رواية فجوة زمنية الجزء الثانى الفصل العشرون 20بقلم فاطمة على محمد

رواية فجوة زمنية الجزء الثانى  الفصل العشرون بقلم فاطمة على محمد


 


"شمس الأخاديد" فتحت عينيها بعد غيبوبة أيام طويلة، عشان تحضن "فولاك" بنظراتها المشتاقة، في نفس الوقت اللي بادلها بنظرات أكتر شوقًا وهو بيخطو نحوها بخطوات سريعة، عشان يفسح له "أوتو" المجال للجلوس جوارها، والتشبث بيدها الباردة بين كفوفه، مرددًا :

  - أشرقتِ يا شمس الأخاديد والوديان، والصحاري، يا شمس النهار، ويا شمس المملكة.

  

ابتسمت "شمس الأخاديد" ابتسامة باهتة وهي بتهمس بصوت خفيض:

  - المملكة منورة بوجودك يا حبيبي. 

  

رجفة قوية سيطرت على قلب "فولاك" للحظات، فهذه الكلمة لم يسمعها من والدته منذ أعوام وأعوام، لكنه سيطر على أفعاله بكل ما أوتي من قوة ، وبادلها ببسمة خفيفة وهو بيلتفت ناحية "إيزابيل" مرددًا :

  - الملكة "إيزابيل" جت تطمن عليكي. 

  

وحرر كف والدته برفق وهو بيقوم من مكانه يبص ناحية "إيزابيل" بنظرات ثابتة مسترسلًا:

  - ما كنتش أعرف إن جلالة الملكة "شمس الأخاديد" هتحب زيارتك وترجع لنا بالسلامة عشان ترحب بيكي في مملكتها. 

  

واتسعت إبتسامته قليلًا وهو بيكمل كلامه بنبرة متهكمة وعينيه بتطوف ملامح "إيزابيل" المرتبكة:

  - أما فرحتك بسلامة جلالتها اللي شايفها في عيونك دي، فتساوي عندي كتير، وهردهالك قريب قوي. 

  

بلعت "إيزابيل" ريقها بتوتر قوي وهي بتبصله بقلق وترقب، عشان يفسح لها الطريق وهو بيمد إيده لقدام مرددًا:

  - اتفضلي إلقي التحية على جلالتها. 

  

وزعت "إيزابيل" أنظارها ما بين يد "فولاك" الممدودة، وبين "شمس الأخاديد" اللي اعتدلت بقعدتها بمساعدة "أوتو"، عشان تقرب منها بأقدام مرتجفة وهي بتنحني براسها قليلًا مرددةً بتلعثم :

  - حمد الله على سلامة جلالتك. 

  

ابتسمت "شمس الأخاديد" ابتسامة متهكمة وهي بتقولها بدهشة قوية :

  - "إيزابيل" في مملكتنا، وفـ غرفتي كمان؟!

  

ابتسمت "إيزابيل" ابتسامة مرتبكة وهي بتجاوبها:

  - خبر تعب جلالتك انتشر في كل الممالك،  ومملكتنا من ضمنهم، عشان كده جيت أطمن على جلالتك. 

  

شاورت "شمس الأخاديد" بايدها ناحية المقعد المجاور لسريرها تأذن لـ "ايزابيل" بالجلوس وهي بتقولها:

  - اقعدي يا "ايزابيل".. بقالك سنين طويلة رجلك ما لمستش أرضية أوضتي، فاكرة آخرة مرة دخلتي الأوضة دي؟.. كنتِ جاية تترجيني أعفو عنك، وأسمح لك تعيشي في قصر الضيافة، عشان تكوني قريبة من  "نيرون" و"هيرينا". 

  

ورفعت "شمس الأخاديد" عينيها ناحية "هيرينا" اللي كانت متابعة حديثهم بغيظ قوي، لكنها تغلبت عليه سريعًا وهي بتقرب منهم مرددة :

  - وجلالتك كنتِ كريمة مع الملكة "إيزابيل" وسمحتي ليها بالإقامة معانا في قصر الضيافة.. أنا و"نيرون" ممنونين لجلالتك. 

