![]() |
رواية علاقات سامة الفصل السادس
مر الوقت استيقظ حسن سريعًا، رغم من استغرقه وقتا طويلًا ليجبر عينه على الانغلاق؛ لم يذوق للراحة طعمًا ويأمل في تذوقها يومًا والنعيم بها.
بدل ملابسه واستعد للذهاب وسط نظرات والدته المترقبة، وزوجها السَّاخرة وأخيه المتابعة، انتهي وتلاقت عينيه بأعين والدته، يجزم إنه رأى داخلهما رجاء، أتخشي فقده؟! دقق النَّظر ليتأكد فابعدت وجهها خشت أن تفضحها عينها، أحَب الإحساس الذي داهمه، استمتع بتلك اللذة، ليس انتقام، إنما شعور أخر لم يذُقه قبلًا؛ فصوت داخله أخبره إنها تخشى فراقه، شعر بحبها له، استلذ بشعوره واستمتع به، يشعر بمشاعر أُم حقيقية، ما أروعها تلك المشاعر!
طوال طريقه يتذكر إحساسه؛ فيبتسم برضى، وصل لبيت والده، استقبلته أخته سعاد التي تعاملت بفتور؛ كأنَّه تركهم من ساعات قليلة، دخل يجول بعينيه المكان داهمته ذكرياته به، وللأسف جميعها بين ظلم وقهر لطفل صغير، لا يعرف حتى الكلمات التي يدافع بها عن نفسه.
بعد قليل خرج إليه والده يرحب به
- ازيك يا حسن، عامل إيه؟
رفع إليه نظره، واعتدل واقفا، ابتسم باشتياق حقيقي، اقترب منه ألقي نفسه بين أحضانه، لعلها لحظة تهور، لكنه لم يندم لما فعل، بادله والده وشدد مِن ضمه، ربت علي ظهره بحنان، لم يبادل اشوقه بكلمات يُعتاد تداولها، لكن يكفي ما شعر به، راحة سكنت فؤاده وأعطته دفعه جددت طاقته لتحمل ما هو قادم، اكتفى حسن بالمشاعر وذلك العناق، فهو أمنية صعُب تنفيذها يومًا، وكأن اليوم يوم تحقيق الأمنيات.
- عامل إيه يا حسن؟ شكلك اتغير كتير، كبرت.
- بقيت في ثانوي، سنتين وادخل الجامعة.
- جوز أمك عامل معاك ايه؟ بيضايقك؟
ابتسم وداخله مدرك إنه سؤال اعتيادي أو ربما يخبره إنه عاش معه بنعيم، حدث نفسه بجملة واحدة 《كلاهما جحيما يا والدى لا راحة هنا أو هناك، ربما لن أجدها، أو قد أصنعها لنفسي يومًا ما》.
- ما بتردش ليه يا حسن جوزها بيضايقك، قول لى ما تخافش.
- عادي يا بابا، تقريبا ما بقتش اتقابل معاه غير وقت الغدا يا إما أنا بره أو بذاكر، يمكن بعد ما سبتني بشوية، فضل فترة وبعدها خلاص.
- مش أنت اللي كنت بتعمل مشاكل هنا وفي المدرسة، والكل قالي إنك محتاج أمك، بتلومني ليه دلوقت؟
- مش بلومك يا بابا، حضرتك سألت وأنا جاوبت مش قصدي حاجة، المهم حمد الله على السلامة، سعاد كبرت قوي، شكلها اتغير تقريبًا ما عرفتنيش.
أجابه ببسمة:
- عندها تسع سنين، بتتكسف شوية، بس أكيد عارفاك، أنا قايل لهم إنك جاي، عارفة إنك حسن أخوها، سامر زمانه على وصول راح يسلم على أصحابه، ما هو كان بيتصل بهم من هناك كل فترة.
رافقهم الصَّمت لفترة، كل منهم يفكر بشرود، ربما لا يجدون ما يتحدثون به، وبعد فترة تحدث الأب:
- جبت كام السنة اللى فاتت.
ابتسم حسن بحزن، فالسؤال فاتر، انتهى أوانه منذ أشهر.
- تمانين %.
