رواية علاقات سامة الفصل الثالث
صباح مشحون اكتظَّت سماه بالغيوم، استيقظتا مبكِّرًا واستعدتا للذهاب لمدرستيهما تحت صِـرَاخ والدتهما تحثهما على الإسراع؛ فاستيقظ سامح غاضِبًا:
- استغفر الله العظيم! يعني أنا بستحمل كلام المدير وقرفه في سبيل إني أنام كام دقيقة زيادة، لكن إزاي اتهنى بنومي! لازم تقرفيني على الصبح وما أعرفش أنام مرتاح، وأنتم ساعتين قدام المراية رايحين مدرسة ولا حفلة! انجروا على المدرسة.
أومأتا بهلع وصمت ثُمَّ اسرعتا هاربتانِ مِن البيت مستمعتانِ لحديث والديهما الصَّـارِخ المتبادل بالاتهامات.
تنفست كلتاهما الصعداء عندما ابتعدتا عن محيط البيت، تحركت كل منهما إلى مدرستها، إنها الحرية.
مر اليوم جميل وكعادة الأوقات السعيدة تمر سريعًا، حان وقت العودة للمنزل، فعادتا بثقل مضطرتانِ تحلمانِ بالتحرر، يعاد الروتين اليومي، لكن شيماء هذه المرة استمعت لأختها، فعلت مثلها، بدلت ملابسها، تعاونتا في ترتيب وتنظيف حجرة والدهما جيدًا، ثم ساعدتا والدتهما دون حديث حتى وصل والديهما وعلى وجهه علامات الغَضَب من أثر كلمات مديره له بالصباح كعادته اليومية، يذهب متأخرًا يفتعل المشاكل أحيانا مع زملائه، يعاملهم بتعالي لا مبرر له، يستمع لتوبيخ مديره ويتذمر منه أمامه أو خلفه ثم يعود للبيت، وهناك يبحث عن سبب ليصب علي إحدى ابنتيه أو كلتاهما ما مر به خلال اليوم.
بحث بعينيه داخل المكان ارتعدت كل من شيماء ونادية، تظاهرتا بالانشغال، لم يجد بهما ما يجعله يخرج ضِيِقه؛ فدخل متأففًا ليبدل ملابسه، فرز المكان بعينيه لعله يجد ما لا يعجبه، لم يجد ولكنه لن ييأس، هو بالفعل إن لم يخرج غَضَبه سواء بكلمات سامَّة او بضَرَبَات مُوجِـعة سيسقط صريعًا لغَضَبه، وكعادته اتجه إلى تبادل الاتهامات والسُباب مع زوجته، فحين وُضِع الطعام على المائدة المتواضعة، والتفوا حولها، تحدث وعلى وجهه علامات الاشمئزاز
- إيه ده؟ فين الأكل؟
أجابت زوجته سهام وعلى وجهها علامات الغَضَب والسُّخريَّة
- أهو قدامك، إيه مش شايف؟ ابقي اعمل نضارة.
- بقولك إيه أنا مش طايق نفسي أنتِ عارفة مش باكل طبيخ من غير لحمة أنا شقيان طول اليوم بره.
- والله أطبخي يا جارية كلف يا سيدي، الملاليم اللي بترميها لي كل أول شهر يا دوب تجيب لحوم لأسبوع عشر أيام، احمد ربنا إن لك زوجة زيي متحملة حياتك دي، وقلة فلوسك.
- دلوقت احمد ربنا ما أنتِ لما تقدمت لك لمَّا صدقتي حد عبَّرِك وتقدم لك.
مصمصت شفاهها متحسِّرة:
- جوازة الشؤم والندامة.
- أنتِ اللي مش بيطمر فيكِ.
- ده أنا! أنا اللي تحملت قرفك وضيقة الحال وعدم التقدير، أنا اللي وقفت قدام أبويا وقولت له سامح موظف ناجح وله مستقبل، أنا اللي وقفت جنبك لحد ما كملت الجامعة واحنا متجوزين، أنت اللى ناكر للجميل.
-ده أنا! تصدقي أنا اللى غلطان إني تجوزت واحدة زيك، أبوها ما قدرش عليها، وفرضت عليه العريس اللى تقدم لها، يا ريت كنتِ رفضتِ وحفظتِ مية وشك، بدل ما أنت بتقولي قدام بناتك إنك وقفتِ في وش أبوكِ عشان عريس.
اعتادت الفتاتان تناول الطعام في تلك الأجواء السَّـامَّة، ومع نهاية كلمات والدهما نظرتا إليه بتعجب وصدمة؛ فنهرتهما والدتهما
- قومي منك لها، بتسمعوا إيه؟! ادخلوا أوضتكم.
