رواية زهرة الجزء الثاني (ملحمة العشق والعذاب) الفصل الثاني عشر 12 بقلم رانيا عثمان البستاني


 رواية زهرة الجزء الثاني (ملحمة العشق والعذاب) الفصل الثاني عشر بقلم رانيا عثمان البستاني 


أصدق مقولة في هذه الدنيا هي أن الحياة تستمر ، مهما كان ما مررنا به سننهض يوما ما ونكمل حياتنا لأن هذا ما خُلقنا من أجله .
وعلى النقيض النسيان هو أكبر كذبة إفتعلناها لنداري خيباتنا وآلامنا .
عام ٢٠٢٣/
عج البيت صراخ ، هذا هو طبعها التي إعتادت عليه تلك الصغيرة المشاغبة التي ما إن تستيقظ تبحث عن والدها بجانبها إن لم تجده تظل تصرخ حتى يأتيها مهرولا تنعم بدلاله الذي يغدقها عليه دون كلل .
_خلاص جيت إسكتي ، هو أنتي كل يوم كده .
أردف بها صالح بغضب مصطنع في محاولة منه لردعها عن تلك الصرخات التي إعتادها حتى جيرانهم ، ولكن بداخله يعشق فعلة إبنته مدللته فهي بذلك تعلن للجميع أنه أغلى إنسان في قلبها ويا لسعده أن تكون مؤنسته شديدة التعلق به .
وها هي تلك الماكرة تقف فوق فراشها وتقفز بإتجاهه ليلتقطها في أحضانه يغدقها قبلات حانية تدغدغها لتسطع ضحكاتها التي تنير حياته .
كان المشهد رائع بالنسبة للواقفة تتابعهم بشغف ، إتضح أن هناك أباء يعشقون أطفالهم ويدللونهم ولكنها حُرمت من ذلك ، بل إمتلكت أب أقل صفة تناسبه أنه نذل شيطان إنسيّ .
تنهدت سِدرة ثم دلفت بعد أن طرقت فوق الباب المفتوح فعليا متحدثة بإبتسامتها المعهودة :
_ الجميل لازم يروح يغسل وشه وأسنانه علشان يفطر وبعد كده تلعبي مع بابا براحتك ، صح يا بابا ؟
أرادت أن يحادثها وإن كان عن طريق إستغلال إبنته الصغيرة فهو منذ أشهر يتجاهلها تماما ، لا تعلم ماذا فعلت ؟ 
ولكنه كالعادة تجاهلها ولم يجاوبها بل أنزل إبنته بلطف وهو يحثها على تنفيذ ما قالته فقط لتركض الصغيرة التي أكملت الثلاث سنوات منذ أشهر قليلة .
_صالح .... أنا مش قادرة أكمل كده وكأن ده العادي والطبيعي ، طب فهمني ليه إتغيرت ؟ إنت من يوم عيد ميلاد نور وإنت تقريبا مش بتكلمني نهائي ، حتى لما أكلمك مش بترد ، ولو بقيت في مكان تمشي منه فهمني بس أنا عملت إيه ؟ إيه غيرك من ناحيتي ؟
كانت تتحدث ودموعها مهددة بالسقوط بينما هو يقف أمامها شامخا لا يهتز لتلك النبرة المتألمة ولا تلك النظرات الحزينة بل نظر لها بجمود مردفا :
_ وأنا أتغير عليكي ليه وبمناسبة إيه ؟ ياريت متنسيش نفسك ولا تدي لنفسك قيمة أكبر من حقها إنتي هنا علشان نور وبس ياعني بتشتغلي عندي ، وإعرفي لولا إن حور هي إل طلبت ده وأمنتني عليكي .....
_ أنا خلصت أسناني حلوة ؟
قاطعت صغيرته حديثه بسؤالها الطفولي ليهبط لمستواها مقبلة إياها بحنان قائلا :
_ نور أشطر بنوتة في الدنيا ، يالا عاوزك تخلصي فطارك كله .
إحتضنها مرة أخرى ثم رحل وكأنه لم يفعل شيء .... رحل وكأن ليس هناك قلب قد كُسر وروحا قد تحطمت ، بل إدعى في نفسه أنه لم يشعر بتلك الشهقات الجريحة وشلالات الدموع المنسابة فوق خديها .
..................
قد تحاول مرارا وتكرارا تجابه تلك التصدعات والشروخ بداخلك ولكن يبقى أثرها مهما كان .