- ليه كدة؟ مش كنت بتذاكر كويس، أكيد ما حدش كان تابع معاك ولا اهتم.
- المهم اني دخلت ثانوي، أنا ماشي كويس الحمد لله، ومن السنة الجاية هاظبط دروس ربنا يسهل.
مع نهاية الجملة خرجت زوجة والده وقاطعت حديثهما:
- يا تري الدروس دي مين هيدفع تمنها، لو فاكر أبوك بيغرف فلوس بره تبقي غلطان إحنا عايشين بالعافية.
ابتسم بجانب فمه:
- حمد الله على السلامة.
- أي دروس عايزها يا حسن أنا متكفل بها، وهبعت لك مصروف شهري حاجة معقولة عشان تعرف تصرف وتلبس كويس، أنا صحيح سايبك لأمك، لكن مسؤول عنك ، عايزك تجيب درجات عالية، اهتم بدراستك ومستقبلك يا حسن، عايزك رَجل يعتمد عليه.
أنهي جملته ونظر إلى زوجته نظرة اخرستها، مسترسلًا:
- اعملِ لنا حاجة نشربها وهاتي الموبيل مِن جوة.
تحركت غاضبة، تحدث والده بعملية:
- اسمع مني الكلام ده وفكر فيه كويس قوي، أكيد أنت مش مرتاح، الدنيا دي مش عايزة الضعيف، عايزة القوي، اللي وجعها يزيده صلابة، مش كل حاجة نتمناها تحصل، بالعكس كتير يحصل عكسها، مش معنى كدة نستسلم، لأ، نحارب عشان نوصل لهدفنا، الشاطر يا حسن اللي يتحدى نفسه وظروفه، يشتغل بكل طاقته عشان يحقق حلمه، ومهما وقعت تقف من تاني، كتير ظروفهم صعبة وبيحققوا حلمهم، يمكن أكتر مِن اللى ظروفه مساعداه، ربنا مش بيعمل حاجة وحشة يا حسن، كلها خطوات عشان نوصل حتى وقعتنا محسوبة، عشان تدينا قوة وصلابة، فهمتني يا حسن.
ابتسم حسن بصفاء وامتن لوالده، كلماته عملية لكنها صادقة، امدته بالقوة والثبات لتحقيق ذاته، أكمل والده:
- مصاريف دروسك عليا، وابعت لى أرقام المدرسين اللي هتاخد معاهم، عشان اتابعك، ومصروفك هبعته لك، اعتبره كل دخلك قسمه، وبلاش المشي مع البنات يا حسن، أنت لك أخت، راعي ربنا في بنات الناس، عشان يقعد لأختك، أنا هديك موبيل حافظ عليه، واشتري لك خط كمان، عشان أعرف أكلمك وأنا مسافر، مستقبلك يا حسن، مش هوصيك.
- حاضر يا بابا، ما تقلقش.
ابتسم والده برضى، وبتلك اللحظة خرجت إليهما زوجته تحاول إخفاء ضيقها بكل طاقتها، أعطت زوجها ما طلب، حولت نظرها لحسن بتهديد لم يلاحظه زوجها، ثم سرعان ما رسمت على وجهها بسمة ود مُدعيَّة، تحدث والده وهو يتناول المشروب:
- اشرب يا حسن وبعدين ننزل نشترى الخط.
شعر بسعادة غير منتهية لاهتمام والده، وبعد فترة تحركا، وسط نقم وضيق زوجته، التي تُجاهِد لإظهار عكس ما داخلها، لا تحسب حسن ابن له، وتعامله كضيف وعالة.
انتهيا وعادا إلى البيت؛ فوجدا سامر الذي قابل حسن بترحاب شديد، وأحضان طويلة:
- ازيك يا حسن وحشتني قوي، شكلك اتغير كتير.
سعد بترحيب أخيه وبالحميمية بحديثه، بادله الأحضان بأخرى مشتاقة سعيدة:
- أنت كمان شكلك اتغير جامد يا سامر.
- أكيد ما انا كنت اربع سنين وشوية لكن دلوقتي ١١.
- لسه صغير بردو، عامل ايه في دراستك؟
- الحمد لله كويس، إيه اللى في إيدك ده، بردو بابا اداك التليفون القديم بتاعي، أنا قولته خليه معايا ويديك الفون الجديد، مش عارف ليه ما وافقش! المهم جبت خط ولا لسه.