اسرعتا تختبئان من واقعهما المرير، تنظر كلتاهما للأخرى بخوف تذرف الأعين الدموع وتفيض من هول ما يُلقي على مسامعهما، انحدر الشِّـجار بين والديهما لأدنى مستوياته وعلا صوتهما ودوى؛ فوصل لمسامع الجيران، لم يقتصر التراشق على الكلمات، بل تدنَّى بهما الحال إلى استخدام الأيدي أيضًا، بدأ الجيران في التجمع أمام منزلهما، يطرقون بقوة، عسى أن يخترق صوت الطرقات صوت صِـرَاخهم المتبادل، لم تعلم الفتاتين ما عليهما فعله، ومع إصرار الجيران واستمرار الطرق، تحركت نادية وخلفها شيماء وفتحت الباب، فاسرع الجيران يحولون بين والديهما، وطلبت إحدى الجارات منهما جلب غطاء رأس لوالدتهما.
حاول الجيران جاهدين تسوية الخلاف، وحل المشكلة دون فائدة، لم يستمع كلاهما، واستمرا بتراشق الكلمات والاتهامات، بعد قليل انسحبت الأم لغرفتها؛ فظن الجميع إنها امتثلت لهم وتحاول تهدئة الأمر، لكن العكس هو الصحيح؛ فهي قررت الذِّهاب إلى والدها لعله يثأر لها ويطلقها منه، وبعد قليل خرجت من غرفتها فاستمعت لأحد الجيران -وكان كبير السن شاب رأسه بالكامل يحمل من الوقار والحكمة الكثير- يحدث زوجها سامح
- يا أبني زوجتك الحمد لله ربنا هداها، ودخلت جوة عشان الأمور تهدى وسكتت، أنت كمان اهدى كدة، البيوت ياما بيحصل فيها، وكلنا الدنيا بتضيق علينا أوقات لازم نستحمل بعض، ودى مراتك ورفيقة عمرك، والرسول عليه أفضل الصلاة والسلام قال "استوصوا بالنساء خيرًا" ارجع لعقلك يا ابني واهدى، ربنا يكرمك!
أنهى الجار حديثه، وفوجئ بها الجميع تقف أمامهم وقد بدلت ملابسها البيتية لأخرى مناسبة للخروج، فابتسم سامح متهكمًا، فسألها الجار متعجبًا.
- على فين يا بنتي؟!
- على بيت أبويا يا حاج هستني ليه بعد ما مد ايده عليَّا؟
- يا بنتي اهدي وما تكبريش الموضوع، أنا كنت لسه بقوله إنك عاقلة وبعدتي عشان تهدوا، ارحموا بناتكم، شوفيهم مرعوبين إزاي، وبعدين أنتم الاتنين غلطوا في بعض للأسف.
- لا، أنا استحالة اقعد بعد اللي حصل منه.
-لا حول ولا قوة إلا بالله!
رد سامح مغتاظًا ليس مما تفعل إنما لن يتحمل عبء ابنتيه:
-الباب يفوت جمل، اوعي تفكري أني هاتحايل عليكِ تقعدي، بالسلامة، المركب اللي تودي، بس خدي بناتك معاكِ.
- أخدهم ليه؟! مش أنت أبوهم! شوف هتتحملهم إزاي يوم لوحدك؟
- ما هو يا تاخديهم ومع ألف سلامة أنتم التلاتة، يا تترزعي بهم هنا، وإلا وربنا ارنّك علقة زي اللي برِنَّها لعيالك، وقدام الناس اللى قاعدة دي ولا يهمني.
امتلأ حديثهما بالندِّيَّة والتَّحدي، فتحدث الجار مع نهاية كلمات سامح مستنكرًا:
- يا إبني ما ينفعش كلامك ده، على الأقل احترم شيبة شعري، ولا الناس اللى قاعدة.
نظر سامح إليها بتحد وهى بادلته نفس النظرة بغِلٍّ وتحدثت إلى ابنتيها وهي مازالت مسلطة عينها عليه بنظرات تزداد حِدَّة.
-قوموا البسوا بسرعة.
بدلتا ملابسهما، وما زال الخوف متملك منهما، تأملان ان يتغير حالهما يومًا، اتجهت والدتهما لبيت والدها، بينما انصرف الجيران متعجبين من كل ما دار، ومن الطريقة الدونية بأسلوبهما وكلماتهما.
