رواية فجوة زمنية الجزء الثانى الفصل الثالث و العشرون 23 بقلم فاطمة على محمد

رواية فجوة زمنية الجزء الثانى  الفصل الثالث و العشرون بقلم فاطمة على محمد


"آشماداي" كان شايف قدامه "فولاك" و"شمس الأخاديد" بيتبادلوا ما بينهم نظرات ليها مغزى، وده كان كفيل إنه يجن جنونه، وهو بيصرخ فيهم بغضب جامح :

  - إتأمرتوا عليا!.. إتآمرتي مع ابنك عليا يا "شمس الأخاديد"؟!.. كنتِ كاشفاني من الأول ..أنا متأكد.. لأني كنت شاكك فيكي من أول لحظة شوفتك من بعد الغيبوبة،  فقدانك للذاكرة ده ما دخلش عليا، لكني حاولت أصدقك في كل لحظة كنتِ بتتعاملي فيها معايا بطبيعتك، عشان ألاقيكي في الحظة اللي بعدها غيرتي كل معاملتك ليا!

 

اتسعت إبتسامة "شمس الأخاديد" اللي ابتعدت عن حضن "فولاك"، عشان تقرب من زوجها المُكبل، وتقف أمامه بكبرياء وزهو مرددة بغيظ وغضب :

  - لو عليا كنت حرقتك من أول لحظة عينيا شافتك فيها، لكني قررت ألاعبك، واستمتع باللعبة، وأنا بحركك بمزاجي، هو غباءك كان مصورلك إني ممكن أنسى كلامك ليا؟!.. أو أنسى محاولتك لقتلي؟! 

 

واستعرت نبرتها بجحيم الغضب وهي بتقوله بملامح ممتعضة:

  - غبي.. فاكر إنك هتدخل مملكتنا وتعمل فيها اللي إنت عايزه في سلام؟!.. فاكر إني ست بتضعف عشان حبت؟!.. لأ.. ولا مليون جني غيرك يقدروا يضعفوني!.. أنا من أول لحظة دخلت فيها المملكة دي وأنا حرقت في دفتري الورقة اللي كان فيها سطر؛  مجرد سطر مكتوب فيه اسمك، مش الملكة "شمس الأخاديد" اللي تتحط قدام أمر واقع وترضى بيه!.. ولا الملكة "شمس الأخاديد" اللي تنسى الإساءة وتسامح فيها.

 

الخوف والهلع سيطروا على ملامح "آشماداي" اللي ابتدى يتصبب عرقًا، وهو بيهز راسه بنفي مرددًا بتلجلج :

  - أنا بحبك والله، ماكنتش أقصد أعمل كل ده، ده هو الشيطان اللي ضحك عليا وخلاني أعمل كده، اديني بس فرصة أخيرة.. فرصة واحدة بس، وأنا هختفي من المملكة كلها وماعتيش هتشوفيني تاني.. أنا عارف إني ماليش أي قيمة عندك.

 

واتجه بأنظاره ناحية "فولاك" يرمقه بتوسل مرددًا :

  - أنا آسف إني أخدت مكان مش مكاني، آسف إني اتجرأت بأحلامي اللي كانت أكبر مني بكتير... بس سامحني، واعف عني.. أرجوك تسامحني جلالتك. 

 

وعاد بأنظاره مرة تانية ناحية "شمس الأخاديد" وهو بيقولها:

  - عشان خاطر جلالة الملك "فولاك" تسامحيني.

 

ارتفعت زاوية فم "شمس الأخاديد" بابتسامة ساخرة مرددة :

  - ما قولت إني مابعرفش أسامح، خصوصًا في حق مملكتي.

 

بينما سحب "أوتو" نفس قوي وهو يقترب منه، يرمقه بنظرات جامدة، مرددًا بثبات قوي:

  - أنا ممكن أطلبلك العفو من جلالة الملك "فولاك".

 

عاد الأمل لقلب "آشماداي" مرة أخرى وهو يتجه بأنظاره نحو "أوتو" ملهوفًا في حديثه :

  - وأنا مستعد أعمل لك كل اللي إنت عايزه.

 

حرك "أوتو" راسه يمينًا ويسارًا مرددًا بجمود :

  - هو سؤال واحد، بس عايز إجابته بكل صراحة.

 

بلع "آشماداي" ريقه بصعوبة وهو بيهز راسه بتأكيد مرددًا :

  - هجاوب على كل أسالتك.. والله هجاوب بصراحة. 