  

وانحنت "هيرينا" قليلًا براسها، عشان تبتسم "شمس الاخاديد" مرددة بفخر :

  - الشكر والامتنان لجلالة الملك "فولاك"، هو اللي أخد يومها القرار بإقامتكم في قصر الضيافة، لأنه كان عايز إخواته جنبه، وفعلًا كنتم سوا طول سنين طفولتكم. 

  

اتسعت إبتسامة "هيرينا" وهي بترفع أنظارها ناحية "فولاك" موجهة حديثها له:

  - الحكمة والعدل اللي بتتمتع بيه جلالتك مثال يحتذى بيه، امتناني لجلالتك.

  

ابتسم "فولاك" ابتسامة خفيفة، عشان تستدير "هيرينا" بأنظارها ناحية والدتها وهي بتقولها :

  - جلالتك اطمنتي على جلالة الملكة" شمس الأخاديد".. الواجب نسيبها ترتاح. 

  

واتجهت بأنظارها ناحية "شمس الأخاديد" وهي بتنحى قليلًا مرددة :

  - اسمحيلنا بالانصراف جلالتك، ومرة تانية حمد الله على السلامة. 

  

وسحبت "هيرينا" ايد والدتها بحنق دفين ينافي الابتسامة الخفيفة المرسومة على شفاهها، عشان يلتقط "أوتو" بعض الأدوية ويناولها لـ "شمس الأخاديد" مرددًا بنبرة جدية:

  - أدوية جلالتك. 

  

تناولت منه الأدوية بابتسامة خفيفة، عشان يردد "أوتو":

  - جلالتك دلوقتي بكامل صحتك، اسمحيلي بالانصراف. 

  

أشارت له "شمس الأخاديد" بإشارة خفيفة من راسها عشان يغادر "أوتو" في نفس اللحظة اللي دخلت فيها "نور"، واللي كانت عينيها الشجنة متعلقة بوجه "فولاك" ذو الملامح الجامدة، عشان تقرب منه بحزن تلاشى تمامًا مجرد ما وقعت عينيها على "شمس الأخاديد" الجالسة بفراشها. 


انفرجت إبتسامة واسعة بثغر "نور" وهي بتركض ناحية "شمس الأخاديد" بسعادة؛ حتى توقفت أمامها تمامًا وهي بتردد بصوت حفته الفرحة :

  - حمد الله على سلامة جلالتك.. المملكة  كانت وحشة من غيرك، إوعي تدي فرصة للتعب يتغلب عليكي مرة تانية، جلالتك أقوى من كده بكتير. 

  

حادت "شمس الأخاديد" بأنظارها عن "نور" قليلًا وهي بتزفر زفرة قوية باستياء قبل ما ترجع بأنظارها ناحيتها مرة تانية وهي بتسألها بنبرة حانقة:

  -  مين سمح لكِ يا إنسية بدخول غرفتي؟  


تلاشت إبتسامة "نور" تدريجيًا وحل محلها نظرات توتر وارتباك ظهر جليًا على نبرة صوتها المهزوزة وهي بتقولها :

  - أنا.. كنت جاية أطمن على جلالتك.. والحمد لله بقيتي بخير، أستأذن أنا. 

  

 بصلها "فولاك" بنظرات حنونة، تبدلت تمامًا بأخرى مغتاظة مجرد ما تعلقت بأنظار والدته وهو بيقولها بنبرة حادة :

  - الإنسية اللي بتلومها على دخولها لغرفتك كانت قاعدة تطببك طول النهار، كانت بتعاملك معاملة الابنة لأمها، كانت بتحميكي زي الوحش الكاسر، ما سمحتش لحد يقرب من جلالتك غير الطبيب "أوتو"،  ده غير إنها اتعرضت لساخافات من "آشماداي" عشان بس تحميكي. 

  

ضيقت "شمس الأخاديد" عيونها بدهشة وسخرية وهي بتجاوبه :

  - وهما خادمات القصر قصروا عشان تخلي الإنسية تخدمني؟!  