ماتت فرحته، تمنى لو لم يخبره سامر، أحيانًا الجهل بالشيء أفضل مِن معرفته، لكنه حاول التمسك بسعادته، فبالنهاية معه هاتف نقال لو لم يعطيه ابيه إياه، لم يكن ليمتلكه، وهذا يكفي، أجاب بعد أن أعاد بسمته:
- آه جاب لى خط، خد الرقم بقي وابقي كلمني، بابا قال انك بتكلم اصحابك اللى هنا كل فترة.
- أكيد طبعا يا حسن انت واحشني قوي، فاكر لما كنا بنلعب مع بعض في الحته دي، وتشيلني وتلف بيا، ياااه كانت أيام جميلة، قولى انت عامل ايه؟ بقيت في ثانوي يا معلم، وبتمشي مع بنات.
- يا عم بنات إيه بس؟ انا في مدرسة حكومي البنات لوحدها والولاد لوحدها، مفيش اختلاط، وكده احسن، وبعدين على رأي بابا احنا عندنا اخت نخاف عليها.
- ماشي يا سيدي، يا ملتزم انت، ما تبات معانا يا حسن.
عند هذه الجملة خرج إليهما والدهما وزوجته التي حدجت سامر بنظرات نارية، بينما تحدث والدهما بترحيب للفكرة:
- صح يا حسن خليك معانا، دا أنا طالب كباب وكفتة من محل جامد، وابقي خد هدوم من أخوك، طلع له يا سامر حاجة جديدة، وسيبها لأخوك ما تاخدهاش منه، جديدة يا سامر اديله طاقمين جداد طلعه الهدوم الجديدة يختار منها.
نظر لابنه بابتسامة؛ فبادله إياها بسعادة شديدة اسعدته، بينما اشتد غَضَب زوجته.
هاتف حسن والدته يخبرها بمبيته، قضي يومًا سعيدا ً، امتلاء حديثهم بالضحك والنكات التي تعمد سامر إلقائها طوال جمعهم، ثم سأل حسن والده
- هي اجازتك قد إيه يا بابا؟
- هرجع بعد يومين يا حسن.
- بسرعة كده!!!
رد سامر بتلقائية:
- بسرعة إيه يا حسن! احنا بقالنا أسبوعين ولازم نرجع عشان مدرستي أنا وسعاد، إحنا نزلنا المرة دي في الدراسة عشان بابا كان عايز ورق مهم لازم يخلصه دلوقت.
حدجه والده بنظرات غاضبة متوعده، وانطفأت فرحة حسن؛ تذكره والده بنهاية إجازته، بل غفل عنه بالسنوات الماضية ولم يتذكره لمرة واحدة، أيعتقد أن رابطهم الوحيد هو النقود؟!
وبنفس الوقت سعدت زوجة الأب أخيرًا، ابتسمت برضى مِن كلمات ابنها، رفع حسن رأسه ونظر لوالده بعتاب متحدثًا:
- - ترجع بالسلامة يا بابا، أنا عايز أنام، أدخل فين؟
أجابه والده وكأن شيئًا لم يحدث.
- - في اوضتكم القديمة، هتنام أنت وسامر وسعاد هتنام أوضتها.
- تحدثت زوجت والده تكيده:
- - ما أبوك اشترى أوضة جديدة لسامر بسرير واحد، وغير أوضة الصالون خلاها نوم لسعاد.
تنهد بخيبة أمل:
- يعني ماليش مكان.
- تحدث والده بحسم، ينهي الحوار:
- مكانك مع أخوك جوة، ناموا جنب بعض.
نظر إليه حسن بانكسار وتحرك بقلب محطم، رافقه سامر إلى الغرفة، حاول استدعاء النوم سريعا، ولمَّا فشل ادعاه، هروبًا مِن واقع نكره، لا مكان له به، حتى الفرح عندما زاره لفظه سريعًا، صدق قول والده تأتينا الدنيا بعكس ما نتمنى.
