رواية علاقات سامة الفصل الخامس
أما عن سهام وابنتيها، بعد أن انقضى أسبوع قصد الجد فيه ترك سامح حائرًا مترقب، ذهب إليه محل عمله، قابل المدير وعلم بطريقة زوج ابنته في التعامل مع زملاءه، وكذلك مديره، فسأل مديره بطريقة ودية عن راتبه، وبعد حديث طويل أيقن المدير حسن نوايا الجد وإنه لن يتسبب له في أي مشكلة مع سامح؛ فأخبره بما أراد، امتن الجد له وطلب منه بلطف اصطحاب سامح معه لمدة ساعة على وعد أن يعود بعدها، فوافق المدير ولم يعترض لحسن اختيار الجد لكلماته، وللباقته في الحديث والاحترام الشديد في التعامل على النقيض تماما من نسيبه سامح.
أرسل المدير في طلب سامح، وعندما حضر طرق الباب، دخل دون انتظار السماح له، تبادل المدير النظرات مع الجد، ثم تحدث
- سامح تعالى اقعد أنا حسيبكم شوية وراجع.
أغلق المدير أدراجه، وأخذ مفاتيحه وترك لهم المكتب، جلس سامح وعلى وجهه علامات الغرور والاستخفاف، بينما نظر إليه الجد بتفحص وتدقيق؛ فتحدث سامح:
- إيه يا حاج ما تحملتش أسبوع معاهم، صح؟! شوفت بقي أنا متحمل قد إيه؟
- من جهة شوفت، فأنا شوفت فعلًا، المهم أنا كلمت مديرك هاخدك ساعة نقعد في أي كافيتريا قريبة نتكلم، وما تقلقش الكلام هيعجبك وهايجي على هواك.
بالرغم من تيقنه أن حديثه مع الجد سيرضيه إلا أنه اعترض:
- يعني إيه استأذنت لي من المدير! أنت جاي تاخدني من المدرسة!
نظر إليه باستنكار:
- احنا نسيب المهم ونمسك في تفاهات! ما تخلص يا سامح، لو مهتم تعالى ورايا، لو مش مهتم مراتك هترجع لك النهاردة، بس من غير البنات وقطعوا بعض براحتكم.
تابعه بمقلتيه؛ فوجده بالفعل يتحرك ليغادر المكان، أسرع خلفه لا يريد إضاعة تلك الفرصة الذهبية التي لن تتكرر، فضلًا عن أنه لن يتحمل سهام وحدها؛ فهي تثير غَضَبه بحديثها، بنظراتها حتى حركاتها، هي مصدر خصب للغَضَب وثورة الأعصاب.
جلس سامح مع والد زوجته الحاج محمد، غلف حديثه بالصراحة ووضح مقصده دون مراوغة:
- بص يا سامح أنا بحب الكلام الدوغري، اللف والدواران مش بتوعي، لأنهم تضيع وقت، أنا هاقول لك المفيد، مِن يوم ما تقدمت لبنتي وأنا قلبي ما ارتحش لك لحظة واحدة.
امتعض وجه سامح وغَضَب، همَّ أن يتحدث؛ فلم يتح له مجالًا واسترسل:
- قبل ما تقول اللي تندم عليه، اسمع للآخر وبعدين أتكلم، من بعد ما تجوزت سهام حاولت أنت وهي تاخدوا مني فلوس كل مرة لسبب، وأنا كنت فاهم وعارف نيتكم، بجمعكم في كلامي، لأني عارف بنتي وعارف حبكم أنتم الاتنين للفلوس، المهم لمَّا فقدتم الأمل؛ منعتها عني، وهي افتكرت إن ده هيرجعني عشان تستغلوني، ما انكرش إن ده حصل أما عرفت بحملها أول مرة، وتكفلت بمصاريفها طول فترة الحمل والمتابعة والمستشفى وقت الولادة، وفضلتوا قريبين لحد ما زهقت من استغلاكم ليَّا، فبعدتم حفيدتي عني كام سنة، لحد ما حصل الحمل التاني، وبعتوا لي اللي يعرفني بحملها، وبالرغم من إني كنت عارف أصلا أخباركم، إلا أني عملت نفسي تفاجأت وجاريتكم عشان أحفادي، لحد ما ظهرت على أصلك الواطي وتخانقت معايا وبكل بجاحة طلبت مني مبلغ شهري، يا إما تحرمني من أحفادي تاني.
