رواية علاقات سامة الفصل التاسع عشر 19 بقلم سلوي فاضل


 رواية علاقات سامة الفصل التاسع عشر

منذ أن أعاد جسور الود مع ابنته وهو يفكر ويخطط ليعيد الكرَّة مع طيف بعيدًا عن أنظار حلا، أتخذ أول خطوة بعودتهم للشقة القديمة، هي لها سجنًا تحوي ذكريات مؤلمة وقاتلة، لكنه لن يكتفي بها خصوصًا بعد أن تركت لها والدته شيك دوَّنت به مبلغ مالي جيد يمكنها من التمرد عليه، بل وفرارها منه بسهولة، وقد وجد ضالته.

جلس مع ابنته يحدثها بما يضحكها، حتى امتلأ المكان بصوت ضحكاتها، ثم شغل التلفاز على إحدى الأفلام الكرتونية الشهيرة يشاهداه معًا، يرفع صوته بين لحظة وأخرى، حتى وصل إلى درجة أن أصبح شديد العلو، يعمل كحائل صوتي بين الغرف، ثم انسحب بهدوء من جانب ابنته، وترتسم على وجهه بسمة شَيطَانيَّة. 
ووصل إلى سمعها صوت ضحكاتهما؛  فارتوى قلبها وارتسم على شفاهها بسمة سعيدة، عاشت بعالم خيالها تنفصل به عن واقعها، تتخيل نفسها جانب ابنتها تعيش معها لحظاتها وتشاركها إيَّها، صدرت عنها شهقة مُرتعبة، تزامنت مع انتفاضة جسدها عندما شعرت بقبضته أعلى رأسها يجذبها للخلف، استمتع برجْـفتها بين يديه، ثم همس بفحيح جانب أذنها يأمرها: 
- تعالي ورايا بهدوء ومن غير ولا كلمة.

أومأت بطاعة لا تملك سواها، وخطت نحو عذاب تعلمه، نالت منه ما رغب، فرَّغ شحنة غَضَبَه وأرغمها على التوقيع على بعض الأوراق للتنازل عما منحته لها والدته، لم تستطع معرفة ماهيتها، لم يترك لها الفرصة، وبسبب الدموع والألم اللذان غشيا مقلتيها، كتمت أنفاسها لعله يرؤف بها! انتهى فتركها وعاد لابنته بملامح هادئة يزينها بسمة واسعة، مَن يراه لا يتوقع ما كان يفعله منذ ثوانٍ بسيطة، هو بالفعل مريض مزدوج الشخصية، أما هي فلملمت شتات نفسها متجهة إلى ركنها الباكي، الذي يحتضن أحزانها يسعها دون ملل أو كلل، أحكمت غلق فاهها كي لا تتسرب آهاتها أو صوت بكائها، بدء جَـسدها يعلن تمرده، يتداعى من كثرة ما يعاني. 

بعد فترة اخفض شهاب صوت التلفاز، ثم دخل غرفته يحظى ببعض الراحة، دلفت حلا المطبخ تعلم أنه مرتكز طيف، وجدتها منزوية بأحد الأركان تحتضن جسَـدها تكسو الدموع وجهها؛ فربتت على كتفها بحنان ورثته منها ومن الجدة، وضَـمَّتها بكفوفها الصغيرة الناعمة، تمسد على رأسها بحنان، جففت طيف دموعها، ثم احتـضَنتها بحاجة شديدة، رُسم على ثغرها بسمة امتنان لتلك الصغيرة التي بثت داخلها بعض الراحة، سألتها بطفولة: 
- ماما، أنت زعلانة؟! أكيد عشان بتشتغلي كتير، كل ما اقول لك تعالى نقعد مش بترضي، وتقولى عندك شغل كتير في البيت. 

صمت لوهلة ثم ابتسمت بسعادة كأنها وجدت ضالتها: 
- ايوة أنا اساعدك عشان تخلصي وتقعدي معانا. 

قبَّلتها طيف بحنان: 
- حبيبت ماما تكمل لعب وأنا هكمل، قربت أخلص خلاص، انا افتكرت تيتة، وحشتني قوي. 
- وحشتني أنا كمان قوي، هقعد زيك. 
لم تشعر بانتفاضتها التي اخافت حلا قليلًا: 
- لأ، قصدي مش عايزاكِ زيي، تيته في مكان أحلى عشان هي بين ايدين ربنا، المفروض ادعي لها مش أعيط، عارفة ليه؟ 

أومأت حلا نافية فوضعت طيف يدها موضع قلبها: 
- عشان هي هنا، سكنت قلوبنا ومش هتطلع أبدًا وبكده تفضل معانا طول العمر، ولما نحتاجها قوي، نصلي وندعي لها بالرحمة، وهي كل فترة تزورنا في أحلامنا.

