رواية علاقات سامة الفصل السابع عشر 17 بقلم سلوي فاضل


 رواية علاقات سامة الفصل السابع عشر

بجلسة عائلية تمت خطبة مؤنس وسارة، تعمَّد أن يحدد فترة الخطوبة عامان باغيًا تعقيد الأمور؛ ليقابل طلب الخطبة بالرفض، لكن خالفت سارة توقعاته، فقد استعدت للتحدي جيدًا؛ فرجت والدها مستغلة حبه لها وكونها ابنته الوحيدة ليلبي رغبتها؛ فقوبلت كلمات مؤنس بالقبول، وخاب أمله وتمت الخطبة بأسرع مما يتوقع. 

ومن اللحظة الأولى فرضت نفسها بتبجح، تتعامل وكأنهما ارتباطا عقب قصة حب ملتـهِبة، لم يفهم منطقها، يجاريها أحيانا ويسأم أخرى. 


مرت الأيام سريعا بثبات نسبي، ابتعد شهاب عن طيف وتجاهلها، يذهب مع والدته للطبيب ويتبع تعليماته، يشعر بالتذمر وعدم الرغبة، لكنه لن يخالف والدته، فتلك الواقعة أصَّرت على صحتها بالسلب، يزداد بغضه لطيف؛ فمعاملتها الودودة مع والدته تجعلها تَـحْـتل مكانة أكبر بقلبها، لا يدرك أن افعالها نابعة من عمق مشاعرها وامتنانها لها. 


أنجبت طيف مولودة جميلة تحمل من ملامح والدة شهاب الكثير، مما أسعد الجميع، واقترحت طيف أن تختار الأم اسمًا لها، ولأول مرة يوافقها شهاب الرأي: 

- أيه رأيكم في اسم حلا، وربنا يجعلها سبب في تحلية أيامكم وسعدها. 

- حلو وموسيقي "حلا شهاب ثابت". 


ابتسمت بسعادة لم تشعر بها منذ أعوام ضمت مولودتها بحب وراحة، تردد اسمها بتلذذ، تتذوقه، لم يحضر والدها ولم يهتم بمهاتفتها، اكتفى بالمباركة لشهاب دونها، وكأنه يتعمد أهـانـتها، شعرت بألمها الأم واشفقت عليها. 


طرق الفرح باب نادية فمع بداية الترم الثاني، كان ذلك الشاب الطبيب، متواجد بالجامعة يلاحقها بنظراته وابتساماته التي باتت تشعرها داخليا بالسعادة، التي تتعمد ألَّا تظهرها، ثم اختفى بضع أيام، خلالها أيقنت أنها تقع في ذلك الفخ، المسمى الحب الذي يؤذي القلوب كما تراه، ولكنه فاجأها وأسعدها؛ بعد فترة من اختفائه، بعد عودتها من الجامعة، ومع خطواتها الأولى بداخل المنزل، وجدته أمامها، يجلس مع جدها، تيبَّست وثبتت محلها، تتأكد أنها لا تتوهم، ايقظها صوت الجد: 

- تعالي يا نادية. 


ساقتها قدمها، وعقلها لا يستوعب سبب وجوده. 

- تعالي يا حبيبتي، مالك؟ أنتِ مش عارفة الضيف، تعالى، تعالى. 


جلست بجانب جدها، ولا زالت تحت تأثير المفاجأة أو الصدمة: 

- الشاب الحليوة ده، جاي طالب القرب. 


لم تكن تتوقع، صراع بين العقل والقلب، هي اشتاقت له، ولكن الزواج، لا ليس إلى تلك الدرجة أتكرر تجربة والديها؟ لا لن تفعل وتؤذي اطفالها، كما اذاها والديها، سواء بالضرب والترهيب أو الإهمال لا تريد تكرار معاناتها، أجابت بتلعثم يعكس حربها وحيرتها 

- أنا... أنا لسه بدرس فاضل لي سنتين، لما ابقي أخلص دراسة. 

- مش مستعجل، نتخطب عشان اعرف أكلمك، واوعدك عمري ما اقف قدام مستقبلك، نادر إسمي نادر. 