يتناول طعام الإفطار أو يُهيأ لمن يراه ذلك ولكن في الحقيقة هو يستمع لتلك النبرة المتذمرة من زوجته وهي تحاول إسكات صغيرهم محمد فهو منذ أن أنهى فترة الرضاعة الطبيعية لا يقبل بأي شكل الإبتعاد عن والدته التي تتذمر لذلك كثيرا بل وكثيرا للدرجة التي تجعله يهرب من المنزل فهي دائمة الشكوى وكأنها الأم الوحيدة التي يتعلق بها طفلها .
ومع آخر رشفة من كوب الشاي الذي تناوله على ثلاث أو أربع مرات لكي يساعده في التخلص من ألم الرأس ظهرت أمامه تتحدث بتذمر كالعادة :
_ طبعا قاعد تفطر ولا على بالك ، ومروق على نفسك كمان بيض وطعمية سخنة وشاي ، وكأنك قاعد لوحدك في البيت ومافيش إنسانة تانية المفروض إنها مراتك تستنى تفطر معاها وتعملها شاي يمكن الصداع يروح مع إنه مش هيروح لأن إبنك طالع زيك مش هامه راحتي .
كان يناظرها بتفحص لعدة دقائق ويرى هيئتها التي لم تتغير من ثلاث أو أربع أيام ، نفس الملابس ، ذات تصفيفة الشعر الغريبة بل أصبحت أغرب .
وقف ومن ثم تحدث بهدوء قبل أن يرحل :
_ أنا جهزتلك الفطار معايا وندهتلك مش ذنبي إنك مفطرتيش .
كان يتحدث بهدوء قاتل بالنسبة لها ، فهو منذ ثلاث سنوات يتعامل معها بآلية وبرود ، بعد أن قام بردها لعصمته بعد خبر حملها ، تركها في المنزل الكبير مع والدتها إلى أن وضعت طفلهم بل وزاد عدة أشهر إلى أن أتم الصغير شهره الرابع ، وكان فقط يكتفي بزيارة كل أسبوع متكفلا بكل متطلباتهم .
_ماشي يا مازن لما أشوف أخرتها معاك .
...............
في منزل آل دمنهور/
سيدات المنزل مجتمعات في الأسفل تحضرن طعام الإفطار .
كانت الأجواء مبهجة بوجود هؤلاء الصغار اللذين يتجولون هنا وهناك فهؤلاء هم براعم العائلة ، الزهور التي من أجلها تناسى الجميع تلك الأحداث المؤلمة ....ولكن هل يتم النسيان ؟
دلف عبد الرحمن من باب المنزل ويبدو عليه الإرهاق الشديد فقد كان يعمل ليلا بالمشفى ، ولكن ما إن أبصر صغيريه حتى أشرق وجهه وسطعت إبتسامته وهم يركضون إليه ليضمهم بشوق وحنان .
_حمد الله على السلامة يا حبيبي ، شكلك مرهق أوي ، إفطر وبعدين نام .
نظر لحبيبته وأم أطفاله التي أدخلت السعادة أضعاف مضاعفة لقلبه من يومين عندما أخبرته بحٓمِلها مرة أخرى مردفا:
_ أحلى صباح على أحلى عيون .
خجلت سلمى ولكنها ناظرته بغضب مصطنع مردفة :
_ متحاولش تضحك عليا يا عبد الرحمن إنت وعدتني ، ياعني بعد ما تفطر إدخل نام وإرتاح براحتك علشان بليل هنخرج وهتنفذ وعدك  وبعدين خلي بالك النونو عاوز يخرج ياعني إعتبرني بتوحم .
أنهت حديثها بإبتسامة مشاغبة ليبتسم لها بإستسلام .
_ تعالى يابني إقعد إفطر وقعدها تفطر من الصبح بنجري وراها بكوباية لبن مشربتهاش ، الحمل باين هيجننها أكتر بتجري زي العيال الصغيرة تستخبى علشان متشربش اللبن .
أنهت فيروز حديثها بتذمر من إبنتها لتتدخل سمية قائلة :
_ بنتنا تعمل إل هي عاوزاه ، تلعب تجري ..تستخبى ، كل شيء مُباح للعسل .
_حبيبتي يا سوسو .
قالتها وهي تحتضن زوجة عمها بفرحة مخرجة لسانها بطفولية بإتجاه والدتها وزوجها .
وما إن رأت والدها يخرج من غرفته حتى هرولت إليه قائلة بذعر مصطنع :
_ يا بابا يا بابا ...بيقولوا عليا مجنونة ، يرضيك كده خدلي حقي .
ناظرها وليد بشك ثم همس لها :
_ طب أنا راضي ذمتك في واحدة عاقلة تعمل إل بتعمليه ، بت يا سلمى إنتي كنتي عاقلة قبل الجواز إيه حصلك ، لولا إني متأكد إن عبد الرحمن عاقل كنت قولت هو إل جننك .
