![]() |
رواية لعنة الخطيئة الفصل التاسع والاربعون بقلم فاطمة أحمد
في سرايا الشرقاوي.
أراحت ظهرها وهي تجلس على أريكة مريحة وسط الفناء الواسع وترتشف القهوة بهدوء، مرتدية فستانًا بسيطًا يعكس أناقتها المعتادة وترسم ابتسامة خفيفة على وجهها بينما تستمع لعتاب ابنة عمها سلمى :
- بقى كده يا نيجار متسأليش عننا طول المدة ديه هو جوزك نساكي فينا ولا ايه.
جاءت الخادمة ووضعت فناجين القهوة وبعض الحلوى الشرقية على الطاولة أمامهن فشكرتها نيجار بخفة ثم التفت للأخرى مجيبة إياها بنبرة لينة :
- حقك عليا بس البيت وآدم بيشغلوني اوي بعدين انتي بتعرفي حكمت هانم كل لما استأذن من جوزي يجيبني بلاقيها بتنط قدامي وبتعملي مليون قصة.
همهمت بتفهم ونظرت لوالدتها جميلة التي سألتها :
- طيب انتي ايه اخبارك مع جوزك بيعاملك ازاي اوعى تقولي انه لسه بيؤذيكي.
- آدم عمره ما أذاني يا مرات عمي هو راجل كويس اوي وعلى قد ما تلاقيه جامد ومكشر ع طول بس قلبه حنين وبيخاف ربنا، والحمد لله احنا حلينا مشاكلنا مع بعض واتفقنا ننسى الماضي.
- الحمد لله يابنتي حافظي على بيتك وجوزك واقصري الشر مع حكمت هانم قد ما بتقدري عشان متعملكيش مشاكل معاه.
تحدثت جميلة بجدية وصمتت قليلا ثم استطردت قائلة :
- بس تعرفي الدنيا مقلوبة من إمبارح بعد اللي عمله آدم الصاوي مش معقول اللي حصل ده أنا مصدقتش صفوان لما قالي.
تنهدت نيجار وارتشفت القهوة ببطء ثم تضع الفنجان جانبًا معقبة :
- آدم شايف إن قراره ده هو الصح ساعات الواحد بيحتاج يبعد علشان يعرف يركز في اللي أهم.
تدخلت سلمى في الحوار بشيء من التردد :
- بس يا نيجار الناس كلها بتسأل ليه فجأة عمل كده ده مكنش في أي مقدمات ولا إشارات.
لم ترد عليها الأخرى على الفور فحتى هي تملك نفس الاستفهامات وتتساءل عن سبب قيام آدم بهذه الخطوة الصادمة، ومع ذلك لم تحبذ إظهار حيرتها للملأ فهتفت بهدوء ورفق :
- يمكن آدم مخدش القرار ده فجأة وكان بيخططله من زمان يعني كل كلمة قالها مدروسة.
مصمصت جميلة شفتيها بعدم اقتناع ثم عارضتها وهي تعبث بملعقتها :
- مدروسة ؟ يعني مافيش ضغوط ولا تهديدات ؟ الكلام كتير يا نيجار وأنتي أقرب واحدة ليه.
ضغطت نيجار على يدها خفية وكرهت أن تناقش الموضوع مع أحد خاصة أن آدم نفسه رفض التحدث عنه فقابلت زوجة عمها ببسمة باردة وأوضحت لها :
- آدم مش بيتضغط عليه من حد ومهما كان القرار غريب وصعب بس هو عمل اللي شايفه مناسب وده لوحده بيخليني محاولش استفسر وافهم منه حاجات هو بذاته رافض يتكلم عليها.
في تلك اللحظة فتح باب السرايا فجأة ودخل صفوان وعندما رآها رفع حاجباه بدهشة أخفاها سريعا وهو يهلل :
- الله نيجار هانم عندنا عاش من شافك نورتي بيت الشرقاوي المتواضع.
- أهلا يا صفوان عامل ايه.
- كويس وبقيت أحسن بشوفتك يا مرات العمدة المستقبلي.
قالها بتلاعب ثم ألقى بجسده على الأريكة المقابل لها مستطردا بسخافة :
- ولا استني أنا مش متعود ع التحديث الجديد قوليلي لازم اناديكي بـ ايه دلوقتي بما ان خليفة العمدة مبقاش خليفة.
رسمت نيجار ابتسامة صفراء على وجهها وعقبت :
- ايه خفة الدم ديه كلها جتلي حموضة منها، وعموما ناديني باللي بتحبه المهم يكون مربوط باِسم جوزي انت عارف آدم طول عمره كبير ومش محتاج لقب العمدة عشان تبقى ليه مكانة.
قلب صفوان عيناه ساخرا من صورة الزوجة المحبة بعد أن كانت من أكثر الفتيات خُبثًا :
- حبك ده بيجيبلي حموضة الله يرحم أيام زمان مكنتيش بتطيقي تسمعي اسمه ... المهم انتو كنتو بتتكلمو عن ابن سلطان الصاوي صح شكلي جيت في الوقت المناسب.
تأففت جميلة بصبر نافذ وزجرته :
- ما تسيبنا في حالنا يا صفوان مش ناقصين تهريجك دلوقتي.
