رواية علاقات سامة الفصل الرابع
مع شقشقة العصافير وبداية خيوط النهار، ومع صوت أذان الفجر، أسرع رامي بالاتصال بجده ملاذه الوحيد من واقعه الألِـيِم، يوقن تيقُّظه لتأدية صلاة الفجر بالمسجد كما اعتاد.
استيقظ الجد يشعر بانقِـباض صدره، اغتسل وتوضأ وهو مشغول البال، يود مهاتفة حفيده، ليطمئن عليه، ولكنه يخشى أن يزعجه، ارتَـجف قلبه خوفا حين وجد اتصال منه، أجاب مُتَـوجِسا موقن بحدوث خطبٍ ضخمٍ يجهله:
- رامي أنت كويس يا حبيبي؟ بابا وماما كويسين؟ طمني يا حبيبي!
رد عليه ولم يستطع منع نفسه من البُـكاء، جسده يزلزل من شدة الخَـوف:
- مش كويس يا جدو، مش كويس، خدني معاك، لو بتحبني بجد؟ مش زي بابا وماما، تعالى خدني، مش عايز أفضل هنا، أنا هسمع كلامك مش هضايقك والله! بس خدني من هنا يا جدو.
- حاضر يا حبيبي ما تخافش، هاجي اشوفك واخدك معايا، ولو السبب اللي تعبك فضل موجود، هخليك تفضل معايا على طول، ما تخافش جدو موجود ومعاك وبيحبك قوي.
- ما تتاخرش يا جدو، أنا خـايف قوي، ما نمتش من الخوف.
صمت للحظة لا يعي ما أصاب حفيده وألمَّ به وجعله بهذه الحالة المزرية، عقله يخيره بوقوع كارثة، لكنه حاول بثه بعض الأمان والاطمئنان:
- ما تخافش يا حبيبي، والله بيحبوك، الدنيا بس أخداهم شويتين، مسيرهم يفوقوا في يوم، أنا جاي لك يا حبيبي، مسافة الطريق.
لم يمهل الجد نفسه فرصة للتفكير، فهو تيقن ألا وقت له، أبدل ملابسه ذهب للمسجد أدي صلاته وتوجه مباشرةً إلى حفيده.
يترنح يمحله، لا تطاوعه قدميه كجسده، يشعر أنه هلامي، يحاول الصعود لغرفته بعد حفلة صاخبة شابها الكثير من الفَوَاحِش والفِسْق، اقترب من السلم المؤدي للغرف بعد فترة لا بأس بها من المحاولات، لم يكد يرفع قدمه على أول درجة واستمع بصوت والده، ينادي باسمه، دُهش وحاول التأكد من حقيقة وجوده لا يهيأ به من أثر الخَمْر. خطا والده إليه مصدوم غير مصدق ناظريه، لم يتوقع بأسوأ توقعاته أن يصل ابنه وحيده لهذه الدرجة من الفجور، تحدث ماهر بنبرة عكست مشاعره وحالته الثَّمِلة:
- بابا!! في حاجة ولا إيه؟ أول مرة تيجي بدرى كدة، وكمان من غير معاد!
أجابه والده بصدمة وغَضَب جم؛ فما رأه من فوضي بالإضافة إلى حالة ابنه جعله يتكهن سبب زُعْر حفيده:
- طبعا كان لازم استأذن عشان ما أشوفش الحالة اللي أنت فيها، بالذمة مش مكسوف من نفسك وأنت مش عارف تقف، هي دي الأخلاق اللي ربيتك عليها، لو ربنا قبض روحك دلوقتي هيقبضها على إيه يا دكتور؟ يا ترى ابنك شاف إيه؟ وصله للحالة اللي كلمني بها؟ أنت أب! أنت!!
رد بغَضَب من ابنه الذي فضحه لدى والده:
- رامي كلمك! قال لك إيه؟ مش هيجيبها لبر الولد ده، أنا هاعرف اربيه.
- ده لو أنا سيبته معاك أصلا.
- قصدك إيه يا بابا؟
- بابا! أنت خليت فيها بابا، أنا طالع لحفيدي، ما تنامش اخلص معاه الاقيك فايق ومنتظرني في المكتب.
صعد إلى رامي طرق الباب بلطف وحدثه بلين:
- افتح يا رامي يا حبيبي، جدو جه يطمن على حفيده الغالي.