صفَّقت حلا بسعادة: 
- بجد تيته جاية! 
- هتيجي في الحلم تطمن علينا. 
- أنا هدخل أنام واستناها تصبحي على خير. 

قبلتها ثم ذهبت لفراشها مبتهجة، تتمني رؤية الجدة، بينما خرجت طيف من حالتها تدعوا للجدة وتكمل مهامها. 

مرت الشهور والأعوام والجميع على حاله، مؤنس كَرِه حياته مع سارة؛ فكلها رتابة وملل ومشاكل واستمرا بتأجيل الإنجاب بالرغم من إلحاح والدته الدائم، عاقبته سارة بعد ان ضغطت على والدها بكل طاقتها ليأخر ترقيته بعمله، وهو تظاهر بعدم المعرفة؛ لأنه يوقن مِن تقصيره في واجباته المهنية، فسبقه طارق وترقى، لم يمل مؤنس من البحث عن طيف، ووصل إلى فكرة تساعده ببحثه.

حصل رامي على الماجيستير وبدء يستعد لحصد الدرجة العلمية التالية «الدكتوراه»، ورغم تفوقه إلا أنه لازال أسير العمل بقسم الطوارئ، وذلك اسمرارًا لسلسلة الخذلان؛ فوالده عاقبه على رفضه العمل بمشفاه واوصى بعض معارفه بتضيق الخناق عليه، وتركه بهذا القسم؛ لعله يعود لرشده! لم يتعجب رامي من فعل أبيه الذي لم يتوانى عن إثارة ذهوله وتعجبه، فبعد وفتة الجد لم يحاول والده التقرب له، بل طالبه بإعادة الأموال التي خصها له الجد قبل وفاته، وبالطبع رفض رامي، لكن انعكس ذلك على شخصيته أصبح حاد غليظ بجميع تعاملاته. 

عمل معه بالمشفى زميل جديد "وسيم" شخصيته على النقيض منه، هو وسيم اسمًا وفعلًا، خفيف الظل، تلتفت حوله الممرضات والطبيبات صغار السن والموظفات أيضًا، وهو لا يضيع فرصة للخروج مع إحداهن إلا واستغلها، وإن رأي من أي منهن استجابة لما هو أبعد لم يتردد ابدًا. 

انهت شيماء دراستها الجامعية، لم تتمكن من الحصول على عمل جيد، لم ترد المكوث دون عمل ولو ليوم يوم، لذا قبلت العمل بمشفى حكومي بعقد غير ثابت وبمرتب ضئيل، لم تبغي سوى الابتعاد عن البيت وبالتحديد الابتعاد ولو ساعات معدودة عن والدها، الذي لا يترك مناسبة الا وبخها واسمعها ما تبغض. 
ظهر لوالدها أقارب لم تقابلهم قبل وفاة الجد، بل اكتشفت أن لديها عمَّة، نسخة من والدها طبعًا وشكلًا، والأعجب هو ابنها يهوي مضايقتها وإثارت غَضَبها، يوم زيارتهم هو يوم هلاكها؛ عمل متواصل وأطباق متنوعة يحددها والدها، تأخذ وقت طويل لإعدادها، تضطر للغياب من عملها باليوم السابق للزيارة لتجهيز الطعام والمكان. 

نادية بعيدة عن الجميع، تتصل بوالدها كل فترة، ترسل مبلغ لشيماء شهريًا، لم تعطها النقود التي خصصها لها جدها عقب إتمام سن الرشد، ولم تهتم شيماء أو تطالب بالنقود، هذا أثار غَضَب والدهما بشدة. 

تمكن حسن من شراء شقة بمنطقة راقية وأثثها بالكامل، اتسم الأثاث بالبساطة غير المبالغ بها، بدخول الشقة تشعر بالراحة النفسية والهدوء، تبقى أمر السيارة، حاول الارتباط عدة مرات، لكن باءت جميعها بالفشل. 

اوشكت طاقة طيف على النفاذ، تحملها وتأثرت صحتها بالسلب، داهمها مرض السكري، نقص وزنها بدرجة ملحوظة، حملت للمرة الثانية على غير رغبة شهاب، ارهقها الحمل وزاد ارهاقها أفعال شهاب الغريبة حتى اجهضت، وكانت خطته، جاهر بتعمده ذلك، واكتفائه بحلا، كما أصبح اكثر ضراوة معها، انفق كل ما يملك من نقود، خصوصًا وأنه لم يسقر بأي وظيفة، فبكل عمل يحصل عليه، تقع العديد من المشاكل مع زملائه وينتهي الأمر بمشادة حـامية يرفد من عمله على إثرها.

