رواية جوازة ابريل الجزء الثالث الفصل التاسع
في قلب العاصفة ، حيث يلتقي الحب بنيران الجروح ، يشتعل لهيب في القلوب لا تنطفئ حرارته ، ويعجز اللسان عن شرح ما يختلج في الأعماق ، فتظل الصرخات مدفونة في الصمت ، ويُفهمها فقط من يملكون الشجاعة لاحتضان الألم فى السكون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دحرجت عينيها نحوه ببطء ، كأنهما تجرّان خلفهما ثقل الصدمة ، لتلتقي نظراتها المشبعة بالدموع بنظراته الغامضة ، اشتدّ صوت أنفاسها المرتعشة ، قبل أن تنطق بنبرة مخنوقة بحبل الإنكار : دا محصلش .. صح!! قولى محصلش؟
لم تنتظر ردًا منه ، فقد باحت نظراته بما حدث ، لتنفجر صرختها المفزوعة فجأة كأنها انبثقت من جرح دفين تشكّل في طفولتها الممزقة : إزاي!! تعمل كده؟! إزاي؟!
تهدجت أنفاسها ، وتمزقت كلماتها التي امتزجت بالدموع ، مما أثار القلق في قلبه.
_اهدي يا إبريل .. اسمعيني يا حبيبتي!!
ردد باسم بهدوء يكسوه بعض التوتر ، بينما امتدت يده نحوها بحذر ، محاولاً لمسها ، لكنها تراجعت سريعًا إلى الوراء ، وكأنها تفرّ من لهيب يقترب منها ، وصاحت بصوت هشًّا ، وهي تشير إليه بإصبعها المرتجف : سيبني .. ما تلمسنيش!
تقدّم باسم خطوة أخرى نحوها ، عازمًا على احتواء الموقف ، لكنه فوجئ بها تمسك بأحد الوسائد على السرير ، وتقذفها عليه بقوة ، تفاداها بسهولة ، لكن لمعة الغضب في عينيها جعلته يدرك أنها على وشك الانهيار وفقدان السيطرة.
_إبريل!! في ايه اهدي شوية..!!
رددت ابريل بغضب مخنوق بالبكاء : ابعد عني يا حقير! يا منحط! أنت...!
لم يتزحزح قيد أنملة ، بل تدفقت نيران غضبه كالموج العاتي في عروقه ، من جنونها الذي اهتزت معه جذور صموده لوهلة ، ليقاطع صراخها بصوت قاسٍ ، وهو يقبض على كتفها بقوة تكبح أي مقاومة منها : اخرسي! كفاية صريخ وقلة أدب .. واسمعي اللي هقوله..
رفعت ابريل رأسها نحوه ، عيناها تتوهج بنظرات نارية تحمل كل أوزار الألم ، بينما دموعها تتساقط برقة ، حاولت أن تحرر نفسها منه ، وهي تضرب صدره بكلتا يديها بوهن ، وهمست بصوت مبحوح : هتقول إيه يبررلك اللي عملته فيا؟!
حدق باسم بها بنظرة عميقة ، ثم هتف بنبرة مشبعة بالاستنكار : عملت فيكي إيه؟ ها؟ بتتكلمي عن اللي حصل بينا كأنه جريمة؟
أنا ماغصبتكيش عليّا ولا انتي حاولتي تبعديني عني يا إبريل!!
احمرت وجنتاها بلون الشفق الخجول ،
وكأن الكلمات تمردت على قيود شفتيها : بس انا ماكنتش دارية بحاجة!!
قاطع باسم تبريرها المتهالك بصوته الحاد الواثق : كنتي دارية بكل حاجة حسيتيها معايا ليلة امبارح .. كنتي متجاوبة جدا معايا جدا وانتي في حضني..
اطرقت ابريل رأسها هرباً من نظراته ، وقد تلون وجهها بألوان الطيف من فرط حرجها وجراءته ، بينما واصل حديثه وصدره يرتفع وينخفض من الإنفعال : بس واضح إن الحكاية محتاجة وقت عشان تهضميها...
تدلت يديه عن كتفيها ببطء متعمد ، ثم ابتعد بخطوات ثقيلة نحو الباب ، وتابع بنبرة باردة : هسيبك علي راحتك تغيّري هدومك وتهدي شوية
خرج باسم تاركًا إياها متصلبة فى مكانها ، تجاهد لاستيعاب كل ما حدث ، وغصة ثقيلة تقبض على حلقها.
