رواية زهرة الجزء الثاني (ملحمة العشق والعذاب) الفصل التاسع عشر 19 بقلم رانيا عثمان البستاني


 رواية زهرة الجزء الثاني (ملحمة العشق والعذاب) الفصل التاسع عشر

النفق ..... مكان مظلم بطبعه ، تتوجس القلوب عند المرور به ، ولكن هناك قلوب تنير ذلك النفق بشجاعتها وتمسكها بالحياة ...عندما يحين الوقت تنشر أشعتها وتتخطى صعاب ذلك النفق المرعب .
ثلاث أيام والجميع متوجس ...الجميع محطم ...الجميع قلق .
لم تعد الحياة كسابقها ... الآن والآن فقط علموا مقدار وقيمته لديهم .
الطعام أصبح لمقاومة الموت ... لا تفكر في الضحك حتى الإبتسامة ليس لها فرصة على وجوههم ...إنطفأت الحياة لديهم .
لا يستطيعون سوى الإنتظار ...وما أصعبه من فعل .
في المشفى /
_ الحمد لله على السلامه يا خالو .
كانت الرؤية ضبابية ...إستطاع تمييز صوته بصعوبة ليردف بهمس متقطع :
_ عاوز أروح بيتي يا عبد الرحمن.
كان يتابع مؤشراته الحيوية وأردف بإبتسامة :
_ إن شاء الله أطمن عليك وتنور بيتك من تاني .
_ مش عاوز أموت غير في سريري .
كانت جملة قاتلة ...لم يتكلم لبعض الوقت ثم إستجمع شجاعته قائلا :
_ مافيش موت دلوقتي إن شاء الله ، في إنك لازم تهتم بصحتك وتخلي بالك من نفسك لو مش علشانك يبقى لينا إحنا لأننا محتاجينك ، إنت متعرفش العيلة كلها عاملة إزاي ، نهون عليك .
تشكلت بسمة ضعيفة على وجهه قبل أن يغط في نوم عميق .
خرج عبد الرحمن ليقف جاسر سريعا متسائلا بلهفة :
_ عامل إيه دلوقتي ؟
مسح على وجهه بإرهاق وتحدث :
_ الحمد لله فاق ، إطمنت على مؤشراته وسيبته ينام ..النوم دلوقتي أفضل ليه .
_ الحمد لله...أنا كنت حاسس قلبي هيقف اليومين إل فاتوا دول ، ده لو كان إتوفى لا قدر الله كنا إدمرنا .
نطق بها مؤيد بفزع لنظروا إلى أدهم الصامت ، فتقدم عبد الرحمن منه قائلا بثبات :
_ أظن لازم تمشي بقى يا أدهم ، بقالك تلت أيام متحركتش من جمبه ، لا بتاكل ولا تنام ، شكلك تعبان أوي .
لم يجيبه ليردف مازن :
_ يالا بينا يا أدهم. نمشي ، تاخد دش وتنام وإبقى تعالاله تاني .
_ عالفكرة هما بيتكلموا صح إنت كده هتقع في أي وقت .
نظر لشقيقه وأردف بصوت بعيد :
_ هو أنا لسه موقعتش .
صمت تام ...نظر مازن له وأغمض عينه بألم ثم رحل وبداخله نيران يدعوا الله أن يخمدها .
................
وحين تظن أن الحياة أوقعتك ف بئر ظلماته تقتص منك رويداً رويداً... تجد نفسك تقاوم الموت بأمل أن يكن ذلك البئر ما هو إلا كابوس وما مررت به يوما .
مغمضة العينين .... نسمات الهواء تلفح وجهها الشاجي ...تداعب ذكرياتها .
فتحت عيناها بتساؤل هل أصبح ذكرى .
شعاع النور الذي اعطاها أملا في الحياة هل ظل كالسراب الآن .
أغمضت عيناها مرة أخرى تستعيد مقتطفات من تلك الذكريات عل قلبها ينبض للحياة...علها تكتسب طاقة وقدرة على نسج أمل العيش من جديد. 
............
مر أسبوعان ...وها هي تخرج من المشفى بعد أن أنقذت حياته بإرادة الله وتبرعت له ...أقل شيء تقدمه له .
وجدت كلا من أحمد ومازن ومعهم صالح ينتظرونها .
_ الحمد لله على سلامتك يا آنسه سدرة .
نظرت ولم تجيبه سوى بإماءة ليسترسل أحمد :
_ حور قالت إنها فهمتك إنك هتفضلي عايشة معانا .
نظرت سدرة لمازن ثم أعادت نظرها إليه قائلا بصوت ضعيف :
_ أدهم عامل إيه دلوقتي ؟
_ الحمد لله صحيا بقى أفضل.
_ أنا بشكر حضرتك يا أستاذ صالح إنك هتستضفني في بيتكم .
_ حور أمنتني عليكي ، وبصراحة أنا مديون ليها لولاها بنتي كان هيبقى صعب تبقى معايا ، حور طلبت مني إنك تبقي مربية نور ، أنا مش هكدب عليكي أنا قلقان من الخطوة دي خصوصا إن نور صغيرة عمرها شهور ،هتقدري تعتني بطفلة زيها ؟
_ متقلقش ..نور أمانة في رقبتي ، وبعدين حضرتك لو لقيتني مقصرة معاها تقدر تمشيني .
كان هذا أول حديث جمعهم ....اول لقاء ...أول خطوة .
مرت عدة أشهر ...لم تره فيها سوى مرة واحدة كل ليلة قبل النوم يحمل إبنته ويحتضنها مداعبا إياها لمدة ثلاثون دقيقة ثم يتركها لها ويرحل .
لم يكن وجودها مرحبا به من جهة والدته بالطبع ، فهي دائما العبوس بوجهها ..كثيرة الأوامر .
_ أنا مش قولتلك تنضفي البيت ، كلامي مبيتسمعش ليه .
_ يا ماما مينفعش كده ، سدرة مش جاية تشتغل هنا خدامة ، سدرة مهمتها نور وبس .
أردفت بها سهر بنفاذ صبر فوالدتها حقا تصيبها بالغضب ، لا تعلم لما تعامل تلك الفتاة هكذا ..إنها حقا فتاة مؤدبة .. شديدة الإحترام ...محتشمة ... جميلة حقا جميلة ...لم ترى مثل جمالها أخرى .
_حضرتك أنا مسؤولة عن أي حاجة تخص نور بما فيهم أوضتها هدومها أكلها ...واجب عليا أقوم بالمسؤليات دي لكن لنور بس .