استجاب رامي وما زال على حالته، عينيه شديدة الحُمرة وجسده ينتفض بالكاد يقف، ألقى بنفسه بين ذراعي جده يلتمس فيهما الأمان، شدد الجد من ضمه، تملكه الخَـوف على حفيده ثمرة الغد، زاد قلقه عليه برودة جسده، وكأنه بزمهرير الشتاء؛ فأحاطه بحنانه وقف محله ثواني حتى استطاع رامي الحركة، ثم حاوطه بحماية، خطا لداخل الغرفة حتى الفراش جلس وأجلسه جانبه ولا زال يضمه يبثه الأمان، ظل يربت على رأسه حتى هدأ؛ فرفع له رأسه ليتمكن من النظر إليه؛ فرسم الجد على وجهه بسمة حنونة مطمئنة، ثم سأله:
- ما تخافش جدو هنا يا حبيبي، بالراحة كدة احكي لي مالك ووعد مش هسيبك غير لما أعمل اللي يريحك، وأكون مطمن عليك، اتفقنا.
أومأ له وقص لجده ما حدث واخافه، حكى له الأشياء وبعض الكلمات التي لم يفهما أو يدرك معاناها وبالرغم من ذلك ارتجف منها هلعًا.
احتقن وجه الجد من شدة انفعاله، عقله لا يقوى لترجمة مدى فُجُـور تلك الحفلات المقيتة، تساءل، كيف وصل أبنه لتلك الدرجة من التَّدَنِّي؟! أتلك الأموال التي ينفقها على ابنه الوحيد؟! أينفق عليه من أموال مشبوهة؟! ونمى إلى رأسه ذات السؤال الذي دار بذهن رامي أين كان والداه؟ وما سبب اختفاءهما؟ وأين؟ نظر إليه وأعاد البسمة إلى وجهه غصبًا:
- اللى يريحك تمام، غير هدومك وجهز لك شنطة صغيرة لحد ما أقرر هأعمل إيه بالظبط.
- أنا خايف بابا مايرضاش زي كل مرة، ما تسيبنيش يا جدو.
- المرة دي مختلفة عن كل مرة، تأكد إني مش هاتراخي أو اتساهل في حقك أبدًا.
ربت على وجهه بحنان، ثم توجه إلى غرفة المكتب حيث ابنه، اقْتَحَمَها؛ فانتفض ماهر واقفًا وخطا تجاه والده:
- خضتني يا بابا.
- عمرى ما تخيلت أنك توصل للدرجة دي من الانحطاط، وتبيع الأخلاق عشان شوية فلوس وناس رِعَـاع، فين الأخلاق اللي ربيتك عليها؟! فين الدين؟! فين خوفك من ربنا؟! يا أخي اتقي الله في ابنك وشغلك، صون حُرمت بيتك، ولا أنت بقيت.. والله مش قادر انطقها!
انْتَفَـض ماهر وقطع باقي المسافة ووقف امام والده مباشرةً، نظر لوجه والده وتحدث غَاضَبًـا:
- مش عارف الولد ده قالك إيه؟ بس أكيد كذب.
صَفَعَه صَفْعَةً مدوية رُجَّت بالأرجاء بصداها، اعقبها بكلمات أكثر قوة ووجعًا:
- الدكتور المحترم اللي اسمه بيرج الوسط الفني وسيدات المجتمع اللي المفروض أنه راقي، الدكتور الناجح ماهر الديب، بيته مفتوح للدَيَــاثة والشُّــذُوذ والعلاقات المُحَرَّمَة، بيتك بقي بيت دَعَـارة في شكل حفلات حمرا يا دكتور يا مشهور.
احتقن وجه ماهر من الغَضَب وكاد أن يتحرك إلى ابنه:
- أنا هأربي الولد ده من أول وجديد عشان يقول القَـذَارة دي على أبوه.
جذبه من مرفقه بعنف، جعله يواجهه من جديد:
- ابنك مش فاهم اللي شافه، ما تتكلمش معاه عشان هتفضح نفسك قدامه أكتر، لما تقوله معني اللى شافه، ولأن فيه نبتة طيبة خاف وأدرك إنه مخالف لموازين الطبيعة.
أخفض ماهر وجهه لا يعلم أيشعر بالخزي من أفعاله؟ أم حزن لكشف ستره أمام والده؟ أكمل الجد بتأكيد:
- رامي هايجي معايا فترة، وبعدها هقعد اتكلم معاك، اشوف هعمل إيه؟ وأنا بقولك من دلوقتي يا ماهر احذر؛ لأني مش هاتساهل في أي حاجة تخص رامي أبدًا، مش هسمح لك تُفْسِده، حتى لو منعتك بالقوة.