وصلت سهام وابنتيها إلى والدها، قصَّت عليه ما تريد وسط دهشت الطفلتان لما روَت، فهي لم تبرز دورها في اشتعال الأمور، فقد شعرتا مما قصَّت أنها مثلهما مضطرة ضعيفة، صدقتها شيماء بينما ضحكت نادية بداخلها، تراها ممثلة بارعة، استمع والدها إليها بهدوء، تعجبت منه شيماء وايقنت نادية أنه يفهم ابنته جيدًا.
جلس الجد على كرسيه مقابلًا لابنته، يسمع بإصغاء، ينظر بداخل عينها اثناء حديثها يتَفرَسْها، وهي جالسه على الأريكة بجانبها نادية، بينهما مسافة فاصلة صغيرة، وعلى الأريكة المجاورة تجلس شيماء، فاستطاع الجد بخبرة أعوام دراسة ما تحمله انفعالات ثلاثتهم، وبعد ان انهت سهام حديثها بكَت وانتحَبَت، تنتظر تعقيب والدها على ما قصت، تركها حتى انتهت، ثم تحدث برزانة وهدوء
- يعني هو زعق وقلب الدنيا عشان الغدا وراح ضَـرَبك.
أجابت وهي تحاول إخفاء وجهها
- أيوة يعني هكدب عليك يا بابا.
- لا طبعًا بنتي استحالة تكذب، لكن ساعات تجمل الحقايق، خصوصًا لما تكون غلطانة مثلًا.
- يا بابا...
أكمل حديثه كأنه لم يسمعها:
-أنا عارفك كويس، زي ما أنا عارف جوزك كويس، هو أكيد مد ايده عليكِ، بس أكيد بعد خناقة مسحتي فيها بكرامته الأرض، أنت مش ملاك، واكيد فرَسْتيه لحد ما وصل لكدة، جوزك يستقوى على الضَّعيف، الأضْعَف منه بكتير، قولى لى جوزك بيمد ايده على بناته.
التفتت إليه الفتاتان بدهشة ورجاء تتمنيان أن يهتم بحالهما، بينما تلعثمت والدتهما، فأكمل هو
- وأنت طبعًا مش بتمنعيه عنهم، بس لما مد ايده عليكِ قلبتِ الدنيا، ليه ما عملتيش كدة لما اذى بناتك؟
داهمها بسؤاله؛ فتلعثمت ولم تجد ما تجيب به، تحت نظرات ابنتيها اللتان اصغيتا لمعرفة إجابتها، همهمت تبحث عن كلمات فلم تجد، ابتسم الجد بسخرية منها وأكمل.
-أنا فكَّرت إيه اللي عملته أو قصرت فيه في تربيتك؟ صدقيني لحد دلوقتي مش عارف، طلعتِ أنانية مش شايفة غير نفسك، لمَّا جوزك اتقدم لك شوفت الطمع في عنيه، شوفت فيه أنانية ملهاش حدود، رفضته عشان لو اتنين زيكوا اتجوزوا هيظلموا ولادهم، ومع الوقت ظهر أنه عُدْوَاني وعَنِـيفْ جدًا مع الأضْـعف منه، وانهزامي جدًا مع الأقوى منه، لا أنت ولا جوزك فارقين معايا، انت تستاهلي واحد زيه، بس يا ريته يربيكِ ويسيب ولادك في حالهم، عيالكم هيطلعوا مُعقدين بسببكم، أنا عارف إن كلامي لا هيقدم ولا هيأخر، بس هتكلم معاكِ أنت وجوزك بلغتكم والطريقة اللى هتفهموها، ادخلي دلوقتي أوضتك القديمة، والبنتين سيبهم معايا، هتكلم معاهم شوية وبعدين ادخلهم اوضة أختك الله يرحمها، روحى.
نظرت لابنتيها محذرة، لاحظ والدها ورأى الخوف بأعينهما، صمت وتابع ابنته بعينه حتى ابتعدت، وكذلك فعلتا، بعد أن اطمأن لابتعادها وإغلاق غرفتها، تحدث ببشاشة، بعدما فتح ذراعيه ليضمهما لصدره:
- تعالوا يا بنات.
تحركتا بحذر وترقب ووقفتا على جانبيه فجذبهما إليه، وضمهما بحنان:
- إيه رأيكم تدخلوا مع جدو أوضته نتكلم شوية قولوا الأول، أكلتم قبل الخناقة؟
تبادلت كل منهما النظرات واخفضتا رأسيهما بخجل فاسترسل بود:
- تحبوا نجيب أكل جاهز ولا نشوف في إيه في التلاجة؟ أقول لكم نجيب جاهز، ونتكلم على ما يجي، واشوف لكم هدوم من هدوم امكم وخالتكم الله يرحمها، انا كنت شايل حاجات من هدومهم عشان وقت زي ده، بس انا كان في بالي وقتها تيجوا في الفَرْح، بس المهم انكم جيتوا وجدوا شافكم، انتم بتبصوا لجدو كده ليه؟ مش عاجبكم كلامي.
