رواية الظل المجهول الفصل الثالث
قررت أستخدم خبرتي اللي اكتسبتها من دراستي،وأبدأ أبحث..فتحت الكتب والمراجع اللي عندي على المكتب،وبدأت أقرأ عن الهلاوس السمعية والبصرية،وعن حالات مشابهة لفقدان الإحساس بالواقع بعد الصدمات الكبيرة..لكن كل ما كنت بقرأ، أحس إن حالة الظل المجهول خارجة عن المألوف..مش بس هلاوس أو اضطراب نفسي،لأ..في حاجة متعلقة بتجربة الموت نفسها..كتبتله:
-جربت تحكي لحد من أهلك عنهم.
رده كان صادم أكتر:
-حكيت..بس كلهم بيقولوا إني مجنون.
الكلمة دي خبطت في عقلي..إحساس العزلة اللي بيعيشه الظل المجهول كان بيدمره أكتر من أي حاجة تانية،لكن أنا مش بس مهتم بيه كحالة نفسية..أنا كمان عايز أفهم السر اللي ورا الكلام ده.
قومت بسرعة وبدأت أبحث على الإنترنت عن حالات مشابهة..دخلت مواقع ومنتديات بتتكلم عن تجارب الاقتراب من الموت،وعن الناس اللي حسوا إنهم كانوا ما بين الحياة والموت لفترة.
لقيت قصص كتير، بس ولا واحدة منهم كانت فيها تفاصيل زي اللي كان الظل بيحكي عنها.
كتبتله:
-جربت ترسم أو توصف،لو قدرت تعمل كده،يمكن نفهم هما إيه.
رده جه بعدها بشوية:
-حاولت أرسمهم، لكن كل مرة أمسك القلم، بلاقي إيدي بتترعش..كأنهم مش عايزينني أعمل ده.
في اللحظة دي حسيت إني لازم أخد خطوة أعمق..وقررت أسأله عن الحادثة نفسها بشكل مباشر،قولت:
-يوم ما حصلت الحادثة..إيه آخر حاجة شفتها أو حسيت بيها.
الإجابة كانت مرعبة أكتر من أي حاجة تخيلتها:
-شوفت شخص،كان واقف في نص الطريق..لكن لما قربت منه اختفى.
كل التفاصيل دي كانت بتزيد لغز القصة تعقيدًا..قررت أبحث أكتر، وأبدأ أسأل ناس متخصصين في مجال علم النفس الروحي أو اللي بيتكلموا عن الطاقة والأبعاد التانية.
لكن قبل ما أعمل أي حاجة،كتبتله:
-أنا مش هسيبك..هنلاقي تفسير لكل اللي بيحصل.
ما كنتش عارف إذا كنت بواسيه ولا بواسي نفسي.
بعد ما كتبتله الرسالة دي، قررت آخد خطوة جادة..بدأت أدور على ناس متخصصين في مجالات غير تقليدية،لقيت شوية أسماء لعلماء نفس وروحانيين بيتكلموا عن الهلاوس الروحية والتجارب القريبة من الموت..كتبت إيميل سريع شرحت فيه الحالة،وركزت على إني طالب بحاول أساعد شخص بيمر بتجربة غريبة،أكدت إني محتاج رد سريع لأن الوضع بيزداد غموض.
بعد ما بعت الإيميلات،حسيت بتعب رهيب..مخي مشحون بأسئلة من غير إجابة،وكل خطوة بحس إنها بتفتح عليا أبواب أكبر من اللي أقدر أستوعبها.
قررت أريح شوية..اترميت على السرير، وغمضت عيني..لكن حتى وأنا بحاول أنام،التفكير كان شغال..صور الشخص اللي كان واقف في نص الطريق بدأت تتكون في خيالي..كأنه بيحاول يوصلي رسالة هو كمان.
حاولت أهدي نفسي وأقول إن دي مجرد خيالات نتيجة للإرهاق..وبعد فترة،ما حسيتش بنفسي غير وأنا بروح في النوم.
شوفت نفسي في مكان مظلم، ما فيش نور غير خيط رفيع جاي من بعيد..حاولت أمشي ناحية النور، لكن رجلي كانت تقيلة،كأني مربوط بسلاسل.
فجأة سمعت نفس الأصوات اللي الظل المجهول حكى عنها..أصوات متداخلة في بعضها، كلام مش مفهوم،وضحك خافت مخيف..وفجأة ظهر الشخص اللي الظل وصفهولي..كان واقف بعيد، وملامحه مش واضحة،حاولت أصرخ وأسأله "إنت مين"،لكن صوتي ما طلعش..قرب مني بخطوات بطيئة..ولما وصل قدامي، مد إيده واداني ورقة صغيرة مكتوب عليها حاجة،حاولت أقرا الكلام، لكن الخط كان غريب، ما فهمتش حاجة،وفي اللحظة اللي رفعت فيها عيني عشان أسأله..لقيته اختفى، والظلام بلع كل حاجة حواليا.