مالت برأسها عليه وهمست هي الأخرى بجدية :
_ طب أحكم أنت يا حج ، الخمس سنين إل فاتوا دول ميجننوش أعقل إنسان ؟
خيم الحزن على عينيه مضيفا لحديثها :
_دول يشيبوا شعر الطفل الصغير ، هنقول إيه الحمد لله.
_بالظبط كده وعلشان أقدر أعيش وأربي ولادي لازم أسيب كل حاجة ورايا لازم أعيش زيهم طفلة تجري وتلعب أهو هحاول أطلعهم سويين نفسياً في البيت الكئيب ده .
أنهت حديثها بإرتباك بعد أن لاحظت هبوط أدهم .
_يالا يا جماعة الفطار جهز ، أدهم يابني عملتلك الشكشوكة إل بتحبها أنا مش أمك .
أنهت فيروز حديثها بإبتسامة في محاولة منها لجعله سعيدا لو قليلاً.
_أعذروني أنا مش هفطر ، ورايا شغل كتير النهاردة .
هكذا قال ... وكعادته رحل .
جلست سمية بقلب ينفطر على ولدها ونظرت بإستجداء لعبد الرحمن ليفهم تساؤل عيناها ويردف :
_ صدقيني والله ما أعرف طريقها ، أنا أكتر واحد أتمنى أشوفها وترجع تعيش معانا أو على الأقل أطمن عليها ، دي نصي التاني يا طنط ربنا وحده عالم بحرقة قلبي ووجعي على بعدها .
أزالت سمية دمعة متألمة سقطت لتعلن عن ألم قلبها وتشدقت :
_ مصدقاك يابني ، وربنا يعلم أنا حزينة على ألمك زي ما حزينة على ألم أدهم بالظبط .
_بجد دي حاجة تحير بقالها تلت سنين مختفية محدش يعرف عنها حاجة ، كل مكان ممكن تروحه عبد الرحمن دور فيه .
أنهت سلمى حديثها بحزن على حال زوجها الذي يشتاق لشقيقته وبالكاد يحاول المعافرة من أجل الصمود والعيش بطريقة طبيعية وصحية من أجل أولادهم ولكنها تشعر بآلمه وإرهاق البحث المستمر .
_صباح الخير .
نظر الجميع بإتجاه الباب ليجدوا چورية تحمل صغيرتها تتنفس بصعوبة فهي على وشك ولادة طفلها .
إقترب سمية منها قائلة بلهفة :
_ ليه بس كده يا حبيبتي مش أنا قولتلك خليكي في بيتك وهجيلك أشوفك لو محتاجة حاجة ، الحركة الكتير اليومين دول هتتعبك وإنتي مش ناقصة كفاية تعبك في ولادة مي .
جلست چورية بجانب عمها الذي إحتضنها بحنان وأردفت :
_ أحمد وافق إننا نيجي نقعد هنا الشهر ده لأني بجد مبقيتش أقدر على الحركة وبيخاف عليا لما ينزل الشغل .
_أحسن حاجة يا حبيبتي أهو تخلوني أفرح بولادكم كده ويملوا عليا البيت محدش عارف العمر إمتى ينتهي ، أه لو ربنا يبرد قلبي وأشوف حور .
أغمض وليد عينيه بألم ...ألم الشوق وألم الندم ، فهو لم يساندها بالشكل المطلوب ، لم يقف بجانبها ، كيف سيبرر لوالديها هذا ...؟
_هو أدهم فين ؟
تساءلت چورية بحزن ، فذكر إسم حور يجعل الحزن والندم يخيم على قلوب الجميع .
_خرج من شوية ...قال وراه شغل حتى مفطرش ، أنا حاسة إن إبني بيضيع مني واحدة واحدة وأنا واقفة أتفرج عليه وعلى عمره وصحته ومش قادرة أعمل حاجة ، ده خس أوي ووشه بقى باهت .
_قد إيه النهاردة هيبقى يوم صعب عليه 
نظر الجميع لچورية بتعجب لتسترسل بتريث وهي ترى ألم الذكرى وما حدث للجميع منذ ذلك اليوم يتشكل على وجوههم :
_النهاردة ذكرى الوفاة .
...............
داخل سياق الحياة من الطبيعي أن ننصر المظلوم ...نساند الضعيف .. ولكن .....
من الأقدار أيضا أن لا نستطيع فعل ذلك بل علينا أن ننظر إلى الظالم بقلبنا .
