رواية علاقات سامة الفصل الثامن
عادت سهام وابنتيها لبيت زوجها سامح، الذي نفذ ما كل ما طُلب منه نصًا؛ لضمان استمرارية الحصول على الأموال مِن الجد، فقد كان كريمًا بسخاء، حرصًا على راحة حفيدتاه، كما سعدت سهام لما أخذت.
بهذا اليوم قبل عودة اسرته، اهتم سامح بالمكان كما أمر حماه، واشترى جميع احتياجات البيت من طعام وفاكهة وبعض المستلزمات، ثم ذهب إليهم وعادوا جميعا، رافقهم الجد (الحاج محمد)؛ ليتأكد من تنفيذ كل ما أراد، السعادة ارتسمت على وجهي نادية وشيماء، لم تتوقعا أي منه، بيت نظيف وطعام وفاكهة مستلزمات كانت من الممنوعات سابقا، نظرتا الى جدهما وكأنه يملك العصا السحرية؛ فبادلهما النظرات ببسمة بشوشة، ووعدهما باللقاء بنهاية كل أسبوع، لم يعد سامح يستخدم العنف الجسدي، لكنه ما زال يعنفهم بالحديث الفظ، يصرخ علي كلتيهما، يُسمعهما سيء الكلمات، لم تبال سهام بما يحدث؛ فكانت ترتب أولوياتها لما ستفعله بالمال الذي أخذته وستأخذه من والدها كل شهر.
انفصل ماهر عن مشيرة وكل منهما أعلن عن خطبته لأخر، بل حددا موعد الزفاف، كما تزوج الجد محمود والجدة شهيرة، في محاولة منهما لتكوين أسرة بديلة، يستطيعا من خلالها تربية رامي في جو صحي قدر المستطاع، اتسمت حياتهما بالمودة والرحمة دائمي التبسم، عاملا رامي بهدوء وسعة صدر، عم البيت الدفء الأسري والطمأنينة، وأخيرا شعر رامي بالاهتمام وإنه بصدارة الأولويات، مكانته لهما الأولى والثانية والثالثة شعور رجاه من والداه ولم يحصل عليه.
عاد حسن لرتابة حياته مِن بعد سفر والده، وعادت والدته لعادتها معه، وكأن الفترة التي تواجد بها والده وما شعر به مِن اهتمام كانت حُلمًا أو وهم عاشه وسعد به، وأضيف لرتابة يومه بند روتيني وهو اتصال يومي من والده، تغزوه كلمات تقليدية بلا روح؛ للاطمئنان على أحواله، لا تتجاوز مدته الخمس أو العشر دقائق.
فُرضت على طيف قيود جديدة، تكفيها نظرة واحدة من شهاب ليشحب وجهها وترتجف أوصالها، لا تعلم لمَ! لكن غموضه وحديثه شديد الأختصار يرهبها ويجعله مخيفًا لها.
لم تعد تشعر بوجود الضابط؛ فتصورت أنَّه ارتبط بالفتاة التي حدثها عنها، حتى حدث ما لم يخطر ببالها، شعرت بوجوده أخيرًا، بعد تمني استمر لثلاثة أسابيع، وكعادتها كلما تشعر به تجوب المكان بمقلتيها بحثًا عنه، تتلفت بهيستيرية، انتفض قلبها فرحًا، جذبت انتباه صديقتها ولم تكن الوحيدة؛ فشهاب يراقبها دومًا، ادهشته حالتها واستدعت كامل تركيزه لمعرفة سببها، ثوانٍ بسيطة مرت عليها وهي على حالتها، حتى ظهر وتجلى أمامها بابتسامته الصَّافية، اقترب منها ووقف أمامها:
- ازيك؟
- تأخرت كتير.
اتسعت ابتسامته لاهتمامها وملاحظتها غيابه:
- غصب عني، اتصابت وكنت في المستشفى، مش بايدي.
علت ابتسامتها السعيدة وجهها ثُمَّ تحولت لأخرى حزينة وتجمعت الدُّموع بمقلتيها وحاولت حبــسها لألَّا تتمرد عليها، لتفضح أمرها؛ فتعجب من حالتها وضياع فرحتها، قبل ان يسألها فاجأته بسؤالها:
- خطبتها خلاص؟
تعجب من سؤالها:
- هي مين دي اللى خطبتها؟!