أجابت نادية مبتسمة، وتساءلت شيماء:
-لا يا جدوا بس مستغربين.
- هو أنت كده على طول؟ ولا عشان خناقة ماما وبابا.
ضحك الجد من حديثهما واردف
- لا يا ست البنات كده على طول، ومستغربين ليه يا نادية؟ عشان مختلف عن أمكم وأبوكم.
أومأت مؤكدة واخفضت رأسها، فابتسم الجد بحزن، واشفاق على حاليهما.
- اللي بيعملوه هو الغلط بعينه تعالوا ندخل جوة ونطلب الأكل ونكمل كلامنا.
بالفعل أخذهما الجد وطلب الطعام وبحث لهما عن ملابس مناسبة حتى وجد، وبعد ان بدلتا ملابسهما عادتا إليه ابتسم لهما وفتح ذراعيه لهما يحْتَضِنهما بحنانٍ بالغ.
- بصوا هأسألكم على حاجة، وجابوا بدون خَوْف، تأكدوا إن كلامنا ده سر، ماشي.
أومأتا له واجابوا بنفس اللحظة
- ماشي.
- أبوكوا دايما يضربكم، ولا في الغلط بس.
صمتت نادية وأجابت شيماء بتلقائية
- الغلط بالنسبة لبابا أي حاجة مش عَجباه، أو إننا ما نفهمش قصده، أي حاجة صغيرة أو كبيرة، ساعات مش بعرف انضَرَبت ليه، كتير يرجع متضايق من الشغل؛ فيزعق ويضْـرَب حد فينا.
- مفيش فايدة فيكِ دايما لسانك سابقك.
- مش دي الحقيقة؟
ارتسم الألَـم على وجه الجَد:
- سبيها يا نادية، لازم اعرف عشان اتصرف، أنا همنع عنكم أذَاه، إن شاء الله!
صمتت نادية تحدث نفسها بصمت «أصدق إزاي وأنا حاسة إنه بيحب ضربنا ويستمتع واحنا نتوجع، شكلنا المرعوب بالنسبة له هدف».
قطع شرودها كلمات شيماء التي حدثت جدها بتلقائية وتصديق.
- يعني يا جدو مش هتخليه يضربنا بالعصاية تاني، أنا أيدي بتورم والله، ومش بعرف أمسك القلم كويس، حتى لما أنزل عليها ميه باردة زي ما نادية بتقولي، هو أنت هتاخد العصاية ولا هتكسرها؟ طاب ما هو ممكن يشتري واحدة تانية؟
اشْتَعل الجد غَضَبًا:
- هو شاري عصاية عشان يضربكم بها.
- هتضِّـربي جامد من بابا لو عرف، وأنت مجربة كتير.
ارتجفت باكية:
- جدو أنت قولت مش هتقول لبابا، أنت بتكذب علينا، طاب بلاش بالله تقوله المرة دي، هيضربني، انا بخاف من الضلم والله!
جذبها إليه بحنان وحماية يربت على ظهرها يهدئ من روعها وهي ترتجف بين يديه.
- ما تخافيش، صدقيني مش هيضربك تاني، وأنا مش هقوله، جدو مش كذاب.
خجلت نادية مِن قولها، وتحدثت موضحة:
- أنا آسفة يا جدوا، مش قصدي، قبل كدة شيماء اتكلمت في المدرسة مع مُدَرِسة، عملوا لها استدعاء ولى أمر؛ فبابا عرف وضربها لحد ما كل مكان طالته العصاية ورم، حتى أنا ضربني عشان أخاف وما اعملش زيها.
ربت على كتفها بود:
- مش زعلان وما تخافوش، أولًا جدو وعد إن ده سر، ثانيًا بقي أنا هكلم أبوكم بالطريقة اللي يحبها وفيها مصلحته.
صدح رنين جرس الباب؛ وقد وصل الطعام الذي طلبه الجد عبر الهاتف، استلموه ووضعوه على المائدة، داعبت أنفهم رائحته الشَّهيِّة؛ فابتسمتما بسعادة كبيرة، وتحدثت شيماء بنشوة وتساءلت نادية.
- ريحته حلوة قوي يا جدو.
- ده كباب وكفته!!
- بالظبط يا حبيبة جدو، أنا هنادي ماما وأنتم هاتوا أطباق وعيش من المطبخ.