راق لها التناغم بين اسميهما، لكنها تشهر بالرفض لفكرة الارتباط، والأغرب مشاعرها التي لا تعلم متي نمت بداخلها. قطع الجد الصَّمت: 

- أنت شاب دوغري يا نادر وأنا احترمت مجيتك لهنا، موافق على الخطوبة بشرط موافقة نادية، وعلى ما هي تخلص جامعة تكون أنت جهزت شقتك واستقريت في شغلك، سيب رقم تليفونك، وانتظر مني مكالمة يا ابني. 


أومأ له وهو يرمق نادية بسعادة، يكفيه عدم رفضها، يشعر بتخبطها لسبب يجهله. 

ابتهجت شيماء من أجل أختها، شعرت بسعادتها التي غلب عليها التيه؛ فحياة والديهما تركت بداخلهما ندوب مخفية، وإن أصبحت محلها ستكون أكثر خوفًا وترددًا؛ فنادية أكثر منها قوة وتحملًا، ولم يخفَ على جديهما مكنونهما؛ تحدث مع نادية يتناقشان ويتحوران ليرى يعينها الموقف ويعلم مكنون قلبها، ثم جعل نادر يشاركهما بعض النقاشات، وحين رأى التوافق بينهما وبداية نمو الالفة والحب يينهما تولى هو مهمة اقناع سامح وسهام، والحصول على موافقتهما، وطريق الحصول عليهما كان سهل وممهد مجرد حفنة مناسبة من الأموال. 


تمت الخطبة في جو عائلي هادئ شعرت نادية لأول مرة بوجود شريك للحياة، نظراته لها مختلفة، ترى خوفه عليها بجميع تصرفاته، إحساس مختلف لم تجربه سوى مع جدها، لكن معه يحمل نكهة مختلفة، نكهة الحب. 


عامان مرا على الجميع، أنهت شيماء تعليمها الثانوي والتحقت بكلية التجارة، كما انهت نادية دراستها الجامعية وتم عقد قرانها، استقرت مع زوجها نادر بالأقصر، حيث عمل هناك بمشفى خاص، وهي كمرشدة سياحية بإحدى الشركات. 


اشتد المرض على الجد، ينذر بالفراق، فسكن الألم قلب حفيدته شيماء، تخشى فقدانه؛ فهو ملاذها الوحيد، والدتها تعاملها بجفاء ظاهر، كثرة النعم زادتها جحودًا، ومرض الجد زادها قوة، فلم تعد تبالي . 


عادت شيماء من الجامعة، فسمعت صوت والدتها الغاضب: 

- شيماء، أنتِ يا شيماء. 

- أيوه، أيوه كنت بغير. 

- أنا نازلة، أرجع الاقيكِ روقتي وعملتي الغدا. 

- عندي محاضرة بعد ساعتين، يا دوب أكل وأنزل تاني. 

- عادي يعني، بلاها محاضرة، دا أنتِ في تجارة. 


خرج إليهما يتكئ على عصاه بكل خطوة، يشعر بالغَـضـب من ابنته التي تتمعن في إظهار تمردها وعقوقها، معترضًا على كلماتها : 

- شيماء هتروح محاضراتها، وأنتِ المسئولة عن البيت مش هي. 

- أنا خارجة يا بابا ومش فاضية. 

- وهي  كمان خارجة رايحة الجامعة، أنتِ رايحة فين؟! 

- هو استجواب، على العموم خارجة مع أصحابي. 

-  صحيح ما يلقش بيكِ غير سامح، امشي، امشي، يا ريت ما ترجعيش تاني. 

- بتطردني يا بابا، على العموم أنا راجعة  بردو، ما هو ده بيتي. 


حدَّجت شيماء بغَضَب قبل انصرافها، وبوهن جلس الجد على اقرب مقعد؛ فأسرعت إليه شيماء ودموعها الصامتة تسيل على وجهها تقبل يده راجية: 

- ما تزعلش يا جدو، حقك عليا. 

- أنا مش زعلان يا حبيبتي، أنا قلقان عليكِ. 

- تقلق وجدو حبيبي معايا، العسل بتاعي لوحدي، من بعد جواز نادية وبُعدها، بعدها بالسفر يا أحلى جد. 

- خلى بالك من نفسك يا مشمش، نادية وحشتني قوي. 