  

اشتعل غضب "فولاك" وارتفع صوته وهو بيشير نحوها بسبابته مرددًا :

  - إياكِ تفكري تهيني "نور" أو تقللي من شأنها جلالتك، اهتمامها بيكي كان بمحبة وطيب خاطر، إنما هي لا كانت بتخدمك ولا هتكون. 

  

كانت "نور" بتبصله بنظرات عشق جارفة رغم توترها وارتباكها اللي ضاعفه صوت "شمس الأخاديد":

  - ما طلبتش الخدمة منها ولا هطلبها، ياريت تسيبوني وتخرجوا وتسمح لـ" آشماداي" بالدخول. 

  

تأججت نيران الغضب بأحداق "فولاك" اللي قرب منها صارخًا :

  - "آشماداي" مرمي في السجن عشان تطاول على "نور" بفجاجة، ولو كنت أطول  إني أحرقه كنت هعمل كده. 

  

نفضت "شمس الأخاديد" الشرشف عنها وهمت بالقيام من مكانها عشان يختل توازنها، وَفكادت أن تسقط لولا ايد "نور" اللي ركضت ناحيتها تسندها بلهفة قوية، عشان تنفض "شمس الأخاديد" يدها بعيدًا متجاهلة إياها تمامًا، وهي بتوجه كلامها لـ "فولاك":

  - "آشماداي" يُحرر حالًا، وإلا قسمًا بربي لأخلي الإنسية ترافقه في زنزانته، وأنا قد كلمتي. 

  

كانت ايد "نور"، لسه متعلقة في الهواء، عشان تسحبها بحزن قوي تضاعف مع غضب "فولاك" اللي صرخ صرخة قوية تزلزلت لها جدران الغرفة. 


لحظات قليلة هدأت خلالها الأوضاع نسبيًا، في نفس اللحظة اللي سحب فيها "فولاك" ايد نور معه للخارج دون أي رد لفظي منه. 


******

"هيرينا" صفعت باب غرفتها خلفها بكل قوة، وهي بتستند بظهرها عليه بشكل مواجه لوالدتها "إيزابيل"، صائحة فيها بغضب قوي :

  - جيتي لحد عندها عشان تذلك؟!.. كنتِ فاكرة إنك هتقدرى تتشفي فيها؟

  

غمضت "إيزابيل" عينيها للحظات طويلة تكبح لجام غضبها وتوترها، قبل ما تفتحهم مرة تانية وهي بتجاوب "هيرينا":

  - هقدر.. وهذلها، وهتشفى فيها، وهتشوفي كل ده بعيونك، ماهو مش معقول إنها هتفضل طول عمرها تنتصر عليا، وتمارس سلطتها عليا وعليكم . 

  

تعالت ضحكة متهكمة من حلق "هيرينا" وهي بتجاوبها مستنكرة :

  - أشوف بعيوني؟!.. ما أنا فعلًا شوفت، شفتك حانية راسك قدامها بذل وانكسار.

  

تضاعفت حدة صوت "إيزابيل" وهي بتجاوبها بوعيد:

  - أقسم لك إني هردلها الصاع صاعين، وهحرق قلبها على ملكها المغوار المتباهية بيه، وهرجع لمملكتي ولكرسي العرش اللي حلمت بيه طول السنين دي. 


هزت "هيرينا" راسها بنفي مستنكرة بحروف كلماتها:

  - تحرقي قلب مين جلالتك؟!..  الملكة "شمس الأخاديد"!.. دي ملكة من غير قلب أساسًا، مايغركيش تباهيها وفخرها بـ "فولاك" قدامنا، دا كل ده عشان ترضى غرورها مش أكتر من مده.


كورت "إيزابيل" قبضتها  بغيظ، تضرب بها باطن يدها الأخرى وهي بتردد بتوعد:

  - وأنا اللي هكسر غرورها ده. 

  

رفعت "هيرينا" كفها في وجه "إيزابيل" تحركه برفض مرددة :

  - بلاش تعملي حاجة جلالتك، كل اللي عملتيه جه معانا بالعكس، فسيبينا بقا نعيش زي ما إحنا، أنا ما صدقت أرجع لـ" خوان" تاني وأعيش معاه هنا. 