ذهب الجد إلى ابنته سهام التي بالظاهر جالسة تشاهد التلفاز، ولكنها بالحقيقة بعالم أخر، تبتسم بانتصار، نظر إليها والدها وهي غير منتبهة، يدرك ما تحدث به نفسها، سحب نفس عميق واغلق عينيه بيأس مِن ابنته، حاول تجنب نفوره مِن أفعالها مؤقتًا، وقطع شرودها متحدثًا:
- تعالى اتعشي معانا.
تحرك لمكان الطعام وهي لحقته تحدثت باشتهاء.
- يااه بقالي كتير ما اكلتش كباب، براحة منك لها عـ...
قاطعها والدها، ولم يمهلها الوقت لتكمل كلماتها، بينما نظرت إليها ابنتيها بتعجب:
- سبيهم براحتهم، لو خلص هجيب تاني، وزي ما انت شايفة جايب اكل يقضي عشرة مش اربعة منهم طفلتين.
حاولت تبرير أسلوبها:
- أنا مش قصدي، أنا...
- خير يلا يا بنات باسم الله كلوا براحتكم.
سعدت الطفلتان من معاملة جدهما الليِّنة، وتلذذًا بطعام اشتهيتا تذوقه، خلدتا للنوم بغرفة خالتهما المتوفاة، ولأول مرة تنعما بنوم هادئ دون خوف.
يوم حسن رتيبًا كحياته، استيقظ بالصباح على حركة والدته بالخارج، ازال آثار نومه واستعد لبدء يومه وارتدي الزي المدرسي، استيقظ أخوه هاني على حركته وبروتينية تبادلا التحية الصباحية، خرج حسن مِن الغرفة، قابل والدته وهي باتجاهها للمطبخ.
- صباح الخير يا حسن الساندوتشات في الكيس على الترابيزة وأنا بعمل الشاي افطر عشان تلحق المدرسة.
- شكرًا، هافطر مع أصحابي.
خرج مِن المنزل، وقبل ذهابه للمدرسة تناول طعامه على عربة الفول التي تتمركز بالقرب مِن منزله، اعتاد تناول إفطاره منها منذ ان عاد للحياة مع والدته، شرد وهو يتناول الطعام لذلك اليوم الذي قرر والده إعادته إليها، قبلها سمع حديث والده مع زوجته
- عندي خبر مش عارف حلو ولا ووحش.
- قول وأنا أحدد حلو ولا لأ.
- جالى عقد عمل في دولة عربية.
- بجد! احلف كده! يا فرج الله، طيب دي مش محتاجة سؤال ده خبر بمليون جنيه.
- والولاد ومدارسهم!
- مالهم الولاد نظبط مدارسهم هناك نسأل في السفارة ولا في المدرسة دول هما اتنين.
طالعها غَاضِبًا:
- مش تبطلى طريقتك دي، ما تنسيش ابني الكبير، حسن وسامر وسعاد تلاتة.
نظرت إليه بتيه وشردت لثوانٍ، ثم تحدثت:
- ما اقصدش ربنا يخلي، بس الموضوع إني بفكر في حاجة كدة، واللى تشوفه طبعًا.
نظر إليها باهتمام واصغاء:
- أنت عارف أنك غالي عليَّا وما يخلصنيش أشوفك تعصي ربنا واسكت، أنت أخدت الولد مِن أمه غَصْب وهو في حضانتها، بس هي كانت كل فترة تيجي تشوفه، صحيح كانت تتخانق وتشدوا مع بعض، بس بتشوفه ويشوفها، لكن لو خدته وسافرت كمان تحرمهم من بعض خالص، مش عارفة، ذنب كبير يا حبيبي أخاف عليك من حساب ربنا، واللي تشوف فيه الصالح اعمله.
تركته بالغرفة توقن أنها أصابت الهدف، ودقت على وتره الحساس، فبالرغم من كونها هي من دفعته سابقًا لإبعاد حسن عن والدته، امعانًا في أذية كلاهما، إلَّا أنها هي التي تدفعه الآن للصفح والعدل أيضا ليس إلا لإبعاد حسن عن نعيم الفترة القادمة، التي استشعرت إنها ستكون قفزة عالية تدفع بهم للراحة والرفاهية، ولا ترغب لأبن زوجها من امرأة سواها، أن يحيا النعيم معهم، فهي لا تعد حسن ابن له.