- اللي سألتني تقولها امتي، حظها جميل، مبارك ليكم.
تعجب منها، أظنته يحدثها عن غيرها؟!! توقع معرفتها أنَّه يقصدها دون سواها، وأدرك الآن انها لم تصل إلى تلك الحقيقة حتى الآن، كاد يقولها صريحة، لولا ذلك الخاتم الذي حاوط إصبعها، وصنع بينهما حائل منيع، فسألها بصدمة:
- اتجوزتي! قولتي مش حابة ارتباط أثناء الدراسة!!!
فاضت دموعها وتمردت عليها، ثارت على حبـسِـها، اقتربت سهي تنهي الموقف قبل يصبح أكثر تعقيدًا، تحدثت بلباقة وبكلمات تقليدية:
- والدها وافق، والعريس كويس ادعى لها بالتوفيق هما كتبوا الكتاب خلاص، اتجوزت.
صمتت الألسن وتحدثت الأعين والنظرات، انتحبت المشاعر، وبصمت رحل وغادر الجامعة كلها، لم يلتفت خلفه، جذبتها سهى برفق لمقر اجتماعهما، وهناك تحدثت:
- مش عارفة أقول لك إيه؟ كان بيكلمك عنك، وأنَّه عايز يتقدم لك، وأنتِ فهمتي غلط ورديتي غلط.
طالعتها بألم ودموع أبت التوقف واغرقت وجهها، فسألتها سهى متعجبة:
- طيف أنتِ.. أنتِ بتحبيه؟!
- مش عارفة، موجوعة، موجوعة قوي، حاسة بخيبة وحسرة، لو كان ليَّا أب يخاف عليَّا كانت حالتي اختلفت كتير، كتير قوي.
استمع شهاب لحوارهما وارتسمت على وجهه نِيْرَان الغَضَب وتوعدها بالعذاب، راقب ما حدث منذ حضر الضابط وبعد رحيله أيقن اتجاههما إلى مقرهما الدائم جانب مكتبه؛ فسبقهما وانتظر قدومهما.
رمقتها برثاء ولم تجد ما تخفف به عنها أو تواسيها، ربتت على ظهرها بصمت، ثم وجدت متابعة ومواصلة اليوم أفضل حل.
- يلا يا طيف نرجع المدرجات مش فاضل على المحاضرة كتير، يادوب على ما نوصل المدرج.
قبل أن تتحرك طيف مِن موضعها استمعت لصوت شهاب الهادر باسمها:
- طيف.
شعرت بروحها تغادر جَسَدَها، أبيض وجهها مِن شدة الذعر، لم تشعر بجسدها الذي تهاوى مِن فرط الخوف والرَّهبة؛ فأدركها شهاب قبل السقوط، ادخلها مكتبه، تابعت سهي ما حدث وتوقعت من حالة طيف أنَّه زوجها شهاب، لم تدرِ ما عليها فعله؛ نظر إليها شزرًا، كاد يحرقها بنظراته؛ فأشفقت على طيف.
وضعها على الكرسي المقابل للمكتب، حررها مِن حجاب رأسها فلا زميل له بالمكتب، استعادت طيف وعيها، فتحت عينها ببطء، وانتفضت بذعر حين وقع بصرها على شهاب، الجالس فوق الكرسي المقابل لها بهدوء متوعد، تبادلا النظرات هي خائفة مترجية وهو حارقة متوعدة، راقبت سهى ما حدث باشفاق على صديقتها، لا تعلم كيف تساعدها! تحدث شهاب يجرد طيف مِن آخر منقذ لها براثنه:
- انسة سهى، تقدري تروحي تشوفي باقي محاضراتك طيف معايا، ومش هتكمل اليوم.
- استاذ شهاب حضرتك...
- قولت لك اتفضلي، خلاص هي مش هتكمل اليوم، وأنا عايز اتكلم معاها لوحدها.