انفعل سامح ونهض غاضِبًا:
- أنت جايبني هنا تشتمني وتقولى أسمع للآخر.
أراح الحاج محمد ظهره على الكرسي خلفه وتحدث بهدوء:
- أنا موافق، هديكم مبلغ شهري ومش قليل، وكمان هريحك من زن سهام لأني هديها مبلغ هي كمان، أقل طبعًا من اللي هتاخده أنت، لأنه هيكون خاص بها لوحدها، ما تاخدش منه جنيه واحد.
ابتسم سامح باتساع، وجلس بهدوء، فابتسم حماه بسخرية واسترسل:
- وطبعًا كل حاجة لها مقابل.
- وايه المقابل؟ ما هو حقك أدام هتدفع.
اعتدل بجلسته وضيق عينيه بحدة آمرة قصدها:
- ما تمدش ايدك دي على أحفادي مهما حصل، وإلا وربنا وقتها ابعت لك أنا اللي يكسر العصاية اللي فرحان بها دي عليك وقصاد بناتك، ده غير اني هاوقف فلوسك وفلوس مراتك واخد أحفادي منكم، وأثبت إنكم غير مؤتمنين عليهم بكل سهولة.
اسود وجه سامح وابتلع ما بجوفة بصعوبة، هو يعلم جدية الآخر، سينفذ إن اقتضى الأمر دون تردد، اعتدل الجَد في جلسته من جديد وأكمل إملاء شروطه:
- ومش بس كده الولاد يباتوا عندي كل خميس وجمعة ويطلعوا السبت للمدرسة من عندي وأنا هوصلهم، وطبعًا طلباتهم تتنفذ، ما يمدوش ايدهم في البيت، مش مهمتهم تنفيض وترويق، دول صغيرين وأطفال، وما تقولش سهام هي السبب، عشان سهام دي مراتك، ولا في دي ما تعرفهاش، وكمان تأكلهم كويس وتجيب لهم فاكهة، لو دفعت وده ما حصلش هوقف الفلوس بتاعتك لوحدك وهجيب أنا طلبات البيت بعد ما أخد منك مرتبك وأكمل عليه، عشان ما تفتكرش انك هتاخد مرتبك لك لوحدك، ها قولت إيه؟
أجاب بتفكير:
- يعني هتديني كام؟ هيكفي كل اللي قولت عليه؟ ولا هتبقي خسرانة، وتعب على الفاضي.
ابتسم بسخرية وأجابه بتأكيد:
- لا اطمّن، مش خسرانة، كسبانة وقوي، وبعدين أنت هتتبسط بالفلوس الباقية والأكل الحلو، على الأقل مش هتتخانقوا على اللحمة، والجيران تسمع صوتكم كل ساعة والتانية.
- موافق، هتدفع أمتي وكام؟
- هادفع دلوقتي، أما كام، هتعرف لما تقبض، ابقي عدهم، وتروح تنضف البيت، وتشتري هدايا لعيالك وأنت جاي، وتعتذر لمراتك قدامهم، صوتك ما يعلاش عليهم، وأنا هاجي مع الولاد، اوصلهم وأشوف البيت، إياك الاقيه مقلوب، هزعلك بجد.
ابتسم سامح بسماجة، يشعر بالنصر، وصل أخيرا لما أراد منذ أعوام، بعد أن تملكه اليأس وظن أن أحلامه جميعها ذهبت سُدى، أما الجد فقدم ما يستطيع به توفير الراحة لحفيدتيه، الفرع الباقي من عائلته هو يحب ابنته، ولكن للأسف اعوجت روحها ونفسها، وخاب أمله بها، فلم يصبح له أملا سوى في حفيدتيه الغاليتين.
بعائلة الديب، ظل الجد يفكر فيما يستطيع فعله لتوفير الأمان لحفيده، قام بمحاولة أخيره لإصلاح ابنه الذي ضل الطريق؛ فسلك طريق أعوج نهايته سوداء مظلمة، استيقظ الجد مبكرًا كعادته، أدى صلاته، أنهى روتين الصباح، ثم جلس ينظم أفكاره، وبعد أن ذهب رامي مدرسته، اتصل الجد بابنه ماهر، الذي أجاب عليه سريعًا عكس عادته؛ فابتسم الجد بسخرية خفيفة:
- رديت عليا على طول مش زي عادتك، وأنا اللى كنت بفتكرك دايما مشغول أو في العمليات، المهم، عايزك تمر عليَّا في البيت دلوقتي.