مال إلى حديثها فهو من البداية لم يشعر بالراحة، ولكن تملكه العِنْد والكِبَر يدفعاه إلى تلك الأفعال، بالإضافة إلى كلمات زوجته المسمومة والتي تعزز روح الانتقام بداخله، فحدث نفسه بصمت: «يعني اتراجع دلوقتي، واسيب لها الولد، هتفتكر كده إنها انتصرت عليَّا وإني استسلمت لها، طيب وانا يهمني رأيها في إيه؟ ومن امتي؟! طظ في رأيها، المهم أكون مرتاح، ولما اسيبه لها هرتاح فعلًا، وأكيد هبقي أجيب له اي حاجة وأنا نازل أجازه، ما هو ابني بردو، للأسف أنا اللي اخترت غلط في الأول وأخدت بالمظاهر، أقول إيه؟ نصيبي بقي».
أفاق حسن من شروده، يتذكر تغيُّر والده وكثرة شروده بينما هو يتابعه بصمت؛ فبالرغم من صغر سنه أيقن حدوث حرب بداخله، ليس من أجله إنما من أجل المظاهر وشكله الاجتماعي ووضعه، كما تذكر زوجة والده التي تفننت وقتها في إيجاد المشاكل والخلافات معه، والتي تنتهي به معظم الأوقات به مُعَاقَب، حتى أن والده كسر ساقه بإحدى المرات وكانت الفاصلة؛ فباليوم التالي حمله وذهب به لوالدته، كان حسن ابن العشرة أعوام، تضاربت أحاسيسه، بين اشتياق لأمه ورغبة في التلذذ بدفء أحضانها ونعيم حنانها، وألم حاد يفتك بقلبه إثر تذكر كلمات زوجة ابيه السَّامَّة التي استطاعت التوغل بداخله فأحدثت فجوة كبيرة وشرخ متوغل في علاقته بوالدته، اغمض عينيه بعذاب يتذكر لقائهما.
وصلا فطرق والده الباب، يرتسم على وجهه علامات الغَضَب والسَّخَط، فتح له زوج والدته تبادلا نظرات ناريَّة، تأجَّجَت نظرات والده بغَضَبٍ وغُلِّفت نظرات زوج والدته بسخرية وسَخَط، طال الصمت مُشْتَعِل بنظرات حَـارقة فتسَلَّلَ اليأس لصَدْر الصبي، قطع تراشُق النظرات صوت والدته:
- كل ده بتفتح الباب؟ مين جيه؟
رفعت عينها؛ فوجدته أمامها تساءلت بسخرية لاذعة:
- مش معقول! جاي لحد هنا! مش خايف أعمل زيك، ألِمْ الجيران وأعمل عرض قدامهم! خير جاي ليه؟ أكيد في مصيبة.
خطا للداخل بدون استئذان، وتحدث بتهكم جلي، ووضع حسن على أقرب كرسي قابله.
- أخاف!! بطلتها من زمان دي، ولما أحب أخاف أكيد من هخاف منك أو منه -واشار إلى زوجها- أنا جاى أعمل هدنة معاكِ عشان ضميري يكون مرتاح وأتأكد إني مش ظالمك وإن بُعد حسن عنك مصلحة له.
- ياه تعمل هدنة مرة واحدة وجايبه معاك لحد هنا كمان، هي المدام أعلنت العصيان ومش قادرة تتحمله خلاص، والشو اللي عملته أخر مرة جيت لك ده كان إيه؟! ومن جهة ظُلْمِي فأنا داعية عليك دعا ربنا يجعله من نصيبك.
- اتلمي أحسن لك، اللي بتتحامي فيه ساكت من الصبح ما نطقش كلمة واحدة، أنا لو مكانه كان زماني ارتكبت جريمة.
أجابته بثقة واستفزاز:
- أنت عارف أنك تستاهل القتل، وأنك مستفز، جاي بيت طليقتك وبترمي بلاك علينا، المهم قول لي خير جاي ليه؟ أكيد مش جايب حسن عشان اشوفه، أنا ممكن اعمل لك محضر إن الولد رجله مكسورة.
- ما قولنا كلهم معارفي بكام تليفون نعكس الحقايق وتبقي أنتِ اللي غلطانة.
- خلص وقول: أي رياح سيئة أتت بك؟!
- اسمها رياح طيبة مش سيئة، معلش الجهل بقي، المهم أنا فكرت كتير، لقيت إني أعطيكِ فرصة يمكن تنجحي كأم في اللي ما قدرتيش تنجحي معايا فيه كزوجة.
التفت إليه منفعلة من وقاحته المتناهية فأكمل ببسمة لَزِجَة لشعوره بانتصاره عليها في معركة الحديث:
- هاسيب الولد معاكِ فترة، أني لاحظت إنه بقي عدواني، يتعمد يثير المشاكل مع مراتي وإخوته حتى في المدرسة وكتير نصحوني بالتفاهم معاكِ، وأقنعوني إن ده هيأثر بالإيجاب عليه، يعني أنا بعمل لمصلحة الولد.