_ وكمان بتردي عليا .
دلف صالح عند صراخ والدته بهذا الشكل فظن أن هناك مكروها قد حدث لإبنته .
_ في إيه ؟ صوتكم عالي .... نور حصلها حاجة ؟
_ متخافش يا صالح نور كويسة .
نظرت له وهي تشير بعينيها بإتجاه والدتهم ليعلم أن هناك خطبا ما كعادتها .
إقترب منها وقبل أن يتحدث ، تحدثت سدرة ولأول مرة إليه منذ شهور :
_ أستاذ صالح حضرتك عندك أي كلام ليا بخصوص نور... ياعني شايفني مقصرة معاها بأي شكل ؟
قطب حاجبيه بتعجب من سؤالها ثم فكر قليلا وأجاب بنبرة مؤكدة :
_ لا الحقيقة يمكن أنا قصرت لكن انتي لأ..إنتي حتى مشوار الدكتور بتروحيه لوحدك ... ياعني قايمة بكل شيء على أكمل وجه .
_ طيب هل حضرتك موظفني هنا علشان نور ولا أي حاجة تانية ؟
_ متتكلمي عالطول ..هو في إيه ؟
_ يا صالح ماما عاوزة سدرة تقوم بشعل البيت .
نظر لوالدته ببعض الحدة ثم تحدث محاولا السيطرة على نفسه :
_ إسمعي يا سدرة شغلك هنا هو نور وبس أي حاجه تانية مش ملزمة منك ، وأنتي يا ماما لو محتاجة حد يساعدك في شغل البيت مافيش مشكلة إنما سدرة كل إهتمامها ومسؤليتها هي نور .
_ لغاية إمتى ؟
قطب حاجبيه وتساءل :
_ لغاية إمتى إيه مش فاهم ؟
_ ياعني لغاية إمتى هتفضل نور مسؤولة منها ..مش ناوي تتجوز وتجيبلها أم وبلاش وجع الدماغ ده ؟
_ بعد أذنكم .
قالتها سدرة تنوي الدلوف لغرفتها برفقة الصغيرة لتتوقف مرة أخرى مستمعة لحديث منار الغاضب :
_ جهزي هدومك وهدوم نور وإطلعي في الشقة إل فوق ، أنا مش هفضل أخدم حد في بيتي .
نظرت سهر لوالدتها بصدمة بينما صالح أردف بعدم تصديق :
_ تطلع فوق فين ...إنتي واعية للكلام ؟
_ دي أخرتها بتغلط في أمك ، عاوز أنت تعيش معايا هنا ماشي وسيبلهم الشقة يقعدوا فيها لغاية ما ربنا ينور بصيرتك وتتجوز تاني بدل ما أنت واجع قلبي عليك ومش هامك حزني على إبني الوحيد .
أنهت حديثها ورحلت لتتركهم ثلاثتهم ينظرون لبعضهم البعض بحيرة وتشتت 
_ جهزي الحاجة يا سدرة وإطلعي على فوق . 
ظهر الذعر بعينها فإسترسل :
_ متقلقيش أنا كده كده بكون بره البيت طول اليوم ، ياعني هاجي من الشغل أغير هدومي وأتغدى وبليل أبقى أنام هنا ، فوق هتبقي واخدة راحتك أكتر . 
......
مرت عدة أشهر أخرى ، كانت تتجنب بهم الخروج من المنزل سوى لزيارة طبيب الأطفال ومن ثم تصعد ، جعلت من تلك الشقة ملجأ لها وللصغيرة ، كانت تراه مرتان أو ثلاث ، لا يتحدثان كثيراً..بضع كلمات مقتضبة .
إلى أن جاء ذلك اليوم ...ومن بعدها بدأ يتغير كل شيء ...ليس تغير سريع .. ولكن تغير جذري .
عاد من العمل .. وكالعادة قبل أن يدلف لشقته طرق الباب وأحدث ضجيج يعلمها أنه على وشك الدلوف ، كان الوضع بالنسبة إليه مربك ، فتواجده مع فتاة لا تمت له بصلة وإن كان لبضع دقائق في نفس المكان غير مستحب إطلاقا .
إنتظر قليلا وقبل أن يفتح الباب سمع صراخها وشيء يُكسر .
دلف سريعا ليجدها ساقطة أرضا وبعض الأكواب الزجاجية متهشمة من حولها وهناك قطرات من الدماء .
وقف لبعض الوقت كمن صعقته الكهرباء ...فهي الآن أمامه بملابس بيتية .. صحيح أنها ملابس رياضية ولكن يكفي لأن يفقد عقله شلالات الذهب الخاصة بها .
كانت تأن بألم وهبطت دموعها ونظرت في إتجاه الباب تستطلع لتتفاجأ به ينظر لها بصدمة .
مرت دقيقة قبل أن يعي ما يحدث ، أبعد عينيه ليرى فوق الأريكة ملابس الصلاة الخاصة بها التي تقابله دوما بها عندما يأتي لرؤية إبتته ...يبدوا أنها كانت ترغب في الحصول عليها .
إقترب قليلا ثم أعطاها الملابس وهو مازال يُبعد نظره عنها فإرتدت بصعوبة نظرا لشدة الألم ، حاولت النهوض لتدعس فوق قطع الزجاج لتصرخ ألما .
عندما رأها ..إقترب ولكنه وقف عاجزا ماذا يفعل لها .
_ سهر ...سهر .
في بضع ثوان إستجابت شقيقته لندائه وصعدت إليه لتفجع من رؤية تلك الدماء.
منذ تلك الدقائق...لم تغب عن عقله .. أفقدته إتزانه ...عندما يرغب في النوم تؤرق مضجعه بعينيها الباكية ... شعرها الذي أراد أن يتنفس من خلاله ..يريد أن يشعر به .
لقد جن جنونه .... وجد نفسه يرغم نفسه على عدم الصعود ورؤية إبنته .. بل كان يصعد برفقة سهر كمعظم المرات السابقة فهو لم يكن يصعد بمفرده كثيرا ، وعندما لم تكن سهر موجودة لم يعد يصعد .
تغيرت أحواله ...ولم يعلم أنها كذلك .
فمنذ ذلك اليوم ...شعرت ولأول مرة منذ ما حدث معها بقلبها ينبض .
كانت تطيل النظر في وجه إبنته لشدة التشابه بينهم ...كانت تنظف ملابسه وحجرته بعناية ليس كأنها تفعل ذلك للعمل ....ولكن ما جعلها تشعر أنها حقا على حافة الهاوية إمساكها لقنينة عطره تستنشقه بإستمتاع .