الصدمة الجمت طيف، تتابع حوارهما بصمت مرتجف، نظرت إليها سهى بأسف ثُمَّ مضت؛ فليس أمامها خيار أخر، ورمقها شهاب بسعير ملتهم وحدَّة ارجفت قلبها، تسارعت دقات قلبها بجنون مذعور، ازداد شحوبها، بدت كالأموات، دني إليها قرب وجهه من وجهها تحرقها أنفاسه:
- المفروض اقول ايه في الموقف ده!! واحد شاف مراته واقفة مع واحد تاني وفي عينها دموع الاشتياق، المفروض اعمل إيه؟
- والله مش كده! أنت فاهم غلط، والله!
- قومي، مش هنتكلم هنا، ومش عايز نفس طول الطريق، عايزك خارسة لحد ما نوصل.
تحركت معه بخوف نحر أوصالها ولا خيار لديها، فقط تنفذ ما تؤمر به كحالها دائمًا، وبهذه المرة مخطئة لا عذر لها، بديا كحبيبين مشتاقين، سارت بجانبه تسرع قدر استطاعتها، لتساير خطواته المسرعة بتعمد قصده لتبدأ خطواتها معه للشقاء.
وصلا لبيتها ارتعدت كاد قلبها يتوقف مِن شدة الذُّعْر، ستكون بمفردها مع والدها وزوجها، لا منقذ ولا مغيث، ثقلت خطواتها فاتاها صوته بفحيح ثابت بثها الرُّعب وسحب الدِّمـاء من أوردتها:
- الحساب لسه فوق، أجلى عمايلك دي لما نطلع.
هوى قلبها ارضًوا تمنت الموت؛ فهلاكها بالأعلى، خطوات قليلة ثُمَّ اصبحا أمام الباب طرقه شهاب والغَضَب يتراقص على وجهه ولم يخفَ على والدها، دخل وهي خلفه تخشى النَّظر بوجه والدها، تحيد بنظرها عنه؛ فتساءل بتوجس:
- في إيه؟ مش معاد رجوعها، البت دي عملت إيه؟
أجابه الصَّمت، شعرت إنها على شفا السقوط بالهاوية، وهو استمتع برعبها الجلي، استشف والدها وقوعها بخطأ جلل؛ فتحفز للانقضاض عليها، التزم شهاب الصَّمت حتى وصل والدها لأقصى درجات الغَضَب، هَمّ بافتراسها؛ فتحدث شهاب مانعا إياه مِن الإقتراب، لحظة واحدة مرت عليها دهرا:
- عايز اكلمها على انفراد.
- براحتك، بس افهم عملت إيه؟
رمقها بشراسة وتوعدها بكلماته:
- شكل موتك على ايدي النهارده، ادخلوا في الصالون واخلصوا عشان افهم، مش فيلم هو.
جلس بثقة على كرسي يتوسط المكان، بدا كمحقق يستجوب مذنب، ووقفت هي أمامه كمن قبض عليها متلبسة بجريمة زنــا، صمت يستنزف ما بقي من قوة تحملها، ثم تحدث أخيرا بهدوء مخيف:
- اقفلي الباب وتعالى قدامي.
امتثلت له فعلت ما طلب، ثم عادت ووقفت أمامه بجسد منتفض، سألها بفحيح:
- مِن غير كذب، كنت عارفة أنَّه جاي ومنتظراه، صح؟!
أجابت ببكاء:
- أبدًا والله! والله العظيم ما كنت أعرف! أنا لقيته قدامي مرة واحدة.
- اقعدي.
كادت تجلس على أقرب كرسي، لولا اتاها صوته قبل ملامسته:
- على الأرض، اقعدي على الأرض هنا قدامي، قربي.
أغرقت دموعها وجهها، شعرت بذل ومهانة، ولا مفر لها من الامتثال أمره؛ فدنى منها، واسترسل متسائلًا:
- عارفة حد في مكاني كان عمل إيه! طبعًا عرفتي إني سمعت كل اللي حكتيه، كنت مصاحبة واحد وسابك، بعدها علقتي ظابط من المترو، تفتكري أبوكِ ممكن يعمل إيه لو عرف؟ عارفة المفروض أنا أعمل ايه! تخيلي كدة لو طلقتك وقولت للسيد الوالد اللي حصل.
انهارت وتحدث برجاء:
- والله فاهم غلط! أنا حتى ما اعرفش اسمه، والمترو كان موقف وهو ساعدني والله العظيم! بلاش بابا بالله عليك، أنت شوفت كان عامل ازاي، والله! والله يا شهاب ما كنت أعرف انه جاي!