اقترح عليه والده البحث عن عقد عمل بالخارج، وحذره مرارًا من تهوره وضرورة خضوعه للعلاج والمواظبة عليه حتى بعد سفره؛ فلم يجد هناك مَن ينقذه، بدأ رحلة البحث عن عقد للعمل بالخارج، ووقف أمامه عائق واحد، من أين يجلب الاموال اللازمة للسفر؟ وكان الحل الوحيد هو أن يبيع شقته أو شقة والدته، فاقترح والده بيع الشقتين، وشراء شقة في منطقة بعيدة عن حيِّهم، الذي ذاع فيه سوء طبعه واشتكي معظم الجيران سوء معاملته وتصرفه معهم، الذي وصل إلى حد عمل محاضر عديده ضده، لم يخبر طيف ببحثه عن عمل، وضمر لها الغدر؛ فقد نوى تركها وحيدة ودون أي أموال، وافقه والده الرأي، كانا يفكرا بمن سيهتم بشؤون حلا ويرعاها بوقت عمله، ثم أجلا التفكير بهذه النقطة لحين العثور على العقد. 

ذهب مؤنس لعمله بعد مشادة طويلة وسخيفة مع سارة، جلس بمكتبه بحالة مزاجية سيئة، دلف إليه طارق متسائلًا: 
- إيه يا ابني اللي حصل؟ كنت مع سيادة اللوا والمدام اتصلت، مش عايز أقولك عامل إزاي، لو شافك هيقتلك. 
- والله القتل أرحم. 
- اهدى يا مؤنس، أكيد مدام سارة مش وحشة قوي كدة، وبعدين عندها حق أنت مزودها قوي. 
- طارق أنا مش ناقص. 
- واحدة عارفة إن جوزها بيحب واحدة تانية، وماشي يدور عليها ١٣ سنة، اهو بقيت عامل زي قيس بيلف يدور على ليلاه، ناقص تكتب فيها شعر. 
- مش فاهم كل ده ليه؟! 
- ولا حاجة، مجرد أنك بقالك أربع سنين كل يوم تقف في دورية مرور شكل، على أمل تعدي قدامك في عربية جوزها، قربت تلف القاهرة الكبرى كلها، يا أخي ده أنت لو شفتها مش هتعرفها، مَرْ عليكم عمر أكيد شكلها أتغير زي ما أنت شكلك أتغير. 
- هأعرفها مهما شكلها اتغير، عشان قلبي هيحس بها. 
- شوف مستقبلك، ترقيتك تأخرت المرة اللي فاتت لأسباب تافهة. 
- عارف مين السبب؟ وسكِت عشان حاسس بالتقصير، هما اللي مدخلين الشغل في العلاقات الشخصية. 
- وآخرها يا صاحبي. 
-  قلبي بيقولى اني قربت أوصل. 
- ما فيش فايدة، كتير بحس مراتك عندها حق. 
- مراتي مش بتهتم غير بشكلها قدام الناس وبس، أنا لأ، أنا شايل كتير، بقيت أكره البيت كمية البرود اللي معشش فيه حاجة تخنق. 
- لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يهدي وييسر لك الحال. 

عملت شيماء بقسم الحسابات بالمستشفى، هي أصغر الموجودين بيئة جديدة عليها كليًا، البعض تعامل معها على أنها طفلة بينهم والبعض عاملها كزميلة والبعض تخيل أنها فتاة مستهترة سهلة المنال، بسبب بشاشتها الدائمة وهناك تعرفت على زميلة اسمها غادة، تكبرها بعدة أعوام، تعمل بقسم الاستحقاقات وأصبحتا صديقتان مقربتان خلال فترة قصيرة، وزاد ترابط عملهما من قوة علاقتهما؛ فغادة تعد الرواتب وشيماء تراجع عليها، بصباح  كل يمر تمر إحداهما على الأخرى،  تلقي التحية على موظفي القسم وأخرى خاصة بهما: 
-صباح الجمال على أحلى مشمش. 