_ قاعد مهموم كده ليه يا صالح ؟
نظر إلى مازن ولم يجيبه .
_ برده ما عرفتش تقنعه ييجي يقعد معانا شوية ؟
تساءل أحمد بعد أن جلس هو الآخر ليأتي صوت جاسر المرح :
_ كل واحد فيكم هيعزمني على الأكل مرة .
نظروا في إتجاهه ليروا أدهم برفقته ، منذ ذلك اليوم بالمشفى عندما إستفاق بعد العملية الجراحية ودلفت حور له ولم يعلم أحد ما حدث معهم لأول مرة يجتمع معهم .
_ متعرفش أنا محتاجلك قد إيه ؟
نطق بها صالح ثم نظر أمامه مرة أخرى ، لينظر الشباب لبعضهم البعض.
_ لو محتاج تقعد معاه لوحدك أنا ومازن وجاسر ممكن نقوم .
_ أيوة وعبد الرحمن وصل أهو ممكن نشوف حاجة نشربها لما تخلصوا كلام .
_ إقعد يا مازن وأنت يا أحمد .
جلسوا مرة أخرى لينظر لهم عبد الرحمن بتساؤل فأشار له جاسر بالجلوس دون حديث .
_ أنا شكلي محتاج أتجوز .
نظروا لبعضهم بتعجب ليردف مازن ببعض السخرية :
_ هو في حد عاقل يعيد التجربة دي تاني .
ضربه جاسر في كتفه مرحا ليتساءل أدهم بهدوء :
_إنت قولت محتاج .... ياعني مش لأنك عاوز تتجوز ؟
_ فعلا ...واضح إنك عاوز تتجوز كإحتياج رجل لست تكون معاه ، وده مش غلط وهو أصل الجواز في الإسلام العفة ، لكن أنا من رأيي تفكر كويس يا صالح إنت كان ليك تجربة ومن غير تجريح كانت تجربة فاشلة ، لازم إختيارك يكون مبني على أسس قوية ، زي ما الجواز عفة فهو رابط لازم تبقى متأكد من الإنسانة إل هترتبط بيها .
نظر صالح لعبد الرحمن قائلا بصوت خاوي :
_ أنا خايف أعمل حاجة حرام .
_ إتجوزها .
أردف بها جاسر بنبرة قوية لينظروا إليه 
_ يتجوز مين ، هو ماشي يتجوز من حقه طبعا حتى لو كان زي ما بيقول إحتياج وبس ، لكن لازم يعمل زي ما عبد الرحمن قال يختار كويس ، ولا إيه يا مازن ساكت ليه .
_ بتحبها ..ولا إتفتنت بيها .
كان صامتا وعندما تحدث ألقى سؤالا كان كاللغز بالنسبة إليه .
_ مش عارف .
_إكتب عليها ...إمنع نفسك من المعصية إنت محتار لأن قلبك لسه مسلمش ، لكن عينك إتفتنت .
_ هو أنا بسألك ساكت ليه علشان ترد بالألغاز ..هي مين دي إل فتنته .
سكت للحظات ثم نظر بصدمة وكأنه تدارك الأمر وهمس :
_ إنت تقصد سدرة ؟
...........
سافر ...لم يتحمل أن يجلس معها في نفس المكان ...ولم يتحمل أن يتزوجها ... يكفيه تلك التجربة ... هو إفتتن بها ...رجل رأى أمامه إمرأة جميلة بل غاية في الجمال من المؤكد أنه فقط إفتتن بها .
مرت سنة ونصف على سفره المفاجيء للجميع .
واليوم عاد ...اليوم قرر أن يعود لطفلته الصغيرة التى أودعها في أمانة تلك الملاك .
لم تكن تعلم بعودته ...فهو لم يخبر أحد .
إستمعت لصوت تهليل منار وسهر ظنت أن سهر قد تمت خطبتها .
لم تكن تختلط بهم كثيرا ...بل كانت تكتفي برؤيتهم بضع دقائق وهي تعطيهم الصغيرة التي زاد عن عامها الثاني بضع أشهر ، ثم دقائق أخرى وهي تأخذها منهم .
_ سامعة الزغاريط دي يا نور يظهر كده عمتو سهر هتتجوز ، عقبالك يا حبيبتي لما تكبري وتبقي أحلى عروسة ، بس تفتكري هكون معاكي وقتها ، أوعي تنسيني يا نور ، أنتي بقيتي كل حياتي .
سمعت طرقات فوق الباب إتسعت إبتسامتها ظنا أنها سهر ، فهي معتادة أن تصعد كل بضع أيام تجلس معها قليلا يتحدثان ، يبدو أنها أتية لإخبارها أمر الخطبة ...هكذا ظنت ..هكذا قررت فتح الباب دون أن ترتدي حجابها .
لحظات مرت عليهم كأنها دهر ...ينظر كلا منهم للآخر نظرات غير مفهومة لهم ولأنفسهم .
ودون أن يشعر مد يده ودفعها برفق للداخل ودخل مغلقا الباب مردفا بصوت غاضب :
_ إنتي متعودة تفتحي الباب بشعرك ده ؟
أخذت ترمش وتفتح عينها وتغلقها عدة مرات ثم تشدقت بصدمة :
_ هو أنت بجد ؟
لم يستطع منع نفسه من النظر إليها ... إبتعد كل ذلك الوقت لكي لا يراها ولكي لا يقع في الذنب وها هو يتشبع من ذلك الإثم .
بكت الصغيرة متوجسة لتلفت نظره فأبعد عينه عنها ثم جثى بفرحة وحمل إبنته التي أخدت تحاول الفرار من يده .
إقتربت سدرة تربت فوق ذراعيها تطمئنها وهي تردد :
_ ده بابا يا نور ..قولي ورايا بابا ..بابا .
وكان بابا في عالم أخر ...تلك الرائحة التي رغب في إستنشاقها ...عطر شعرها .
_ إمشي إدخلي جوة إلبسي حاجة عدلة وإبعدي شعرك ده .
كان غاضبا ...يتحدث صارخا .
إرتعبت أوصالها ..وهرولت للداخل .. يا الله كيف نست نفسها وهيئتها ... كيف تقف أمامه هكذا .
أما هو فأخذ الصغيرة وهبط لأسفل رغم بكاؤها .
...........
عادت من ذكراها على صوت أذان المغرب فتوجهت لتأدية فرضها متضرعة إلى الله أن يغفر ذنبها .