- وافتكرت مصلحة الولد مرة واحدة! مش مصدقاك، بس كله عشان حسن، وعلى كده ناوي تسيبه قد إيه؟
- أنا مضطر أسافر بعد أسبوع، لما أرجع لو كان اتحسن أخيره يحب يعيش مع مين؟
- كمان تخيَّره!! طيب ما جبتش هدومه ليه؟ ما تقولش كنت فاكر إني هرفض!
- الهدوم في العربية تحت هنزل اجيبها.
عند هذه النقطة خرج زوجها من صمته:
- سبحان مغير الأحوال، نصدق إحنا كدة إنك بقيت حمامة سلام مرة واحدة، أكيد في إنَّ وأنَّ كمان، هو السفر ده مدته أد إيه؟
تحدث مكملا سلسة استفزازه:
- تصدق نسيتك، أصلي ما شوفتكش ولا أخدت بالي.
تحرك يحضر متعلقات الصبي، وحسن يتابع وبداخله ابتسامة تهكم عملاقة متوَّجة بالحُـزن والأَلَـم، بينما أكمل زوج والدته:
- مش مطمن، طليقك ده داهية، تلاقيه مسافر شغل وسايبنا هنا بنعافر عشان العيشة، مش عايز ابنك معاه بيخف الشيلة، فملقاش غيرك يرمي له الولد.
- الولد ده يبقى ابني يا ريت تاخد بالك.
أشاح بيده رافضًا واتجه لغرفتهما سَاخِطًا، ووُلِد شعاع أمل بداخل حسن، لكن ليس كل ما يريده المرء يُدركه، فلدي والده زوجة أب تسقيه السُّمُوم، وهنا زوج أم يذيقه العَلْقَم.
عاد حسن لحاضره، أسرع إلى مدرسته يستقبل يومه بروتينية ويكمله حتى ينهيه بذات الروتين الأخْرَق.
بفيلا صغيرة الحجم، كبيرة بمشاكلها وتناقضاتها، أيقظت الخادمة رامي يستعد ليومه الدراسي، جلس وحيدًا على مائدة كبيرة، وضع عليها طعام راقي، به كل ما لذَّ وطاب؛ فوالديه لا يهتمان بالتجمع معه بأي وجبة، يعترف أنه بهذه المرة شعر بالراحة، لم يجد لديه إي رغبة لتناول الطعام، فتحرك نحو السيارة التي خصصها له والده بسائق خاص لتوصله من وإلى المدرسة، وبدأ يومه كالمعتاد، مر الوقت بتقليدية شديدة وعندما عاد بعد نهاية اليوم الدراسي فوجئ بوالديه بالمنزل على غير العادة، فالمعتاد أن والده إما بالمستشفى، أو بالعيادة ووالدته تلاحقه دومًا، لعلها تطبق عليه متلبسًا بخيانتها، وبالرغم من إنها تفعل، إلا أن والده يستطيع بحرفيه متقنة قلب الحقائق، وجعلها تبدو أمام نفسها بلهاء عديمة الثقة بالذات. قطع حبل أفكاره صوت والديه، فوالدته كالعادة تصرخ في وجه والده:
- وكمان عازمها في حفلة النهاردة، أنت إيه؟! خلاص مش فارق معاك حاجة بايع للنهاية؟
- تاني! أنتِ تاني! مفيش فايدة أبدا! هتعيشي وتموتي كده.
لم يهتم رامي هذه المرة، ولم يستمع لحوارهما، الذي هو أكيد من أن سيرته ستمر عابرة بجدالهما، للمعايرة فقط، ولكنه قد اتخذ قراره بالانفصال عنهما وجدانيًا، فهما لم يشعرا به يومًا ولن يفعلا.
التف حوله فوجد حركة زائدة بالمكان وطاقم من الخدم كالذي يطلبه والده وقت الحفلات فأيقن بإقامة حفلا ببيتهم اليوم، ثم ترددت بعقله جملة والدته بان أباه دعا سيدة تعتقد أنه يخونها معها، فابتسم بسخرية، ترك المكان وصعد إلى غرفته، اغلق باباها بإحكام فغرفته الوحيدة التي تحتويه وتحتضنه، لكنها لا تمنع عنه كلمات والده فما زالت تصل إلى مسامعه، وضع كفيه على أذنيه يغلقهما بكل طاقته يحكم صمَّها، واغلق عينيه هروبا من واقع لُفِظ منه.
بالمساء بدأت استعدادات استقبال المدعوِّين، الذين بدأ توافدهم للمكان، يتعاملون بأريحية مطلقة والبعض منهم يأخذ رفيقه وينزوي به بعيدا عن العيون.