صحيت مفزوع..كان قلبي بيدق بسرعة، وجسمي مليان عرق بالكامل..حاولت أهدي نفسي،لكن شعور الخوف كان لسه مسيطر عليا.
قومت بسرعة،مسكت دفتر الملاحظات، وكتبت كل اللي شفته..كان في حاجة في الحلم ده بتقول إن الموضوع أعمق بكتير من مجرد حالة نفسية.
لقيت الظل المجهول بعتلي رسائل كتير،كلها ريكوردات بصوته..حطيت السماعه في ودني،وبدأت أسمع:
-يوم ما كنت متجه على الجيش،كنت ماسك أوراقي في إيدي،قلبي كان مليان قلق..ما بين فكرة إن حياتي هتتغير بالكامل، وبين الخوف من المجهول اللي مستنيني..كنت شايل شنطتي على ضهري وماشي بخطوات مترددة.
الطريق كان هادي لدرجة غريبة، الشمس كانت حامية،والهواء مليان غبار خفيف..كنت سرحان في أفكاري، بفكر في أهلي،و في هاجر، وفي حياتي اللي اتحولت لذكريات..لحد ما فجأة، من غير مقدمات،حسيت بخبطة قوية..كأن الأرض انشقت وخدتني معاها.
كل حاجة اسودت في عيني،والصوت اتقطع والدنيا كلها بقت زي الفراغ..لما بدأت أرجع لنفسي،فتحت عيني ببطء، أول حاجة حسيتها، كانت حاجة مش طبيعية..الدنيا حواليا كانت بألوان..أيوه ألوان، مش الأبيض والأسود اللي كنت شايفه طول السنين اللي فاتت، الدنيا كانت مليانة حياة..مش قادر أوصف إحساسي،كأن روحي رجعتلي من جديد.
بحاول أستوعب اللي حصل، شوفت راجل واقف جنبي، شكله محترم وابتسامته كانت مطمنة..قرب مني وقال:
-أنت كويس..الحمد لله إنك فتحت عينيك.
الراجل عرفني بنفسه، وقالي إنه ظابط في الجيش،ولما شاف الأوراق اللي كانت معايا،قرب أكتر وقال بابتسامة:
-ده نفس المعسكر اللي بخدم فيه، متقلقش يا بطل،جيشك اعتبره خلص.
كلامه كان مريح،وابتسامته زودت ثقتي شوية..وبعد ما الكشوفات أكدت إن اللي فيا مجرد كدمات بسيطة، خرجنا من المستشفى،والظابط أصر يوصلني بنفسه للمعسكر..ركبت معاه في عربيته،وطول السكة ببص من الشباك،بشوف الدنيا بشكل جديد تماماً..الألوان رجعت والتفاصيل الصغيرة بقيت أوضح،حسيت إني عايش للمرة الأولى.
ولما وصلنا للمعسكر،نزلت من العربية. أول ما دخلت المعسكر، لقيت مشهد غريب جدًا..العساكر واقفين منظمين، وظباط وأمنات الشرطة كانوا منتشرين في كل مكان، برضوا كلهم ثابتين..كانوا بيبصولي، بس مش مجرد نظرات عادية..كأنهم شايفين حاجة غريبة أو اني شخص مش طبيعي..وكأن الزمن وقف،كل واحد كان في مكانه، مفيش أي صوت ولا حركة،كأن الدنيا مشغلينها على "إيقاف مؤقت".
أنا واقف في نص المشهد ده، حاسس إني مركز الكون،وكل العيون متعلقة بيا..في اللحظة دي، حسيت لأول مرة من سنين إن حياتي مش زي أي حد،كان واضح إن فيه حاجة كبيرة مستنيني،حاجة أكبر من مجرد التجنيد أو المعسكر..الألوان حواليا كانت بتقول إن فيه نور جديد في حياتي،لكن النظرات اللي شفتها في المعسكر كانت بتقول إن اللي جاي مش طبيعي، وإن فيه شيء كبير في طريقي.