- أنت خايف على ابني مني، أنا أبوه ويهمني مصلحته، والحفلات دي شغل صحافة وصيت، مهمة زيها زي كفاءتي بالظبط، من غير الحفلات دي مفيش حد يعرفني، ولا يسمع عني، الطبقات دي هي اللي تقدر تدفع لي اللي استحقه.
- أنت بتكابر ولا بتزيف الحقايق، الحفلات دي دعَــارة وقَـرف، والفلوس اللي جاية من وراها مشْبوهة، مش قادر أقول حرام، قلبي مش مطاوعني، وما تحاولش تفهمني إن كل دكاترة التجميل بيعملوا في بيوتهم كده، لا حول ولا قوة إلا بالله!
حدثه وهو يغادر المكتب:
- رامي جاي معايا، لما اكلمك ترد عليا، وإلا والله العظيم اجي لك المستشفى واقلب الدنيا.
تركه وخرج من الغرفة، واغلق الباب خلفه، وجد رامي يقف بقلب المكان يلتف حول نفسه مرتجفًا، فاقترب منه ووضع يده على ظهره ربت عليه بحنان وتحرك معه مغادرًا.
طوال الطريق التزم كلاهما الصمت، يشعرا بالخوف وعدم الاطمئنان كل بطريقته ولأسبابه، وازداد على الجد إحساس الحَسْرَة على ابنه الوحيد، وصلا فحاول الجد إزالة التوتر فتحدث بحنان:
- ادخل نام شوية يا حبيبي، أنت ما نمتش؛ فلازم ترتاح شوية، ما تخافش من أي حاجة يا حبيبي، نام وإطمن.
أومأ دون حديث، وكأن الكلمات هربت منه أو ربما عقد لسانه، تحرك إلى غرفته التي اعتاد المبيت فيها حينما يأتي، القى بنفسه على الفراش، شعر براحة ودفء افتقده في بيته مع والداه، ويا للعجب! فدائما يشعر مع والديه بالغربة وكأنه دخيل عليهما ولا ينتمي للمكان، أخيرًا اغلقت جفونه مطالبه بالنوم؛ فغط بنوم عميق.
أسبوع مر على الجميع تشابهت أحوالهم فطيف ما زالت تشعر بوجود الضابط المجهول حولها في الجامعة وبمحطة المترو تتلفت حولها مرارًا، تشعر بقربه منها، تعجبت من نفسها، واشفقت عليها صديقتها، ظنًا منها إن حالتها تلك ما هي إلا أوهام من نسيج خيالها، هربًا من واقع ألِـيم قاتم.
حسن أسير لذكرياته السَّوداء لوالدين أغفلا حقه، اشبعاه اهمالًا، نسياه وهو أمامهم، وانشغلا عنه بباقي أبنائهم، عاش مع كل منهما فترة ذاق خلالها خِـذلَانا مريرًا، يشعر دوما بالتفرقة بينه وبينهم يجهل السبب، أعلة به؟ أم بهم؟
شيماء ونادية بأكثر أيامها ازدهارًا، تعيشا دلالًا من الجد لم تدركاه يومًا، أعلنت ضحكتهما الصافية عن نفسها دون خوف، ذاقتا طعم السعادة أخيرًا، ما أثار العجب أو الأسف عدم شعورهما بالاشتياق أو الحنين لوالدهما، والأصعب أن تمنيتا عدم الرجوع، وأن تظلا دوما هنا، ترغدان بحب وحنان الجد، فحتى والدتهما تتعامل معهما أمام الجد بطريقة مختلفة، ولمَ لا؟! فهي تأخذ ما تريد منه؛ لذا تجتهد لتحوذ رضاه؛ فرضائه ككنز على بابا، مفتاح السعادة والمال، أما الجد فقد توصل إلى حل سريعا ينقذ الفتاتين من بطش والدهما.
رامي ظلت تلك الحفلة السوداء تطارده بأحلامه تؤرقه، تفزعه من أعمق سبات، فسَّر وتدارك عقله بعض مما رأه وسمعه، وحمد ربه أنه لم يفهم الباقي واجتهد لألا يفعل، أما جده ففكر مليا فيما سيفعله مع ابنه، يحاول جاهدا انقاذ حفيده من مستقبل مُظْـلِم فَـاسِد إذا استمر وبقي مع والده.
بكلية التجارة بعد انتهاء إحدى المحاضرات خرجت طيف مع سهى من داخل إحدى القاعات تشعرا بالملل وبعض الصُّداع:
- يا ساتر، إيه الرغي ده كله؟ اأنا ماغي صدعت والمدرج كان دوشة بطريقة بشعة ما سمعتش نص المحاضرة.