..........................
يسألون عن الآمان ....كانت الإجابة 
لا يهم إن كان باب المنزل مغلقا فيكفي أن يكن أبي داخل المنزل .
مجتمعين من حوله ...ينظرون له بتعلق وحبا كثيرا..
_ كفاية بقى يابنتي حرام عليكي كفاية ، دي حاجة مش كويسة .
مسحت رقية وجهها ونظرت لوالدتها مردفة :
_ دي دموع أيام كنت محوشاهم .
ضحك الجميع عليها ليقول مؤيد بمزاح :
_بختك المايل يا مؤيد ... هتتجوز عيلة ، هي فلوس علشان تحويشيها يا أخر صبري .
عبست بعينيها قائلة بلا مبالاه :
_ ومين قالك إني هتجوزك أصلا .
جحطت عيناه ليقول أمير بمشاغبة :
_ تصدق تستاهل ، وإنتي يا زهرة مش الولد ده إبني لكن سيبك منه .
قالها مشيرا إلى نبيل الذي أردف بجزع :
_ هو إيه ده وأنا مالي .
_ علشان تبقى تسمعوا كلام جاسر وكلامي ميتنفذش .
نظروا في إتجاه جاسر الذي نهض مقتربا من وليد مردفا بشغب :
_ أحكم يا كبير ، الواد مؤيد قال إنه حزين ومكتئب وأنا كأخ كبير مسؤول قولت مينفعش أسيبه كده ، يبقى أنا غلطت ؟
_ مع إني حاسس إن في مصيبة وراك بس كمل .
_ مصيبة إيه بس دي كارثة ، بس هكمل .... الواد نبيل سمعنا بنتفق على خروج قال لييجي معانا ليقول لأبوه ،وكان أمير منبه مافيش خروج بعد نص الليل .
_ وأنت خارج نص الليل ليه وسايب مراتك ؟
_ قوله ..قوله يا خالو ، ده بيخرج كل أسبوع في نفس اليوم ونفس الميعاد ، ويرجع تاني يوم في نفس الوقت، أنا أعرف لو الواحد بيخون مراته مبيلتزمش بميعاد معين ليتعرف وينكشف .
نظر لها جاسر بحدة لتبتسم بإرتباك قائلة :
_ أنا بهزر عالفكرة .
_ركز معايا أنا كنت خارج تعمل إيه ؟
_ بخرج أغير جو عادي ياعني.
قالها بإرتباك ، ليتحدث مؤيد بغيظ :
_ الأستاذ فضلنا مستنيينه بره البيت أكتر من ساعة ، ولما يأسنا إنه ييجي حاولنا ندخل بس كان أمير قفل الباب بالمفتاح وفضلنا قاعدين قدام الباب طول الليل عقاب لينا ، ده إحنا لو لسه في إعدادي مش هيعمل كده .
_ هعمل كده طول ما أنا عايش يا مؤيد ، أنتوا أمانة بابا الله يرحمه .
_ الله أكبر ...وأخيرا .
نظر الجميع بإتجاه طارق الذي ظل يهلل بعض الوقت ليصفعه والده على رأسه متسائلا :
_ هو أنت أهبل يابني ؟ عمال تتنطت كده ليه ؟
_ هتجوز يا حج وأخيرا هتجوز ، ريهام بعتتلي رسالة وقالت أنهم مستعديين .
_ قول يارب المرة دي تكمل .
أردف بها طه بمشاغبة ليجلس طارق بحنق مردفا :
_ لو الجوازة دي متمتش المرة دي كمان أنا هطلبها في بيت الطاعة مش إحنا كاتبين الكتاب .
ضحك الجميع عليه لتساءل سلوى :
_ هي الحضانة إل خطيبتك بتقول عنها دي كويسة فعلا يا طارق .
نظرت أسيل لخالتها وأرسلت إليها قبلة في الهواء ليقول جاسر بحنق:
_ هو أنتوا مبتنسوش .
_ تصدق يا طارق جوازتك دي مش هتم برده المرة دي ، لأني هاخدك أحبسك وأخلص من أفكارك .
_والله فكرة وأنا موافق .
قالها أشرف ثم نظر لولده الآخر قائلا :
_ وخد الواد طه كمان أهو تبقى خدمتني وخدمت مروة كمان .
إقتربت مروة من عمها وصافحته قائلة :
_ حبيبي يا عمو والله.
_ جذبها طه من ذراعها وأجلسها مرة أخرى قائلا بتهديد :
_ نفس قضية بيت الطاعة ، مش إحنا توأم .
_بس يا طه ده مش إتفاقك معانا ...
حتى لو أخوك إتجوز مروة لازم تكمل الدكتوراه الأول وبعدين تعملوا فرحكم .
_ يا عمي قول كلمة حق الله يباركلك ، دلوقتي هو إحنا أغراب عن بعض ، إحنا ولاد عم ، هنسكن في بيت قصاد أمي وأمها ، دي تعدي الطريق بإسدال الصلاه خطوتين ، وهما مش هيسيبوها ، وبعدين أنا قولت لو إحتاجت حد يساعدها في تنضيف البيت كل أسبوع مثلا تيجي واحدة تظبط الشقة وهي تركز في مذاكرتها ، أنا مش بقولها متكملش دراسة ، بس ليه ميبقاش وهي معايا ، هو أنا جاهل ياناس هقعدها من التعليم .
_ أنا من رأيي يا طه لو حابب تسمعه إتفهموا مع بعض لوحدكم ، بس لو أنت عاوز تنفذ كلامك ده لازم تبقى قده ومتلزمهاش بحاجة فوق طاقتها مجال المخ والأعصاب ده مش سهل .
_ يا عبد الرحمن هو بيتكلم صح ، أنا طول ما ربنا مادد في عمري هراعيها دي بنتي ومش هسيبها تحتاج لحد غريب يعملها شقتها ، بس نفرح بيهم ونطمن عليهم .
نظرت نورا بآسى لوالدتها التي ما زالت تفرق بينها وبين شقيقتها .
_ المهم دلوقتي...إحنا عاوزين نقدم لأطفال العيلة كلهم في الحضانة دي .
_ أحلى حاجة في بنتك يا طنط كلامها الواثق ده .
ضحكت سمية قائلة :
_ معلهش يا أحمد إنت العاقل يابني ، هي بتتكلم بعشمها .