ضحك الآخر متظاهرا بالمزاح :
- لا تهريج إيه ده أنا عايز أعرف الحقيقة احكيلي يا بنت عمي هو آدم بيهرب من حاجة ولا الموضوع ليه خلفية سياسية
رشقته نيجار بنظرات صارمة وضغطت على كل حرف تنطقه بينما ترفع حاجبها بخطورة :
؛ آدم مبيهربش يا صفوان اللي بيهربوا هما اللي بيحبوا يستخبوا ورا كلام كتير من غير فعل.
ضيق عيناه وبادلها بنظرات أخرى اِستفزازية :
- تقصديني أنا ؟ والله العظيم مظلوم أنا بس بقول ان القرارات الكبيرة ديه وراها دايمًا حكايات شيقة ومثيرة أكتر.
فكر هنيهة في أمر ما ثم أردف بنبرة ماكرة :
- وبعدين المفروض انتي أكتر واحدة بالها ينشغل في الموضوع نسيتي ان ابن سلطان مكنش هيرضى يتجوزك لولا خوفه على منصب خليفة العمدة وكان هيقتلنا احنا الاتنين !
مش خايفة دلوقتي من انه يتخلى عنك انتي كمان زي ما اتخلى عن حلمه خاصة ان علاقتكم مبنية على الغدر و...
- كفاية بقى !!
صدع صوتها الحاد وهي تنتصب واقفة بعنف بعدما طفح بها الكيل من استفزازاته ثم تابعت مضيفة :
- أيا كان السبب اللي خلاه يعمل كده فأنا متأكدة ان عنده حق ومتقلقش على علاقتنا لأن آدم راجل بجد ولو حب يطلقني كان عملها من زمان مش هيقعد يخطط ويلعب.
سكتت نيجار تستعيد أنفاسها المسحوبة منها باِنفعال ثم رفعت اصبعها في وجهه البارد منبهة إياه بجدية :
- وبحذرك يا صفوان ديه آخر مرة تتكلم فعلاقتنا وتديني تلميحات سخيفة على الأقل احترم غياب آدم زي ما كان هو بيعاملك باِحترام طول الفترة اللي كنتو متفقين فيها.
لم تظهر على صفوان أي إشارات للغضب أو التأثر بما قالته وكأنها تُحدث الهواء فزفرت هذه الأخيرة والتفت لجميلة وسلمى هاتفة :
- الوقت اتأخر ولازم امشي دلوقتي.
- استني تتغدي معانا ع الأقل.
- معلش يا مرات عمي مش عاوزة آدم يرجع للبيت وميلاقنيش مرة تانية ان شاء الله يلا سلام.
نظرت جميلة لولدها بغيظ لأنه عكر مزاجهم لكنها ودعتها على كل حال، وعندما جاءت نيجار لتركب السيارة وجدت صفوان يسحبها للخلف فتفاجأت ونهرته بفظاظة :
- نعم عاوز ايه.
- عاوز اعرف ايه سبب اللي عمله آدم وليه خد القرار ده.
تأففت من تكراره لنفس الكلام فضغط على ذراعها بتصميم هامسا :
- استني متزوقيش أنا بتكلم بجد ولو عاوزة الصراحة فأنا شاكك ان السبب اكبر من اللي بنتخيله ومش بعيد يكون بيخصنا احنا.
- احنا مين وايه علاقتنا اصلا بلاش تخيلات.
- فكري كويس يا نيجار احنا من كام يوم قبضنا على اتنين من رجالة الحيوان اللي هجم علينا وكان سبب في إصابتك وبعدها روحنا للمكان اللي قالولنا عليه رجالته وملقيناهوش.
بس بعد كام ساعة آدم اتحول وبقى شخص تاني حتى مبقاش عنده نفس الفضول وهو بيدور على عدوه وفجأة عزمنا لبيته وقالنا انه خلاص مش عاوز يبقى عمدة.
- مش فاهمة انت عاوز توصل لإيه.
- ركزي معايا شويا آدم اللي وافق من شهور يحط ايده بإيدي ويكتب كتابه عليكي رغم انك طعنتيه وكل ده علشان يوصل للمنصب واللي عمل كتير عشان يبعدني من الدايرة ويكسب ثقة العمدة والأهالي جه فجأة واتخلى عن كل حاجة وهو عارف كويس ان ممكن أنا آخد مكانه بس مهتمش وفضل يقول انه مصمم على قراره.
عنوة عنها تخبطت نيجار بين أمواج الحيرة وكادت تتوه أكثر لولا انها تمالكت نفسها ودفعته عنها برفق مبرطمة :
- بطل الكلام ده الوضع سيء أصلا ومش محتاج منك انت تقعد تلعب ع مزاجك.
- أنا مش بلعب، نيجار فكري في كل اللي حصل واربطي الأحداث ببعضها لو آدم فعلاً كان مهتم بالمنصب من البداية ليه فجأة كأنه قلب الطاولة على الكل ؟ ليه جمعنا وقرر ينسحب قدام المجلس وكأن الموضوع ما عادش يهمه ؟
- ديه حاجة بتخصه هو افهم بقى !
- وممكن تكون بتخصنا احنا عيلة الشرقاوي بس حبك ليه عاميكي ومخليكي زي الغبية مش عارفة تفكري بعقل سليم.
صمتت للحظات، محاولتها لدحض كلامه بدأت تتلاشى مع كل تفصيلة تذكرها من تغير آدم وانفعاله غير المبرر حتى حروب العيون المستمرة بينه وبين السيدة حكمت.