تحركت ابريل بخطوات بطيئة ، ووقفت أسفل المياه المتدفقة ، والدموع تتساقط بحرقة على وجنتيها ، عقلها غارقٌ في دوامةٍ من الخوف والرهبة ، وقلبها يرتجف تحت وطأة ما حدث ، الذى تخشى للغاية أن يكون خطأً فادحاً إرتكبته فى لحظات مفعمة بالعشق وستدفع مقابلهم ثمناً باهظاً طيلة عمرها ، فهى لا تستطع نسيان أن سبب إقترابه منها من البداية هو دافعه الإنتقامي من أختها ، وهذا هو مصدر خوفها ، والسبب في هروبها المستمر منه ومن نفسها ، هي تحبه ، وتعلم جيدًا أنها لا تستطيع التحكم في مشاعرها عندما يكون قريبًا منها ، وهذا ما يزيد من غضبها.
خرجت ابريل من الحمام بعد قليل ، وتوجهت إلى الخزانة ، وارتدت فستانًا من اللون النبيذي ، ضيّقًا عند الخصر. وأكمامه طويلة ، يصل إلى ما بعد الركبة قليلاً ، وقفت أمام المرآة تمشط شعرها المبلل ، قبل أن تنقطع شرودها من خلفها بصوته الهاديء : عملتلك قهوة معايا زي مابتحبيها
تنفست ابريل بعمق استعدادًا لمواجهته ، خفق قلبها بين جنبيها كجناحي طائرٍ يوشك على أن يحطم قفصها الصدرى ، حالما وقع نظرها عليه عاري الصدر ، جسده مشدود مفعم بالقوة والرجولة ، يرتدي بنطال قطن رمادي ، وحافي القدمين مثلها ، ويديه ممسكتان بفنجانين القهوة.
ضغطت ابريل على المشط بقبضتها ، ثم رمته على الأرض بقوة ، ونظرت إلى الفنجان الممدود نحوها ، ثم دفعت يده بعيدًا عنها بشدة ، فسقط منه وتطاير محتوياته مع صوت تحطمه إلى شظايا ، تجمدت نظراته المصدومة علي الأرض لوهلة ، قبل أن يرفع رماديتيه إليها حالما قالت ببرود مرتعش : هيبقي عندي نفس لأي حاجة في الدنيا ازاي بعد اللي حصل؟
كرد فعل مفاجئ ، رمى الفنجان الآخر على الأرض بخشونة ، انتفضت متراجعة بذعر ، وعيناها تلتقطان وميض شررٍ في رماديتيه ، كبرقٍ يسبق عاصفة مخيفة ، قبل أن يهدر صوته كسيلٍ جارف : كفاية بقي تعيشي في دور المصدومة دا كتير!! انا صبري نفذ معاكي...
ضيق باسم عينيه عليها بنظرة حادة ، فيما استرسل بنبرة تنضح بالبرود والفظاظة : وبعدين مالو اللي حصل!! ماظنش انه كان وحش اوي كدا؟ عشان تضايقي لدرجة انك مايبقاش عندك نفس لحاجة في الدنيا!؟
تلميحاته الوقحة أضرمت لهيب الغضب في أعماقها ، فتقدمت نحوه بخطواتٍ مضطربة تفيض تهورًا ، ودفعت صدره بيدٍ مرتجفة ، لكن وقفته الراسخة لم تهتز ، لتنفجر في وجهه بصرخةٍ مشحونة بالانفعال : انت معمول من ايه؟ ازاي مش حاسس باللي عملته!!!