وكعادة طيف مُؤخرًا تلتفت يمينًا ويسارًا، فأكملت سهى مشفقة:
- بطلي تتلفتي حواليكِ كده، اللي في دماغك ده تهيؤات.
نظرت لها بحزن، تعلم أنها محقة، لكن شعورها به قوي، قلبها ينْتَفِـض فرحًا، تزداد ضرباته وتتضاعف، تتمني رؤياه، لا تعلم لمَ؟ تشعر بسعادة غير منتهية إن لمحته، حزنت سهى من أجلها وتحدثت بأمر أخر:
- الدكتور أهو، هأسأل على حاجة وارجعا لك.
أومأت لها وواصلت توزيع نظراتها يمينا ويسارًا، تشعر به بالقرب، تتمنى أن يصيب حدثها، وبالفعل رفعت عينها فتلاقت مع عينيه، رقص قلبها وتلاحقت دقاته، كان على بُعد عِدَّة أمتار، ينظر إليها ببسمة عريضة، يحمل باقة ورود مزينة بألوانها الصفراء والبيضاء يتخللها اللون الأحمر، نظرتها له وبسمتها التي ارتسمت على وجهها بسعة جعلته يخطو إليها بثقة:
- فاكراني؟ صح؟
أومأت باسمة، فبادلها الابتسام مسترسلًا:
- كويس.
تبادلا النظرات لثواني وترقصت القلوب، ثم قطع الصمت سؤالها:
- حضرتك جاي لحد هنا.
- حضرتك! أممم بداية مش حلوة.
تحولت تعابير وجهها إلى علامات تعجب، فتحدث يوضح قصده:
- أصلي كنت عايز أسألك على حاجة ومش هينفع لو اتكلمنا رسمي هأحرج أسأل.
- ظابط وتحرج!
تحدث بحرج أصابه من وقع كلماتها:
- يعني الظباط مش بشر وعندهم شعور؟!
حاولت تصحيح ما أفسدت، كادت ان تبْـكي من فرط خجلها:
- أنا.. أنا آسفة مش قصدي أنا...
- حصل خير، مش قصدي احرجك وبعدين احنا احرجنا بعض يبقى خالصين.
ابتسمت للطف أسلوبه، أجلت صوتها وتحدثت:
- خلاص لو خالصين أسأل اللي كنت عايز تسال عليه.
- كنت عايز أقول لواحدة إنها شغلتني، وإني حابب اخطبها لو موافقة، بس هى لسه ما خلصتش الجامعة، وكنت جاى اصارحها واشوف ردها.
شعرت بغصة مُؤلِمة وانسحاب روحها، يُريد غيرها ويستشيرها هي، حاولت جاهدة اخفاء خيبت أملها، تحدثت ببسمة مرتعشة تخفي معها سلسلة أوجاعها:
- م مبروك، ربنا يوفقكم، أنا لو مكانها أفضل تصارحني وتتقدم بعد ما أخلص، بتختلف من بنت للتانية، كل واحدة فينا بتفكر بطريقة، لو أعرفها ممكن اقولك هتفضل إيه؟ أو ممكن تسأل صاحبتها هتكون أدرى واحدة بها.
نظر لها ببسمة صافية لم يدرك الحزن المرتسم خلف بسمتها، كيف؟ وهو لا يمعن النظر إليها وكلما فعل يستغفر ربه، ويشيح بصره عنها، أما هي فدائما تغض نظرها لنفس السبب، الحياء.
قصدها بكلماته، شغلته كما شغلها، يتكرر نِصب عينيه يوميًا المشهد الذي تعرف عليها به ونظرتها إليه حتى تحرك المترو وغابت عن ناظريه، وهي ظنت أن مشاعره ملك أخرى؛ فاشتعلت داخلها نيران الفراق قبل حلاوة اللقاء.
قطع افكارها الحزينة صوته، أراد أن يعلمها بطريقة أخرى بأنها هي من يتحدث عنها، ولكن الفكرة الأولى كانت قد رَسِخَت بعقلها، وأَدْمَت قلبها؛ فعجز عن الشعور بالمعني المرسل إليها:
- ممكن تقبلي مني الورد ده؟!!!