عيناه جامدتان ...وجهه خالي من التعابير .. ولكن قلبه ينزف ويأن .
من يراه يظن أنه مجرد إبن يزور قبر والده ، ولكن في الحقيقة هو جريح يعاتب بصمته جارحه .
لا يعلم لما جاء إلى هنا ولكن ما يعلمه أنه حتى لا يستطيع التظاهر بالدعاء له .
نظر إلى الإسم المدون بقهر وألم وراح بذاكرته إلى اليوم الذي إنكشف فيه حقيقة موته .
.....
عودة ليوم عملية نقل الكِلية /
في المشفى /
_لأ ...مش علشان عرفت إني حامل تردني لعصمتك ، أنا مش لعبة في إيدك ، أنا ليا كرامة يا أستاذ ، وقفت تطلقني وسط كل العيلة ولا همك شكلي ولا مشاعري ولا حتى إحترمت الكبير ، ودلوقتي جاي تعمل فيها دور البطل إل قرر ييجي على نفسه ويردني علشان إبنه .
كانت تتحدث بإنفعال وألم ، ففعلته أصابت قلبها في الصميم ولكنه لم يكترث لما تقوله وترك الغرفة دون أي حديث لتشعر وكأنه صفعها مرة أخرى.
شعرت والدتها بالحزن عليها فإقتربت منها وضمتها مردفة في محاولة لتهدئتها :
_ إهدي يا حبيبتي ، بلاش تسرع يا ندى ، إنتي المفروض تحمدي ربنا إنه ردك لعصمته وأنا يا بنتي مش بقلل منك ، بس إفهمي إنتي هتبقى أم ياعني مسؤولة عن راحة وسعادة طفل هيغير حياتك وأهم حاجه للطفل ده إنه يعيش بين أمه وأبوه ، وبعدين إنتي بتحبي مازن وهو كمان بيحبك يبقى نعقل كده وبلاش نتعصب على كل حاجة .
أبعدتها نفسها قليلا وأردفت : 
_  بيحبني  
قالتها بسخرية وألم ومن ثم أغمضت عينيها في محاولة منها للهروب بالنوم بينما سمية تركتها وخرجت إلى الخارج .
كان الجميع يتلظى بنار الحيرة ، ينظرون في أوجه بعضهم البعض بتساؤل .
إقتربت سمية من فيروز وتساءلت :
_ أومال فين حور ؟
_بعد ما فاقت دخلت عند أدهم بقالها دلوقتي ربع ساعة.
همست بحيرة ثم أشارت على جاسر وإسترسلت :
_ لما حاولنا ندخل جاسر منعنا وكمان زي ما أنتي شايفة وقفنا بعيد عن الأوضة خالص .

أما بالداخل كانت هناك قلوب تصارع من أجل الحياة ... أرواح لا يهدأ أنينها .
جلست سهر فوق المقعد المعدني ولم تستطع التحكم في دموعها فها هي أكثر شخص شعر بها ووقف بجانبها لا تستطيع حتى رد المعروف والوقوف بجانبها مثلما فعلت هي ، لم تهتم لتساؤلاتهم عن حقيقة ما حدث بل أخذت تتذكر ذكرياتهم معا.............
مر شهرا على تلك الواقعة .. لم تطأ قدماها منزل العائلة ، كانت تكتفي بلقاء شقيقها في المشفى ، وهو لم يحاول أن يحادثها في أمر صفعها لحمدي ، بل إكتفى بعلاقتهم المحبة خارج إطار تلك العائلة وتلك الحقائق المؤلمة .
كانت علاقتها بأدهم مضطربة ... ولكن كل ليلة كانت تنعم بأحضانه فيكفيها القوة التي تكتسبها من دفا أنفاسه .
وذات ليلة ......
كان يقرأ كعادته التي أصبحت كإدمان لها أن تستمع لنبرة صوته ولكنته التي يشدوا بها أحرف الكلمات ، تضع رأسها فوق صدره ليحتضنها بذراعه والذراع الأخرى يمسك أحد الكتب ويقرأ إلا أن تغفوا فيترك الكتاب ويحتضن جسدها بحنان راجياً السبات .
ولكن تلك الليلة الأمر مختلف ، بدأ في قراءته كالعادة ولكن تفاجأ بها تجذب الكتاب من يده مغلقة إياه لينظر لها بتساؤل لم ينطقه لسانه لتجيبه بأجمل الطرق إلى قلبه دافعة بنفسها لتجلس فوق قدميه تضمه بشدة مقبلة عينيه بالتزامن مردفة بصوت مليء بالحب والشغف :
_ عيونك بتشتكيلي وبتقولي بلاش يقرأ النهاردة .