تصرفاته مؤخراً كانت تحمل في طياتها شيئاً غريباً وكأنه اكتشف أمراً يثقل عليه.
صفوان أمسك بذراعها مجددًا لكن هذه المرة بنبرة أخف وحذر واضح :
يا نيجار متعمليش كده في نفسك أنا عارف إنك بتحاولي تبرري كل حاجة لآدم بس فكري للحظة من غير ما تخليه يسيطر على دماغك احنا مش بنتكلم عن قرار بسيط إحنا بنتكلم عن آدم اللي كان مستعد يقتل عشان العمودية وفجأة ينسحب ويتنازل عنها ببساطة.
سحبت نيجار ذراعها وأخذت خطوة للخلف لكنها لم تستطع أن تهرب من أفكارها التي بدأت تتصارع تطلعت إلى صفوان بنظرة أكثر جدية وسألته :
- طيب افترض انك صح افترض ان في حاجة كبيرة حصلت وخلته يغير رأيه .. انت شايف ان الحاجة دي إيه ؟
أطلق هذا الأخير زفيرًا بطيئًا وهو يمرر يده في شعره مضطربا :
- لو كنت عارف كنت جاوبتك من زمان بس مش غريبة ان كل ده يحصل وآدم يجمعنا ويقول إنه خلاص مش عاوز المنصب في وجود حكمت هانم اللي المفروض انها تقيم القيامة ومتسمحلوش يعمل كده بس هي سمحتله وسكتت كمان وده بيعني أنها جزء من اللعبة.
في هذه الأثناء كان الإثنان قد بدآ يتمشيان ببطء بعيدا عن السيارة فوضعت هي يدها على رأسها بتخبط محاولة فهم خيوط لغز معقد، ولأول مرة منذ زمن بدأت شكوك صفوان ترسم في ذهنها صورة لم تخطر لها من قبل.
- طيب حتى لو في حاجة مخفية انت ليه فاكر إنها بتخصنا وبتخص عيلتنا بالذات ومال حكمت في الموضوع ؟
قابلها صفوان مباشرة وحدق في عينيها بثبات :
- لأن حكمت هي اللي بتسير عيلة الصاوي كلها ولأننا احنا كنا دايمًا جزء من لعبته حتى لما اختار يتجوزك وكتب كتابه عليكي كان عنده مصلحة.
آدم مبيعملش حاجة من غير هدف ولو تخلى عن هدفه دلوقتي يبقى الهدف الجديد ممكن يخصنا احنا أكتر مما نتصور.
نيجار رفعت عينيها إليه، وفيها لمعة من القلق:
- بس أنا معنديش تفسير لده وآدم مقاليش حاجة، ولو كان في حاجة تخص عيلتنا ليه هو مخبيها عني ؟
ضحك صفوان بسخرية واضحة وأجابها :
- لأنك بالنسبة له وسيلة، انتي شايفة نفسك مراته وجزء من حياته وأسراره بس آدم دايمًا بيخبي الورق المهم عن الكل ويمكن احنا أكبر من مجرد وسائل في لعبته يعني يمكن نكون أصل المشكلة كلها.
تجمدت هي في مكانها، تلك الفكرة التي بدأت تلوح في الأفق كانت صادمة ماذا لو كان كل ما يقوله صفوان صحيح ماذا لو كان هذا العدو المشترك الذي يتربص شرًّا بالعائلتين قد كشف أوراقه لآدم الذي قرر التخلي عن كل شيء بسهولة.
وماذا لو أن حكمت الخبيثة لها دور في القصة بل ربما تكون مهددة أيضا وإلا لم تكن لتلتزم الصمت عند الشرفة حينما كان حفيدها ينسحب من مركزه !
بدأت تدور في رأسها الأسئلة وكلما فكرت فيها شعرت بأنها تقترب خطوة من دوامة أكبر مما توقعت فهزت رأسها المتصدع وحدقت في صفوان الذي كان يراقبها بتمعن ثم قالت بصوت خافت :
- لو فعلًا في حاجة تخص عيلتنا، ليه إحنا مش عارفينها وإزاي آدم عرفها قبلي وقبلك وقبل العمدة كمان.
- ده السؤال اللي لازم نجاوب عليه بس افتكري حاجة لو في حاجة مخفية فهي أكيد مدفونة في الماضي، في مكان إحنا معميين عنه.
تنفست نيجار بعمق محللة كلماته، هناك شعور غريب يزحف إلى قلبها مزيج من القلق والفضول ...
شعور بأنها تقترب من حقيقة لم تكن مستعدة لمواجهتها وهذا ما جعلها تسأل ابن عمها بجدية :
-وإنت؟ ناوي تعمل إيه؟
طالعها صفوان مباشرة وملامحه عكست إصرارًا واضحًا :
- أنا ناوي أدور لحد ما ألاقي الحقيقة. آدم ممكن يكون أذكى واحد في اللعبة بس مش هيقدر يخليني أقف قبل ما أعرف اللي مخبيه.
سادت لحظة من الصمت بينهما لم تكن مجرد صمت عادي بل كانت مليئة بالتوتر والأسئلة التي لا يجرؤ أحد منهما على النطق بها.