طالعتها بإرهاق وتعب، فسألتها غادة باهتمام: 
- شيماء أنت تعبانة؟ 
- شوية، حاسة بهبوط، هشرب شاي وابقي كويسة. 
- تعالي ننزل الاستقبال أفضل. 
مع إصرار غادة تحركت معها بوهن. كانت مكاتب الموظفين بأحد الممرات المغلقة بالطابق الأول يقابل ذلك الممر من الجهة المقابلة باقي طقم الإدارة الأعلى وظيفيًا، المتمثل في المدير العام والطبيب مدير المستشفى، ومدير القسم الطبي يفصل الممران طرقة صغيرة بها المصاعد وتؤدي لباقي أقسام المشفى. 
اثناء خروجهما من الممر، قابلتا دكتور وسيم، فنظر لهم باهتمام: 
- الآنسة مالها؟ تعبانة ولا إيه؟ 
- شوية، هنزلها الاستقبال. 
- طيب انا هسندها. 

انتفضت شيماء بوهن، معتذرة: 
- شكرًا. 

ابتسم لها ببشاشة: 
- طيب انا هنزل اكشف عليكِ. 
- آسفة مش بكشف غير مع سيدات، في دكتورة تحت هروح لها، يلا نتحرك لو سمحتي.

اعجب بفعلها، لكن أتقاوم وسامته إحداهن؟! رأى تصرفها عائد لتعبها، وقف محله لبضع ثوان، فأتاه صوت رامي من خلفه: 
- هنمشي ولا هنفضل هنا طول اليوم، الدكتور منتظرنا يا أخ. 
- هو منتظرك أنت وأنا طالع فضول، بس خلاص هنزل تاني. 
- ما قالت مش بتكشف مع رجالة. 
- أنا لا أقاوم يا ابني، أنت اللي معقد. 
- صح، أنا مُعقد وغلطان عشان طاوعتك. 
تركه وذهب بينما لحق وسيم بشيماء بغرفة الطوارئ. 

بعد اتجاههما للطوارئ تحدثت غادة بمرح: 
- مش كنت سيبتي الدكتور الحليوة يساعدك. 

غمزت لها مبتسمة: 
- شكله وقع في حُبك من أول نظرة. 
- غادة مش وقت خِفة أنا تعبانة بجد. 
- الدكتورة مش هنا، استني أشوف حد تاني. 

أتاها صوته من الخلف: 
- مش موجودة، دكتورة صفاء ما جاتش النهاردة، مفيش غير أنا ودكتور رامي وهو فوق. 
نظرت كلتاهما للأخرى، وكادت شيماء أن تغادر، لكنها شعرت بدوار شديد سندتها غادة وجلست على سرير الكشف. 
- لازم تكشفي أنت مش قادرة تتحركي ساعديها. لو سمحتي تجهز للكشف. 
- مش كشف ضغطي بيوطى، عايزة اقيس الضغط بس.

بعد محاولات منه كثيرة، ورفض منها، اضطر لمطاوعتها ولم يصل لغايته، ومع رفضها الشديد ان يقترب منها جعل احد الممرضات هي من توصل بذراعها المحلول، وبقيت بغرفة الطوارئ لبعض الوقت. 

انهي رامي اجتماعه مع المدير، ثم عاد لغرفة مكتبه، لم يستغرق الأمر سوى بضع دقائق، دلف إليه وسيم مبتسما مزيفًا الحقائق: 
- شوفت، في الآخر سمعت الكلام.

شعر بالضيق، أكل النساء بتلك التفاهة؟! بعد فترة شاهد غادة تبحث بعينها يمينا ويسارًا، دفعه الفضول لمعرفة ما تريد، فوجدها تتجه إليه. 
- السلام عليكم، حضرتك دكتور رامي المتابع لقسم الطوارئ مع دكتور وسيم، صح؟ 
- أيوة، خير. 
- دكتور وسيم مش موجود وعايزة أعرف هي هتفوق امتى؟ هطول! يعني اسيبها وأطلع شغلي.

تعجب من سؤالها، فعندما اختفي وسيم اخبره عمدًا، وبدون سبب انه ذاهب إليها، يقضي معها بعض الوقت: 
- دكتور وسيم لمَّا كشف قال أيه؟ 
- ما كشفش قاس الضغط وعلق لها محلول، بس هي نامت بعدها. 
- ازاي ما كشفش يعني مش فاهم! 
- رفضت، وهي دايما ضغطها بيوطى. 
- ادام رفضت نزلت الطوارئ ليه؟

ردت بغَضَب منه ولحدته الواضحة بحديثه، تود فقط معرفة أتنتظر، أم تصعد لعملها. 
- يا دكتور، عايزة أعرف هتفوء امتي؟ مش أكتر حاسة أني في تحقيق. 
- استني لما دكتور وسيم يجي يرد عليكِ. 