إلتمعت عيناه لتصبح أجمل وأكثر جاذبية وأردف مداعبا خصلات شعرها بيديه بينما الأخرى  تتلمس ظهرها وكتفها العاري بفعل منامتها :
_طب وقلبي مش بيقولك حاجة هو كمان ؟
إبتسمت بدلال أفقده صوابه وأردفت هامسة أمام شفتيه:
_ بيقولي أنه مش زعلان مني ، وإن أنا أميرته ، وإنه بِعد وكان مستني أقرب علشان يعترف وأنا أهو قربت ومستنياه يقول إل عنده .
كانت لحظة ساحرة ... خاطفة لأنفاسهم ...كانت دقات قلوبهم تعلوا أكثر وأكثر لم يستطع أحدهم تمييز دقات قلبه ...إختلطت دقاتهم وأرواحهم كما إختلطت أنفاسهم وتشابكت شفاههم بعد أن أطربها بأعذب الإعترافات :
_ أنتي ملكة مش أميرة بس ، أنتي الروح والقلب والنفس ، معنى حياتي ونور عيني ، ونيسة أيامي وبهجة أحلامي ، أنتي كل حاجة حلوة في حياتي وكل حاجة صعبة ، كل حاجة منورة وواضحة وكل حاجه غامضة ، زي الوردة لما تبقى مفتحة وفجأة تقفل على نفسها ، نفسي أفضل طول عمري شايف عيونك ونظراتهم كده ، أقضي حياتي وأنتي في حضني مستسلمة ليا بالشكل إل مدوبني ده بحبك يا حور .. بحبك.
...........
تلك الليلة بالتحديد لم تنم سهر ، فطوال الشهر الماضي كانت تلك الصور تبعث لها يوميا إلى أن تلفت أعصابها ولم تستطع مصارحة أحد حتى أنها تحججت بمرض مزعوم لكي لا تذهب إلى الجامعة مع إبنة عمها كما قال لها صالح.
لا تعلم كيف حدث ؟ تلك الصور صورها
بالفعل ولكن لم تبعثها لذلك الفاسق الذي يهددها بها ، بل لصديقتها أو من ظنت أنها صديقتها ، والليلة بُعث لها مشاهد  لم تستطع رؤيتها كاملة لبذاءتها ولكن ميزت وجهها جيدا ، وتلك الصور الأخرى التي شعرت بأن الدماء توقف في عروقها عند رؤيتها .
يا لها من حمقاء وثقت بأحدهم وها هي تدفع ثمن ثقتها غاليا ، تلك الصديقة الخادعة حاولت مراراً وتكرارا الوصول إليها والتحدث لتعلم حقيقة الأمر فلآخر لحظة كانت تحاول بث الطمأنينة إلى قلبها بأنها لم تُخدع ولكن عدم تمكنها الوصول إليها أثبت لها أنها كانت دمية لغرض لا تعلمه .
كانت تتعجب من إصرارها لإلتقاط مثل تلك الصور بملابس المنزل وبشعرها ولكن كانت الأخرى تقنعها بشكل أو بآخر والآن علمت السبب . 
شعرت بضيق صدرها وبصعوبة تنفسها ، كان وجهها شاحبا والرؤية ضبابية ، في تلك اللحظة علمت أنها ستفقد الوعي وربما للأبد هبطت دموعها بكثرة وأنين قلبها يعلو أكثر وأكثر فالآن سوف تفارق الحياة وستبقى تلك الفضيحة لأهلها ، من سيصدق براءتها ، الناس يحكمون على ما يرونه ، وبوجود مثل تلك المشاهد والصور ستبقى سيرتها على الألسنة.
ومع نهاية قوة تحملها سقطت أرضاً وآخر ما ميزته بداية أذان الفجر
الله أكبر 
سقوطها أحدث ضجيج مرتفع لفت إنتباه صالح الذي كان يستعد لأداء فريضة الصلاة ، إقترب من الباب قليلا وناداها عدة مرات ثم دلف ليتفاجأ بها فاقدة للوعي .
........
لحظات الإيمان تغمر القلوب بالدفيء والطمأنينة ، تجعل أثقال القلب تذوب تدريجياً.
أنتهوا من أداء صلاة الفجر وشرعوا في  النوم إلا أن إتصالا هاتفيا منعهم .
نظر أدهم لهاتفه ليجد رقم صالح :
_ خير يارب .
قالها بقلب توجس قلق ثم أجاب سريعاً ليأتيه صوت صالح اللاهث بعد الشيء ومن حوله أصوات كعويل وبكاء :
_ أدهم هات حور تشوف سهر ، بقالها نص ساعة تقريبا مغمى عليها ، نبضها ضعيف أنا حاسس بيه لكن بصعوبة ، حاولت أفوقها كتير مش بتصحى .