وبعد لحظات، رن هاتف نيجار معلنا عن مكالمة من ليلى التي استعجلتها للعودة من أجل شيء مهم فأخبرتها أنها قادمة وبالفعل كانت ستغادر لكنها توقفت فجأة وسألت صفوان :
-ولو لقينا حاجة ... حاجة تخص عيلتنا فعلًا أو سر آدم كان بيخبيه هتعمل إيه؟
بتسم صفوان ابتسامة صغيرة لكنها كانت تحمل في طياتها الكثير من المعاني :
- ساعتها لكل حادث حديث بس اللي بقدر أقوله دلوقتي ان كل واحد لازم ياخد حقه.
ارتجفت نيجار قليلًا عند سماع كلماته. لم تكن متأكدة ما إذا كانت تعني تهديدًا أو وعدًا لكنها شعرت أن هناك شيئًا كبيرًا يقترب وأن استقرار علاقتها مع آدم ربما لن يدوم طويلا.
ركبت السيارة بصمت وغادرت بينما ظل الآخر واقفًا يراقبها وهي تغادر، بدا وكأنه يغرق في أفكاره وعيناه تحملان ذلك البريق الذي يعكس مزيجًا من الشكوك والطموحات.
________________
مال على سطح المكتب محدقا بتركيز في الملف الذي أوشك على إكماله وأخذ كوب القهوة يتجرع منه رشفة ريثما يُدوِّن الإجراءات الأخيرة حتى انتهى منه فتنهد براحة واضعا إياه جانبا وقال :
- ايه كل الناس اللي عاوزة تبيع أملاكها ديه هلاقيلهم منين زباين يشترو منهم.
حدث نفسه ساخرا ثم سحب ملفا قيد الإنتظار وفتحه ليدرس معلومات صاحبه وهنا أصابته الدهشة عندما رأى صورة منزل جارته أم زينب محدد كعقار معروض للبيع، هرع مراد يقرأ اسم صاحب الملف وتمتم :
- يخربيتك عاوز تبيع البيت وهوما لسه عايشين فيه ورافعين عليك قضية كمان ايه العم العرة ده.
رن هاتف المكتب بمكالمة من المساعد يخبره فيها أن أحد المتعاملين الجدد يود مقابلته، وربما كان مراد يتوقع هويته لأنه لم يتفاجأ حين فُتح الباب ودلف الرجل ذو الملامح البغيضة ملقيا السلام فرد عليه الآخر ببلادة :
- وعليكم السلام يا حج عثمان نورتنا، اتفضل.
جلس على الكرسي المقابل ونظر له مغمغما :
- أكيد انت عارف أنا جايلك ليه فهدخل في الموضوع مباشرة .. عندي عقار عاوز ابيعه بس ملقتش زبون مناسب عشان كده قصدتك لأن في واحد دلني عليك وقالي ان حضرتك سمسار كويس ومعاملاتك ناجحة.
- قريت الملف بتاعك من شويا حضرتك عاوز تبيع البيت اللي قصاد بيتي مش كده.
أماء عثمان بإيجاب فتنهد مراد معتدلا في جلسته وضم يديه لبعض قائلا :
- بس اللي بعرفه ان العقار عليه نزاعات قضائية ومرات أخوك وبنتها لسه عايشين فيه لغاية دلوقتي ومطلعوش منه يبقى ازاي حضرتك عاوز تبيعه قبل ما الإجراءات تنتهي.
تشنج وجه الآخر بغلاظة وخرج صوته مليئا بالحقد والطمع وهو يجيب :
- البيت بيتي يا استاذ والمرحوم أخويا هو اللي كتب حصته ع اِسمي وكل حاجة مسجلة مش ذنبي ان الست أم زينب وبنتها مش راضيين يصدقو.
- طب فين الفلوس اللي ادتهاله مقابل البيت ولا أخوك كتبهولك ببلاش.
زاغت عينا الحج عثمان لثوان التقطها مراد وهتف بتلعثم :
- الله اعلم هو صرفهم فين او يمكن مراته خدت الفلوس وعملت نفسها من بنها.
تأمله جيدا بحركات مدروسة واستطاع أن يستشف التهرب والتوتر عليه علاوة على أنه من الواضح جهل عثمان بحقيقة أن مراد من تكفل بتشجيع جارته وأخذ الإجراءات القانونية الازمة ضده، فرفع حاجباه وأخفضهما قائلا بتنهد :
- اعذرني بس مش هقدر أفيدك أنا مبحبش ادخل في معاملات عليها جدل وبتتعبني.
ارتسمت على وجه عثمان ملامح الغضب الممزوجة بالحدة لكنه سرعان ما أخفى ذلك باِبتسامة صفراء وهتف بنبرة منخفضة مشوبة بالترغيب :
- شوف يا أستاذ مراد، أنا مش جاي هنا أضيع وقتي ولا وقتك أنا عارف إنك سمسار شاطر وتقدر تلاقيلي مشتري في أسرع وقت ومش هنسى تعبك... حقك محفوظ وزيادة كمان.
حدق مراد في وجهه للحظة كمن يقيس مدى جدية كلامه ثم علق ببرود :
- حضرتك واضح مش فاهم قصدي، الموضوع مش في حقي أنا الموضوع في المشاكل اللي على البيت.
- شوف أنا مش بني آدم بيتكلم كتير أنا راجل عملي وبحب اللي يشتغل معايا يطلع بمصلحة كبيرة.