 

عقد "أوتو" ذراعيه أمام صدره، يرمقه بنظرات حازمة ككلماته:

  - العقار اللي حاولت تسم بيه جلالة الملكة جيبته منين؟.. ده مش سهل حد يلاقيه، لأنه تركيبة خاصة، قليلين قوي اللي يعرفوها!

 

جف ريق "آشماداي" كصحراء قاحلة، والتصق لسانه بسقف حلقه، وهو يحمحم بتوتر قوي، مصارعًا بنظراته المرتبكة نظرات "أوتو" الثابتة، والذي مط شفاهه بلامبالاة وهو يستدير بوجهه نحو "فولاك" الذي كان يشاهد كل ما يحدث بصمت تام، ليهتف "آشماداي" بحشرجة مرددًا :

  - أنا.. أنا اللي دورت عليه لحد ما لقيت جني عجوز في الصحرا الجنوبية، وكان بيعمل السم ده وبيبعه للملوك، فأنا اشتريته منه.

 

ابتسم "أوتو" ابتسامة خفيفة وهو يلتفت نحوه مرة أخرى مرددًا بتفكير عميق:

  - الصحرا الجنوبية! 


هز "آشماداي" راسه بتأكيد مرددًا :

  - مستعد أخدك بنفسي ليه.

 

حرك "أوتو" راسه يمينًا ويسارًا مرددًا بحزم :

  - مفيش داعي.. أنا عارف الجني ده.

 

بلع "آشماداي" ريقه بصعوبة وهو يفكر في هذه الكذبة التي تفوه بها الحين، والتي على ما يبدو أنها انطلت على "أوتو" الذي استدار نحو "فولاك" يتوسله بإنحناءة خفيفة مرددًا :

  - أرجوك يا مولاي أن تحرره، ووعد إن

   يغادر المملكة للأبد.


رفع "فولاك" حاجبه بدهشة وهو يردد بضيق :

  - لا تختبر صبري يا طبيب، مش معنى إني ممنون لك لإنقاذك حياة جلالة الملكة، يكون لك الحق في طلب الصفح والغفران عن هذا الوغد.

 

=العفو يا مولاي.. لكني لي في رقبتك طلب واجب النفاذ، اسمح لي أن يكون ده طلبي من جلالتك.


طالت نظرات الغيظ لـ "أوتو" قبل أن يتركه  "فولاك" ملتفتًا نحو "آشماداي" اللي كان بيبصله بترقب شديد، عشان يزفر "فولاك" زفرة قوية وهو بيقوله :

  - تغادر المملكة على الفور، لو لمحتك تاني هقتلك.

 

ابتسم "آشماداي" بلا تصديق وهو بيهز راسه بذهول، عشان تتفك جميع قيوده دفعة واحدة، ليركض مغادرًا الغرفة، عشان تتسع عيون "شمس الأخاديد" بصدمة وهي بتسأله باستنكار :

  - إزاي حررته بعد كل اللي عملته ده؟!

 

سحب "فولاك" نفس قوي، وزفره ببطئ وهو بيقولها :

  - هياخد عقابه ما تقلقيش... رايح له برجليه. 

 

والتفت بأنظاره ناحية "أوتو" اللي بصله بنظرات طويلة مبتسمة. 


******

 "خوان" كان في ساحة التدريب الخارجية، بيتدرب بغضب قوي، نفرت له كل عروق جسده، وتشعبت معه جميع عروق رقبته ووجهه بشكل مخيف، وقفت على مسافة قصيرة منه "نور" اللي كانت خارجة تشم هوا، عشان تضيق عينيها بتركيز قوي اتحول لتوتر من هيئة "خوان"، وهي بتخطو ناحيته بخطوات واسعة، لحد ما توقفت قدامه تمامًا، عشان تتسمر قبضته اللي كادت أن تلكمها في الهواء أمام وجهها مباشرة ، وهو بيلهث بقوة، في محاولة بائسة منه لتنظيم أنفاسه، في نفس اللحظة اللي اتخذت "نور" من إيديها ساتر تحمي به وجهها وهي بتقوله بحروف مهزوزة:

  - حاسب يا "خوان".

 

استقام "خوان" بوقفته وهو بيسحب منشفة صغيرة يجفف بها جبينه مرددًا بتعجب:

  - فيه حاجة؟!..إيه اللي جابك هنا؟ 

 

هبطت بذراعيها عن وجهها وهي تتنفس بقوة مرددة بتوتر:

  - كنت هتديني بالبوكس في وشي يا عم الملاكم.

 

تركها "خوان" واتجه ناحية مقعد جانبي يحتله بعضلات جسد تستغيث، متجاهلًا" نور" اللي راحت قعدت جواره ترمقه بتأمل شديد مرددة :

  - العصبية اللي باينة عليك دي استحالة تكون من التدريب.