كانت حور مستمعة لحديثه المنفعل وقبل أن يتحدث أدهم كانت بدأت في تجهيز نفسها بالفعل .
وبعد ما يقل عن العشر دقائق كانوا قد وصلوا أخيرا ليجدوها لم تفق بعد .
أخرجتهم حور وبدأت في إسعافها .
كانت الساعة التالية شاقة على الجميع 
ولكن حور تداركت الوضع وهدأتهم قائلة :
_ متقلقوش يا جماعة هي بقت أحسن الحمد لله وإن شاء الله هتبقى كويسة ، هي حصلها هبوط حاد في الدورة الدموية واضح إن بقالها مدة أكلها مش كويس ومأهملة نفسها ، أنا هفضل جمبها الليلة وأصلا خلاص النهار قرب يطلع ، روحوا إرتاحوا قعدتكم دي ملهاش أي لازمة .
بصعوبة بالغة أقنعتهم وساعدها أدهم وصالح الشاحب وجهه فهئتها وهي فاقدة للوعي بين يديه لا تستجيب للحياة بأي شكل أثر على قلبه .
_يالا يا صالح إنت كمان لازم ترتاح ، روح لمراتك طمنها حرام هي حامل والخضة دي ممكن تأثر عليها ، وأنت يا أدهم أنا هفضل هنا مع سهر لغاية ما تبقى كويسة وكل حاجة محتاجاها معايا ، روح البيت التاني علشان ميبقاش في إحراج ولو إحتجت حاجة أو حصل جديد هكلمك . 
أنهت حديثها بإرهاق لتستمع لهمسه:
_ هي كويسة بجد ولا بتقوليلهم كده تطمنيهم .
_هتبقى كويسة إن شاء الله.
مرت ثلاث ساعات كانت حريصة على رعايتها إلى أن إستعادة وعيها الكامل .
_الحمد لله على سلامتك.
نظر سهر إليها ولم تقدر على الحديث ليس لضعف جسدها ولكن ليس لها رغبة لا في الحديث أو الحياة .
تفهمت حور ذلك وبدأت تسترسل حديثها بصوت هاديء :
_ الظروف مساعدتناش نتعرف على بعض كويس ونقرب من بعض ، أنا عارفة إنك ممكن تكوني واخدة فكرة عني مش كويسة ، قبل كده لما قولتلك متضيعيش أدهم من إيدك وبعدين إتجوزته .
_هو عمره ما كان في إيدي .
همسات بها بضعف لتكمل حور بإبتسامة :
_ عارفة ... لكن شوفت إنك إنسانة هادية وجميلة وحنونة قولت أكتر واحدة تنفعه .
قاطعتها بضعف ولكن تلك المرة بإبتسامة مردفة :
_ شوفتي كل ده لكن مشوفتيش حبي ليه ، لأنه مش موجود ، أدهم كان بالنسبة حلم أقرب لهدف ، عارفة لما يبقى إبن عمك شاب وسيم مؤدب أخلاقه وكلمته بيتحاكي عليهم ياعني تقدري تعتبريه فتى الأحلام ، أنا عشت عمري أمي بتهيقني نفسيا إني هكون ليه ، أنا لوقت قريب كنت فاهمة إني بحبه بس إكتشفت إن مشاعري مش حقيقة وإلا كنت كرهتك ، بس الغريب إني بحب أشوفكم سوا ، عاوزة الحق أدهم مينفعوش حد غيرك ، إنتي وهو شبه بعض أوي من بره جامدين قاسيين لكن جواكم طيبة مافيش بعدها .
كانت حور تشعر بالحيرة فهي لم تتعامل معها إطلاقاً لتحكم هكذا عليها ، لم تستغرق حيرتها الكثير من الوقت فقد تفهمتها سهر وأردفت :
_ كنت موجودة في محل الأجهزة الكهربائية وإنتي واقفة بتكلمي عمو محمود .
تفاجأت حور من حديثها فهي لم تخبر أحد بما فعلته ودن إرادة منها إبتسمت متذكرة ذلك اليوم الذي شعرت فيه بإنتصار آخر عندما أعادت الحياة لمجراها الطبيعي.
بمساعدة من نبيل وصلت إلى أمير وحادثته هاتفيا مصطنعة نبرة القلق:
_ أنا آسفه إني بتصل بيك في الوقت المتأخر ده ، بس أنا قولت أعرفك الوضع يمكن تحب تيجي.