  

أخذ غضب "إيزابيل" منعطف آخر تمامًا وهي بتهتف بها :

  - "خوان" اللي بيقولي بكل عنجهية بنتك اللي جت لعندي وطلبت مني الرجوع، شوفتي مين فين اللي ذل نفسه يا بنت الملك "برقان"؟! 

  

بلعت "هيرينا" ريقها بغصة قوية وهي بتسيطر على غضبها قدام والدتها، وبتتشبث برداء اللامبالاة في انفعالاتها، وكلامها:

  - ما أنا فعلًا عملت كده، بس مين اللي وصلني للاختيار الوحيد ده؟.. مش الغبي "نيرون" اللي كان عايز يسلمني للملك "العيلان"، اللي الموت كان عندي أهون من إنه يمس شعره واحدة مني، على الاقل "خوان" جوزي، وبيحبني، وأنا كمان بحبه، ومستعدة أنحني قدامه خاضعة عشان نرجع لبعض. 


ابتسمت "إيزابيل" إبتسامة متهكمة وهي بتقولها بسخرية شديد :

  - جميعنا أذلاء لـ "فولاك" وأتباعه، لكن كل منَّا بطريقته عزيزتي "هيرينا". 

 

 غمضت "هيرينا" عينيها بقوة مرددة بنبرة هادئة صاحبت زفرتها القوية :

  - ارجعي مملكتك يا جلالة الملكة.. ارجعي مملكتك.

 

********

"مويرا" كانت في قصرها، تحديدًا في ساحة تدريبها، واللي كانت بتستعيد كامل لياقتها من خلال مبارزة مع أحد خادماتها، عشان تلاقي سيف آخر انضم للمبارزة، وبكل قوة، اشتعل الغضب في قلبها وهي بتتبع سن السيف لحد ما وصلت لـ "نيرون"، اللي دفع سيف الخادمة بطرف سيفه بعيدًا وهو بيقولها بلهجة آمرة:

  - انصرفي.

 

انحنت الخادمة بتقدير لـ "نيرون" فهي بالأخير خادمة في مملكة أبيه الملك "برقان" ومن بعده الملك "فولاك"، وغادرت ساحة التدريب تحت أنظار "مويرا" المستاءة، واللي حررت كلماتها ما أن اختفت عنها الخادمة  تمامًا :

  - أعتقد إننا نهينا كلامنا يا "نيرون".

 

رفع "نيرون" سيفه يضرب به "مويرا"، اللي تلقت الضربة بنصل سيفها بغضب اشتد، خاصة بعد حديثه:

  - إنتِ اللي خلصتي كلامك، أنا لسه عندي كتير أقوله، وهقوله.

 

قبضت "مويرا" بقبضتيها على مقبض السيف، ودفعت سيف "نيرون" بكامل قوتها وهي بتصرخ به :

  - كلامك ما يفرقش معايا، ولا ليه أي لازمة عندي، طُرقنا مختلفة يا "نيرون".

 

باغتها "نيرون" بضربة أخرى وهو بيدور بجسمه في الهواء مرددًا :

  - طريقنا واحد يا "مويرا".. مفيش مخلوق في المملكة هيقدر يساعدك في الانتقام من "فولاك" غيري.

 

تصدت "مويرا" لضربته بمهارة، وارتفعت في الهواء برشاقة وجاذبية، خاصة بالدوامة المُضيئة التي صنعتها خصلاتها الفضية، وهي بتصرخ به:

  - مش محتاجة مساعدة من حد، ولا ناوية انتقم من "فولاك"، لأنه ببساطة خطيبي اللي هكمل معاه، يعني إعلان جوازنا مجرد وقت.

 

اشتعل غضب "نيرون" وبرقت نيرانه في أحداق عينيه، عشان يرتفع أعلى منها قليلًا، وينقض عليها بكامل قوته، لكنها كانت محاربة عظيمة، فتفادت ضربته بكل انسيابية، لكنها لم تستطع أن تتفادى كلماته الساخطة :

  - مفيش جني ولا إنسي على وجه الأرض هيجوزك غيري يا "مويرا"، أنا ضيعتك من ايدي زمان، لكني مش هعيدها مرة تانية، مستعد أواجه الموت عشانك، مستعد أكون الموت ذاته، وأقبض روح "فولاك" اللي دايمًا بيستولى على كل حاجة بحبها.