تهدجت أنفاسها، تدرك أنه يقصد خالتها المتوفاة وليس أختها، لن تتحمل فراق أخر يكفي نادية التي كانت كالحاضر الغائب ثم بات غيابها كليًا عقب زواجها، لن يتحمل قلبها فراق الجد فإن وجب فليأخذها معه. 


عاونته ليعود لمضجعه يتكئ عليها وعلى عصاه، استقر ورفع نظره إليها ولم يخفَ عليه رجائها الصامت  بالبقاء وعدم الفراق، والقت نفسها بين ذراعيه يطوقها بحب وحنان، يناشدها التحلي بالقوة والصبر: 

- كلنا في الدنيا لينا بيتين واحد يشاركنا فيه أهلنا وأحبابنا، والتاني يشاركنا فيه أعمالنا، دايما اصبري واحتسبي، ولما تضيق بيكي الدنيا ويتعبك العباد، ارجعي لرب العباد، اقفي بين ايديه اشتكي وأبكي، دايما رددي دعاء الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب ملّكته أمري إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا و الآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك لك الحمد حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله» وخليكِ على يقين، راحتك جاية مهما طال الصبر. 


اشتد بكاؤها؛ يملي عليها وصيته يخبرها حتمية الفراق، أومأت رافضة: 

- ما تسيبنيش يا جدو، ما تسيبنيش. 

- لكل أجل كتاب، بوصيكِ علي نفسك، عشان لما يجي المعاد، تبقي قوية، يلا روحي المحاضرة وأنا هشتري أكل جاهز وهاكل معاكِ. 


لا زال يتابع مع الطبيب يتحسن ببطء، لا رغبة لديه، يفعل من أجل والدته؛ فصحتها تدهورت وتكالب عليها الوهن منذ تلك الواقعة، يزداد بعد كل مرة ترافقه فيها للطبيب، تخدمها طيف وتعاونها كوالدتها، كانت لها أكثر من ابنة. حلا الطفلة ذات العامين هي مصدر البهجة والسرور، تملأ ضحكاتها المكان تضيئ عتمة حياتهم، وبخلودها للنوم يسكن الصَّمت والرتابة أرجاء البيت. علاقة شهاب وطيف ما زالت قائمة على التهديد والوعيد، كل فترة -طالت أو قصرت- يفرغ بها مكنون غَـضبه، يحرص أن تكون أثاره مستترة عن عين والدته، يحْـبـس آنينها داخل فمها، وإن فاق الأمر تحملها، رجته بكل الطرق للتوقف، تدرك أن وجودها بمنزل والدته حماها من الكثير مما يحمله لها، وما تعيشه الآن هو فتات أذاه. 


عقب إنهاء دراسته الجامعية هاتفه والده يخبره بحصوله على عمل له بدولة عربية أخرى، وبعد مراسلات وأوراق، سافر حسن، بالبداية شعر بسعادة غامرة، ابتاع كل ما اشتهاه يومًا، ثم تبقى له الشعور بالوحدة؛ فوالده وإخوته ببلد آخر، وهو أصبح وحيدًا بلا إخوة، أو أهل، أو أصدقاء، برودة تنخر المشاعر وتهلك القلوب، تتشابه الأيام تفقد حلاوتها، انتهز أول فرصة وسافر لوالده وجلس معه بجلسة ودية يشرد فيها أحيانًا: 

- عامل ايه في شغلك يا حسن؟ 

- كويس. 

- مالك يا حسن؟ 

- زهقان وتعبان، الوحدة صعبة، صعبة قوي. 


أتاه صوت زوجة والده من خلفه: 

- اتجوز يا حسن. 

- عندها حق يا ابني، لازم تتجوز، انت شايل كام. 

اخفض وجهه يدرك أن والده سيوبخه الأن، تفرس والده معالمه، ثم طلب من زوجته أن تتركه لينفرد بحسن، فتركتهما تكتم غيـظها، وعلى غير ما توقع حسن تحدث والده بتفهم: 

- أنا عارف إن كان نفسك في حاجات كتير: موبيل، فُسَح وحاجات تانية، بس كان لازم بعد كده تعمل حساب بكرة، أنت هنا عشان تبني مستقبلك يا حسن، أوّل ما ترجع نظم نفسك، شيل على قد ما تقدر اشتري شقة وافرشها، حوِّش عشان لما ترجع تشتري عربية وتتجوز، لما تتجوز يا حسن مصاريفك هتزيد وحملك هيزيد، بطولك غير ومعاك أسرة، دي فرصتك، اللي ممكن تعمله دلوقت في سنة، وأنت متجوز ومخلف تعمله في تلاتة وأربعة وممكن عشرة كمان، أسمع نصيحتي، ما حدش هيخاف عليك قدي. 