تركته غاضبة من بروده، أمَّا هو فأخذه الفضول ليرى مَن رفضت كشف دكتور وسيم، رفع الستار الفاصل بين الأسرَّة، رآها ساكنة مغمضة العين، حجابها بسيط وجهها خالي من مساحيق التجميل، ملامحها هادئة مرهقة، لا تشعر بمَن حولها قرأ تقرير حالتها المعلق بمعدن الفِراش، مدون قياس ضغطها، شديد الانخفاض بالفعل، لا تدعي التعب، أغلق الستار وعاد لمكتبه، فوجد وسيم هناك، الذي تحدث دون سبب: 
- شوفت، ما فيش واحدة تقول لي لأ، واديني كنت...

قاطعه متعمد إحراجه 
- صاحبتها كانت بتسال هتفوق امتي؟ وقلت لها تسالك لما تيجي، هي شافتك؟ 
- كانت هتموت وأكشف عليها، لكن قِست لها الضغط بس، هي أصلًا مش حلوة، بيضة ورموشها سودة وطويلة بس عادية بردو. 

حرك رامي رأسه بيأس صامت من إصراره، مارس كلاهما يومهما باعتيادية، وبعد فترة بدأت شيماء تستعيد وعيها، طالعت المكان حولها تتذكر ما حدث ثم حاولت الجلوس، دلفت إليها صديقتها مبتسمة: 
- حمد على السلامة، كل ده يا بنتي عشان تفوقي دي تالت مرة أنزل لك. 
- بقالي كتير! 
- ساعتين وشوية. 
- ومكافأة العمال، دول كانوا منتظرينها بفارغ الصبر. 
- ما تقلقيش أ/ مراد خلصها من بدري. 
- الحمد لله! عايزة اطلع بقي. 
- استني انادي حد مِن التمريض. 
- مفيش داعي، أنا موجود، هاتي ايدك. 
- مش مستهلة حضرتك أو التمريض، أنا هشيل الكانيولا وحضرتك شوف الورق.

لم يكن سوى دكتور وسيم، الذي اغتاظ مِن ردها وفعلها؛ فلم تنتظر رده وأزالت إبرة المحلول ببطء وناولتها غادة قطعة قطنية تضغط بها موضعها، ثم تحركتا دون انتظار رده، ولم يرذ فعلها إلَّا إصراره عليه التقرب منها، تابع رامي ما حدث واستمع لحديثهم، فقد تعمَّد الكشف على حالة بالسرير المجاور لها، ارتسمت على وجهه بسمة رضا؛ فلأول مرة ترفض إحداهن تقرب وسيم منها. 

بدء شهاب رحلة البحث عن عمل بالخارج، واستطاع بمعاونة والده بيع الشقتين واشترى اخرى بأحد المدن الجديدة ذات مساحة متوسطة، نقل ما أراد من أثاث، وباع ما تبقى، تعجبت طيف بصمت؛ فلم يحتفظ بأي مِن أثاث والدته، بل باع المنزل الذي جمعه بها وتنازل عن جميع ذكرياته معها، لم يزِدها تصرفه سوى بغضًا ونفورًا له، اعتقدت بتعلقه الشديد بوالدته، شخصيته معقدة تعجُ بالتناقضات. 
يقضي معظم وقته مع والده، لا تعلم طيف عنه شيئًا، ولم يخبرها بالطبع أنه بلا عمل، لذا يخرج مِن البيت بمواعيد عمله المعتادة، يبحث عن عمل يجهز أوراقه يبتاع ما يريد، ثم يذهب لوالده يتناقشا، ثم يعود للمنزل. 
- خلصت كدة نقل خلاص؟ عايزين نسلم الشقة. 
- أسبوع على الأكتر. 
- حاول تنجز شوية، أخبار عقد العمل أيه؟ وصلت لحاجة. 
- قدمت في مكاتب كتير، لكن ما فيش جديد. 
- هتاخد بنتك ولا هتسيبها مع أمها. 
- هخدها أنا مش راجع تاني، ومش هسيب لأمها فلوس، يعني شوية وتموت من الجوع، أو تموت تحت ايد أبوها مش فارق، لكن بفكر هراعيها لوحدي إزاي! 

اقترحت زوجة والده فكرة تراها مناسبة: 
- أنا عندي حل للعقد وللبنت كمان، لو حابين تسمعوا. 