 

استقرت "مويرا" أرضًا بسلام وهي بتتأمل نصل سيفها بإمعان شديد مرددة بسخرية كبيرة :

  - حتى الموت ذاته مايقدرش ينتصر على "فولاك"، والأهم من إنك تحب، إنك تتحب يا "نيرون"، وده اللي مش عندي، ولا في قلبي ناحيتك، لأني ببساطة مش شايفة غير "فولاك".

 

تعالت ضحكات "نيرون" الساخرة وأقدامه بتلمس أرضية ساحة التدريب وهو بيقولها بتهكم :

  - والإنسي؟!.. كنتِ شايفاه "فولاك" ولا إيه؟!

 

شردت "مويرا" بتفكيرها للحظات قبل ما تجاوبه بزفرة قوية :

  - الوحيد اللي له الحق في السؤال ده هو "فولاك" مش إنت يا "نيرون"، روح مملكتك، ودور على أميرة تتجوزها من الممالك الأخرى، إنما أنا لأ.

 

سحب "نيرون" نفس قوي وهو بيقرب منها يهمس جوارها بوعيد:

  - مفيش أميرة غيرك هتشيل اسمي يا "مويرا"، وإنتِ لو مش ليا، فأكيد عمرك ما هتكوني لـ "فولاك"، واللي قدر يحتفظ بجثتك في تابوت مرة، يقدر يحفظها تاني، ويقدر يحرقها كمان.

 

وارتفع بجسمه لأعلى، عشان يطير في سماء القصر؛ حتى تلاشت صورته تمامًا تحت أنظار "مويرا" الغاضبة.


********

أما "نور" واللي قعدت على المقعد المقابل لـ "فولاك" بحديقته الخاصة، تبصله بنظرات كلها حزن ووجع انفطر لها قلبه، عشان يتنهد تنهيدة قوية وهو بيقف من مكانه يقعد جوارها، وهو بيغدقها بنطراته العطوفة مرددًا :

  - أنا متأكد إن جلالة الملكة ماتقصدش كل الكلام اللي قالته ده، هي بس متضايقة عشان سجن "آشماداي"، هتهدى مجرد ما "خوان" يحرره ويروح لها.

 

هزت "نور" راسها بنفي وهي بتبلع ريقها بصعوبة في محاولة لحبس دموعها، اللي خنقت صوتها وهي بتقوله :

  - أنا عارفة إنها ما بتحبنيش من أول لحظة، ولا متقبلة وجودي وسطكم، وأنا  والله كتير بفكر إني أرجع العالم بتاعي، لكني بخاف من الوحدة اللي هعيش فيها هناك، أنا ما كانش ليا غير "يونس" خاصة بعد وفاة بابا الله يرحمه، حتى ربنا ما أراد إنه يديني طفل منه أعيش ليه، وأكبره وأكبر معاه، ويكون ليا ونس في الحياة.

 

وانهمرت دموعها بغزارة شديدة وهي بتجاهد للثبات، اللي خانها وتخلى عنها في أكتر وقت احتاجت له وهي بسترسل بكلامها :

  - عارف.. بعد ما أنا اتنقلت للبيت اللي إنت اديتهوني، كنت حاسة بوحدة قاتلة، دورت في ذاكرتي على أي حد من أهلي يعيش معايا، لكني للأسف ما لاقيتش، سهرت أيام طويلة وأنا بدور في النوتة بتاع بابا الله يرحمه على أرقام قرايبنا، وفضلت اتصل بيهم نمرة نمرة، منهم اللي يرد، ومنهم اللي يقفل مجرد ما يعرف إنه أنا.. الظاهر كانوا متخيلين إني محتاجة منهم حاجة، ومنهم اللي رد وفرح بيّا، وكان طاير من الفرحة لما عرف إني هاخده يعيش معايا في البيت..