نظرت إلى الباقة بتمني أن تخصَّها ليس بديلة لصاحبتها، أبعدت عينها عن الباقة وعنه:
- الورد جميل، ألوانه حلوة قوي، بس للأسف مش ينفع أخدها، أقول في البيت إيه؟ كمان مش بحب أعمل حاجة حاسة إنها غلط.
ازدادت بسمته سعة، وسعد بردها وهى لم تفهم ما دار داخله، اختار زهرة بيضاء كقلبها كما يراها، تعبر عن حبه الصافي والصادق لها، الذي طرق فؤاده دون مقدمات:
- طيب خدي دي بس، حتى عشان الورد ما يزعلش.
نظرت للزهرة ثم إليه، أدمعت عينها، لم تشعر بنفسها وهى تلتقط منه الوردة، فقلبها دلها إنها ستكون الذِّكرى الوحيدة والرقيقة منه، تركها وتحرك مغادرًا وبداخله سعادة غامرة، وهي تملكها شعور الفراق والاشتياق، عادت إليها سهي وسألتها متعجبة:
- مين ده يا طيف؟
طالعتها بحزن جلى، ما عادت تستطيع إخفاءه وتزاحمت دموعها لتتساقط على وجهها:
- هو، هو يا سهى بيحب واحدة تانية، سألني يصارحها إزاي.
لم تدرِ بما تجيب أو كيف تهون عليها؟ فاقتربت منها وربتت على ظهرها بحنان وصمت، لم تكن سهى فقط من تابعت ما حدث؛ فكان هناك من يراقب تصرفات طيف طوال الفترة الماضية، الموظف الشاب الذي استمع لحوارهما سابقا بالمبني الإداري للكلية، يتابعها دون أن تلاحظ، واستطاع معرفة اسمها بالكامل، كما علم من خلال شئون الطلبة عنوان سكنها، والعجب أنه سأل عنها وعلم كل تفاصيل حياتها ورتابتها، كذلك الطريقة التي يعاملها بها والدها، وكيف تزوجت أختها، والأعجب والأغرب انه سأل عن أختها ايضا، كيف تحيا مع زوجها؟
نظراته لها غريبة مبهمة، غير مفهومة، عندما رآها تتحدث مع الضابط غَضَب بشدة، احاطهما بنظرات حارقة مُشْتَعِلَة، لا تحمل مشاعر الغِيِرَة، أو رُبَّما غِيرَته حارقة، انتبهت سهى لما بيد طيف:
- الوردة دي منه؟ اخدتيها ليه؟ وهتقولي لباباكِ إيه؟!
نظرت لزهرتها بحسرة وتنهدت بألم، تحدثت بصوت مختنق:
- كان عايزني أخده كله، ولما اعتذرت أصر أخد دي، مش عارفة اخدتها ازاي كل اللي جه فبالى أنها ذكرى منه، شكلها هتترمي، زي كل حاجة حلوة في حياتي.
- ذكرى إيه يا بنتي! انتم تقابلتم في المترو وهو ساعدك في موقف رخم، وما حصلش أي حاجة تانية غير دلوقتي، أنا حقيقي مش فاهماكِ.
نظرت إليها بصمت والحزن مرتسم على وجهها، ببالها سؤال واحد كيف تعود بتلك الوردة دون أن يراها أو يلاحظها والدها؟ فأشفقت سهى عليها:
- طيب خلاص ما تزعليش كده، هاقولك تخبيها ازاي، وربنا يسامحني بقي.
- بجد ولا بتقولي كدة وخلاص!
- بجد والله! بصي إحنا نجيب ظرف وحطيها جواه وخبيه في هدومك وأنت داخلة، لما تدخلي تغيري شوفي مكان باباكِ مش بيدور فيه، وخبيها جواه، يعني فوق الدولاب، تحت المرتبة، جوه صندوق، كده يعني.
ابتسمت بسعادة ستحتفظ بذكرى سعيدة، تحيا عليها ما بقي من عمرها، فهي لا تتوقع أن تتغير حياتها يومًا، بل قد تزداد تعقيدًا.
بدأتا بتنفيذ الخطة اشترت الظرف ووضعت الوردة بداخله بعد أن قبلتها بسعادة، دخلت لدورة المياه واخفتها بملابسها وتأكدت أنها لن تسقط منها أثناء الحركة وخرجت إلى سهى سعيدة، فتعجبت سهى من حالتها بصمت، لم ترد افساد سعادتها المزيفة كما تراها.
عادت طيف للبيت بنفس الروتين اليومي تعنيف الأب بدون سبب حقيقي، الاهتمام بالمنزل والطعام وبالأخير الاهتمام بدروسها ومذاكرتها.