ابتسم بعدما فهم مقصده إلا أنه أراد مجاراته أكثر فمال بجسده إلى الأمام وأسند مرفقيه على سطح المكتب هامسا :
- وأنا كمان راجل عملي، بس عندي مبدأ بسيط ... الشغل النظيف بيخليني أنام مرتاح.
ضحك الحج عثمان ضحكة خافتة وعقب عليه بتهكم :
- الشغل كله فيه تراب يا أستاذ وانت اكتر واحد بتعرف الكلام ده بما أنك جوا المجال، بس الفلوس بتنظفه.
ثم أخرج من جيب جلابته مغلفًا بني اللون ودفعه بيده نحو الآخر مضيفا :
- ده عربون تعبك والباقي لما نخلص الصفقة.
رفع مراد نظره نحو المغلف ثم إلى عثمان لكنه لم يحرك ساكنًا بينما يردد برفعة حاجب :
- انت كده بتحاول تشتري سكوتي؟
- لا يا أستاذ ده عربون نيتك الطيبة وأنا بحاول اضمن ان شغلك معايا هيكون مربح ليك. إحنا الاثنين هنكسب ايه رأيك؟
سكت مستردا أنفاسه ثم رمقه بنظرة جانبية وأردف :
- استنى متقوليش انك حاسس بالشفقة ناحية جارتك وقلبك مش مطاوعك تشتغل ضدهم ... معلش يعني بس حضرتك من أنجح السماسرة في المنطقة ومكنتش هتوصل للمركز ده لو كنت بتشتغل بعواطفك.
- لا خالص بس الموضوع هو اني مش عارف ليه حضرتك مستعجل ع صفقة البيع حتى قبل ما القضية تخلص ويبين معانا الحكم القضائي.
- مفيش داعي نستنى الحكم واضح من البداية والنتيجة محكومة لصالحي أنا صاحب الحق بس مستعجل ع الفلوس عشان ادخل في مشروع كبير مش عاوز اضيعه من إيدي.
وطبعا انت مش هتحب تضيع من إيدك صفقة زي ديه يعني عربون كبير وعمولة أكبر هدفعهالك اول ما تلاقيلي مشتري كويس.
ظل مراد صامتًا للحظة، وكأنه يزن الأمور بعناية قبل أن يبتسم باِتساع متلفظا :
- احنا كده بدأنا نتفاهم يا حج عثمان بس محتاج تفاصيل اكتر ع البيت يعني ورق البيع ووثيقة الملكية من السجل العقاري ومكتب التوثيق وبعدين نبقى نهتم بالباقي.
ابتسم هذا الأخير برضا بعدما استطاع شراءه بالمال فقال وهو ينهض من مقعده:
- اهو ده الكلام اللي يريحني هجهز لك كل اللي تحتاجه.
رد مراد بابتسامة باهتة ودس المغلف في أحد أدراج مكتبه قبل أن يقول بنبرة متماسكة:
- تمام سيبني أراجع الوضع وأرجعلك بس عندي سؤال انت ليه صممت عليا ومروحتش لسمسار تاني مع أن في ناس كتير بتشتغل زيي وأفضل.
- لأني سمعت بعلاقاتك مع مستثمرين وتُجار كبار وياما حققت نجاحات مع زباينك وانا بقى مش عايز غير صفقة مضمونة من صفقاتك، ومعلش يعني الفلوس بتخلي المستحيل ممكن فكنت متأكد اني هقدر أقنعك.
أطلق مراد ضحكة واسعة وعاد يستند على ظهر مقعده مرددا :
- معاك حق بحييك على بعد نظرك وعموما طالما الفلوس مضمونة فحتى الصفقة هتكون مضمونة زيها متقلقش.
ارتسمت على وجه عثمان ابتسامة المنتصر فودعه وغادر تاركا ذاك الذي اضمحلت ابتسامته وحملق في أثره باِزدراء وبرطم :
- طلع الجاه والطمع بيعمي عيون الناس كلها مش حكمت هانم بس.
________________
- وهو ده اللي حصل جه قالي أنا بحبك يا ليلى ومش هستسلم لأي حاجة تقف في طريقنا.
أنهت سرد ما حدث اليوم ببسمة حالمة لا تخلو من القلق رغم ذلك، ثم حدقت في الأخرى ووجدتها تطالع الفراغ بشرود فوكزتها منزعجة :
- نيجار انتي سرحانة في ايه مكنتيش بتسمعيني ؟
انتفضت بخفة مستفيقة من دوامة أفكارها ونظرت لها قائلة :
- لا سمعتك بس كنت بفكر ان ازاي محمد اتشجع فجأة واعترفلك وكمان علاقتكم هتكون عامله ايه من النهارده.
عادت ليلى لقلقها الأزلي وعضت على شفتها معقبة :
- مش عارفة يعني محمد اقترح يطلب ايدي من آدم بس أنا قولتله ان الوقت مش مناسب ومن الأحسن نصبر شويا انتي ايه رأيك.
همهمت نيجار بتفكير ثم أجابتها :
- ايوة عندك حق الوضع اللي احنا فيه حاليا مش ناقصه غراميات وعدم المؤاخذة يعني بس حكمت هانم احتمال تموت بأزمة قلبية بعد الصدمة اللي هتاخدها منك كفاية عليها صدمتها بآدم.