 

ورفعت أنطارها ناحية عيون "فولاك" وهي بتكمل كلامها بحسرة :

  - ماكانوش يعرفوا إني فرحتي أضعاف فرحتهم، لإني أخيرًا لقيت حد من دمي يعيش معايا، حتى لو من بعيد، كان ده مطمني قوي، لكن للأسف الطمأنينة دي ما طولتش.. سابوني ومشيوا، شكل قعدتهم معايا ما كانتش أحسن حاجة، ورجعت تاني أعيش لوحدي، وقضيت أغلب وقتي في الحديقة.

 

أطبق "فولاك" أجفانه بقوة يلوم ويأنب نفسه، لأنه كان السبب الرئيسي في مغادرة أقاربها للمنزل، بحركاته وتحركاته الليلة، في كل مرة كان يذهب للإطمئنان على "نور"، عشان يسحب نفس قوي، ويزفره بقوة وهو بيفتح عينيه وبيفرق شفاهه للحديث، لكنها أوقفته حينما استطردت بحديثها بابتسامة باهتة :

  -لما عرفت إن الجنينة فيها شجرة بتتكلم كنت طايرة من الفرحة، وكنت بقضي أغلب وقتي معاها، أما الوقت اللي جاني "خوان" فيه عشان يبلغني بخبر تعبك، رغم قبضة قلبي وخوفي وقتها، إلا إنها كانت من أكتر لحظات الراحة في حياتي، لما اتنقلت هنا تاني حسيت بعزوة، حسيت إني في وسط أهل بيحبوني وبيخافوا عليا.. حسيت إن "خوان" أخويا الكبير اللي بيحميني ويحافظ عليا من النسمة، حسيت إن الملكة "شمس الأخاديد" عمتي أو جدتي العصبية، اللي طول الوقت مش عاجبها حاجة، لكنك برضه بتحبها، ومش قادر تكرها.


انفرجت ابتسامة خفيفة متسائلة بثغر "فولاك" اللي جعد جبينه بصدمة وهو بيقولها :

  - وأنا فين من كل ده؟!

 

مسحت "نور" دمعاتها بظهر يدها وهي بتبلع ريقها بقوة وبتتنهد بثقل قوي، وبتجاوبه بعشق صادق:

  - إنت أجمل حدث حصل في حياتي كلها، جنبك والله ما خايفة من حاجة، ولا شايلة هم لأي حاجة، متأكدة إني لو في مصيبة هتلحقني وهتنقذني منها، ويمكن حتى تحميني من الوقوع فيها، جنبك اكتشفت" نور" جديدة عمري ما شفتها قبل كده، ولا كنت أعرف إنها موجودة من الأساس، اكتشفت "نور" القوية، اللي جواها طاقة تحارب بيها أي مخلوق، واللي تقدر تقف في وش أي حد يفكر يمس حقها.. يمكن أكون ليه مش قادرة أكتشف كل جوانب الشخصية دي، لكني بحبها، وبحاول أحافظ عليها.

 

سحب "فولاك" نفس قوي في نفس اللحظة اللي سحب فيها كف "نور" يرفعه أعلى خافقه محتضنه بكفه وهو بيطوفها بنظراته الصادقة مرددًا:

  - جنبك نبضاتي بتصرخ بألف قصيدة عشق، ومن أول لحظة شوفتك فيها، يومها نبضاته كانت سريعة زي دلوقتي، كانت حاسة بيكي، وبتخاف عليكي، حاولت أحميكي بكل الطرق، حاولت أحرر جوزك من أسر "مويرا" عشان يرجعلك، لكنه كان مُصر، يمكن إصراره كان أقوى من إصرارها بكتير، حتى بعد ما انتحرت، استقباله لقلبها أشعل نيران غضبي، حاولت أسيطر عليها، لكني فشلت، كنت بأذيه، كنت بدوقه ذرة واحدة من غضبي اللي حاولت ألجمه، كنت مستكترك عليه، وحاسس إنك أحسن منه مليون مرة، لأنه وغد حقير، كنت بدخلك فجوة زمنية في الوقت اللي بظهر له فيه، عشان مأذكيش حتى لو بدون قصد.. الوقت اللي كان بيئذيكي فيه ويمد ايده عليكي، كنت بمنع نفسي بالعافية إني ما أحرقش البيت بيه... إهانته وضربه ليكي كان كرابيج بتجلدني وأنا مش فاهم السبب، وقتها كنت مفكر إن كل ده عشان بكرهه، وبحس  بشفقة ناحيتك، لكن اللحظة اللي انتصر فيها قلب "مويرا".. خوفت عليكي.. وكان لازم أحميكي منهم ومن أذاهم. 