- طاب قول صباح الخير الأول يا بابا، أول مرة تكلمني كده، والسبب حفيدك اللي أنت خايف عليه مني أنا، أنا.. أبوه، أنا في المستشفى دلوقتي، أسيب شغلي ازاي طيب!
- أمم، عندك حق، يبقي أجي لك أنا، بس أعتقد لو جيت، هتزعل جامد ولا إيه؟!
- خلاص يا بابا، أنا هاتصرف وأجي، لأن في موضوع مهم محتاج أكلمك فيه.
- نص ساعة وتكون عندي.
- حاضر.
مرت نصف ساعة لم يتوقف فيها عقل الجد عن التفكير، ما وصل إليه ابنه ضربة قاسمة له، لم يتخيل يوميًا أن يصل لتلك المرحلة، وأن يصبح عبدًا للمال.
وصل ماهر مُقررًا تشْـتِيت والده بأمر أخر ليضمن راحته، جلس كتلميذ بليد، ينتظر عقاب وخيم يماثل فعله، اخفض عينيه هروبا من نظرات والده الحادة، التي توجه إليه الاتهامات تدينه وتحرقه؛ فقرر كَـسْر الصَـمت في محاولة لمباغتة والده:
- أنا هطلق مشيرة.
نظر إليه والده بصَمت وسخرية؛ فاسترسل:
- إحنا مش مرتاحين مع بعض، وعلى يدك في مشاكل ما بينا بقالها سنين.
طالع والده ليرى تأثير كلماته فما وجد إلا بسمة ساخرة فحاد ببصره بعيدًا عنه:
- تحملتها قبل كدة عشان رامي ابني، حفيدك اللي أنت خايف عليه مني، وبتهاجمني دلوقتي، وزعلان مني بسببه.
بسمة ساخِرة رسمت على جانب فم والده، مكذبًا حديث ابنه؛ فتحدث بصلابة وحزم:
- بتحاول تغيَّر الحقايق، بتقلبها عشان تحسن صورتك، على العموم القرار ده يشجعني على اللى نويت عليه، لما تطلق مراتك ابنك موقفه إيه؟
أجاب وهو ينظر في كل اتجاه عدا والده
- هيكون معاها لأني هاتجوز.
أومأ رأسه بيأس منه:
- ما يمكن هي كمان تتجوز؟
- احمم، اعتقد، لما صارحتها لها قالت لي أنها كانت هتطلب نفس الشيء، لأنها مش مرتاحة و.. و.
نظر إليه والده وهو يضيق عينيه بتدقيق منتظر باقي حديثه، فتحدث ماهر يشعر بالحرج الفعلي مما سيلفظ به، يوقن ان كلماته ستصدم والده:
- معجبة بحد وهو بيلمح لها أنه عايز يتجوزها.
- واضح إني تأخرت في قراري كتير قوي، أنت ومراتك عياركم فلت على الآخر، وواضح إن وقت الإصلاح فات من زمان قوي- أكمل بحسرة- بما أنكم إنتم الاتنين هتتجوزوا، فده معناه انكم مش هتكونوا فاضيين لابنكم، وده من حسن حظه.
- يا بابا إفهمني أ...
قاطعه والده صارخا بوجهه بحزم
- لما أكون بكلمك تخرس لحد ما أخلص كلامي واسمح لك بالكلام، مِن النهاردة تنسوا أنتم الاتنين ابنكم خالص، أخركم زيارات هنا وتستأذنوا مني قبلها، مدرسته تتنقل هنا جنبي، أي مصاريف له أنا كفيل بها، باختصار مش عايز منك جنيه، حتى هدومه اللي عندك مش عايزها، ورثك مني هيكون حقه هو، ولو في يوم فوقت مِن القرف اللي أنت عايش فيه وتوبت ورجعت لربنا البيت ده مفتوح لك، غير كدة، تكون هنا ضيف مش عايزين منك أي حاجة مهما كانت صغيرة.