ابتسم بود؛ فوالده نصحه نصيحة صادقة، سكنت عقله وقلبه، وبعد عودته بدأ رحلة تنظيم الحاضر من أجل بناء المستقبل. 


بعامه الأخير بكلية الطب، يتحرك بين المحاضرات، لا يرى سوى مستقبله، اعتاد جفاء والديه وابتعادهما، وأثناء الفترة بين المحاضرات رن هاتفه الخلوي برقم والده، اتصال من والده، وبعد أن القى عليه التحية المعتادة وجد والده يحدثه بود وحبور غير معتاد: 

- ازيك يا رامي يا حبيبي.


ابعد الهاتف يتأكد من هوية المتصل، واعتلى وجهه التعجب من طريقة والده الودودة، والتي لم يعتاد عليها قط: 

- الحمد لله يا بابا. 

- مش قولنا بابي، بلاش بابا، المهم قول لجدك إني جاي النهاردة. 

-  أنا في الجامعة. 

- عارف قوله لما ترجع. 

- حاضر. 


يجزم أن هناك خطبًا ما خلف هذا الاتصال، ولم يعطِي للأمر أهمية، أنهي يومه الجامعي ثم عاد للبيت، وهناك استقبله جده بابتسامة حنونة، 

- حمدًا لله على السلامة، عملت إيه في الإمتحان. 

- الدكتور غسلني يا جدو، سأل الجروب اللى معايا سؤالين وأنا لوحدي أربعة تقولش حد موصيه عليا. 


غامت عيناه بضيق من ابنه الذي ينفذ تهديده. 

- في ايه يا جدو؟ مالك؟ 

- مفيش يا حبيبي، بفكر في أبوك. 

- تصدق كلمني النهاردة، كان غريب جدًا، ما فهمتش سبب مكالمته وقالى أعرفك أنه جاي النهاردة. 


لم يستطع الجد إخفاء مشاعره، وارتسم الحزن جليا على تفاصيل وجهه، فجثى أمامه وتملكه الخوف: 

- مالك يا جدو؟ أنت تعبان؟ لا شكلك زعلان، بابا صح؟ أنا قولت اتصاله غريب من الأول. 

- أبوك هددني بِيك، ما كنش هو وأمك متوقعين أننا هنسيب لك كل فلوسنا، افتكروه كلام، وبوفاة جدتك السنة اللي فاتت وتأكدوا من جديته، فبدأ أبوك يهدد أنه ياخدك تعيش معاه، ودلوقت بيضغط بمستقبلك. 


ابتسم بتهكم حزين فما زال أداة بأيدي والديه، وبمنتهى الإصرار حسم أمره: 

- من زمان بتعاملني كرَجل، صح؟ 

- أكيد يا حبيبي. 

- يبقي أعمل اللي أنت عايزه، مش هقولك أرفض أو أقبل، حضرتك عارف إن الفلوس مش فارقة معايا، وإلا كنت قعدت مع حد منهم، لكن أنا رافض أكون أداة في أيديهم عشان يضغطوا عليك، أولًا أنا كبير كفاية عشان أقرر عايز أعيش فين، ثانيًا حضرتك المتحكم الوحيد في فلوسك، أنا عايز حضرتك، حبك وحنانك أنتَ أبويا الحقيقي، اللي بتحبني بدون غرض، لولاك كان زماني زي حد من اللي شوفتهم زمان، أحسن الفروض أكون بتعاطى، لكن بفضلك وفضل تيته الله يرحمها كلها خطوة وأبقى دكتور، وبشهادة كل الدكاترة متفوق وليا مستقبل كبير. 

- ومستقبلك يا رامي! أفرض نفذ تهديده، وكلم أصحابه وحد منهم سقطك في مادته فعلا، هاتقهر عليك. 