_صالح أنت موافق نقدم لنور ، صدقني الحضانة أحسن حل ليها بعد ما سدرة مشت ، نور نفسيتها متأثرة وعياط طول اليوم ، ده غير إنها مش بتاكل خالص ، بنقنعها بالعصير بصعوبة .
أغمض عينيه وداخله يشعر بالهلاك ،
وقف وقبل أن يرحل أردف :
_ هقدملها يا سهر ، الحمد لله على السلامه يا عمو ، أستأذن أنا يا جماعة .
رحل وتبعه كلا من أحمد وعبد الرحمن وجاسر ومازن الذي ناداه لينتظر من أجل محادثته في أمر ما .
_ خلاص يا جماعة طالما كده أكلم ريهام تقول الإجراءات ونجهز أوراقهم ، بس هو في مشكلة هما هيروحوا الحضانة إزاي ؟
_ ياعني إيه إزاي ؟
تساءل باسم بتعجب ليوضح طارق :
_ ياعني الحضانة في بلد ريهام هيحتاجوا عربية توديهم .
_ وأنتوا ياعني يا جماعة مش لاقيين حضانة هنا كويسة ؟
_ والله يا نوارة عندك حق ، ده في حضانة في أول البلد بيقولوا جميلة أوي وبتعلم العيال بالإنجليزي .
_ يا ماما إبن أخت ريهام عنده كذا مشكلة أو بمعنى أصح كان عنده لما دخل الحضانة دي إتغير جدا ، دي مش حضانة عادية لأ دي فيها جلسات إجتماعية للأهل ، ياعني مثلا أي حضانة تقولك ممنوع الأهل يدخلوا ، لأ الحضانة دي في يومين في الشهر الأهل بيحضروا ، زي جلسات كده ، مراجعة نفسية للطفل فاهمين حاجة. 
_ كويس يابني إنك مش مدرس .
ضحك الجميع ما عداه بالطبع ...يستمع لأحاديثهم ..يرى ضحكاتهم ..ولكن لا يبدي أي ردة فعل .
هل لو كان طفله إكتمل وجاء للحياة كان سيقدم له معهم ويدخله تلك المدرسة التي يتغنون فيها منذ ساعة دون إكتراث لمشاعره .
متى أصبحت هكذا ...لا يا أدهم لست أنت من يتحدث بهذا الشكل ... لا تجعل ألم فقدك يحولك إلى إنسان حاقد .
كان يحادث نفسه ليتفاجأ بالجميع ينظرون إليه ووليد يسأله :
_ صح يا أدهم ..؟
ظهر عليه أنه لم يكن معهم ...لم يستمع لحديثهم ... شعر كلا منهم بالحزن ولكن كلا منهم أخفاه جيدا حتى لا ينجرح .
أعاد وليد سؤاله بصيغة مرحة عله يخفف وطأة حديثهم :
_ بقول نجيب عربية كبيرة تنفع يركبوا فيها كلهم سوا وطارق بما إنه صاحب الفكرة يبقى السواق .
إبتسم أدهم له مجاملة وأردف :
_ والله فكرة .
_ طب ما تبقى توديهم إنت يا كبير .
أغمض عينيه قليلا ثم فتحها وأردف بصوت مليء بالشجن :
_ العربية هدية مني ليهم ما أنا عم وخال في نفس الوقت ، وإسمحولي أوصلهم أول يوم معاكم ، لو كان إبني عاش كنت وصلته كل يوم .
بعد جملته لم يجد أحد القدرة على الحديث ومتابعة الجلوس ..فبمجرد أن أنهى حديثه شعر بتسرعه ووقف سريعا متوجهاً لغرفته هاربا من نظرات الشفقة ، مبتعدا بدموع عينيه ونزيف روحه .
.......................
ليس بالضرورة أن تتفق وجهات نظرنا .. فمن الطبيعي أن ما تجده أنت مناسب أجده أنا غير لائق ... ما أشعر به لا يوافق ما تشعر به .... ولهذا نختلف .
_ ها قولت إيه يا صالح ؟
_ والله يا مازن أنا معنديش إعتراض ، المشكلة إن سهر رافضة الجواز أصلا .
_ ياعني هتفضل من غير جواز عالطول يا صالح ، إنت لازم تكلمها إنت أخوها ولازم تنبهها على مصلحتها .
_ ياعني يعمل إيه يا أحمد يغصبها ، شوف يا صالح أوعى تزعل أختك أو تضغط عليها علشان أي حاجة وإلا هتعيش شايل ذنب طول عمرك .
_ وأنت شايل ذنب حور يا عبد الرحمن ؟ 
نظر لجاسر وأردف بصوت يملؤه الألم :
_ أنا جريت ورا طموحي ، مسكت في أحلامي بكل قوتي ، دورت على سعادتي بكل طاقتي ولما كنت أحس إن طاقتي خلصت أجددها بإصرار ، أنا عملت بوصية أمي ليا ، تعرفوا إن حور دخلت الطب بس علشان دي رغبة أمنا ، حور كانت عايشة تحقق لماما كل حاجة هي مقدرتش تحققها ، مش أنانية من أمنا علفكرة بس حور كانت عاوزة تعوضها عن أي حاجة وأهم حاجه عن الحزن والشجن إل كانوا دايما في عينيها ، علشان كده أمي وصتني أجري وأعافر ورا حلمي لأن شافت عندي الشغف إل كان عندها للطب ، بس وأنا بعافر لمستقبلي نسيت الماضي ووقع مني وتاه في الطريق .
_ ربنا يردها سالمة إن شاء الله ، أنا دورت في كل مكان ومش لاقيلها أثر ، إل مطمني شوية إني حتى دورت بين المتوفيين وإسمها مش بينهم .
أراد مازن أن يغير ضفة الحديث ليسأل صالح بتعجب :
_ إنت مش كنت ناوي تتقدم لسدرة إيه حصل .
نظر لهم قليلا ثم أبعد نظره عن غريمه الذي فاز وقال بعد أن إستدار وبدأ يخطو بعيدا :
_ طلعت متستاهلش .
 رحل وتركهم ينظرون بتعجب في أثره بينما هو أخدت ذكراها تجوب رأسه دون رحمة 
........
_لأ بقى دي مبقتش عيشة البت دي لازم تمشي من هنا .
دلف صالح ليجد والدته تصرخ بتلك الجملة وأمامها يجلس والده بصمت وحيرة بادية ، ليسمعها تسترسل :
_ موقفة حال بنتك من يوم ما عاشت هنا ، أي عريس ييجي يتقدم بيتقدملها هي ، حتى إل بييجي علشان سهر يا إما بيشوفها فبيغير رأيه ويطلبها هي يا إما بنتك بترفضه .