التزم رامي غرفته لا يريد الاختلاط بهم، يشعر بالاختلاف والنُّفُور منهم بذات الوقت، وبعد قليل وجد والده يقتحم عليه الغرفة بغَضَب، يوبخه:
- ممكن أفهم ما نزلتش لحد دلوقتي ليه؟ حتى مش بتستعد للنزول.
أجابه برتابة واحترام:
- آسف يا بابا مش عايز أنزل، وأعتقد إن ماحدش من ضيوفك هيهتم بوجودي، هما جايين لحضرتك، ومش بيشفوني أصلا.
- هتنزل؛ لإني عايزك تنزل، لازم الشكل الإجتماعي يكمل، ده غير إن في صحافة وتصوير، خمس دقايق تكون تحت.
تنهد رامي بيأس، هو دائما صورة على الهامش، كتلك الفاصلة بين العبارات أو النقطة التي تنهي الجملة، ليس إلا، متي يشعر بأهميته وقدره لدى أبويه؟! سؤال يجهل إجابته.
امتثل رامي لأبيه ولحقه بعد أن ارتدي ما يناسب الحفل، مر بعض الوقت تمت فيه بعض اللقاءات الصحفية مع أبيه طبيب التجميل المشهور والناجح مع أسرته زوجته وابنه وحيده المتفوق واجهة اجتماعية مضيئة.
انتهي العرض أخيرًا، تمت اللقاءات الصحفية، التقطوا الصور مع المشهورين وأعلام المجتمع، مدحه الحضور كطبيب تجميل ناجح ومبدع بمجاله، تملك الملل من رامي، يتعجب كيف يتحملون تلك السـخافات! وبعد فترة وجد الجميع تخلوا عن تجملهم أمام عدسات الكاميرا، يتصرفون بطبيعتهم، فوجئ بأفعالهم، بل صدم، بمعظم الحفلات يحضر فقرة الصحافة لإرضاء لوالده، ثم يلوذ بغرفته حين يُسمَح له، لكن هذه المرة لم يفعل أي من والديه، ولم يستطع رامي استنتاج أيرغب والده بتواجده بينهم أم غفل عنه؟! بحث عنهما دون فائدة، أين ذهبا؟ سؤال لا إجابة له، سأل البعض عنهما حتى سئم؛ فانتظر ظهور أحدهما وليته لم يفعل! فبعد فترة وجيزة جحظت عيناه، ودارت برأسه علامات التعجب؛ فالكل يتعامل بحميمية شديدة، أصوات ضحكات خليعة عمَّت المكان، رجال يقفون مع نساء بطريقة خارجة، والأعجب وما لم يفهمه رجال مع شباب ذكور يعاملوهم بحميمية كحبيب، اتسعت عينيه بصدمه، شعر بالنُّفور ورغبة قوية تدفعه للفرار، لم يجد سوى غرفته ملاذا للهرب، وفي طريقه إليها حلَّت به الطَّامة الكبرى، بإحدى الغرف المفترض إنها فارغة، سمع أصوات ميزها، لرجل نبرته صارمة، يوجه حديثه لرفيقته، يوبخها يلفظ بسباب وضيع، يعدد لها أخطاءها، وهي تعتذر برجاء تبرر فعلها، فحدثها بثبات وقوة يُعْلِمها ببداية الحساب، والأعجب أمره لها بالتَّخلِّي عن بعض ملابسها، علامات صدمة واستفهام اعتلت معالمه، نَشَـاز وتَـلوث، خشى إن سَقَط كامل القناع تنْهَار صورة والديه وتتحَطَّم؛ فأسرع لغرفته أغلقها عليه وأحكم إغلاقها بالمفتاح، ارتَجَفَت قدماه ما عادت تحمله، جلس بأقرب كرسي قابله، اطبق جفنيه بحسرة وسقطت دموعه، اقشعِر جسده واهتز خوفًا، ما عاد البيت يعني الأمان، بل الخواء، الوحدة، التهميش وأخيرًا التدنيس.
بدَّل ملابسه ودخل فراشه استلقي عليه يضم نفسه بوضع الجنين يحاول محو الصور التي شاهدها، وما زالت دموعه تهبط دون توقف، دار بعقله عدة أسئلة حاول استبعادها؛ فلحَّت عليه وأصرت أن تتواجد بالأفق، تري اين ذهب والداه؟ وما يفعلان؟ أيعلمان بما يدور بغيابهما؟ ولمَ يسمحا بتلك الأفعال؟ أسئلة أرهقته واجتهد ليبعد إجابتها عن عقله، هجره النوم وغَزَاه الأرق؛ فظل مستيقظًا للصباح.