ربت على كتفه، نظر له بابتسامة مرهقة 

- تفتكر دكتور ماهر الديب يقبل سمعته تتأثر ويتقال ابنه دكتور فاشل مش ناجح زي أبوه، حضرتك مش متابع أخباره في جرايد المشاهير والفنانين، يفتخر إن عيلته نابغة في الطب وإن ابنه اللي هو أنا طالع لأبوه وهيكون نابغة في طب الجراحة. 

- عارف، عمايل أبوك رغم جحودها إلا أنه عمل فيا معروف كبير. 


رمقه رامي باستفهام؛ فابتسم موضحًا: 

- أبوك عمره ما كان حنين زيك كده، الكام سنة اللى قعدتهم معايا أنت وجدتك رجعوني عمر لورا، عشت جو الأسرة من أول وجديد، بعد ما دقت الوحدة، عايزك يا حبيبي تختار زوجة صالحة، تراعيك وتراعي ولادك مش مهم مستواها الاجتماعي قد ما مهم أخلاقها. 

- لا يا جدو مش عايز زوجة لا صالحة ولا طالحة خليني كدة زي الفل، تعالى نتغدى، أنا واقع أصلًا. 


مساءٌ قاتم غاب به القمر، حمل بطياته الفراق، عادت شيماء من الجامعة، ووجدت جدها قد اشترى الكثير من الاطعمة، وجميعها مما منعه عنها الطبيب، دب به بعض النشاط غير المعتاد، اعتلت وجهه ضحكة نضرة، شعرت بغصة شديدة؛ فجدها يبدو كمن يودع الحياة، امضت الوقت معه تضحك بدموع حبيسة، تهـدد بالهُـروب، حديثها بكل الأمور، وألقى على مسامعها جميع الدعابات التي علمها يومًا، وعلى عكس عادته سهر معها لساعة متأخرة، ثم ضمها ضمة طويلو حنونة وقبلها، بثها آخر وصاياه: 

- خليكِ قوية بنفسك يا شيماء، دوري على مستقبلك، أنا مأمن لك اللي يبعد عنك الأذى، ما تزعليش من أختك، هترجع ما تخافيش، هاتي المصحف، وأدخلي نامي. 

- هاقعد جنبك يا جدو لحد ما تنام. 


أومأ لها مبتسما، جلست جانبه تستمع لما يقرأ، لم تغمض عينها وكأنها تحفر صورته بقلبها. 


بثقة قوية وإيمان بتحقيق مراده حضر ماهر، لم يكن يتوقع صمود والده امام تهديده الصريح بمستقبل رامي، جلس وتعلو ثغره بسمة سعادة وتحدث بود زائف: 

- ازيك يا بابا وحشتني. 

- أنت وحشتني فعلا يا ماهر، لكن أنا وحشتك بجد! 

- أكيد طبعًا، قررت أيه في موضوع اللي فاتحتك فيه؟ 

- مش موافق، لأ. 

- مش فاهم، هو أيه اللي لا؟ 

- اللي طلبته، لأ مش موافق. 

- ليه؟ 

- قولت لك الفلوس دي لرامي ابنك. 

- أنا بتكلم جد مش تهديد، وده هيأثر على مستقبل رامي، هيعرف أنك السبب. 

- زي ما تحب، ما هو ابنك برده وفي وشك. 


احتقن وجهه مِن شده الغَضَب، أموال والده للقيام ببعض التوسعات بمشفاه، نوى تأجيلها بالسابق، لكن حينما ادرك جدية والده لترك إرثه لحفيده رامي، قرر الضغط عليه للحصول عليه، يرى أنه أحق من ابنه، غادر المكان بعكس حالة دلوفه إليه. جلس رامي مكان والده، فطالعه جده ببعض القلق، لا يعلم أكان تصرفه صحيحًا أم لا: 

- متأكد يا رامي من اللى عملناه أبوك كده ممكن يضرك. 

- ما تخافش يا جدو مش هيعمل حاجه مش عشاني، عشان مركزه وصورته قدام الناس، حضرتك عارف أنا دائما آخر اهتماماتهم. 

- ربنا يستر. 