شعر وكأن صاعقة رعدية أصابت قلبه .
لم يقف أو يستجب لنداء والدته بل صعد لشقته والغضب يعمي عينيه .
_ أنتي هتتأخري النهاردة يا سدرة ، المرة إل فاتت إتخرأتي وماما عملت مشكلة مش عاوزة حاجة تحصل النهاردة وصالح رجع من السفر ياعني ممكن المشكلة تكبر .
_ متقلقيش يا سهر هي ساعة بالكتير هشتري حاجة خاصة وأرجع تاني .
_ سهر إنزلي تحت شوية .
تفاجأ إثنينم بوجوده لتلبي شقيقته طلبه بهدوء .
كانت تتفرس في ملامحه لتجد الغضب يملأ عينيه ...ظنت أنه إكتشف الأمر وخشيت المواجهة فأرادت أن تهرب من أمامه ولكن يده كانت أسرع .
جذبها من ذراعها لتواجهه مرة أخرى ثم تركها وأردف بصوت ثقيل :
_ إنتي بتخرجي تروحي فين علشان الرجالة تشوفك وتتقدملك .
برقت بعينيها بصدمة جلية ليسترسل :
_ عاوز أعرف فرحانة بكتر العرسان ، كل أسبوع بتخرجي يوم وترجعي تاني يوم وبنتي بتكون معاكي واقول من حقها تزور أهلها ، لكن بتعملي إيه يخلي كل ما تخرجي واحد يجي يتقدملك .
شعرت بالغضب منه ومن تلميحاته ، فأرادت أن تبتعد ليجذبها تلك المرة صادما إياها في الجدار من خلفها قائلا بعيون تطلق شرارات التحذير :
_ لما بكون بكلمك متفكريش تتحركي من قدامي ، فاهمة ..ردي عليا ليه بيتقدمولك .
بعد عدة مرات مجابهة لإرتباكها من قربه إستطاعت أن تحرر صوتها قائلة :
_ هو إيه ده ، واحدة وبيتقدم ليها ناس ، هقولهم لأ متتقدموش .
_ وطالما عاوزاهم يتقدموا مش بتوافقي ليه على واحد فيهم .
_ وأنت مالك .
_ إتكلمي عدل معايا ، وبعدين إنتي مسؤلة عن بنتي ويهمني أعرف .
_ مبفكرش في الجواز ...إرتحت ، من فضلك إبعد وبعد كده إلتزم حدودك وإنت بتتكلم معاية. 
لم يبتعد بل إقترب ...لم يلمسها ولم ينظر إليها ...بل وضع يده فوق الجدار من خلفها وأغمض عينيه وهمس بلوعة :
_ حدود ...أنا سافرت وعملت حدود مع أول لحظة شوفتك فيها هديتها ..
_صالح .
كان همسها المضطرب لحظة الفصل بين عقله وقلبه .
_ تفتكري ده طبيعي...أنا عمري ما حسيت كده... نار جوايا ... نار لما أفكر أقول يمكن قربك يبردها وأهدى ..لكن قربك بيزيد لهيبها أكتر .
إنسابت دموعها ... فمن الصعب تخطي ما حدث معها ... من الصعب أن تنسى كل ما مرءت به وتترك العنان لقلبها الذي يريد أن يستسلم لذلك الشعور .
فتح عينيه ينظر بداخل عينيها بعمق متسائلا :
_ بترفضيهم ليه ؟
_ علشان أنا مش عاوزة أتجوز ... أنا مش جاهزة إني أدخل الحياة دي .. أنا مريت بحاجات كتير جدا أكبر من طاقتي .
إبتعد من أمامها ووقف عند الباب رادفا :
_ قدامك ساعة ونص وتكوني هنا .
رحل وتركها مبعثرة ولكن حاله لم يكن بأقل منها .
........
_ كل ده يا سدرة إتأخرتي أوي .
أعطتها الصغيرة ثم جلست تقول بإنهاك :
_ معلهش يا ريم عقبال ما قدرت أخرج ، إنتي متعرفيش أقنعتهم بصعوبة إني أخد نور معايا .
لم تتحدث ريم بل ظلت تنظر في إتجاه معين ، إستدارت سدرة برأسها لتجده يقف أمامها ينظر لها بغضب .
إقترب ثم جلس قائلا بسخرية غاضبة :
_ مش المفروض يا أستاذة سدرة تصوني الأمانة ، وبنتي متقابلش أي حد من غير موافقتي .
_ دي مش حد يا أستاذ صالح دي أمها وليها حق تشوفها .
_ مش إنتي إل تقولي ، إلزمي حدودك ، إعرفي إنك بتشتغلي عندي مش مسؤلة غير إنك تنفذي أوامري وبس وأنا أشوف إيه المفيد لبنتي .
_ إنت بتكلمها كده ليه ؟ إحفظ لسانك وإحترم نفسك وإنت بتتكلم معاها ، سدرة أكتر واحدة بتهتم بنور عني وعنك ده يبقى جزاءها ، عملت إيه مفيد لبنتك سيبتها وسافرت .
ظل ناظرا لها بضع الوقت متعجبا من دفاعها عن سدرة بهذه القوة ولكنه أردف بجمود :
_ المفروض لو عاوزة تشوفيها تستأذنيني أنا .
_ أنا جيت أشوفها ...جيت أطلب منك أشوفها لقيتك سافرت ..والدتك طردتني بعد ما أهانتني ..لولا سدرة عمري ما كنت هقدر أشوف بنتي .
_ أستأذن أنا ...أظن حضرتك هتبقى تجيب نور معاك .
همت بالرحيل ليصرخ بها غير مكترثا :
_ إياكي تروحي لوحدك .
إرتبكت من صراخه وذهبت حول طاولة أخرى وتركتهم يتحدثون وحدهم .
كان ينظر لها بينما ريم تلاعب إبنتها التي إستيقظت للتو .
لم يبعد عينه عنها إلا ليرى المحيط من حولهم ..يبحث عن أي شخص ينظر لها .
_ بلاش تأذيها يا صالح ...سدرة دي نعمة من نعم ربنا...مافيش حد بيحب نور ويخاف عليها زيها ... أنا في يوم من الأيام كنت كارهة وجودها لكن بسبب سدرة عرفت قيمة النعمة دي .
