رواية علاقات سامة الفصل الثامن عشر
لأول مره يخترق الخوف حصونه، لأول مرة يتذوق مرارته؛ فمنذ تلك المواجهة داهم المرض والدته وأحكم سيطرته عليها، لا طب ولا دواء تمكن من مداواة أثر كلماته، وقع بدوائر التوتر والضغط؛ فزاد حدة وعصبية.
جلست طيف جانب الأم بعدما انهت أعمال المنزل، كعادتها منذ أن لازمت الأم الفراش، تراعاها وتهتم بها، امتلأت عيني الأم باعتذار غير منطوق، جهلت طيف سببه حتى أعربت الأم عمَّا عذب ضميرها وأرَّق مضجعها:
-من وقت ما عرفت عمايل شهاب معاكِ وأنا بحاول بكل طاقتي أصلحه وأكف أذاه عنك، سامحيني لأني، في وقت تراخيت، سامحيني لأني سيبته يأذيكِ وما منعتوش عنكِ، كنت بعرف لما يخلف وعده ليا، أشوف الوجع في عنيكِ، أضحك على نفسي وأقول أدام ما قالتش يبقي ما أذهاش ولا قرب منها، أكيد يتهيأ لي، لكن ضميري وجعني والله! كل ما أحاول أسكن وجعه يتعبني أكتر، وكل ما يزيد انكـسارك كل ما تزيد قهرتي عليكم، يمكن مرضي تكفير عن جزء من ذنبك، حقك عليا يا بنتي، مش قادرة أقول سامحيني لأني ضعفت، حبي لابني طغى على كلمة الحق.
فاضت عينها بسخاء أرهق قلب طيف؛ فحاولت التخفيف عنها:
-مسامحاكِ والله! على أي حاجة وكل حاجة أعرفها أو لأ، خليكِ معايا، ما تمشيش! وجودك بيهوِّن عليا حياتي، حسيت بحنان الأم من تاني، أنتِ هدية ربنا ليا، ارجوكِ بلاش الكلام ده! عشان خاطري! عارفة شهاب بقي غير الأول، صحيح ساعات يتعصَب جامد و.. و.. لكن، لكن مش كتير والله! أكيد أحسن من كل يوم، مش زعلانة والله بس خليكِ.
رسمت بسمة وهنة تخفي وجع الفؤاد:
-أنا حبيتك يا طيف، لكن حبيت ابني بأنانية، ربنا يهدي سرك يا بنتي ويريح قلبك! ويسخر لك اللي يساعدك بإخلاص ويفني نفسه عشانك! اندهي لى شهاب، عايزاه ضروري.
تسارعت دقات قلبه، وارتجف فؤاده، أسرع إليها يلبي ندائها، ورغم معركته الداخلية لخوفه من فقدانها لم يستطع التخلي عن قوة نبرته ودعمها برسم صلابة خارجية:
-اجيب لك الدكتور، هي بتقول أنك تعبانة، أنا متأكد أنك بخير، شوية إرهاق مش أكتر.
هي خير من يشعر به، تدرك حجم صراعه الداخلي، يحصن نفسه بالجمود والقسوة، عكس ما تربى وشب عليه، ابتسمت بإعياء:
-هات المصحف وأقعد قدامي يا حبيبي.
-اتفضلي.
-أنا ما حبتش في حياتي حد زيك يا شهاب، لدرجة اني اغَضَبت ربنا عشانك، فاكر أني بحبها أكتر منك، والحقيقة أني حبيتك أكتر من نفسي، تغاضيت عن أفعالك ووهمت نفسي أنك بتعاملها بما يرضي الله، وأنا عارفة اللي بتعمله فيها، اسمعك كل فترة بالليل بتهينها، بسمع تذللها لك، مع صوت كل ضـربة كنت بتقهر عشانكم ولأني بقيت شريكة في أذيتها.
سقطت دموعها ندمًا، وتهدجت أنفاسها:
-بقيت شريكة بسكوتي، ما رحمناش ضعفها ووحدتها، أنت كـسَرتها بالتَّجبر وأنا كـسَرتها بسكوتي، رغم كده سامحتني، متأكدة أنها سامحت من قلبها، لأنه أبيض يا شهاب، سكوتها لأنها مسلمة أمرها لله، عارف يعني إيه؟
-ماما هقولك زي ما قولت من سنين، هى متعودة ما تشغليش بالك، أنا باخد علاجي بانتظام، بقول للدكتور على اللي بيحصل كمان، أما الضَّـرب فهي اللي بتجيبه لنفسها؛ لأنها غبية.
تنَهَّدت بقلة حيلة وأكملت بكلمات واهنة صاحبتها دموع الحَسْرة:
-ما فيش فايدة فيك، احْلِف على المصحف أنك مش هتضـربها تاني، وهتكمل علاجك سواء كنت عايشة أو لأ، احلف يا شهاب.