سلطت نظرها على زوجها تنتظر سماحه بعرض ما لديها، لن تفعل إن تجاهل، أردفت حين أومأ موافقًا: 
- تتجوز، أعرف واحدة بتشتغل في دولة عربية بنت صاحبتي، علاقاتها هناك قويَّة، مولودة أصلًا هناك وأسرتها كانت هناك لحد ما أخواتها طلعوا على دول أجنبية واستقروا فيها، أمها وأبوها رجعوا مصر، وبقيت هي لوحدها، سنها كبير شوية، لكن أصغر من شهاب بتلت سنين وما اتجوزتش قبل كده. 
- وما تجوزتش ليه؟ ما حكتيش عنها قبل كده. 

رَجَفَتها نبرته زوجها الحادة، أجابته بتلعثم: 
- شخصيتها قوية حبتين، مش سهلة يعني، وكل ما تتخطب تفركش، وما جبتش سيرتها، لأن أخبارهم انقطعت بعد سفرهم، لكن كلمتني تاني من شهر مرة، وبعدها امبارح. 
- شهر! حسابنا بعدين، المهم هيتقابلوا ازاي؟ بتقولي مسافرة. 
- هتنزل إجازة بعد شهر، ممكن يتقابلوا وقتها. 

اخفضت وجهها مع جملتها الأخيرة هروبًا من نظرة زوجها، وتساءل شهاب باهتمام، لأول مرة يستفيد من زوجة والده: 
- أعتقد نبدأ نزورهم من دلوقت، أيه رأيك يا بابا؟ 

قطع شهاب بسؤاله سيل نظرات والده النارية الموجهة لزوجته، مَن أخفت عليه أمرًا لمدة طويلة، اتفق معها منذ بداية زواجهما بوجوب إخباره بكل تفاصيلها الصغير منها والكبير، لكنها خالفت ولن يُمَرِّرَ الأمر، فبرغم مُضي العمر الذي نحت خطوطه على جيدهما إلَّا أن طريقته ما زالت كما هي، العقاب أساسها، وستتجرَّع منه اليوم بمقدار هذا الشهر، أجاب منهيًا النقاش: 
- سيب لي الموضوع ده. 

لم يخفَ عليها تغيره، لكنها لم ولن تتحدث خوفًا من بطشه، لم يعد جسدها يتحمل، كما أنها منذ فترة تشعر بثقل حكرتها وبعض الأعراض لو لم تكن تواظب على تناول أدوية منع الحمل لأجزمت بحدوث الحمل، اكتفت بمتابعته الصَّامتة، وأسعدها بحبور ابتعاده عن البيت أوقات طويلة وانشغاله عنها، وهذا يعني حصولها على بعض الراحة والهدوء. 

فاجأه أخوه باتصال ودِّي، هو لا يهاتفه إلَّا نادرًا وبوقت وجودهما بمصر؛ ليلتقيا لبضع دقائق باعتيادية تلبية لرغبة والدهما، أجابه غير مُصدق: 
- والله يا سامر ما صدقتش التليفون! 
- حقك عليَّا يا أخويا، فعلًا ما عنديش عذر. 
- لا أنت تتحسد كدا، المهم ازيك. 
- بخير وبكلِّمك في خير بردو. 

ابتسم ساخرًا اتصل لأن له غرض: 
- قول، سامعك. 
- عايزك في حوار شغل في مصر حاجة خاصة كدة، ما تعرفش بابا وماما، وطبعًا أختك سعاد، لأنهم هيخبوا عليك ما تطلعنيش عيل قدامهم. 

أجاب بتعجب لا يعي لمَ يخفوا عنه؟! 
- ما تستغربش يا حسن أنا شايف بوءك المفتوح من التليفون. 

ضحكا على دعابته، واسترسل سامر: 
- اقفله بقى وأسمع بقي التفاصيل.

أخبره بالمشروع واوجز في التفاصيل، بدا الأمر بسيط يحتاج المال فقط، بعد مكالمة استمرت لساعة أو أكثر، شرد حسن متألمًا، لمَ ينبذوه؟! حتى وإن لم يشاركهم سيسعد من أجلهم، رغم ذلك شعر بالغبطة فهناك مَن اهتم لأمره، لكن بنفس الوقت يراوده القليل من القلق وتدور بعقله بعض علامات الاستفهام، أيشاركهم دون علمهم؟! أم يبتعد؟ أيثق بسامر؟!! هما أخان اسمًا، لكنهما كالأغراب فعلًا، ها هو اقترب من نهاية عقده الثالث (نهاية العشرينات) -يفصله عنه عام وبضع شهور- وما عاشه معه لم يكمل الخمس سنوات الأوائل من عمره، ظل يفكر لفترة طويلة وبالنهاية، دخل ينام ليستعد لليوم التالي. 