  

اتنهدت "نور" بقوة وهي بتهز راسها برفق وبتقوله :

  - أنا آسفة على الكلام اللي قولته، واللي ما كنتش أقصده، أنا متأكدة إنك بتحبني، وإن كلمتك اللي قولتها لي كانت وعد بحاجات كتير، زي ما أنا متأكدة إنك عمرك ما هتخلف بوعدك. 

  

سحب "فولاك" نفس قوي حبسه في صدره للحظات يسكن به روعة فؤاده، قبل ما يزفره بتنهيدة قوية متسائلًا:

  - ووعدك ليا يا "نور"؟ 

  

شردت "نور" بأعماق عيونه للحظات وهي بتجاوبه بشرود كالمسحورة :

  - بحبك.. وعمري ماحبيت ولا هحب غيرك.. وده وعدي ليك يا "فولاك". 

  

سحبها "فولاك" إلى موطنها يسكنها إياه بصك ملكية أبدى وهو بيهمس لها بوله:

  - بحبك.. وعمري ماحبيت ولا هحب غيرك يا نور دربي. 

  

*********

أما "آشماداي"  واللي حرره "خوان" بأوامر مباشرة من "فولاك"، فغادر محبسه بقلق وترقب قوي، وهو بيخطو نحو غرفة "شمس الأخاديد" بتوتر شديد، يقدم قدم، ويؤخر الأخرى، وبعقله صراع قوي ما بين أفكار عاصفة، يبحث بين جميعها عن مبرر أو حجة، أو أي مخرج يواجه به زوجته بعد فعلته الشنيعة، ليجد أقدامه توقفت تلقائيا أمام حجرتها، ليفتح الحارس الباب، سامحًا له بالمرور.


دخل "آشمادي" الغرفة وهو بيرسم الجمود على ملامح وجهه، وأنطاره الزائغة بتطوف ظهر "شمس الأخاديد" الذي أولته إياه، ليفرك كلا يديه ببعضهما البعض وهو بيحمحم بارتباك، عشان تلتفت ناحيته وعلامات الغضب والغيظ مرسومة على ملامحها. 


مجرد ما لمح "آشماداي" معالم الغضب بوجهها، سقط قلبه بأقدامه ألف مرة، وتصبب جسده عرقًا غزيرًا، عشان تخطو نحوه "شمس الأخاديد" بقسمات وجهها الغاضبة مرددة بحدة :

  - عمري في حياتي ما أخطأت الاختيار.. عمري ماحسيت بالفشل زي ما حسيته معاك. 

  

بلع "آشماداي" ريقه بتوتر وهو بيمسح عرق جبينه بيده مرددًا بتلعثم :

  - أنا.. ما كنتش.. أقصد. 

  

قربت منه "شمس الأخاديد" بخطوات أخيرة وهي بتصيح بوجهه باستنكار قوي:

  - أنا أفوق من غيبوبتي ألاقي الكل حواليا ماعدا جوزي؟!.. حتى "إيزابيل"، والإنسية ألاقيهم حواليا وإنت لأ؟ 

  

تنفس "آشماداي" الصعداء براحة قوية، وهو بيسحب ثوب الثبات حول جسده المترتجف، وبيقولها بصوت حاد رغم اهتزازه :

  - إنتِ عارفة إن "فولاك" ما بيحبنيش، ولا متقبل فكرة جوازنا من الأساس، عشان كده مجرد ماشافك بالحالة دي شيلني كل المسئولية ورماني في الحبس. 

  

ضيقت "شمس الأخاديد" عينيها بدهشة واستغراب وهي بتقوله:

  - شيلك كل المسئولية!.. ليه؟!.. وإنت مالك أصلًا؟! 