إحتضنت إبنتها بقوة ليقول صالح بنبرة متزنة :
_ إنتي فعلا كنتي تعرفي حد غيري يا ريم ؟
إبتسمت بهدوء قائلة :
_ لو إنت كنت متأكد من الموضوع ده كنت هتبقى هادي كده ؟ 
_إتفقنا أو إختلفنا أنا متأكد إن الموضوع ده ليه أبعاد تانية ، أنتي مستحيل تعملي كده ، أخلاقك أنضف من كده .
_أشكرك على حسن نيتك ...فعلا الموضوع ده ليه أبعاد تانية ، بس مش هقدر أقولهالك ...يمكن في يوم تعرفها .
لفت نظره إقتراب أحد ما من طاولة سدرة ثم جلس وبدأ في محادثتها .
كان يريد أن ينهض ويبرحه ضربا ليخفي تلك الإبتسامة من على وجهه .
لاحظت ريم نظراته النارية ولكن لم تتحدث بل إكتفت بقضاء الوقت مع إبنتها .
تقدمت سدرة منهم قائلا بضيق :
_ أستاذ صالح أنا مش هقدر أقعد أكتر من كده ... أنا همشي وحضرتك أهو موجود تبقى تجيب نور .
_ سدرة أنا لسه مقعدتش معاها أنا مكملتش ساعة لسه .
كانت تتحدث بإستعطاف لترمقها بشفقة قائلة :
_ معتقدش أستاذ صالح هياخدها ويمشي قبل ما تقضي معاها شوية وقت .
كان سؤالا ليس صريح ليقف صالح ناظرا إلى ريم التي شعرت بألم فهو سيأخذ إبنته دون الإكتراث لإشتياقها ولكنه فاجأها قائلا :
_ خدي نور معاكي وعلى الساعة تسعة هاجي أخدها منك .
نظرت له بعدم تصديق ..وشكرته بلهفة وإمتنان أسعد سدرة كثير التي إنتفضت حين قال :
_ وإنتي إمشي قدامي .
نظرت ريم في أثرهم بإبتسامة لتتمتم بهمس لإبنتها :
_ تعرفي إنك محظوظة ..هيبقى ليك مرات أب أحن عليكي من أمك نفسها .
....
صعدت بجانبه في السيارة بعد أن رأت تحذير عينيه بأن ترفض ، تشعر بإضطراب ...قلبها ينبض بعنف .
_ كان بيقولك إيه ؟
فهمت مقصده ولكن أردفت بمراوغة :
_ هو مين ؟
_ سدرة ...إنطقي .
صرخ بها منفعل لتقول بإنفعال هي الأخرى :
_ إنت بتتعصب عليا ليه ..إنت مالك كان بيقولي إيه ؟ زي ما أنت قولت أنا بشتغل عندك ..ياعني أخر صلاحياتك تسألني عن إل يخص نور وبس .
_ إنتي شايفة كده ؟
كان سؤاله هذه المرة بنبرة مناقضة سابقتها لتهمس بحيرة :
_ إنت بتوترني ... حاسة إني تايهة.. إنت عاوز مني إيه ؟
_ مش عارف.
نظرت له بعد همسه لتشعر بالسيارة تتوقف ثم نظر لها قائلا :
_ ساعديني أعرف ... شوفي يا سدرة أنا مش صغير ... لكن أنا مش قادر أفهم إحساسي ده ، تفتكري أنا مفتون بيكي بس .
شعرت بالحرج من قوله وأبعدت عينها ونظرت أمامها تستمع لإستكمال حديثه :
_ تفتكري لو أنا مفتون بيكي بس أو نظرتي وإحساسي بيكي مجرد إحساس إحتياج مالوش علاقة بأي مشاعر تانية يبقى ليه الشعور ده ليكي إنتي لوحدك ، ولو كان قلبي هو السبب يبقى ليه مش قادر أقرب وأخد خطوة .
_ أستاذ صالح لو سمحت الكلام ده مينفعش .
_ بتحسي بحاجة ناحيتي يا سدرة ؟
قاطع حديثها بسؤال بحثت له دوما عن إجابة ولم تعلم إلى ماذا توصلت .
لم تستطع أن تتحدث ... فقط بكت .
رأى دموعها فإعتدل في جلسته ينظر أمامه متسائلا بصوت معذب :
_ في حد في حياتك ؟
_ عمري ما كان في حد في حياتي ... ولا فكرت في أي رجل بالصورة دي ، ولا إتمنيت ....صمتت قليلا ثم أردفت بصدق وكأنها تحادث نفسها أمام مرآة :
_ عارف إيه مانعك تاخد خطوة ... أنا .
لو إنت حاسس إني أنفع أكون معاك أو ليك كنت أخدت خطوة ...وكمان التجربة .. إنت مريت بتجربة مش قادر تاخد خطوة في حياتك بعدها ...أهي التجربة دي بقى هي إل مانعاني أحاول أفكر أوافق ..مش كنت بتسألني ليه برفض أتجوز ...تقدر تقول معقدة .
..........
بعد حديثهم ذاك ...قاد السيارة في صمت إلى أن وصلا المنزل قبل أن تهبط همست :
_ كان بيسألني ليه رفضته .
دلفت للداخل لتجد والدته جالسة مع بعض النساء ألقت التحية ثم صعدت .
بينما هو إشتعلت النيران بداخله ، كان أمامه رجل يرغب بها وبقربها وهو لم يحطم له رأسه .
_ هو أنا بغير...؟
كان إقرارا وليس سؤال ...إبتسم ثم تصاعدت ضحكاته ومسح على وجهه بسعادة غريبة .
دلف للداخل وصعد هو الآخر بعد أن ألقى السلام .
_ صالح .. استنى.
نظر إلى والدته التي إقتربت منه هامسة :
_ تعالى سلم على خالتك عطيات تبقى بنت خالتي وأهو تشوف بنتها لو عجبتك نروح نخطبها .
وقف ينظر لها بصدمة ولكن لم يكن الوحيد المنصدم ...بعد أن صعدت أتت بحقيبة صغيرة وهبطت مرة أخرى لتستمع لتلك الجملة .
شعرت بإحتراق عينيها .
_ إنتي راحة فين ؟ وفين البت .
نظر صالح لها ليجدها ممسكة بحقيبة ليقول في عجالة :
_ نور مع أمها .
_ نعم ..إنت بتقول إيه ؟ والله يا صالح لو ناوي ترجعها تاني لعصمتك لأكون غضبانة عليك .
أغمض عينيه بنفاذ صبر قائلا :
_ ماما شوفي ضيوفك ميصحش تسيبيهم لوحدهم .