لم يعد مؤنس يرغب في العودة للبيت، هو وسارة كلاهما له أسلوب حياة مغايرة للأخر، لا يعلم أي حماقة ارتكبها بحق نفسه ليقع بمثل تلك الزيجة، الميزة الوحيدة بها كما يرى أنها تجنِّبه الشعور بتأنيب الضمير، أي زوجة طبيعية لن تتحمل أفعاله، هو مغرم بأخرى وغارق برحلة البحث عنها لمدة تجاوزت الثلاثة عشر عام، لم يكل أو يمل يومًا، حتَّى أنه منذ أربعة أعوام بات يبحث عنها بالطرقات، يمر على دوريات شرطة المرور يتعرف على الضابط المسؤول يجاهد لفتح حوارات عدة معه ليظل معه لأطول فترة ممكنة، لعله يجدها بإحدى السيارات العابرة أو حتى تعبر الطريق، أصبح معروفا بين ضباط المرور جميعًا، بل بعضهم يعتقد أنَّه زميل بالمرور. 

وقفت أمام المصعد، بعد توقعيها بدفتر الحضور تنتظر قدوم غادة، رن هاتفها برقم والدها، أجابته فبدا تزمُّرها واضحًا على وجهها أثناء استماعها له، ثم أجابت بنفس الحالة: 
- يا بابا أنا عندي شغل وهو بيجي يلف على الأقسام كلها، هو عاطل وفاضي، أنا لأ. 

رآها رامي أثناء مروره بالقرب مِن المصعد؛ فأخذه الفضول على غير عادته للاستماع لحديثها. 
- ما قولتش مش عايزة، هو المفروض ابن عمتي ويخاف على سمعتي، لمَّا ألف معَاه المستشفى والكل يشوفني يقولوا عليَّا ايه؟ 

صِـرَاخه الشديد جعلها تبعد الهاتف قليلًا، ولم تستطع كبح بعض الدمعات التي خانتها، جففتها سريعًا ثم تحدثت بوهن: 
- حاضر، الأستاذ جاي أمتي؟ حاضر. 

لم يكن المستمع الوحيد شاركه وسيم، كان يمازح إحداهن كعادته، ثم تركها ليستمع لمكالمة شيماء. ابتسم كلاهما بسخرية، لكن أختلف سبب تلك البسمة، فأحدهما سخر مِن والدها الذي لا يهتم، أمَّا الآخر فلأنه يعتقد تصنُّعها وكلاهما راقب الوضع منتظر حضور الضيف الثقيل، بعد ثواني بسيطة من إنهاء المكالمة أتت غادة باسمة وتحدثت بمرح: 
- موظفتنا البشوشة، على غير العادة عابسة، أكيد عمو 
اتصل. 

صدرت عنها تنهيدة حارقة تحمل من الألم الكثير: 
- أيوة. 
- ابن عمتك بردو.

أومأت مؤيدة: 
- يعني لف لحد ما تدوخي في ايده، وتكملي يومك في الطوارئ، عيلتك دول أغرب من الخيال. 
- الله يرحمك يا جدو لو كان عايش ما كنش سمح بكده أبدًا.

ابتسمت لذكراه التي جلبت لعقلها جميع ذكرياتها الجميلة معه، ثم رددت جملته، واسترسلتا حديثهما أثناء تحركهما: 
- ما كانش هيسيب العسل بتاعه يزعل أبدًا. 
- يلا يا عسل نقعد شوية، قبل ما المِشْ بدوده ما يجي. 
- ما حصَّلش المِش وإلَّا كان رفع الضغط مش وطاه. 
- خلاص يبقي عسل أسود حمضان قشطة كده. 
ضحكتا بخفوت، وتابعتا طريقهما دون أن تنتبها لرامي الذي استمع لحديثهما الذي أشعل حنينه لجده محمود، كم اشتاق إليه ولحنانه! ما أثار حنقه أن تلك الفتاة تجذبه وتلفه إليها دون أن يشعر، بها ما يجعله يتابعها عكس رغبته بالابتعاد عن جنس حواء. 

مر الوقت وقدم الضيف غير المرغوب فيه، ابن عمتها، شاب متوسط القامة لا شيء مميز به، ملامحه ذات طابع مصري أصيل بشرته قمحية كمعظم المصرين، على قدر جيِّد مِن الوسامة، هاتفها وتقابلا أمام بردهة الاستقبال، قابلها بابتسامة سمجة: 
- صباح الخير، خالي كلمك، صح! يلا، هتوديني فين؟ 
- في داهية، الأستاذ بيشتكي مِن إيه؟ 
- إمم، أنا مش بشتكي من حاجة. 
- جاي تتفسح مش فاهمة!!! 
- بصي عايز أعرف فصيلة دمي. 
- استغفر الله العظيم، ودي محتاجة مستشفى، اتفضل انزل الدور اللي تحت. 