-ماما حضرتك مكبره الموضوع، هي..
-احلف يا شهاب.
-حاضر.
-مراتك وبنتك يا حبيبي، عشان خاطري حطهم في عنيك، واحدة غير طيف كانت عملت كتير، هي وقفت جنبي في مرضي كأنها بنتي وأكتر، خاف مِن ربنا، أنت ظالمها، لو ما ارتجعتش مع حلفانك ربنا هينتقم منك انتقام عزيز مقتدر، أنا خايفة عليك، هموت وأنا خايفة، ربنا يمهل ولا يُهمل، مهما كان جبروتك وقوتك قدام ربنا الجبار، أنت ولا حاجة، ربنا رحمن رحيم وكمان منتقم جبار، سيب كِبْرَك وعِنْدَك وتوب.
-حاضر.
فعل بغير اقتناع ولم يخفَ عليها، أراد إنهاء الحديث وغلقه، والته ظهرها وانسابت دموع قهر لابن تغافل عمدًا؛ فطغى وتمادى.
عدل وضع الغطاء ثم ابتعد بضع خطوات، أغلق الإضاءة، فعتمت الغرفة سوى من ضي القمر المنعكس من الشرفة، والدته نقطة ضعفه الوحيدة، ما تعترض عليه وتلومه بسببه، هو شاق جدًا ومرهق، أقصى ما يمكنه فعله، ما يؤلم ضميرها ويعذبها، هو متنفسه الوحيد، الأصوات التي تتحدث عنها هي ترياق حياته، وقف يحدث نفسه «بنتي حاجة تانية، دي بنت شهاب ثابت مش أي حد، هتطلع قوية زيي، مش زي أمها، أمها دي.. دي.. مش عارف اقول أيه؟ متضايقة أني ساعات بضْـربها، أنا بعاني عشان ما اعملش ده زي زمان، كله عشانك أنتِ، لو عليا كانت ورتها الويل، وهي تقريبا حبت الموضوع، بتمتع باللي بعمله فيها، رجاها وهي تتلوي في ايدي، مش عارف لو مشيتي أيه اللى ممكن يحصل لها أو ليا، خليكِ وجودك ءأمن لنا صدقيني.
ظل طائر الموت يحوم بالمكان، كأنَّ انتظار الفراق بداية لعقاب مَن يتجبر، وكلَّما زاد توتره زاد طغيانه ؛ يخرج قلقه في عُنْفِه مع طيف، غفل أن ما يعيشه هو بداية القصاص، يذيقها يوميًا ما يحْـرِق جَسَدَها وروحها؛ فاشتد ندم والدته، وزاد مرضها وتضاعف، حَنَث بقسمه وهي تحيا معه، فمَ يفعل بعد الرحيل؟!
حين اعتاد مرضها أتى الفراق، وما أسوأ لحظات الفراق! بوقت عمله وجد اتصال من طيف على غير عادتها، أجابها بنرجسية ونفور، فتحدثت بنبرة باكية، بالكاد تجمع حروفها، تحثه على الإسراع في العودة؛ فحالة والدته تنذر بالفراق، مِن سرعته كاد أن يقع بعدة حوادث سير.
جاورتها تدعمها بكلماتها تطالبها البقاء، فتحدثت الأم وكأنها تبثها وصيتها الأخيرة:
-كفاية استسلام يا طيف، كفاية ، قولي لأ، اعترضي، ما ترضيش بالظلم، مش هيتوب.
-ما تخافيش يا طنط هو جاي وهنروح المستشفى.
-أنا خايفة مِن ربنا، ذنبك في رقبتي، هقابل ربنا به ازاي!
-مسامحة وغلاوة بنتي مسامحاكِ، ما فيش في قلبي ناحيتك غير الحب والرضى.
-أنت خسارة فيه، عط.. عطشانة يا طيف.
لم تمضِ بضع ثوانٍ حتى فاضت روحها لبارئها، ضمتها طيف بحنان، ودعتها لآخر مرة، وصل شهاب لم يهتم بغلق الباب، أسرع إليها، رأى طيف والدموع تغشى مقلتيها وتعدِّل وضع والدته بالفراش، تخفي وجهها؛ ترجم عقله تأخره ولم يتثنى له توديعها، هيئته المبعثرة افْـزعت طيف؛ فابتعدت قدر استطاعتها، بينما اقترب شهاب من والدته يدفعها بيده بخفة، لعلها تستيقظ!
-ماما، مامااا، أنا جيت، كنت هوديكِ المستشفى، أو حتى أودعك، ما استنتيش ليه؟! ليـــه؟ ماما.