ثم ضحكت بتلقائية اختفت حين لاحظت انزعاج ليلى فحمحمت بتدارك :
- مزعليش مني أنا بهزر معاكي، بيني وبينك أنا مبهورة بشخصية محمد باين عليه راجل وبيحبك بجد.
عادت البسمة الحالمة ترتسم على وجه ليلى التي أومأت بموافقة :
- هو ده اللي شدني ليه من أول مرة شوفته فيها شاب هادي ومحترم ومركز في شغله وعمره ما ضايقني بنظرة ولا كلمة ... بتعرفي ان عنده وظيفتين تانيين غير السواقة وشاطر فشغله في مكتب المحاسبة وخد ترقية قبل كده.
- ماشاء الله هو مكافح كمان ... بتمنى من كل قلبي قصتهم تمشي ع خير وتفرحو ببعض أنا حاسة ان أخوكي هيتقبله وهيقف لستك لو اعترضت.
- محدش بيقدر يقفلها يا نيجار خاصة ابيه آدم لأنه بيحبها وبيحترم قراراتها.
- بس ديه مسألة بتخص حياتك وهو قالها قبل كده ساعة ما شريكه حب يخطبك انه محدش ليه الحق ياخد القرارات اللي بتخصك غيرك انتي.
تصاعد الأمل في قلب ليلى فرفعت رأسها لفوق مرددة برجاء :
- يارب يا نيجار أنا بحب محمد ومش عاوزة فرق الطبقات يفرقنا عن بعض مش هقدر اشوف راجل غيره.
تأملتها نيجار لبرهة ولم تعلم لماذا ذكرتها هذه الفتاة بعلاقتها هي مع آدم منذ سنة، عندما تعرف عليها ووقع في حبها وكان جديا بخصوص هذه العلاقة حيث أنه عرض الزواج مباشرة ولم يحبذ لقاءاتها في السر.
- شكله الحب والتحدي موجودين في جينات عيلة الصاوي.
همست نيجار بصوت لم يصل لأسماع الأخرى وفجأة فُتح الباب ودخل آدم الذي تفاجأ بوجود شقيقته في غرفته وهي تجلس على منتصف السرير مع نيجار ومن يرى حالتهما الآن يظن أنهما صديقتان منذ الأزل، نظر لساعة يده المشيرة للثانية عشر بعد منتصف الليل ثم حمحم وألقى التحية عليهما :
- مساء الخير.
انتبهت ليلى لحضوره فنهضت من فراشه بحرج وتمتمت :
- مساء النور أنا بعتذر يا ابيه قعدت مع نيجار والكلام خدني فمنتبهتش للوقت.
ابتسم واقترب منها بخطوات هادئة قبل أن يهتف بلطف خاص بها هي فقط :
- انتي كويسة أنا حاسس انك مضايقة.
- لا خالص بس نعست وهروح أنام تصبحو على خير.
رحلت ليلى وهي تحمد ربها لأن شقيقها لم يستمع لحديثها أما آدم فنظر لنيجار وعلق برفعة حاجب :
- في داعي لإني أخاف من قعدتكم سوا ؟
- لا اطمن الدنيا أمان احنا كنا بنتكلم بس وبعدين حضرتك كنت فين لغاية دلوقتي يا معلم آدم انت ناسي ان مراتك قاعدة في البيت ومستنياك.
جلس آدم على السرير مقابلا لها وقرص وجنتها بخفة معقبا :
- فضلت قاعد كام ساعة لوحدي وبعدين لقيت العمدة بيتصل بيا وبيطلبني لعنده وطبعا فضل يستجوبني ويحقق معايا لغاية ما أقنعته اني خدت القرار الصح بالانسحاب.
طالعته نيجار بنظرات هادئة حتى قطعت صمتها وهي تسأله بنفس الهدوء :
- وياترى قدرت بجد انك تقنعه.
مط شفته مستهزئا وأجابها :
- طالما العمدة مقتنعش من البداية فمش هتقدري تقنعيه مهما حاولتي وهو هيفضل ورا الموضوع لغاية ما ...
إلى أن يكتشف الحقيقة، راودته هذه الفكرة التي يتقين أنها ستحدث عاجلا أم آجلا ثم حول بصره إليها وأردف :
- أنا شايف فضول كبير فـ عينيكي ايه عاوزة تسأليني نفس السؤال اللي كتمتيه امبارح جواكي.
تنهدت هذه الأخيرة وتكلمت بمنتهى الصراحة :
- اسفة بس حاولت ومقدرتش اكتم فضولي في أفكار كتيرة بتجي ع بالي وحوارات مش قادرة ألاقيلها تفسير و...
حينها قاطعها هو مباشرة :
- صفوان قالك ايه بالظبط ؟
تفاجأت نيجار من سؤاله وكادت تنكر علاقة ابن عمها بالموضوع لكن آدم رفع يده في الهواء مغمغما بثبات :
- مفيش داعي تنكري أنا متأكد انك قعدتي معاه وهو اللي ملى دماغك بالكلام ده ومش هلومه يعني صفوان من حقه يستغرب زيه زي الباقيين.
تلكأت نيجار وأعادت خصلة من شعرها إلى الخلف باِضطراب وهي تهمس :
- هو مش مقتنع بموضوع انسحابك من المنصب وبيقول انه في حاجة اكبر من اللي متوقعينها مخلياك تعمل كده ومتعلقة بـ ... العدو المشترك مابينكم.
