ هو لم يعد يطيق البقاء به بدونها وأنه يُحب البقاء قريبًا من طفلته...
وصلت إلى غُرفة القريبة من غُرفة الصغيرة والتي تجاهلتها بـ الأول ثم دلفت دون ذرة تردد..لتجد جاسر ينام بـ الفراش..وجسده مُتعرق بـ شدة يكاد يلمع تحت أشعة الشمس..هتفت روجيدا بـ جزع وهى تركض بـ إتجاهه
-جاسر!!...
لتجد وجهه مُتقلص بـ ألم واضح..وحبات العرق تتساقط من جزعه العلوي فـ وضعت روجيدا يدها على جبينها لتشهق بـ فزع وهى ترى ذلك التناقض الواضح من سخونة جسده و برودة حبات العرق
هزته روجيدا عدة مرات ثم ضربت وجنته بـ خفة قائلة بـ هلع
-جاسر!..جاسر!..فوق الله يخليك..جاسر فوق عشان خاطري...
بدأ جاسر في إستعادة وعيه على تلك الربتتات الخفيفة على وجنتيه..ليفتح جفنيها مُتأوهًا بـ ألم فـ تساءلت روجيدا بـ خفوت
-فين بيوجعك!
-وضع جاسر يده على جانبه الأيمن وقال بـ تعب:جنبي..حاسس بـ ألم فظيع...
نظرت روجيدا إلى موضع الألم فـ فهمت على الفور سبب الألم..ذلك اليوم المشؤوم مُنذ أن أُستأصلت كليتاه وتبرعها بـ كليتها ولكنهما يتشاركان الألم..إنخفضت بـ جزعها وتساءلت
-مأخدتش دواك بقالك أد إيه!
-رد عليها بـ وهن:بقالي فترة طويلة...
زفرت روجيدا بـ ضيق ثم إرتفعت وتحركت ناحية المرحاض المُرفق مع الغرفة كحال جميع غُرف القصر..أخرجت الدواء الذي تتناوله هي الأخرى و عادت إليه..سكبت بعض الماء الموضوع على الطاولة بـ جانبه..ساندته على النهوض بـ حذر ثم أخذت الدواء و وضعته بـ فمه وتبعته الماء...
نهضت مرة أخرى وجلبت منشفتان..أحدهما مُبللة بـ ماءٍ بارد و الأخرى جافة..أخذت تُجفف جزعه بـ رقة ثم همست بـ حنو
-شوية والدوا هيعمل مفعوله..بس أنت حرارتك عالية..تقريبًا أخدت برد من نومتك دي...
ثم وضعت المنشفة على جبينه وبقى هو يأن بـ ألم خافت..لتربت على وجنته بـ حنو هاتفة
-كلها عشر دقايق وكل الوجع هيروح..أنت قعد فترة مس بتاخد الدوا عشان كدا تعبت جامد...
وجدت شفتاه تهمسان بـ صوتٍ لا يكاد يُسمع لتسأله
-بتقول إيه!...
عاد يهمس ولكن تعذر عليها السمع..مالت بـ جزعها أكثر حتى بقت على بُعد طفيف من وجهه ثم وجهت أذنها إلى شفتيه فـ سمعته يهتف بـ خفوت
-خليكي جنبي..متبعديش عني تاني...