زادت قوة وكزاته أصبحت عَنِـيفَة، تعالت نبرة صوته، فتحولت من خافتة راجية إلى حادة صارخة، رجت المكان؛ فتجمع على إثرها الجيران، التصقت طيف بالحائط تخفي وجه ابنتها المفزوعة بصَـدْرها، حرصت ألا تتركها ترى والدها بتك الهيئة المرعبة، تضع كفيها على أذنها تصمها عن سماع صرخاته، ولم يخفف فعل طيف من رعـب ابنتها، التي بكت بفَـزع وذُعْـر، وبوصول صوت بكائها لمسامعه تحول لمارد غاضب، يصور له عقله، أن طيف سلبت حقه في توديع والدته، حتى بلحظة الوداع فضلتها عليه؛ اقترب منها بخطًى غاضبة يتهمها بما صوره له عقله؛ فارتجفت وانكمشت، كاد يبطش بها لولا دخول الجيران، أبعدوه عنها وحاولوا تهدئته، عاونوه بإجراءات الدفن وتقبل العزاء.
أسره الحزن لعدة أيام، داوم خلالها على المكوث جانب قبرها لساعات طويلة، وحين يعود يلزم غرفة والدته، تجنبته قدر استطاعتها، تسمعه يحدث والدته ويناجيها أحيانا، حتى أنها خشت أن يذهب عقله. على غير العادة ظهر والدها يعزي شهاب، أحزانها فعله، لم يهتم بعزاء اختها، ابنته الكبرى وأهتم بشهاب، كيف يفكر؟!
عاملته بفتور كأي غريب، لم تجلس معه تركته مع شهاب رافقت ابنتها بغرفتها، لم تخبرها أنه جدها؛ فهو لم يهتم بها ولم يزُرها قط، لم يسأل عن حفيدته من الأساس، ربما لأنه نسيها فغفل عن حفيدته.
انقطع عن زيارة الطبيب أو تناول أدويته، بعد وفاة والدته؛ فذاقت طيف العلقم، يتكرر في ذهنها مِرارًا كلمات الأم وبدأت في التفكير الجدِّي للفرار بابنتها التي ارتَعَبت منه، أصبحت تخَافه وتخشاه فتجنبته، ولكنه عاد للمتابعة مرغمًا؛ لحدوث الكثير والكثير من المشاكل بالعمل، وصلت إلى تعديه على رئيسه بالضرب المبرح، حاول زملاؤه باستماتة فصلهما دون جدوى، والنتيجة وقفه عن العمل لحين انتهاء التحقيق، فقد أصيب المدير بكسور مضاعفة وعلاج لمدة تزيد عن إحدى وعشرون يومًا، لم يتردد في تحرير محضر بالوقعة، تسارع الجميع للشهادة ضد شهاب، فمَن منهم لم يتعرض للأذى منه! سواء من سلاطة لسانه، أو يده أحيانًا وينتهي الموضوع سريعًا، نظرًا لمكانة والده، الذي ثَـار وغَـضِب حين علم بما حدث؛ فهذه الواقعة فضيحة لكلامها، تدخل على الفور لن ينتظر حتى تصبح قضية تسيئ لسمعته، وكان الحل الوحيد دفع مبلغ مالي كبير كتعويض، كما تكفل بمصاريف المشفى، والأهم إجبار شهاب على تقديم استقالته.
لم يكن هذا عقاب شهاب الوحيد، فمساعدة والده لا تعني أنه سيتغاضى عن فعله، فعاقبه هو تركه دون عمل، أيَّدت زوجته رأيه، بل اقنعته أن هذا هو العقاب الأمثل له، وبالطبع صب شهاب غَضَبه بطيف، التي بدأت تفكر في كلمات والدته الأخيرة بجدية.
عاد مضطرًا للتردد على طبيبه النفسي، وبعد فترة استطاع السيطرة على غضبه وتحجيمه، استاء من خوف ابنته منه وابتعادها عنه، فكر مليًّا كيف يمكنه استعادتها ويقربها له، حرص على عدم أذية طيف أمامها، حتّى نظراته تحكم بها؛ فتمكن من بث الأمان لها وصحح علاقته معها.
حلا هي روحها وأملها بالحياة، وشهاب يحبها ويهتم بها؛ معه ستحيا بكرامة، سيكون درعها الحامي؛ فعَدَلَت عما نوت، لا تراها فكرة سديدة، فكيف ستهرب وهي لا تملك المال ولا حتى مصاغ لتبيعه؟! فشهاب أخذ ما أحضره لها من اليوم الأول بعد زواجهما، ولا أهل لها تلجأ إليهم، أما والدها فلن تذهب إليه، لن تتركه يفعل بابنتها ما فعله بها.