 

احتدت نبرة "خوان" وهو بيقولها بطلب:

  - ممكن تسيبيني لوحدي يا "نور".

 

توترت "نور" من طريقة "خوان" وحدته في الكلام معها لأول مرة، فابتلعت ريقها بخجل وهي بتنهض من مكانها مرددة بتلعثم :

  - أنا آسفة إني تطفلت عليك، كنت بحسبك أخويا.

 

شعر "خوان" بتأنيب الضمير، فسحب نفس قوي وزفره بكل قوة وهو بيقف مكانه مرددًا بصدق :

  - ما كنتش أقصد أضايقك، ماتزعليش مني.

 

تلاشت علامات الخجل المسيطرة على ملامح "نور"، وحلت محلها ابتسامة واسعة وهي بتقوله بمشاكسة:

  -  ما تبقاش تزعقلي كده تاني بدل والله العظيم اشتكيك لـ "هيرينا" وهي تتصرف معاك بقا براحتها.

 

مجرد ذكرها لاسم "هيرينا" تجهمت معه قسمات وجه "خوان"، اللي قعد مكانه مرة تانية وهو بيكور المنشفة بين ايديه بعصبية مفرطة، وبيضغطها بكل قوته وغضبه، عشان تلاحظ "نور" تغيره المفاجئ ده، فجعدت جبينها بدهشة وهي بتقعد مكانها مرددة بتساؤل:

  - انتوا زعلانين من بعض؟

 

زفر "خوان" زفرة قوية وهو بيهز راسه بنفي، عشان تسأله "نور" باهتمام :

  - أومال مالك؟.. زعلان من "فولاك"؟! 

 

ابتسم "خوان" ابتسامة جانبية متهكمة وهو بيجاوبها:

  - ياريت.. أديني وقتها هكون عارف آخرها إيه!

 

طوفت "نور" معالمه بقلق مرددة بأخوة:

  -لو عايز تتكلم معايا كأخت أنا سامعاك، وهنصحك على قد ما أقدر، لو عايز تتكلم كأنك بتكلم نفسك فاعتبرني مش موجودة، ومش هعقب على حرف واحد، وفي الحالتين كلامك مش هخرج من بيننا.


مالت أنظار "خوان" أرضًا، ليشرد بالحصى أمامه للحظات طالت، قبل أن يتنهد بقوة مرددًا :

  - تصرفات الطفولة بنقبلها بحجة إننا صغيرين ومش فاهمين، وتصرفات العشاق بنتغاضى عنها بحجة إنه بيحبنا ومش قاصد يضرنا. 

  

توقفت "نور" اللي كانت همت بالنهوض من مقعدها، لتعتدل بجلستها مرة أخرى، تغدق حديثه بكامل اهتمامها الواضح في نظراتها العطوفة له، ليسترسل "خوان":

  - لكن بيجي وقت مش نافع معاه أي حجة، وتصرفات ماينفعش نعديها تحت أي مسمى. 

  

اختارت "نور" الصمت والإنصات، طالما "خوان" يسترسل بفضفضته، ليقطع صمتها هذا بسؤال مباشر وهو بيرفع أنظاره نحوها :

  - إمتى الحب يقل أو يختفي؟ 

  

حركت "نور" راسها بتفكير سريع وهي بتجاوبه:

  - الخذلان بيموت الحب، الخوف بيموت الحب، الإهمال بيموت الحب، حاجات كتير قوي تموت الحب مش بس تقلله. 

  

اتنهد "خوان" تنهيدة قوية بعمق وهو بيقولها :

  - طب لو مفيش أي حاجة من كل ده!.. يموت الحب؟ 

  

هزت "نور" راسها بنفي وهي بتجاوبه بتوجس بعدما استشفت وجود خطب ما بينه وبين "هيرينا" من طريقة كلامه، وحالته النفسية :

  - مش شرط يموت، بس ممكن يكون محتاج تجديد، كتير الرتابة والملل بتدخل حياتنا من كل الروتين اللي فيها، يعني نفس الأحداث بتتكرر كل يوم، فده كفيل إن الحب يبرد واندفاعه يقل. 