ابتسم بسماجة 
- لا هنركب الاسانسير. 

أجابته وهي تتجه نحو السلم: 
-  أنا نازلة على السلم، لما تنزل حتلاقيني تحت وخلى بالك ممكن تقف ساعة وما تركبش عشان ده للمرضى مش اللي بيضيعوا وقت.

تركته دون انتظار لرده. كلما زادت معارفك بالإمكان الحكومية كلما سهلت أمورك وتيسَّرت، ومن خلال عملها تعرفت على معظم صغار العاملين، ووفق نظرية تبادل المنفعة، يتعاونون لخدمة بعضهم البعض، تحدثت لأحدى الممرضات تعمل بمعمل التحاليل وتم ما أراد، لكنه كان خطوة أولى وليست الأخيرة. 
ترقبا حضورها، ربما تمر من أمامهما! وبالفعل دلوفها للمعمل تطلب مرورها من أمام غرفتهما، لم يقل تذمرها وتضاعف كسماجة الآخر: 
- ها، عايز حاجة تاني. 
- أحنا لحقنا الموضوع طلع بسرعة، بصي هكشف باطنة. 

أغمضت عينيها لتتحكم في غَضَبها، ثم أجابت بنبرة حاولت أن تبدو هادئة: 
- تمام الدور الخامس اتفضل 
- الاسانسير أهو. 
- مش بركب اسانسير عندي فوبيا وأنتَ عارف بلاش استخفاف كل مرة.

استمع الطبيبان لحوارهما ابتسم أحدهما بتشفِّي وأشفق الآخر عليها. مرَّ وقت طويل وهي تدور بين الأقسام والأدوار صعودًا وهبوطًا، وبدأت تشعر بالدوار فاتصلت بصديقتها، ثم زجرته بكلماتها لعله يمل أو يرحل ضاجرًا: 
- مش كفاية كدة، كشفت باطنة، صدر، أنف وأذن وعملت أشعة وتحاليل، كفاية. 

حاول ضميره أن يستفيق من ثباته العميق، ويفعِّل خاصية الشعور، فراوده القليل من الإحساس بالشفقة تجاهها: 
- وصليني لتحت. 

تنهدت بيأس وقلة حيلة، صمت هي تشعر بالتعب وبكل الأحوال ستمر على الطوارئ؛ فبالتأكيد ضغطها انخفض ككل مرة، بالأسفل بالقرب من ممر الطوارئ زاد دوارها؛ فاستندت على الجدار جانبها، لاحظ ابن عمتها وهنها وكاد يمسك يدها يدعمها؛ فجذبتها سريعًا ونهرته: 
- إياك تحاول تمسك ايدي تاني! 
- الحق عليَّا! بسندك عشان دايخة.

تود حرقه، لكنها متعبة بالفعل، لقطتها أعين رامي فتابعها، لا يعلم أتعمدت التواجد بالطابق الذي يعمل به أم هي مجرد صدفه؟! حركته مستمرة طوال اليوم ويتواجد داخل ممر الطوارئ لفترات طويلة ومختلفة، أعجب بتصرفها ورأى صديقتها التي ترافقها دومًا، تقترب وتحدج ابن عمة شيماء بنظرات حارقة؛ الذي تحدث ببروده المعتاد: 
- صاحبتك جت تساعدك، امشي أنا بقى كفاية كده. 

تحدثت غادة قانطة بعد رحيله 
- يا أخي روح منك لله. 

عاونتها غادة ودلفتا للطبيبة صفاء بقسم الطوارئ، التي استقبلتهما بابتسامة بشوشة: 
- تاخدي المركز الأول في هبوط الضغط يا شيماء، تعالى أكشف عليكِ الأول. 
- السماعة بتاعتك دي مهما كنت تعبانة تضحكني، الحمد لله اني كدة كدة مش بكشف عند دكتاترة رجالة كانوا افتكروني بعاكس. 
كلماتها الواهنة أثارت ضحك ثلاثتهن، كل ما حدث كان تحت نظر وسمع رامي ثم انضم وسيم حين لاحظ وجودها، وابتسم كلاهما على كلماتها للطبيبة أحدهما بحسن نية والآخر على النَّقيض.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1