لما دخلت مركز التدريب، كنت بصحى كل يوم الساعة 3 الفجر، أروح الحمام، وبعدها على صالة الطعام للفطار..بعدها من الساعة 4 الصبح لحد 6،طابور الجري والتمارين الصباحية..اليوم كان عبارة عن تمرين، طابور، وبعدها راحة بسيطة،بعدها طابور تاني، وبعد كده غداء..وبعد الغداء طابور تاني،وبعدين عشاء،وبعدها طابور تالت..وبالليل النوم بيكون الساعة 10،وكالعادة يصحونا الساعة 3..وكل يوم كان نفس الروتين لحد ما أرجع أنام تاني.
وفي يوم..اتعرفت على العسكري بتاع صالة الطعام..ومن خلال كلامي معاه، حسيت إنه فهم إني عايز مخدرات.
وفي ليلة من الليالي، أخدني العسكري ده وطلعنا عنبر مهجور،كان المكان كله مظلم ومخيف،وكان فيه عساكر قاعدين في العنبر،متجمعين وبيشربوا مخدرات.
رديت عليهم السلام،وقعدنا مع بعض في الظلام الطامس.
المكان كان غريب،ومن الحاجات اللي اكتشفتها بعد ما الألوان رجعت،إن لما تقعد في مكان مظلم فترة طويلة، رؤيتك بتبقى أوضح شوية..كنا سبعة وأنا تامنهم، قاعدين بنشرب..وفجأة شوفت واحد واقف في آخر العنبر..قطعت ضحكهم وأنا بشاور علي اخر العنبر وبقول:
-باب اللي هناك ده يا جماعة.
كلهم التفتوا مكان ما كنت بشاور، وقالوا:
-مفيش بيبان غير الباب الرئيسي، ومافيش حد غيرنا هنا.
كده انا فهمت..مفيش غيري أنا اللي شايفه.
تجاهلته،وركزت تاني معاهم في الكلام وكأني ما شفتش حاجة.
بعد تقريباً ساعة كل واحد راح لسريره، كانوا كلهم عساكر قديمة،وأنا الوحيد اللي كنت مستجد.
لسه كل يوم بنفس روتين الطوابير..وبعد شهر ونص في مركز التدريب،كنت خلاص مش قادر أتحمل الشوق لأهلي وهاجر..كانت روحي كلها متعلقه فيهم،وكل ما بفكر فيهم قلبي بيتقطع..كان نفسي أسمع صوت هاجر وأطمن عليها،لكن للأسف أخدوا مننا التليفونات علشان ما نتواصلش مع حد..في اللحظة دي افتكرت الظابط اللي خبطني في الحادث الأخير،قررت أروحله وأطلب منه مساعدة..وبالفعل رحتله وقولتله:
-عندي حاجة ضرورية عايز أكلم فيها عيلتي،وبطلب منك أستخدم موبايلك.
وافق الحمد لله،ورنيت على تليفون هاجر، لكن للأسف كان مغلق..جربت أتصل بأهلي،لكن كل التليفونات مغلقة أو غير متاحة.
شكرت الظابط ومشيت وانا متجه على العنبر اللي المهجور تاني..فكرت في أني أروح أتعاطي المخدرات عشان أنسى كل ده وأهرب من التفكير.
دورت على عسكري صالة الطعام،لقيته مش موجود،حسيت إنه ممكن يكون هو والشلة سبقوني على العنبر..اتجهت على العنبر بسرعة.
وصلت العنبر لكن مفيش حد،دخلت وقعدت لوحدي، وبقيت أفكر في كل حاجة بتحصل حواليا..قعدت تقريباً ربع ساعة،وفجأة في لمحة بصر، شوفت حاجة كانت غريبة خلتني أتصدم..ظهر واحد قاعد جنبي، كان مكتف إيديه وساند بيهم على ركبه،وراسه محطوطة على إيديه كأنه مرتاح..قولتله:
-أنت مين.
رفع راسه،لكن اللي خلاني أتجمد في مكاني،عينيه كانت حمرا زي الدم، ووشه كله شعر، وكان بيئن بصوت واطي..في اللحظة دي،استوعبت نفسي بسرعة،ومقدرتش أتحمل الوضع،جريت على العنبر بتاعي بأقصى سرعة،ودخلت على سريري وغطيت نفسي وانا بتنفض من الخوف".
بعد ما خلصت التسجيل،حسيت بصمت تقيل مش قادر أفسره..اللي حكاه كان مليان خوف وحيرة،وصوته نفسه كان متقطع وكأنه حمقان..حسيت إن اللي قاله مش مجرد حكاية،ده حاجة أكبر من كده،حاجة غامضة ومرعبة..اللي شافه في العنبر كان زي فيلم رعب حي..مكان مظلم صامت تماماً، وكيان غريب يظهر فجأة..بصراحة لو كنت مكانه، كان ممكن عقلي يطير...