رحلت بعد أن نظرت له بتحذير وغضب .
_ وإنتي تعالي معايا .
قالها وهو يجذب الحقيبة من يدها لتصعد خلفه .
_ ممكن أفهم سيادتك ناوية تروحي فين ؟
كان يحاول أن يسيطر على غضبه .
نظرت له وبعينيها غضب ولكن خرج صوتها هاديء :
_ أظن أن مهمتي خلصت ...حضرتك رجعت بالسلامة ، تقدر تخلي بالك من نور .
_ هي نور بالنسبة ليكي كانت مجرد شغل ؟ تفتكري لو أنا كنت حاسس إنها كده كنت سيبتها أمانة معاكي .
_ ربنا يعلم نور بالنسبة ليا إيه ؟ نور كانت السبب إني أرجع للحياة تاني ، لكن أنا ...أنا ...بص يا أستاذ صالح أنا مش عاوزة أسبب لحضرتك أي نوع من أنواع الإضطراب ، قولت من شوية إنك مش عارف بتنجذب ليا إحتياج ولا مشاعر ، ولو كان مشاعر فليه مش بتاخد خطوة ؟ 
إنت مش قادر تاخد خطوة لأنه مجرد إنجذاب رجل ولواحدة ...أنا همشي لأني مدركة كويس جدا إن وقفتنا دي غلط وحرام ..كلامنا حرام لأنه كلام خاص جدا ... همشي لأني عارفة لو فضلت هنا بعد ما عرفت بإنجذابك ده هشيل ذنب عظيم ده غير ذنبك إنت لما تفكر فيا بالطريقة دي .
أخذت عدة أنفاس ثم تحدثت مرة أخرى:
_ يمكن مش من حقي أتكلم كده ، لكن أنا حاسة إني السبب فالإضطراب ده ، مكنش لازم أقبل إني أعيش هنا ولا إن يحصل بينا أي إختلاط مهما كان بسيط ، أستاذ صالح لو حضرتك محتاج إستقرار فوالدتك جهزتلك عروسة أعتقد هتبقى مناسبة ... ده غير إن ممكن حضرتك تتجوز ريم مرة تانية وبكدة نور تعيش بين أبوها وأمها .
ضحك بمليء فاهه ...لا يصدق ما تقوله تلك المجنونة .
سيطر أخيرا على ضحكاته عندما وجدها تهم بالرحيل فتساءل بدهاء :
_ طب هتمشي ليه ؟ أنا هتجوز فعلا علشان أستقر ، يمكن إنجذابي ليكي علشان مافيش واحدة في حياتي ، لكن وجودك معايا أنا ومراتي هيبقى علشان نور ، يبقى أنتي كمان عيشي هنا وممكن يبقالك أوضة تحت أصل مراتي مش هتبقى فاضية لنور كفاية عليها أنا .
جحطت عيناها ونظرت له بغضب ليقترب منها وعلى وجهه إبتسامة :
_ مبقيتش قادر أقاوم....مش ممكن يكون إحساسي بيكي ده مجرد رغبة .
نظرت لأسفل بتوتر ليتساءل مرة أخرى:
_ بتحسي بحاجة ليا وبتقاومي ؟ ... ولا دي أوهام ؟
رفعت عينها إليه ليرى دموعها تنساب ببطيء فوق خديها وشفتاها تهمس بصعوبة :
_ خايفة...خايفة مقاومش كل حاجة تتهد فوقي ...خايفة أحلم أفوق على كابوس ..إنت متعرفش حاجه عني غير إني أمانة حور ، متعرفش أنا مريت بإيه ولا عشت إزاي ، متعرفش الحقايق إل إكتشفتها ولا الأوهام إل عشت فيها ، متعرفش الجروح والصدمات إل حصلتلي لما دخلت البلد دي ، كل دي حاجات مرعبة بالنسبة ليا .
_ عاوز أعرف ...عاوز أفهم كل حاجة خاصة بيكي .
_ لو عرفت هتغرق... هتندم ...هتتمنى لو مشوفتنيش ...مش هتقدر تتقبل الحقيقية .
كانت تتحدث بمرارة شقت روحه ليهمس لها بإبتسامة :
_ إيه رأيك ناخد فرصة...أنا عاوز بس تبطلي تقاومي مش هقولك إستسلمي دي سيبيها عليا هخليكي تسلمي وتستسلمي وتعيشي في سلام ، لكن خدي خطوة الأول وبلاش تقاومي .
_ بلاش تملا حياتي أمل ، هعيش عليه وأتمسك بيه وفي الآخر هلاقي نفسي في كابوس ، أنا إتعودت على الكوابيس سيبني عايشة بينها ، لكن لو شوفت النور وبدأت أواجه الكوابيس دي وأقاوم ومسكت في الأمل ده الوقوع هيبقى صعب .
_ سدرة ...بلاش تهربي ...أنا هحاول وإنتي حاولي وسيبي الوقت يحكم .
أغمضت عينيها تستشعر دقات قلبها النابض بعنف ثم قررت أن تستمع للنصيحة وتشدقت :
_ بعد كام شهر عيد ميلاد نور ...يومها هشوف مين فاز خوفي ولا إستسلامي .
..............
عاد من ذكراه شاعرا بدموع عينيه المتساقطة ... ففقدانها جعله يشعر بالقهر والعجز .
كيف فعلت به ذلك ...كلما تذكر تلك الشهور وكيف كان وجهها يضيء عندما يتحدثان بضع كلمات خاصة بإبنته يشعر بنبضات قلبه تُصارع من أجل البقاء .
لتعتاد إبنته عليه كان ينام بجانبها إلى أن تغفو ثم يأتي صباحا وينام بجوارها قبل أن تستيقظ وتكتشف أنه ليس موجودا ،. تلك نصيحتها هي أرادت أن تقربه من إبنته ولو على حساب راحتها ، 
كيف كانت تحضر له طعام الإفطار ليتناوله مع صغيرته ...وبضع مرات تجلس معه ، كم أحب هذه اللحظات وشعر بالإكتمال عندما يشعر وكأنهم أسرة صغيرة .
صغيرته تبكي عاليا معلنة إشتياقها لها .. وهو يبكي خفية ..يبكي لوعة وإشتياق...يبكى حزنا ورغبة في الإمتلاك ..يبكي إرهاقا من الجفاء والبعد ....يبكي ألما من جرحها الذي أصاب قلبه بسهما قاتلا ...كلما تذكرها وهي تحتضن آخر بسعادة .

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1