لأول مرة يشعر بانكسار أمام والده، وأيضًا غَضَب مِن ابنه يحمله وزر الفجوة التي وقعت بينه ووالده.
- للدرجة دي، يا بابا أنت كده ظَـالمني قوي.
سأله بسخرية
- إلا قولي يا ماهر يوم الحفلة ابنك دور عليك أنت ومراتك وما كنش حد فيكم موجود، كنتم فين؟ ومع بعض ولا كل حد فيكم لوحده؟
رفع نظره إليه بصدمة، تحولت لغَضَب حاول إخفائه:
- هي ماكانتش موجودة! على العموم كدا كده كل واحد فينا هيروح لحال سبيله.
- عندك حق حاول في جوازتك التانية، ما تخليهاش تحضر حفلاتك دي، ويا ريت تبطل تعملها في البيت، أو على الأقل ما تسبهاش لوحدها، أصل يا ابني لا يدخل الجنة دِيـُّـوث، راعي عرضك، ولا النخوة والرجولة والدين بالنسبة لك رفاهية.
نظر ماهر إلى أبيه نظره تحمل الكثير من المعاني، كأنه يودعه، أو يلقي اللوم عليه معانٍ كثيرة حملتها تلك النظرة، ظل على حالته لدقائق لم ينطق خلالها، ثم غادر المكان بصمت، تساءل والده، أكان يودعه؟! أغلق الجد عينيه بألم وغَصَّة شديدة بالقلب تفْـتِك به وتحَطَّم فؤاده.
بعد فترة ذهب الجد يقابل والدة مشيرة، استقبلته بحفاوة بالرغم من الحُـزن المرتسم على وجهها، فبدء يسرد عليها ما انتوى.
- واضح إن مشيرة كلمتك.
رفعت رأسها المتدلي قليلا لتتمكن من النظر إليه فاضت عينها بخزي من ابنتها وأفعالها؛ فأكمل حديثه:
- هم الاتنين خذلونا، مش عارف التقصير فين في تربيتهم، هما مش هيرتجعوا، عارفين بيعملوا إيه، المهم دلوقتي ابنهم رامي، حفيدنا بذرة المستقبل، عايزين نسقيها بالخير والحب، نلحقه قبل ما يحصلهم، وده اللي جاي لك فيه.
- أي حاجة عشان حفيدي ما أتأخرش عنها، ولو بإيدي حاجة اصلح بها مشيرة مش هاتاخر وعمري ما اتردد فيها.
- للأسف الكبار مفيش في إيدنا لهم غير الدعاء، لكن رامي في إيدنا نحميه من الفساد اللي أبوه وأمه عايشين فيه.
إنسابت دموعها بصمت رثاء على ابنتها، فأكمل:
- كان نفسي اقول لك ما تبكيش! أنا قلبي بيبكي عليهم، الطريق اللى ماشيين فيه آخرته وحشة قوي، ربنا يهديهم! أنا مش عايزك تنصدمي من طلبي، تأكدي أنه لمصلحة رامي، عشان نقدر نوفر له جو أسري على قد ما نقدر.
جففت دموعها، واخذت نفس عميق، وتحدثت وهي تجاهد لإخراج صوتها من شدة اختناقه:
- انا بحترمك من يوم ما ماهر اتقدم لمشيرة وربنا يعلم أنا بقدرك إزاي، إن شاء الله أفهمك صح ونتجنب أي فهم سوء فهم.
- على قد كلامك ما يطمن، على قد ما يقلقني، لأن اللى هقوله ممكن يتفهم غلط، خصوصًا مع حال ابني المايل، أنا هدخل في المهم وكفاية مقدمات، بصراحة، أنا عايز اتجوزك.