بالصباح بدل حسن ملابسه تناول فطوره وهو شارد الذِّهن، حاول تمثيل الفرح، لكنه فشل، كاد أن يغادر فناداه والده، التفت إليه دون حديث وانتظر سماع ما سيلقيه عليه والده:
- افتكر كلامي يا حسن، هقابلك بكرة بدري عشان اخلص معاك مشاوير ضروري، معلش بكرة كمان مفيش مدرسة، خد حاجتك والتليفون، واهتم بمذاكرتك، خليك أقوي من الدنيا دايمًا، أدخل خد هدومك مِن جوه.
اتي سامر وبيده حقيقة هدايا ورقية كبيرة تحوي الملابس التي اختارها حسن بالمساء، واعطاه إياها، وعلى وجهه بسمة عريضة.
- الهدوم أهي يا حسن.
- خدها يا حسن واسمع الكلام، وبكرة هنكمل كلامنا، اتفقنا.
أومأ وتحرك منهزمة مكسورة كقلبه.
تجلس وحيدة مهمومة، تعلم أنها ليست أم مثالية، ربما تعامله ببعض من الجفاء واللامبالاة، لكن وجوده معها يكفي، تراه دومًا مهما حدث أو يحدث بينهما، احساسها بفقده سابقا كان قاتلًا، تعلم أنه تناقض بها لن تنكر، تُعَنِّف نفسها أحيانًا، تحبه وتشتاق إليه، كثيرًا تنوي عناقه وبثه حنانها؛ وتتراجع حين ترى صورة والده بشخصه؛ فتتحول الى الجفاء والجمود.
حالتها سيئة متوترة مضطربة جفاها النَّوم طوال اللَّيلة الماضية، تخشي ألَّا يعود إليها، تعلم شعوره تجاهها، لا يُدرك قدره بقلبها، وهي لم ولن تستطيع البوح له.
عاد حسن؛ فغمرتها السعادة وانتفض قلبها لحظة دلوفه للمكان، لكنها لم تفصح أو تبدي له، على العكس تمام تحولت نظرتها السعيدة إلى الحدة مع إلتفاته لها، وصاحت به غاضبة:
- أخيرًا جيت، أول حاجة عملها غيبك عن المدرسة، طبعا ما هو مش فارق معَه غير مصلحته وخلاص، وتلاقيه مشورك ولا شغلك في البيت ووفر مجهود عياله ومراته، ما هو لو كان شايفك ولا عدك مِن ولاده كان أخدك معه وهو مسافر، مش سابك هنا واتحجج بمشاكلك، وهو أصلا اللي كسر لك رجلك.
تضغط عليه وهو فقد بالأمس كل الطاقة التي استجمعها منهما، يسأل نفسه، لمَ حظه عسر هكذا؟ متي ستبتسم له الحياة؟ أليس مِن حقه أن يحيا كباقي البشر؟ تنهد بيأس:
- ماما، ممكن أدخل اريح شوية؟ ونأجل النقاش ده بعدين، أنا مش رايح المدرسة بكرة كمان بابا عايزني في مشوار مهم.
- كمان مش رايح بكرة، ومشوار إيه ده؟
- مش عارف، لمَّا أعرف هاقول لك.
تحرك لغرفته وحمد الله أنَّ أخيه بالمدرسة؛ أغلق باب الغرفة بالمفتاح ثم سمح لدموعه بالتحرر، لا زال طفلًا وطفولته ضائعة، بكى ليغسل همومه ويستطيع تحمل المزيد والمزيد، يشعر بتعب وإرهاق كما لوكان يعدو لمسافات طويلة، ولا زال ينتظر الراحة.
باليوم التالي ذهب حسن إلى والده، الذي لاحظ ذبوله وألم روحه الطَّاغي على مظهره، تألم مِن أجله ومنعه كبريائه مِن التحدث معه، يوقن أنَّ زوجته سبب حالة حسن، أخبرته ألَّا مكان له بينهم، أدرك نيتها تجاه ابنه متأخرًا، لا يستطيع تركها مِن أجل أولاده يكفي تجربة مُرَّة واحدة، وبنفس الوقت كيدها أحيانًا يسبقه ويلجمه، تحرك مع ابنه فعَّل له حساب بنكي بوصايته وفيزا يستطيع من خلالهما إرسال الأموال إليه دون الوصول الي أمه أو زوجها، توقع أن يُذهِب ذلك هم حسن ويعيد إليه بسمته البسيطة التي رآها سابقا، وذهبت أمنيته هباءً، لم يُدرك أن ابنه يريد فقط رغد الاهتمام والحب، بعد أن انتهيا جلسا بأحد المطاعم، تحدث والده في محاولة لتخفيف عنه:
- تأكدت يا حسن إن مش كل اللي بنتمناه بيتحقق.