تصلب فكه بغضبٍ يتدفق في عروقه ، فقبض على معصمها بأصابع صلبة كالصخر ، ولوي ذراعها خلف ظهرها ، فارتجف جسدها عند التصاقه بها ،
فيما يقتحم مساحتها بأنفاسٍ مشحونة ، وهمس بصوتٍ حادٍ كنصلٍ يلامس شفا الجنون : صوتك مايعلاش!! انا خلاص اعصابي تعبت من تصرفاتك .. هو انتي بتلعبي بيا؟! شوية قريبة مني وبتحبيني وبعدها تبعدي عني وتبقي مرعوبة ومضايقة لما بقربلك!؟ مابقتش فاهمك!! لما انتي مش عاوزاني اتجوزتيني ليه؟
أغمضت ابريل عينيها بشدة ، وتجمدت الكلمات في حلقها ، عاجزة عن الخروج لتوضح ما في قلبها من خوف ، ثم تمتمت بصوت مرتعش : مكنش دا الاتفاق من البداية! كنا متفقين إننا مش هنقرب لبعض غير لما أكون مستعدة
_ابريل!! بصيلي..
تسلل هدوءٌ مشوبٌ بالصبر إلى صوته ، بينما يرفع ذقنها بلطف ، حتى اصطدمت عيناها بنظراته ، توقف لحظة ، وتنهد بعمق ، ثم أكمل بصوت أجش يغلفه الدفء والشغف ، ويحمل في طياته كل مشاعر الإحتياج : الموضوع مش مستاهل التوتر ده .. انتي مراتي وانا بحبك .. كنتي متخيلة إني كنت هفضل مستحمل بعدي عنك لحد امتي؟ أنا بني ادم مش آلة! وراجل طبيعي عندي رغبات ومشاعر ، واللي حصل بينا طبيعي جداً!
انفجرت مشاعرها كبركانٍ خامد استفزه زلزال بروده ، لتهتف مرددة بتحشرج ممزوج بالاستنكار : طبيعي؟! طبيعي إنك تاخد خطوة كبيرة زي دي من غير ما تفكر فيا؟ انت ازاي اناني بالشكل دا!! انت فاكرني ايه علي مزاجك ولا رهن اشارتك؟!!
زوَّى باسم بين حاجبيه ، وانبثق الغضب من عينيه بنيران جحيمية ، فأمسك بمعصمها بحزم ، متحدياً اتهاماتها له كأنه المذنب الوحيد بجمود سافر : خلاص اللي حصل حصل مش هنعرف نغيرو
زمت ابريل شفتيها بضيق ، أغوى قلبه المتلهف لها ، وعقلها ينبهها أن لا جدوى من الجدال ، فهو لم يرتكب جريمة ، بل هي من استسلمت لمشاعرها.
_سيبني!!
دمدمت ابريل بها ، ويدها ترتفع تلقائيًا لتحرير ذراعها من قبضته ، لكن لمساتها العابرة ، أحدثت رجفة متوترة في جسده ، كزلزالٍ هز أعماقه ، وأضاءته نارٌ من الشوق الحارق.
تقوس فمه بإبتسامة عابثة ، وهو يطوق خصرها بذراعيه ، محاولاً تخفيف حدة الأجواء المشحونة بينهما ، إذ تسللت نغمة من المرح في صوته : فاكرة نفسك هتروحي مني فين؟
حاولت ابريل الإفلات منه ، متمتمة بضيق : اتخنقت ... هخرج أشم هوا .. عاوزة أبقى لوحدي شوية
ابتلع باسم ريقه بتوتر ، وقال بإبتسامة حنونة : هاجي معاكي .. مينفعش تخرجي لوحدك ممكن تتعبي؟
زاد عبوسها ، لتقول بفظاظة وهي تحاول دفعه عنها بغضب : انا مش عيلة .. واعرف اخد بالي من نفسي
قطب حاجبيه بسخط من عنادها ، وتحول صبره إلى غضب مكتوم ، لينفرج فمه بإبتسامة جانبية قبل أن يقول بوقاحة عفوية : بأمارة ما اترميتي في حضني تاني مرة شوفتيني فيها وقولتيلي الحقني بموت..
توقفت محاولاتها للتملص منه ، بعد أن أشعل استفزازه لهيب غضبها ، فهتفت بحنقٍ واندفاعٍ لم تمتلك القدرة على كبحه : غلطة وبدفع تمنها دلوقتي .. تعرف انا ندمانة اني ماوجهتش مشكلتي ووافقت امشي وراك
ارتخت ذراعيه عنها ، بعد أن أغرقته كلماتها الجارحة في بحر من الصدمة العميقة ، ليصمت لحظة ، ثم تومض عيناه الرماديتان بصواعق من الغضب والألم ، وصوته يخرج ملتهبًا بالاحتراق : غلطة؟! أنا كنت معاكي بكل قلبي .. بكل إحساسي .. كنت عايش احلي لحظات عمري في حضن مراتي وحبيبتي وكل ده .. وانتي مسمياه غلطة وندمانة علي قربك منك؟!!