أغمض آدم عينيه للحظة محاولا لملمة أفكاره وبدأ يدرك بأن السر سيُكشف في وقت أسرع مما توقعه فزفر متشدقا :
- اظاهر انه هاجمني اول ما بدأ يشغل دماغه.
أحست نيجار بارتباك طفيف لكن إصرارها جعلها تهتف بيأس لعلها تنجح في استمالته والاعتراف لها :
- آدم أنا مراتك والمفروض نكون شركاء في كل حاجة ليه بحس انك مخبي حاجة كبيرة عني ؟
صمت آدم لبرهة ثم نهض من مكانه وأدار ظهره لها وهو ينظر من نافذة الغرفة، وتذكر المكالمة التي تلقاها منذ سويعات من سليمان ...
Flash back
( بينما كان آدم جالسًا على إحى التلال يتأمل المساحات الخضراء أمامه رن هاتفه فجأة فألقى نظرة على الشاشة واسودت تقاسيم وجهه عند رؤية الرقم.
- الكلب اللي بيلعب من ورا الستارة قدر يكسب شوية جرأة ويتصل بيا أهلا وسهلا.
وصلته ضحكات سليمان البغيضة الملونة بالحقد تتبعها كلماته :
- باين انك اكتشفت الحقيقة عشان كده خوفت وانسحبت بسهولة من المنصب بتاعك بس مهما حاولت ياولد سلطان السر مش هيفضل مدفون للأبد ولا انت هتقدر تخفي الحقيقة.
- أنا عارف ان الحقيقة هتظهر النهارده أو بكره ومنسحبتش لأني خايف منها أو منك لأنك أقل بكتير من انك تسببلي الشعور ده.
- ايه ده بجد اومال ليه اتخليت عن مركز العمدة علشان تثبت انك شريف ومش مشترك مع حكمت هانم.
- واحد ندل زيك مش هيقدر يفهم السبب يا سليمان بس اللي عايزك تعرفه انك هتقع بين إيديا قريب اوي وساعتها مش هتردد في قتلك. )
Back
بدا آدم كأنه يقاوم شيئًا ما بداخله في هذه اللحظات حتى أفصح عن مكنوناته واعترف بهدوء :
- ايوة أنا مخبي عنك لأنك لو عرفتي الحقيقة حياتك هتتغير للأبد ... حياتنا.
تملكت الدهشة من نيجار فنهضت واقفة أمامه وتمالكت نفسها بينما تستفهم بحذر :
- يعني الحقيقة دي تخصني أنا كمان يعني بتخص عيلتي ؟
التف لها بنظرات قاتمة تحمل وراءها الكثير ثم وضع يديه على كتفيها مرددا بحزم :
- أكتر مما تتخيلي ... بس لازم تعرفي إن معرفة الحقيقة دلوقتي مش هتفيدك صدقيني، أنا بحاول قد ما اقدر اوزن الأمور ومخليهاش تتعقد.
كان ذهولها يزداد مع كل كلمة يقولها آدم فهزت رأسها بنفاذ صبر وهدرت :
- انت كده بتحيرني وبتقلقني اكتر فهمني ايه العلاقة بين عيلتي وعدوك انت وصفوان والعمودية أنا حاسة نفسي هتجنن !
قبل أن يسعه الوقت للرد عليها رن هاتفه بمكالمة من فاروق أخبره فيها بما صدمه وحفزه في ذات اللحظة :
- آدم احنا قدرنا نوصل لمكان سليمان هو متهبي في قرية على بعد ساعتين من هنا. الرجالة مستعدين للهجوم ومستنيين إشارتك.
انتفض بحدة وترت نيجار وسألته عما يحدث فأشار لها بالصمت آدم ثم خاطب فاروق بلهجة حادة :
- انا جاي فورا.
أغلق الهاتف دون كلمة إضافية وهرع لإحدى أدراج الخزانة يسحب منها خزان الرصاص فاِنتفضت نيجار وصاحت بهلع :
- انت مروح لفين وهتعمل ايه.
تجاهل الرد عليها وكاد يخرج لكنها قبضت على ذراعها مبرطمة :
- مش هسيبك تمشي قبل ما تفهمني.
- ابعدي يا نيجار أنا مش فايقلك دلوقتي.
- مش هبعد ولو مشرحتليش هلحقك وانت عارف اني بقدر أعملها.
- نـيـجـار !!
صاح آدم بعصبية أجفلتها واحتدت عيناه وهو يتشدق من بين أسنانه :
- اوعى تتحركي او تتصلي بحد واقسم بربي لو مسمعتيش كلامي لوريكي وش عمرك ما تخيلتي انك تشوفيه فاهمة.
أبعدت يداها عنه ورمقته بلمعة عاتبة فتأفف هذا الأخير وأكسب نبرته قدرا يسيرا من اللين بينما يقول :
- بصي الليلة ديه هتكون صعبة علينا بس مهمة فنفس الوقت ولو نجحت في المهمة اللي مروحلها هتعرفي ساعتها الإجابة على كل أسئلتك، فلو سمحتِ يا نيجار اتصرفي بوعي أكتر واتفهميني.
- حاضر.
خرجت الكلمة بصعوبة من حلق نيجار المتحشرج ليلقي عليها آدم نظرة أخيرة ويخرج من الغرفة فتصادف مع جدته التي تشدقت ببغض :
- أنا لقيت مكان سليمان و...