طالعه بأعين ذابلة منكسرة، تجمعت الدموع التي لم تفارقه طوال الليل عادت لتسكن جفونه؛ فانهارت حصون والده للحظات معه، لم يتخيل يومًا أن يكون سببًا لانكسار أحد ابنائه، جلس جانبه ربت على ظهره بحنان لم يتعامل به سابقًا، وتحدث بحنان ونصح أبوي:
- عمري ما نسيتك يا حسن، ما فيش أب مهما كان قوي أو قاسي ينسي ابنه، مش العفش اللى هيبين فاكرك ولا نسيك، وزي ما شوفت إحنا مش موجودين فيها، يعني بننزل ترانزيت، أيام ونرجع تاني، كل مرة انزل بروح لك المدرسة واشوفك من بعيد، مش خوف مِن حد، لكن كنت صغير قوي صعب تفهم إنك تشوفني شوية وامشي.
صمت قليلا لا يعلم كيف يُخبره باعتياده على هذا بمرور الوقت، إعتاد أن يتابعه عن بُعد، ولا يعلمه بوجوده، لكن تلك المرة أراد رؤياه والقرب منه، فلأول مرة يراه شابًا كبيرًا، ربما سنه أقل مِن الشباب، لكن أفعاله التي رآها وتعامله مع المحيطين به تحركاته التي تابعها بصمت، أكدت له أنه أصبح شابا، بل رجل صغير يتحمل مسئولية نفسه، رجل يعتمد عليه، هذا مع الكثير من الأسباب الاخرى، هي ما جعلته يتصل به ليجلس معه ويحدثه.
لم يتجاوز تفكيره حدود عقله، ولا سبيل له لتجاوز تلك الحدود، أحيانًا تصمت الالسنة وتتحدث النَّظرات، وربما المشاعر، قطع الصَّمت مرة أخرى، تحدث بما يستطيع البوح به:
- أنت البكري، مهما كانت مشكلتي مع أمك، مش جامعك معها، ووعد كل إجازة أنزلها نتقابل واقعد معاك وتشوف اخواتك وتتفسح معانا، عايزك قوي يا حسن، ما تسيبش الدنيا تسوقك للي هي عايزاه، لأ، عايزك انت تحدد عايز إيه؟ وتعمله مهما وقف قدامك صعوبات، أدام واثق إنه صح ويرضي ربنا، يبقي عافر وقاوم، شوف عايز إيه واعمله، خليك متأكد إن أبو حسن بيحب حسن، ومهما حصل اوعي تدخل الشك لقلبك في يوم، يمكن بس بحبك بطريقتي، يمكن المسافات بعدت بس الحب موجود لأنه غريزي يا حسن، ربنا اللي وجده جوايا وجواك، أقول لك على حاجة حتى أمك بتحبك بس بطريقتها، هي مش بتعرف تعبر ودي مشكلتها.
نظر إليه حسن وبداخله مشاعر متناقضة ومتداخلة، حديث والده اراحه كما شتته، اسكن جروحه قليلا، حفَّزه وجدد طاقته، نمت بسمة صغيرة على وجهه بالكاد ترى، أراحت والده قليلا، فابتسم له ببشاشة:
- كدة يبقي نطلب غدا وحلو كمان.
ضحك حسن بخفوت، ومسح دموعه العالقة بجفنيه، فاسترسل والده وهو يفتح قائمة الطعام:
- خليك دايما أقوى من الظروف وأقوى مِن الأسعار اللي قدامي دي.
صدحت ضحكته بسعادة من طريقة والده الجديدة عليه. مرت جلسة جميلة لم يعكر صفوها أي كلمات مقصودة أو غير مقصودة، جلسة بدأت حزينة وانتهت سعيدة وابدلت طاقتهما السلبية بأخرى إيجابية دافعة للأمام.