اتسعت عينها على آخرها بصدمة، ولم تستطع الربط بين مصلحة رامي وطلبه، فأكمل مفسرًا:
- زي ما قولت لك مش طمع فيكِ وربنا العالم، لكن محتاجك معايا في تربيته، أي طفل محتاج أب وأم، قبل ما أجي لك هنا ماهر كان عندي وبلغني إنه هيطلق مشيرة وهيتجوز، وللأسف مشيرة كمان كانت عايزة تطلق عشان تتجوز، للأسف ولادنا ماشين سكة غلط، وفلوس ابني شبه متأكد أنها غير مشروعه، صحيح مصدرها هو العمليات اللي بيعملها، لكن الناس بتروح له بسبب أنه فاتح لهم بيته لقذاراتهم، عشان كده حرَّمت فلوسه على ابنه، وأنا أتكفل بكل احتياجاته، رفضت حتى الهدوم اللي اشتراها، باحتصار أنا هقوم بدور الأب وأنتِ هتعوضيه عن حنان أمه، مفيش غيرنا هيهون عليه، ده غير إننا هنقفل عليهم باب مشاكل الوصاية بزواجهم هتكون معاكِ، وأنا مش هقدر على بعد رامي كفاية أبوه، أنتِ كمان مش هتقدري على المسئولية دي لوحدك، ده غير إن ماهر أكيد هيضايقك، لكن وجودي معاكي هيقفل عليه الباب ده، اقبلي عشان مصلحة رامي، واوعدك عمرك ما تندمي، وإني هكون ضيف خفيف عليكِ، والتعامل بينا يكون كله ود ورحمة، بما يرضي الله.
ابتسمت بحزن:
- بعد الكلام ده، أنا مش لاقية حاجة أقولها، حقيقي أنت قولت كل حاجة، ولو الولاد نسيوا ابنهم، وفضلوا مصلحتهم وحياتهم على حسابه، فاحنا لازم ناخد بالنا منه، أنا من البداية قولت لك إني باحترمك وأقدرك، وإحترامي لك زاد مع كلامك ده، ما قلش أبدًا، أنا موافقة أكيد ومتأكدة إن الاحترام اللي بينا هيزيد ويتضاعف، واللي قصرنا فيه مع أولادنا ربنا يعينا ونعوضه في ابنهم حفيدنا.
ارتاح الجد أخيرا تمت أول خطوة بنجاح دعا الله بداخله أن يحفظ حفيده! ويعينه على تربيته وأن يبث فيه الصلاح الذي عجز عن زرعته بابنه! وأن يجعله نبته صالحة! كما دعا لابنه كثيرا بالهداية والرجوع للطريق الصحيح وترك طريق الفساد! وكذلك فعلت شهيرة جدت رامي.
وعند حسن عاد من مدرسته فوجد والدته وزوجها جالسان بالصالة على غير عادتهم، فدائما كلٍ في ملكوته، والدته يبدو عليها الضيق وزوجها تعلوا وجهه بسمة تهكم صريحة، وأخيه هاني على غير العادة جالس معهما، كاد ان يتجاهلهم ويتحرك إلى غرفته، إلا أن صوت والدته أوقفه:
- حسن.
التف إليها، وقف محله ينتظر أن تلقي كلماتها بينما انحسب هاني، فأكملت
- أبوك اتصل النهاردة.
ابتسم متهكما
- أخيرًا افتكر حسن، من يوم ما جابني وقال كام يوم نفسيتي تتحسن وهو لا جه ولا اتصل.
رد زوج والدته بتهكم صريح
- بقالوا تمن سنين منتظر نفسيتك تتحسن.
نظر كلاهما إليه بحدة وتحذير فصمت مغتاظًا من زوجته، وأكملت هي:
- عايزك تروح له؛ بيقول وحشته وعايزك تقعد مَعَه كام يوم.
- ماشي
- هتروح بجد!
- مش عايزاني اروح؟
- هتسيبني تاني! عايز تعيش مَعَه من تاني! طاب وأنا؟
نظر إليها بتمعن وبداخله عدة تساؤلات وصراع: «مش فاهمك ولا فاهمه، مخليني كورة كل حد فيكم يشوطها شوية وقاصد يجيب في التاني جون، وأنا! أنا فين من كل ده؟! لا هنا ارتحت ولا هناك كنت مرتاح، هنا جوزك بيرمي كلام تقيل وأفعال توجع، غير المعايرة، أما هناك فمرات بابا سقيتني سم وأكلتني علقم، عمر ما حد فيكم حضني ولا باسني ولا حتى طبطب عليَّا، طيب جبتوني الدنيا ليه؟)
طال شروده، فسالته تعيده لأرض الواقع:
- رد يا حسن سرحت في إيه؟ أكيد هو عايزك عشان يرجع يذلني، وابقي تحت رحمته من تاني، قول إنك مش عايز تروح له.