أنهى باسم عبارته بحزن مرير ، فتشنجت شفتيها في محاولة للرد ، لكن كلماته كصاعقة كهربائية صدمتها في أعماقها ، أعادت عقلها إلى رشده ، ليغمرها ندم عميق انعكس في فيروزيتها التي اهتزت بوضوح ، لم تقصد أبدًا أي حرف تفوهت به.
طالت النظرات بينهما ، قبل أن يترك الغرفة سريعاً ، وهو يشعر بأعماق روحه تهتز كجذور شجرة ضخمة يهددها إعصار مميت.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
فى مصر بنفس التوقيت
عند ريهام
داخل فيلا داغر المسيري
وقفت ريهام أمام داغر تتأمل وجهه الذي بات كالصخر فور رؤيتها ، لم تُخطئ عيناها عن نظراته المليئة بالاحتقار والتحدي.
ارتجفت شفتاها وهي تحاول استجماع شجاعة بالكاد لملمتها ، لتخرج من منزلها ، لكن الكلمات خانتها ، وخرج صوتها مهزوز يفضح اضطرابها : ليه بتعمل دا كله؟ ليه رجعت تقلب حياتي فوق دماغي؟ عملتلك ايه؟!!
وقبل أن تُكمل سيل أسئلتها ، وجدته يتقدم صوبها فجأة ، ليُمسك بذراعيها بقوة ، ويجرّها نحوه بسهولة كأنها دمية بين يديه ، ليهزّها بعنف شديد ، وأصابعه تنغرس في لحمها كالمخالب القاسية ، يكاد يُسمع صوت عظامها تئن تحت وطأة قبضته ، بينما صاح في وجهها بصوت أجش ساخر ، كزئير وحش جريح : معقولة بتسألي؟! نسيتي انك السبب في المصايب اللي انا فيها دلوقتي؟
ازدادت عينيها اتساعًا بذعر ، وهي تراه ينفضها إلى الوراء ، لترتطم بطاولة صغيرة ، بينما تماسكها كاد أن ينهار ، لكن رغم ألمها ، قاومت ببقايا الكرامة المتشبثة بها ، وقالت بصوت مبحوح ساخط : ايوه .. انا معملتلكش حاجة .. انت اللي لما اتحطيت في اختيار قررت تتخلى عني وتنكر الروح اللي اتكونت جوايا منك .. جاي دلوقتي تاخد ابني مني بقلب بارد كدا ازاي؟
لمعت عيناه كعيني نمر غاضب ، واقترب منها مرة أخرى ، ممسكًا فكّها بقبضة عنيفة ، ليجبرها على النظر إليه ، بينما ينفث كلماته بحرارة نارية : مين قالك اني بعمل كدا وانا مبسوط؟ كوني عندي ابن من واحدة خاينة زيك .. دا أكبر ظلم ارتكبته في حق ابني .. وأكبر غلطة عملتها في حياتي .. غلطة مش هاغفرها لنفسي أبدًا
حاولت أن تتخلص من يده ، فصرخت بوجهه بنبرة مرتجفة ، لكنها مليئة بالغضب المكبوت : وانا خونت مع مين؟ مش معاك انت؟ عمال تجرح وتهين فيا بأمارة ايه؟!!
دفعها إلى الخلف بإحتقار ، وبصوت مفعم بالتشفي قال ببرود حارق : بأمارة انك واحدة غاوية دمار اغريتيني .. خليتيني أنسى كل حاجة حتى الست اللي كانت كل حياتي .. مالحقتش حتي اكفر عن ذنبي في حقها
شعرت بثقل كلماته كالسياط على جسدها وروحها ، فقالت بصوت مختنق : لا دا كان اختيارك انت يا داغر مش كله ذنبي
ازداد غضبه كبركانٍ لفظ حممه بلا رحمة ، وفي لحظة خاطفة ، مد يده ليقبض على كتفيها ، ليهزها بقسوة ، وهمس بصوت يكاد يقطر كراهية :....