- اصدقك ازاي وانت كنت بتدورى عليه لحد ما ظهر.
نظر بداخل عينها بقوة:
- عيطتِ لما ظهر، للدرجة دي وحشك! كنت فاكرك محترمة، عايزاني اصدقك ازاي؟!!!
- اقولك ايه عشان تصدقني!!
اعتدل بجلسته، وأرجع ظهره للخلف بكبر، وضع ساقه فوق الآخر وتحدث بصرامة:
- فاكرة أول مرة تقابلنا هنا قولت لك أيه؟ قولت لك ما تقفيش مع أى ولد في الجامعة، الدكاترة والمعيدين وبس ولو حصل هاعمل إيه؟؟
- بالله عليك بلاش بابا! اعمل أي حاجة بس بلاش بابا.
- ما اتعودتش أرجع في كلمة قولتها، قومي.
نهضت بوهن تحركت خلفه، خارج الغرفة يجوب والدها المكان كالواقف على صفيح ساخن، غَضَبه يتزايد ويتضاعف مع كل ثانية تمر، وما أن رآهما تحدث بحنق:
- افهم بقي فيه إيه؟ مش هفضل كدة كتير.
- باختصار، بنتك كانت واقفة في الجامعة مع واحد، ومش حد من زمايلها، لا ده ظابط من بره الجامعة، يعني بنتك تعرف واحد وبيروح لها الجامعة كمان.
انـفـجر بركان غَضَبه وانطلقت نيـرانه تلتهم طيف؛ فانقض عليها يصْفَعْها، عدة صفعات مدوية، واحدة تلو الأخرى، تزداد قوتها وسرعتها، تورم وجهها، وهي تدافع عن نفسها عسى ان يسمعها:
- والله يا بابا مظلومة! والله مظلومة! اسمعني بالله عليك!
تصرخ وتتلوي بين يديه، وشهاب يراقب ويتابع بصمت دون تدخل، التهب جسدها وتورم وجهها، تصاعد غَضَب والدها ووتيرة أفعاله؛ فدفعها أرضًا، ودلف غرفته وهو يتوعدها، يلقي عليها افظع السُباب، ثم عاد بيده حبل وحزام على وجهه غَضَب قاتم شديد السواد:
- انا هوريكِ، يا تتربي يا تموتي ولا أني أشيل عارك.
انتفـضـت تزحف للخلف؛ فجذبها من ملابسها لتقف أمامه، تهدجت انفاسها، اختلط كلامها بشهقاتها وترجيها:
- بالله يا بابا بلاش! أنا آسفة خلاص، بالله عليك! أنا آسفة.
كاد يقيد يديها، لولا منع شهاب له؛ فوقف أمامه وتحدث بصرامة:
- حاسبها معايا.
بحركة تلقائية تشبثت بملابسه، وهي تنتفض وترتجف، طالعه والدها بغَضَب وتدقيق، ايقن أنَّه ليس بهين، تراجع للخلف بضع خطوات يراقب ما سيحدث، أما شهاب فابتسم بانتصار، اكتفي بهذا الحد حتى الآن، وصل لمراده، فهي أيقنت الآن إنه المعذب والمنقذ، بحر غريق وقارب نجاة؛ جهنمها الحمراء وجنة الخلد؛ التف لها وتحدث بحدة غاضبة:
- مفيش نوم النهاردة إلَّا وأنتِ منفضة الشقة كلها، قبل كدة ما فيش نوم ولا حتى تقعدي، الجامعة أسبوع مفيش، صاحبتك سهى تقطعي علاقتك بها نهائي، لو لمحتك بتقولى لها صباح الخير مفيش امتحانات ومش هتعيدي السنة، وابقى اشوفك واقفة مع زميل ولا اي راجل، بين المحاضرات يا إما تقعدي معايا في المكتب أو تطلعي المكتبة، وبقول تاني تقطعي علاقتك بصاحبتك نهائي، كلامي مفهوم ولا أخرج من هنا ومش راجع تاني، واتصرفي مع أبوكِ، ده غير سمعتك اللي هتضيع لما تطلقي وفرحك يتلغي.