جفاها النوم ولم يزر مقلتيها، ومع بدايات الصباح دلفت إليه مسرعة، تقاوم هاجسها، الذي لم يتركها طوال ساعات الليل، ليت حدسها أخطأ! وجدته باسمًا، وجهه بدرًا وضَّاء، فارق عالم الغش والغدر، وسكن جسده لنهاية الحياة، جثت جانبه، قبلته قبلة الوداع الأخير: 

- ما بقاليش حد يا جدو، بقيت وحيدة، طاب قولي أعيش ليه؟ كنت استني شوية كمان، حاولت الابتسام وسط دموعها، كده العسل بتاعي خلص، هحاول أعمل اللي قولت لي عليه، ابقي زورني في المنام، انت وحشتني من دلوقتي، ربنا يرحمك يا حبيبي. 


صدرت منها آهه متألمة طويلة رجَّت المكان، استيقظت والدتها إثرها، واسرعت ودلفت إليها، وجدتها جانبه تضع رأسها على كفه تبكي فراقه، بطأت خطواتها، ملكتها الصـدمة، لحظة مهيبة، والدها الذي كان دوما شامخًا، الآن جسد بلا روح، لم تكن يوما الابنة البارة رغم أنه فعل معها الكثير ولم يحرمها يومًا، كانت تخالفه بتبجح، لكن تلك الوضعية، تلك الحقيقة التي لا مهرب منها، زلزلت داخلها، تعلقت عينها به وتحررت دموعها. 


قاموا بالإجراءات المعتادة هاتفت شيماء نادية، ابلغتها ببكاء حار وأنفاس متهدجة، استقلت نادية وزوجها أول طائرة وحضرا بموعد الدفن ألقت شيماء نفسها بحضن أختها، اطلقت العنان لدموعها وآهاتها، وعلى عكسها كانت نادية صامدة قوية. 

مع انتهاء اليوم الأول للعزاء، ومع انصراف آخر فرد من المعزين، صدح صوت سامح يسأل بتبجح: 

- حد يعرف رصيد الحاج كام؟ وأملاكه أيه؟ 


رمقته نادية باستنكار، وشيماء بتعجب باكي وأجابته زوجته: 

- بتسأل ليه؟! أيه اللي يخصك؟! 

- مش فلوس مراتي تبقي فلوسي. 

- لأ، فلوسي لوحدي. 

- عايزين محامي. 

صدح صوتها الجامد والثابت أخيرًا، تحدثت بقوة لم تعتادها أمام والدها: 

- المحامي موجود ومعاه وصية جدو، كتبها ومسجلها من سنين، اهدوا كام يوم، جدو مش أي حد عشان تتخانقوا من دلوقت. 


رد عليها سامح بغَضَب  وغلظة لم تتأثر بها ولم تعبأ: 

- أزاي تتكلمي معايا كدة؟ شكلك نسيتي عُلق زمان. 


حاول صفعها فتصدى له نادر: 

- مراتي ماحدش يمد ايده عليها. 


ارتسمت على وجهها بسمة هازئة، ولم تكترث بغَـضب والدها؛ فأثار هدوئها فضول سهام، التي أيقنت بعلمها فحوى الوصية؛ فثباتها وقوتها بالتأكيد نابعين مِن ثقتها مما سيحدث، وليس لوجود زوجها فقط، فيبدوا أنها أحسنت الاختيار: 

- ما تقولي يا نادية، جدك قالك أيه وخباه عليَّا، أنا بنته الوحيدة وأمك لو فاكرة. 

- وحضرتك افتكرتِ دلوقت إني بنتك! من يوم جوازي وسفري وحضرتك ما اتصلتيش غير مرة تأدية واجب، جدو وشيماء هما اللى كانوا يتصلوا، حتى النهاردة ماحدش افتكر يبلغني غير شيماء. 


تفرست تعابير شيماء المذهولة والمصدومة من حديثهم، ثم عادت إلى ابنتها الكبرى تحثها على التحدث: 

- قولي يا ناديه عارفة أيه مخليكِ واثقه من نفسك قوي كده. 