تأكد ظنه، هو نزال كل منهما يريد الفوز، ليضع الجائرة داخل دولاب جوائزه يزينه بها، فقط شكل جمالي أو كمالي، ليثبت لخصمه إنه الفائز والأقوى، إذن ليتسلى هو أيضًا، فأجابها.
- ما تقلقيش، هشوف بس عايزني ليه؟ ممكن حاجة ضروري.
كادت أن تتحدث، ولكنه تركها واتجه لغرفته المشتركة مع أخيه، بدل ملابسه وبعد فترة إجتمعوا لتناول الغداء، فتحدثت والدته:
- مش أنت ما كنتش مرتاح معاهم، أكيد مراته كانت قرفاك، أنت حكيت قبل كدة أنها كانت بتضربك وتحبسك، عايز تروح تاني ليه؟ أنا عمري ما ضربتك.
رفع نظره إليها بصمت وتأنيب؛ فتلاقت الأعين وسط تجاهل زوجها، فالجميع يعلم معاقبته المستمرة بالحبس داخل البلكونة بأوقات الظهيرة مع اشتداد حرارة الشمس أو بعد أذان المغرب في ذروة برودة الشتاء، فليس كل العقاب بدني فقط، جميعهم إيذاء للنفس والروح، بل لم يقتصر عقابه على هذا فقط، ففي بعض الأوقات يقذف بأبشع العبارات والشتائم، علمت والدته ما دار بذهنه؛ فأبعدت عينيها عن مداه، أمَّا هو فدس وجهه بطبقه وتحدث:
- أنا ما حددتش لسه هاستقر مع مين، ده لو هو هيستقر في مصر، ممكن يرجع يسافر تاني.
- يعني مش هتسافر معاه؟
أجاب ببسمة ساخرة:
- هو أصلا جابني هنا عشان ما أسافرش معاه.
ترك الطعام ونهض، فتساءلت والدته:
- رايح فين يا حسن؟ تعالي كمل أكلك.
حدثها وهو متجه لغرفته:
- شبعت هنام احسن، لما أصحي هبقي اروح له.
فتحدث زوجها يزيد الموقف اشتعالًا وألمًا:
- قولت لك من الأول، ابنك مالوش غالي وهيبيعك، ما هو نسخة من أبوه، شكل وفعل.
- قولت لك ما لكش دعوة، أنا وابني أحرار في بعض.
نظر لها بحدة وسخط:
- ولما هو كده، وقت ما كان يتطاول عليكِ، ولا يقول كلام مش على هواكِ، كنت تسبيني اعاقبه ليه؟ ومش بتحوشيني عنه، ولا عشان لما تتزنقي زي دلوقتي تقولي إنك مش بتضربيه، لو فاكراه عبيط ولا على نياته تبقي غلطانة، ده اتربي مع مرات أب، وبعدها جوز أم، أفهمي بقي.
ترك الطعام ونهض، تلاه ابنه، فالقت الملعقة من يدها وامالت رأسها وسندتها على كفيها بعد أن سندت مرفقيها على الطاولة، وحدثت نفسها دون صوت: «شبهك لأبوك بعدني عنك، كل ما ابص في وشك أشوفه، افتكر غدره وكلامه اللي يوجع، افتكر ظلمه وحقي اللي ضاع مَعَه، يا ريتك ما كنت شبهه، حتى صوتك قريب منه، مش عارفة ألومك ولا أطلب منك السماح».
نهضت هي الأخرى تجمع الطعام وترتب الطاولة، شردت في حالهم، تدرك جيدًا بُعده الروحي عنهم بالرغم من تواجده معهم بذات المنزل، تجاهد نفسها لتفصله عن ذكراها مع والده، وعندما تفشل تتجنبه، حاولت مرارًا ضمه إليها، والتعامل معه بحميميه كأخيه، لكن كلما اقتربت منه أو حاولت، رأت فيه صورة والده فتحول بينهما، بل تصل بها أحيانًا لأن تنفره، لا تعلم،: أهي ظالمة أم مظلومة؟ فكلما حاولت أن تحكم بحيادية تجد إنها ظلمته لأبعد الحدود، ومع والده مظلومة لأبعد الحدود، فما العمل؟! سؤال لا تملك إجابته.