الحقيقة والدك الأستاذ محمود حالته الصحية حرجة ودلوقتي هو في العناية المركزة ، وطالب يشوفك كآخر أمنية له .
لم يستطع حتى سؤالها عن أي شيء ، وقع الصدمة عليه جعلته يغلق الهاتف ولكن صوت أنفاسه المرتفعة أعلمتها حقيقة ما شعر به .

تعلم في قرارة نفسها أن تلك الكلمات قاسية ومؤلمة ولكنها تهدف إلى شيء ما .

في اليوم التالي /
ذهبت في توقيت معين إلى مكان عمل الأستاذ محمود وبعد أن ألقت التحية والتي ولتعجبها أجابها بحفاوة مرحبا بها بفرح :
_ أهلا أهلا ست الدكتورة ، أحلى دكتورة في بلدنا كلها ، أهلا يابنتي أعذريني مقدرتش أرحب بيكم ولا أعمل معاكم الواجب أنتوا ولاد الغالي الله يرحمه .
كانت نظرات التعجب تقطر من عينها ولم تستطع منع سؤالها :
_ كنت بتحبه فعلا ؟
جلس بعد أن أشار لها بالجلوس وأخذ يتحدث بحنين :
_ يمكن محدش يصدقني ، لكن أنا حسيت ضهري إتكسر بعد موته ، هو أول واحد وأكتر حد كان بيعاملني على إني أخوه فعلا ، نبيل ووليد دول سندي الحقيقي  ، المكان إل إنتي شايفاه ده أصله من فلوس أبوكي ، لما ضاق بينا الحال بعد ما إستقرينا هنا كنت عاوز أعمل مشروع نعيش منه وكنت عاوز أشتري بيت كويس كان هدفي ولادي ميحسوش بنقص لما يقارنوا بين بيت جدهم وبيتهم ، مقدرتش أشتري البيت الموجود دلوقتي غير بمساعدة وليد إشترى مني بيت أبويا وكمان زود الفلوس وقالي هدية البيت الجديد ، وأنا علشان أكون عادل كتبت البيت بإسم سلوى لأن  الفلوس فلوس أخوها ، أما نبيل بقى ساعدني بفلوس المشروع ، وقالي إن ده نصه لأمير والنص التاني لأخواته .
في حين إني كنت بغير منه ومن حب إبني ليه هو كان بيبتسم دايما في وشي وبيساعدني بكل إستطاعته من غير ما يجرح فيا يبقى مش عاوزاني أحبه .
أدمعت عيناها تأثراً بما تسمعه وسألته مرة أخرى ولكن تلك المرة كعتاب :
_ طب ليه ؟ ليه متقولش الكلام ده لعمتو سلوى والأمور تتصافى بينكم ؟
_ سلوى تستحق أحسن حاجة ، أنا عشت عمري من بعد نبيل ما مات زي الغزال الجريح بجري في كل مكان لا قادر أتخلص من ألمي ولا قادر أموت لأني مملكش روحي ، والجريح يابنتي لما حد يقرب منه من وجعه عينه بتبقى معمية فيأذي إل قدامه خوف من إنه يزود جرحه ، وأهو ده إل جرى كل ما تيجي الفرصة أجرحها وأبعدها عني مش هي بس لا هي والولاد ، يمكن فعلا زي ما هي قالت أنا كنت جبان ومقدرتش أواجه حمدي بأفعاله وأخد حق أختي وإستضعفتها ، مع إن الحق هي أقوى مني ومن حمدي ومن كل النفوس دي .
إبتسمت حور وأعادت سؤاله مرة أخرى قائلة بنبرة لينة وعيناها تومض ببريق :
_طيب وأمير ؟
_أغلى من في قلبي ، مش بحب قده أي حد ، أمير ده بالنسبة ليا الطفل الصغير إل أول ما شيلته حسيت بقيمتي وإني أستاهل أعيش ، لما قال بابا أول مرة لنبيل كانت أول مرة أحس إن قلبي هيقف ، لكن مخابيش عليكي أبوكي كان يستاهل ، أول مرة أخدته معايا المسجد في صلاة الجمعة الإمام كان بيقول أدعوا ربنا وهو عليه الإستجابة ، رفعت إيدي وقلت يارب إقبلني من الطوافين حول الكعبة ، لقيت نبيل بيشد دراعي ويسألني ياعني إيه ؟
قولتله مش أنت عارف الكعبة قالي أه بشوفها في التلفزيون قولتله نفسي أصلي فيها .
تعرفي قالي إيه ؟
نظرت له بتساؤل ليجيب بإبتسامة مصاحبة دموع فاضت من عينيه :
_ قالي لما تروح خدني معاك أنا عاوز أشوف الكعبة .