انهارت شيماء باكيه لا تصدق ما تسمعه؛ فجدها لم يتم ليلته الأولى، يعاني ظلمة وضيق قَـبره، وهم يهتمون بالمال، حتى نادية، أتناست جدها؟! أهو البعد؟! أم چِنات ورثتها من والديهما؟! تركتهم ودلفت غرفة جدها، لعلها تجد طيفه يواسيها، تعاد برأسها كلماته الأخيرة لها، تتحس موضعه بالفراش. 


يومان مرا، يتعاملون بندية ومناطحة «سامح، سهام ونادية»، وبجلسة مشحونة الأجواء فتح المحامي وصية الجد، يتلو عليهم بنودها، ثارت سهام معترضة: 

- يعني أيه ده! 

- والد حضرتك، قسم ممتلكاته من أربع سنين، أودع بالبنك وديعة للبنتين باسم نادية، وبما إنها أتمت سن الرشد فهي المتحكمة في المبلغ، يقسم مناصفة بينهم بعد اتمام شيماء لسن الرشد والعائد يقسم مناصفة بردو، أما بالنسبة للبيت اللي إحنا موجودين فيه فهو برده قسمه بالتساوي بين حضرتك وبين البنتين، أوصى بحق الانتفاع لمدام سهام، وأنه لا يباع إلا بالاتفاق وبعد بلوغ آنسة شيماء سن الرشد وزواجها، الحاج محمد باع كل ممتلكاته وقتها، وزي ما حط الوديعة للبنتين، حط كمان وديعة باسم الأستاذ سامح، تستحق بعد زواج شيماء وشرط موافقتها وتأكدها أختها نادية، وطبعا الأستاذ سامح يستفيد بالعائد السنوي لها، وأودع وديعة باسم مدام سهام بدون أي شروط، واحتفظ في حسابه بمبلغ، وهو اللي كان بيصرف منه خلال السنين اللي فاتت، وأوصى إن المبلغ ده يتقسم حسب الشرع وأن أي فلوس لشيماء تكون مع نادية لحد ما تتم سن الرشد، وقتها تأخذ فلوسها، بكده تكون الوصية خلصت. 

- أنا هشكك في الوصية دي، أنا الوريثة الوحيدة، لا البنات ولا سامح لهم في الورث، بأي حق سامح يورث في أبويا! 

- أحب أقول لحضرتك الوصية سليمة بنسبة ١٠٠%، الطعن فيها تضيع وقت، شهور نقضيها في المحاكم ممكن توصل لسنين، وفي النهاية نفس النتيجة وتأكد صحتها، كمان يا أستاذ سامح في شرط لحضرتك لتنفيذ البند الخاص بيك؟ 

- أيه هو؟ 

- عدم إذاء أي من البنتين جسديًا، وده عشان اللي حصل زمان، وفي حالة مخالفة الشرط، فلوس الوديعة تنتقل لمدام سهام على الفور. 


حدجته بنظرات نارية، تخبره أنها ستراقبه عن كثب، تمنت أن يقع بالفخ وينساق لهواه، وهو أقسم داخله ألا يفعل؛ فلن يضيع مبغاه ومراده، وكلاهما يحمل خصومة وندية للآخر. 

عندما أدركت ألَّا مفر من تنفيذ الوصية، تحدثت بغَضَب كنَّته الجميع: 

- بما إن ليا حق الانتفاع بالبيت لوحدي؛ فأنا مش عايزة حد منكم هنا من بعد الأربعين. 


ردت نادية ساخرة: 

- شكرًا لكرمك يا أمي العزيزة، احنا مسافرين بكرة، أنا خلاص عملت توكيل للمحامي؛ فمش هزعجك أكتر من كدة. 


الصدمة حليفها الوحيد بعد رحيله، لم يفكر بها أيًا منهم، فتساءلت تذكرهم بوجودها: 

- وانا؟ 


حدجتها والدتها ببسمة ساخرة، أبعدت نادية مقلتيها عن مداها، وأجابها والدها سامح بنبرة راضخة ساخرة: 

- معايا للأسف. 


ارتجف بدنها، طالعته مصدومة، لا تصدق عودتها إليه، يمر بذاكرتها كل الهوان الذي عاشته رفقته، ابتلعت غصة مريرة بحلقها، متذكِّرة كلمات جدها الأخيرة « خليكِ قوية بنفسك يا شيماء، دوري على مستقبلك»؛ فهمست بصوت واهن: 

- الله يرحمك يا جدو. 