  

=طب لو الحب لسه بقوته وباندفاعه، وبكل لحظاته المميزة، ينفع معاه خيانة؟


لفظ الخيانة كان قديمًا كلمة عابرة في حياة "نور" لم تستصيغها قط، لكنها قد تذوقت مرارتها، وتجرعت كأسها لآخر قطرة به، لتتنهد تنهيدة حارة مرددة بوجع :

  - ينفع.. وينفع كمان معاه ميت كلمة حب تتقال، ومليون حضن نتحضنه، ومليون لحظة حلوة تعدي، وكل ده يتعمل بجرأة ووقاحة وثبات، تعيش أسعد أيام حياتك.. في نفس الوقت اللي خنجر الخيانة راشق جوه قلبك، حب بيزيد، اهتمام بيزيد، كل حاجة بتزيد وبتضاعف عشان هدف واحد، إنه يخبي خيانته.. شوفت مشاعر الخاين رخيصة إزاي؟! 

  

كان يستمع إليها "خوان" بتركيز قوي، ووجع أقوى، عشان يسألها باهتمام :

  - حسيتي بإيه لما عرفتي بخيانة "يونس" ليكي؟ 

  

ابتسمت "نور" ابتسامة واسعة وهي بتتنهد بقوة مرددة :

  - تصدق إني يومها ما حستش بأي حاجة من اللي كنت بفكر فيها طول عمري، يعني كنت بقول لنفسي إني لو عرفت يوم إن "يونس" خاني، هثور وهقلب الدنيا، وبعدها هسيبله البيت، لأني قدمت كل حاجة حلوة عندي لواحد ما يستاهلش، بس يوم ما عرفت علاقة بـ "مويرا"، اتصدمت، وأنكرت، لكني مالحقتش أعيش حالة الحزن والوجع، يمكن عشان ربنا عارف قد إيه أنا كنت ضعيفة وهشة، وإني هنهار بكل سهولة، عشان كده بعتلي "فولاك" في نفس اللحظة، أه ما حبتوش وقتها، لكني اطمنت جنبه، واتلخمت في حكايته وفي مشاكل المملكة. 

  

وتلاشت علامات الحزن من عيون "نور" في لحظة، وارتسمت مكانها علامات الجدية، عشان تقوله بيقين صادق :

  - ربنا عارف قدرة تحمل كل مخلوق خلقه على وش الأرض، عشان كده بيدي الشيلة على قد القوة، لو إنت شايف شيلتك تقيلة تبقى مش عارف مقدار نفسك، ولا قوة تحملك.. ربنا بعتلي اللي يلهيني في عز وجعي لأنه عارف قدرتي وقوة تحملي، ممكن حد تاني يحصله نفس اللي حصلي ده ويعيش كل تفاصيله لوحده أو مع عيلته اللي تهون عليه، هو طاقته أعلى، حد تالت ممكن ما يتهزلوش رمش، ويعدي ويكمل رغم إنه من جواه بركان وجع وغضب، لكنه قادر يتحمله.. يعني كلها قدرات، وطاقات تحمل، ربنا بس اللي يعلمها. 


هدأ غضب "خوان" بشكل لافت، واختفت عروقه البارزة، لتعود قسماته الهادئة مرة أخرى وهو يهمس بيقين :

  - ربنا بس اللي يعلمها.

 

وابتسم إبتسامة واسعة ضاقت لها عيونه وهو بيقولها :

  - تعرفي إن "فولاك" محظوظ قوي بيكي.

 

اتسعت إبتسامة "نور" العاشقة، وهي بتهز راسها بنفي مرددة :

  - أنا اللي محظوظة بيه، مش بقولك ربنا عارف إني كنت هشة من جوه، عشان كده بعتلي اللي يقويني. 


وتعالت ضحكتها المشاكسة وهي بتكمل كلامها:

- وأديني قدامك أهو رنيت "آشماداي" علقة محترمة، وعندي استعداد أرنه كمان علقة تانية، بس المرة دي تكون قدام "فولاك" بقا، عشان يعرف إني قوية، ويخاف يزعلني بعد كده.


اتنهد "خوان" تنهيدة قوية وهو بيقولها :

  - اللي يكون معاه ست زيك، عمره ما يزعلها يا "نور".

 

ارتبكت "نور" بخجل طفيف، ونهضت من مكانها بتوتر وهي بتقوله قبل ما تركض :

  - أديك بقيت كويس أهو، أجري أنا أشوف"رنة" أو "فولاك" أيهما أقرب.

 

*******

أما "هيرينا" واللي كانت في غرفتها بتتأنق بفستان أحمر ساحر يعشقه "خوان" في محاولة منها لإغوائه، وهي تستعرض أنوثتها الطاغية به، ليقتحم عليها "آشماداي" غرفتها فجأة، وعلامات الخوف والذعر مسيطرة على كل ملامحه، اللي لمحت انعكاسها في مرايتها، فالتفتت ناحيته بصدمة، وهي تركض نحوه مرددة بغيظ قوي:

  - إيه اللي جابك هنا؟!.. "خوان" ممكن يجي في أي لحظة.