قاطعها هو بصرامة :
- وأنا كمان لقيته ومروحله دلوقتي بس بتعرفي يا ستي الدمار اللي اتهمتيني بيه امبارح لما اتخليت عن المنصب مش هيجي حاجة جمب الدمار اللي هنشوفه الليلة ديه.
- خلص عليه يا حفيدي مفيش فايدة من انك تخليه عايش.
- أنا هعمل كده فعلا بس ادعي الموضوع يعدي على خير.
_________________
تحركت السيارات ببطء عبر الطرق الترابية الضيقة حيث كان الظلام يلف المكان كساتر يحجب الرؤية، جلس آدم في المقعد الأمامي متماسكًا وعيناه تراقبان الطريق بحدة وفاروق جالس بجواره يتحدث بهدوء يحاول ضبط التوتر الذي يخيم على الأجواء :
- إحنا قرّبنا يا آدم البيت بتاع سليمان في آخر القرية قريب من الغابة. الرجال بتوعنا جاهزين ومستنين الإشارة منك عشان يبدأوا التحرك.
تصلب وجهه منذرا بالشر وغمغم بلهجة حازمة :
- عايز المكان كله يبقى محاصر محدش يخرج منه ومحدش يدخل كمان. فاهم؟
- فاهم يا باشا بس عايز أقول حاجة الرجالة اللي معاه مسلحين واحتمال يقاوموا.
- اللي يواجهنا يتحمل عواقب قراره سليمان النهارده لازم يدفع تمن كل حاجة عملها.
بعد فترة توقفت السيارات بعيدًا عن القرية وتوزع الرجال بصمت حول الأطراف كان الصمت مشحونًا بالخطر وكل خطوة تُسمع كأنها دويّ في سكون الليل.
رفع آدم يده، مشيرًا إلى رجاله بالتقدم واقترب فاروق هامسا :
- البيت قدامنا يا آدم بيه احنا دلوقتي حوالين المكان وأول ما تدينا الإشارة هنتحرك.
- مفيش إشارة هنتحرك دلوقتي.
انفجر الباب الأمامي بصوت مدوٍ وتدفق الرجال إلى الداخل كان المكان يعج بالفوضى وطلقات الرصاص تملأ الأجواء، وصوت الصراخ يختلط مع صدى الانفجارات الصغيرة.
آدم شق طريقه داخل المنزل عينه على كل زاوية وسلاحه مرفوع بينما يهدر بصراخ :
- هو في الدور التاني اطلعوله محدش يسيبه يتحرك خطوة واحدة.
أصوات الأقدام تعلو على السلالم، ومع كل طلقة يطلقها رجال سليمان الذي انصدم من اقتحام عدوه لمقر سكنه الجديد كانت مقاومة العدو تنهار...
وفجأة ظهرت مجموعة من رجال سليمان محاولين الهروب من الخلف ليوجه فاروق أوامره :
قفلوا عليهم الطريق محدش يخرج.
*** في إحدى الغرف بالطابق العلوي وقف سليمان محاصرًا. كان يحمل سلاحه لكن يده ترتجف وعيناه تكشفان خوفه وغضبه معا لأنه لم يستوعب بعد بأنه كُشف بهذه السهولة بعدما ظل يتلاعب بأعدائه لفترة طويلة.
كُسر باب الغرفة بركلة عنيفة من آدم واقتحم المكان لتقع عيناه لأول مرة على عدوه اللدود فتناثر البغض من عينيه وخرجت كلماته الكارهة من جوفه :
- بقى انت الندل اللي بقالك زمان بتلعب زي الفار وفاكر محدش هيعرف يوصلك وانك هتقدر تهرب مني ... يا سليمان ؟
حاول التماسك كمحاولة أخيرة بائسة للنجاة :
- انت مش هتعمل حاجة وحتى لو قتلتني الحكاية مش هتخلص.
تهكم من عناده الذي لا نفع له ثم تقدم منه بخطوات ثقيلة مرددا :
- الحكاية بتخلص النهارده وجه وقت تدفع حساب افعالك، انت اتلاعبت بيا وحاولت تقتلني ومراتي كانت هتموت بسببك وكل ده لأن أبويا عاقبك على جرايمك في الماضي ... افتكرت انك بتنتقم من العيلتين بتصرفاتك ديه بس اهو يا سليمان لعبتك خلصت خلاص وانت اللي هتقع في الحفرة اللي حفرتها بنفسك.
في تلك اللحظة، وبينما كان يستعد للإمساك بسليمان والقضاء عليه، سُمع صوت جديد وحلت الصدمة على الإثنين حينما ظهر العمدة رفقة رجاله !!
تزعزعت حدقتا آدم مطالعا إياه وكأنه وهم، بيد أن ما ظنه وهما كان حقيقة تجلى فيها هذا الأخير الذي قال بصوت عالٍ وثبات :
- أخيرا قدرت اوصل للي كنت عاوز تخفيه يابن الصاوي.
إلا أن ذاك الثبات المرسوم على وجه العمدة تزعزع هو أيضا عندما وقع بصره على الرجل مألوف الملامح، قبل أن يحتد فكه ويسحب الهواء لرئتيه وهو يهمس :
- سليمان !!
تبادل الجميع النظرات وقد عاد الماضي ليكشف عن وجهه المظلم من جديد ...