انقضت أيام العزاء تلاها الأربعين، وحان موعد مغادرة بيت الحبيب، دلفت شيماء تستنشق عبق جدها الراحل، تتذكر جلساتهما معًا، أولى لحظات السعادة التي تذوقت طعمها رفقته، ودعت المكان بدموع صامتة وقلب يتمنى العودة للماضي القريب، أخذت مصحف جدها وضمته إليها، ذكرى منه يؤنسها في وحدتها، على يقين أن الألم سيعود لرفقتها من جديد، بعد أن نسيت مراره لأعوام. 

تعجلها والدها ورمقتها والدتها شامتة؛ فلا مغيث لها من والدها، تدعو داخلها وتتمنى أن يكـسر شرط الوصية، ولم تعبأ أو تكترث بابنتها. 


مع خطوتها الأولى داخل بيت والدها انقبض قلبها، دلف لغرفته غير مهتم بوجودها، خطت بتوجس وبطء حتى دخلت غرفتهت التي تشاركتها  بالصغر مع أختها، كانت رفقيتها وصديقتها دائمة النصح لها، كانت سِرَّها، جال بعقلها سؤال أوجعها، هل تغيرت نادية بسبب الوصية؟ أكانت تعلم تعلم تفاصيلها؟! أبسبب المال أبتعدت؟! سحقًا له! لا تريده، تبغى حياة هادئة رفقة اختها، تنشد الحنان والاستقرار مع ذويها. 


الأيامٌ مضت، تلتها أسابيع، فبعض سنين، اعتادت شيماء فيها معاملة والدها السامة، يتعمَّد إيذاءها نفسيًا، يتنمر عليها ويناديها بما تكره، يؤكد لها يوميًا أن وجودها معه ليس سوى عقاب. أمَّا أختها فحياتها مستقرة مع نادر، ما زالت تأجل الإنجاب خوفًا من القدوم على تلك الخطوة، رغم رغبة نادر القوية. 

خلال هذه السنوات أنهى رامي دراسة الطب، عمل بأحد المشافي الحكومية، ورفض رفضًا قطعيًا رغبة والده بضمه لفريق مشفاه الخاص به، تعجب الجميع منه، عدا جده، مَن يعلم بكره حفيده لأمواله والده التي ابعدته عنه، وبدأ في اكمال رحلته الدراسية. 

يحاول حسن جمع المال؛ لتنفيذ خطوته الأولى، وشراء بيت مناسب، بدأ ينسج بخياله تفاصيله، متذكًا طيفًا من الماضي، جارة شغلت قلبه وتمنى يومًا الارتباط بها.


تزوج مؤنس من سارة، التي ضغطت على نفسها طوال مدة الخطوبة، متحملة عصبيته واعتراضه الدائم على ملابسها، طريقة تعاملها مع زملائها وخروجها الكثير لأوقات متأخرة، رأت أفكاره رجعية تحكميَّة، وهو رأى انفلات أفعالها، انفتاح زائد خرج عن حد الأصول، وكان الحل كما رأت أن توهمه باقتناعها ورضوخها لرغبته، ثم تفعل ما تريد بعيدًا عن عينيه. 

حفل زفافهما كان رتيب ممل، لم يشعر مؤنس بالسعادة، بل بخيبة الأمل ينظر إليها؛ فيرى طيف وعلى ثغرها بسمة هادئة خجولة، وحين يصحو من خياله يرى الأخرى تطالعه وعلى شفتيها بسمة منتصرة متعالية، جذبته لساحة الرقص وحاولت التمايل معه على انغام أغنية رومانسية هادئة، تثبت له ولذاتها انتصارها الذي اصبح باهتًا مع تمتمته  باسم طيف عوضًا عن اسمها، وتكرر الأمر بكل همساته السعيدة والمبهجة، أيقنت أنه لا يراها ولا يشعر بها، كيانه ووجدانه ملكته غيرها، طيف غادر حياته وتركه أسيرًا له، لم تقتل روحها أو تشعر بالندم، بل ثـارت غيرتها وغرورها؛ فأقسمت أن تثأر لكرامتها المهدرة، وكانت هذه بداية حياتهما معًا.

الفصل الثامن عشر من هنا 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1