وأهو من يومها لحد النهاردة مش قادر أروح لأني وعدته يبقى معايا وخايف عمري يخلص وربنا يقولي طالما تقدر تروح قصرت ليه ، بس أنا والله يارب مقصرت أنا وعدته ووعد الحر دين عليه ، أنا معملتلوش أي حاجة نفسي بس أحققله طلبه وأروح وياه ونشوف الكعبة ونصلي هناك .
كانت مشاعرها في تلك اللحظة متفاقمة لم تستطع السيطرة على دموعها ليستكمل :
_ مش عارف ليه إتكلمت معاكي وطلعت إل جوايا ، يمكن لأني حاسس بقرب الأجل وعاوز حد يفتكرني ، حد يبقى عارف أنا كان جوايا إيه .
_ أنا بشكرك لأنك إخترت لما تتكلم تتكلم معايا دي ثقة أعتز بيها ، كلامك أثر فيا ، لأنه صادق بيلمس القلب من غير إستئذان ، بس أنا هقولك أنا جاية ليه ، أنا كلمت نبيل قولتله صحتك متدهورة وإنك طالب تشوفه لآخر مرة .
_تفتكري هييجي ؟ سؤال فضل في عقلي طول السنين إل فاتت هو أمير بيحبني ؟ أنا فاهم نيتك ، عاوزة تقربينا من بعض ، بس ....
قطع حديثه كف يد وُضعت على كتفه لينظر بتفاجؤا وإذ به يرى أمير ينظر له بعينان ممتلئة بالدموع.
في اللحظة التالية كان إثنيهم يبكيان بأحضان بعضهم ، أمير يبكي خوف الفقد والحنين ، ووالده يبقى شوقه وحبه .
بينما هي رحلت في هدوء دون أن يشعران بها .
........
عادت من ذكراها على صوت سهر القائلة :
_ يومها كنت هناك بدور على هدية لچورية كان عيد ميلادها قولت أجيب لها حاجة تنفع في تجهيز الشقة ، وقتها فهمت قد إيه إن قلبك طيب ومليان حنان ، قدرتي في ساعة تدوبي جبال تلج كانت بينهم مبنية في سنين ، الكلام من الأستاذ محمود خرج من قلبه من غير ما يفكر لأن القلب إل قدامه صافي .
ضحكت بفرح وأردفت :
_ من أكتر الأخبار إل أسعدتني لما عرفت إن كلهم سافروا الغردقة يقضوا أجازة وبعد كده هيطلعوا عمرة رمضان سوا إن شاء الله ، حسيت مشاعر جوايا مقدرش أوصفها لحد .
_فاهماكي وحاسة بمشاعرك وباين في عيونك .
تنهدت بعمق وإعتدلت في جلستها لتقول حور :
_ مش أنتي بس الوحيدة إل بتقرأ العيون ، أنا كمان بقدر وأنا دلوقتي شايفة في عيونك كلام كتير ، كلام بيقول إنك مجروحة وحزينة ، ده غير قراءتي كدكتورة إل بتقول إن إغمائك ده حالة نفسية ، ممكن بقى تثقي فيا وتحكيلي وأنا أوعدك إني هساعدك .
ظهر التردد عليها ولكن في النهاية حسمت الأمر وقصت كل ما يحدث معها وهي في حالة إنهيار .
............
عادت سهر من ذكرياتها على تجمع الجميع من حولها فور خروج حور من غرفة أدهم ويتضح على عيناها مدى الألم الذي يلم بها 
وقبل أن يتحدث أحد تفاجؤا جميعا بظابط الشرطة الممسك لقضية مقتل حمدي أمامهم متحدثا :
_ السلام عليكم يا جماعة ، الحقيقة أنا عارف الظروف إل أنتوا فيها ، لكن قولت من حقكم تعرفوا آخر المستجدات ، إحنا قدرنا نحل لغز الجريمة وعرفنا الأستاذ حمدي مين قتله ، في حد من الجيران في العمارة إل قصاد عمارة الأستاذ حمدي كان بيصور بنته وهي بتلعب مع قطتها ولأنه كان مركز مع بنته مأخدش باله إن من بعيد في خلفية ڤيديو بنته سجل الجريمة ، لما كان بيتفرج على الڤيديو ركز وأخد باله ولأنه زيه زي أي حد في البلد سمع بالحادثة متأخرش الحقيقة وجه قدم الدليل .
أنا آسف على الخبر إل هقوله 
الحقيقة أستاذ حمدي مات منتحر .

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1