  

حمحم "آشماداي" بخفوت وهو بيهز راسه بنفي وبيقولها :

  - ماعرفش.. أنا يدوب قابلته على باب غرفتك وأنا بستنجد بيه وبقوله إني دخلت لقيتك مرمية على الأرض، اتجنن، وغضب، وابتدى يضرب فيا، وأمر "خوان" إنه ياخدني للزنزانة.

  

رفعت "شمس الأخاديد" أحد حاجبيها بغيظ قوي وهي تكز على أسنانها مرددة :

  - من يوم ما الإنسية دي جت عالمنا وهو حاله اتبدل، وما بقاش عارف يفرق بين الصح والغلط، بين الظالم والمظلوم. 

  

هز "آشماداي" راسه بتأكيد وهو بيقولها :

  - معاكِ حق، الإنسية دي غيبت عقله تمامًا، بيسمع كلامها وهو مغمض، لو قالت له أمك ظالمة وجاحدة هيصدقها وهيكذب كل السنين اللي عاشها معاكِ.

  

وبلع ريقه بقوة وهو بتسألها بتوجس:

  - بس إنتِ ايه اللي وصلك للحالة دي، أنا دخلت الأوضة لقيتك مرمية على الأرض، مابتتحركيش، حاولت أفوقك كتير ما عرفتش. 

  

تجهمت ملامح "شمس الأخاديد" بقوة وهي بتزفر زفرة قوية كأنها تتذكر شيء تحكي عنه :

  - كنت قاعدة على الكرسي وقومت فجأة، لقيت الأرض بتدور بيا بكل قوة، وبعدين وقعت على الأرض ماحسيتش بأي حاجة.. بس تعرف، حصل حاجة غريبة قوي. 

  

لعق "آشماداي" شفاهه بتوتر قوي وهو بيهز راسه وبيسألها بحذر:

  - إيه؟ 

  

بصت له "شمس الأخاديد" بتمعن وهي بتقوله :

  - أنا حلمت بيك..

  

هز "آشماداي" راسه بقوة وهو بيسألها :

  - حلمتي بإيه؟ 

  

=كنت تعبانة  ومش قادرة أتنفس، وكنت عطشانة قوي، وبمد إيدي أخد الماية، لكنها كانت بعيدة، بس فجأة ظهرت قدامي، وناولتي الماية دي، وساعدني إني أشربها كلها. 


بلع "آشماداي" ريقه بتوتر وهو بيقرب منها يحاوط كتفيها بذراعه مرددًا بدعابة مصطنعة :

  - حتى في الحلم مش بتخلى عنك، وبساعدك، عشان تعرفي إني بحبك، ماقدرش أعيش من غيرك.

  

وسحبها ناحية فراشها يضعها به مرددًا :

  - إنتِ لسه تعبانة، والليل خلاص نزل علينا، حاولي تنامي وترتاحي، وأنا كمان محتاج أرتاح بعد أيام الحبس دي. 

  

هزت "شمس الأخاديد" راسها بموافقة، عشان يسحب "آشماداي" الشرشف يدثرها، وهو بينحني يدمغ قبلة دافئة بجبينها، قبل ما يتركها مغادرًا. 


*******

غادر "آشماداي" الغرفة مهرولًا كمن يركض من الموت، حتى أغلق بابها فتوقف أمامه يتلاقط أنفاسه المتسارعة للحظات، قبل ما يغادر المكان تحت أنظار الحرس. 


اتجه إلى حديقة القصر يتسلل خفية، متلاصقًا بجدار الحديقة، ومنه إلى الحديقة الخلفية للقصر التي غرقت في ظلمة الليل. 


مجرد ما دخلها تنفس بعمق، وخطى بحرية تامة، متجهًا نحو شجرة ضخمة، كثيفة الأغصان والأوراق، تخفي كل ما حولها، عشان يستند بظهره على جذعها مغمضًا عينيه يرتاح للحظات قبل أن يأتيه صوتها الأنثوي:

  - "آشماداي". 

  

فتح عينيه متلهفًا وهو يطوفها بعشق جامح مرددًا بشوق مستعر :

  - "هيرينا". 

الفصل الواحد والعشرون من هنا

تعليقات