مر الاسبوع سعيد يُغيِّر مجرى حياة الجميع، عدا طيف؛ فأسبوعها مؤلم لما تخيلته عن خطبة الضابط، ولم يكن نقطة فاصلة بحياتها كالجميع. لا زالت تشعر بوجود الضابط حولها أحيانًا بالجامعة أو المترو؛ فتلتفت بكل اتجاه مرات تجده بالقرب وأخرى لا؛ فتتوقع توهمها بوجوده، حتى كادت أن تُجَنْ.
كعادة الحياة مع طيف تُغير مجريات أمورها متأخرة، بالأسبوع التالي، بيوم عادت منهكة من يوم جامعي حافل، وقلب حزين فهي لم تشعر بوجوده لأربعة أيام متتالية، كل يوم تمني نفسها برؤياه أو حتى الشعور بطيفه، خطت للداخل وحمدت ربها، أن أباها لم ينتظرها بحفل من السُّبَاب والصَّفَعَات كعادته معها؛ هي مُرهقة جسديا وفكريًا بما يكفي، وعندما توسطت المكان أتتها كلمات والدها الآمرة دون أن يحول نظره إليها وظل ينظر للجريدة بيده.
- مفيش جامعة بكرة وبعد الغدا تقومي تظبطي البيت في عريس جايلك بكرة وعايز يشوفك.
اذهلتها كلماته، هي ما كانت تنقصها لتقضي عليها، تحدثت تحاول الفرار من مصير تخشاه:
- عريس! بابا الترم لسه في أوله، أجل موضوع العريس شوية، أنا كمان تعبانة مش هقدر أعمل حاجة زيادة في البيت النهاردة، خليني اشتغل وهديك مرتبي كله أخد بس فلوس المواصلات مش لازم حتى فطار هاكل من البيت.
بهدوء شديد ترك الجريدة، وتحرك نحوها للحظة شعرت إنه مال لرأيها، لكن عنما اقترب منها ووقف على بُعد نصف متر منها على الأكثر، وتمكنت من رؤية تعابير وجهه بوضوح ارتجفت وشحب وجهها الذي تلقى صفعة مدوية، تركت خلفها علامات أصابعه مرسومة على وجهها، اعقبها بكلماته التي لم تختلف عن صفعته:
- كلامي ما يتكسرش، خصوصًا من واحدة، أنت هنا ما لكيش رأي ولا صوت، تعملى اللي ءأمرك به وبس، العريس جاي بكرة، يا تخلصي اللي قولت عليه باحترامك ومن نفسك، وإلَّا أنت عارفة بالظبط هتخلصي ازاي.
عاد لجلسته واسترسال غير أبه لتعابير وجهها المصدومة والتي حاكت الأموات:
- وابقي نامي وارتاحي بعد تخلصي البيت، أما الترم ده فبراحتك لو سقطتي مش هتعيدي، أو على الأقل مش هتعيدي في البيت ده، ابقى عيديه في بيت جوزك لو وافق، ومعلومة عشان نقفل الحوار لأني صدعت، العريس أنا وافقت عليه أساسا، وجاي لأنه عايز يشوفك ويتكلم معاكِ، يعني المقابلة تحصيل حاصل، يلا امشي اعملى اللي قولت عليه من غير كلام، حطي الأكل الأول عشان اتغدى وأنام شوية قبل ما أنزل، مش بحب اقعد والبيت بيتنفض مش برتاح.
تحرَّك لغرفته واستلقي على الفراش، وأكمل إلقاء أوامره:
- حضري الأكل بسرعة.
بكت بصمت، يشعرها دائمًا ويعلمها مرارًا ألَّا قيمة لها، عروس ماريونيت وهو المتحكم بخيوطها، يحركها كيفما شاء، حتى أبسط حقوقها يسلبها منها، كل شيء: راحتها، مستقبلها، سعادتها وعمرها، ليته يسلب منها حياتها ويدفنها تحت الثرى! فتنعم بالراحة الأبدية؛ فبالتأكيد سيرحمها الله ويعوضها عن عذاب الدنيا الذي تعيشه منذ وفاة والدتها.