 

اتنفس "آشماداي" بصوت عالي وهو بيلتفت حوله بتوتر قبل ما يبصلها مرة تانية، مرددًا :

  - "فولاك" و"شمس الأخاديد" عارفين كل حاجة.

 

ضيقت "هيرينا" عينيها بصدمة وهي بتسأله :

  - يعني إيه عارفين كل حاجة؟! 

  

بلع "آشماداي" ريقه بتوتر وهو بيقولها بلجلجة :

  - يعني عارفين كل المخطط اللي كنت ناوي أنفذه، وكشفوني وأنا كنت بحاول أقتلها تاني. 

  

قبضت "هيرينا" على تلابيب قميصه بقبضتيها وهي تسحبه نحوها بقوة، لتهتف به من بين أسنانها المصطكة :

  - ومين قالك تحاول تقتلها تاني يا غبي؟!.. ليه تروح تفكرها بحاجة كانت ناسياها؟ 

  

هز "آشماداي" راسه بنفي وهو بيقولها :

  - دي كانت بتمثل علينا إنها ناسية اللي حصل، كانت متفقة مع "فولاك" و"أوتو" اللي بدل السم. 

  

ضيقت "هيرينا" عينيها بصدمة أخرى وهي بتقوله :

  - بدل السم!.. يعني اللي حطيته في الماية ده ما كانش السم اللي اديتهولك؟ 

  

هز "آشماداي" راسه بنفي، عشان تردد "هيرينا" بشرود :

  - يعني كده "فولاك" كشفني؟ 

  

أجابها "آشماداي" بنفي :

  - لأ.. قولتله إني أنا اللي عملت كده من نفسي، وإني جيبت السم ده من جني عجوز في الصحرا الجنوبية. 

  

رفعت "هيرينا" حاجبها باستغراب قوي وهي بتسأله بدهشة :

  - عرفت تهرب منهم وتيجي لحد هنا إزاي؟! 

  

هز راسه بنفي وهو بيجاوبها :

  - أنا ما هربتش، "فولاك" حررني بعد ما توسله "أوتو" إنه يعفو عني، وقالي إنه لو شاف وشي تاني هيقتلني، عشان كده جيت أحذرك قبل ما أمشي. 


اشتعل الغضب بأحداق "هيرينا" اللي همست بشك قوي :

  - "أوتو" مش غبي عشان يتوسل لـ "فولاك" يحرر "آشماداي" أكيد دي خطة بينهم وعايزين يعرفوا بيها مين اللي ورا "آشماداي" الغبي ده.. لازم أقطع الطريق عليهم.. مستحيل يقدروا يوصلولي.

 

وغمضت عينيها بقوة وهي بتسحب نفس قوي تحبسه في صدرها للحظات، قبل ما تفتح عينيها المشتعلة بنيران الجحيم مرة أخرى، لتهمس بصوتها الأجوف بتعويذة شيطانية اشتعلت لأجلها النيران بجسد "آشماداي" اللي ابتدى يتقافز بوجع شديد وهو يصرخ بأنين أشد، عشان تحرره "هيرينا" من بين قبضتيها، قبل ما تركز في صوته اللي مؤكد أنه يصل لمسامع الجميع، فعمل عقلها على الفور، واشعلت النيران بالغرفة كاملة، لتركض إلى الخارج وهي تصرخ بنفس صوت "آشماداي" الذي اشتعل تمامًا مع الغرفة.


صراخ "هيرينا" وصل للجميع، وكان أولهم "خوان" اللي كان متجه ناحية الغرفة، عشان يجري عليها بخوف قوي، ولهفة أقوى وهو بيوزع نظراته ما بينها وبين ألسنة اللهب اللي خارجة من باب غرفتهم، وهو بيسألها بقلق شديد:

  - إنتي كويسة؟ 

  

التفتت "هيرينا" بجسدها ناحية "خوان" بعدما عادت لهيئتها الطبيعية، لتركض نحوه بجسد مرتجف، ترتمي في أحضانه بخوف مرددة ببكاء :

  - أنا كنت هتحرق يا "خوان".

  

حاوطها "خوان" بذراعيه، وضمها إلى صدره بقوة وهو بيقولها:

  - اهدي..ما تخافيش.. إنتِ كويسة، وأنا هنا جنبك.

  

ابتدى جسد "هيرينا" المرتجف يهدأ تدريجيًا، وهي بتهز راسها بموافقة، عشان يسألها "خوان" بفضول قوي:

  - إيه اللي حصل؟.. إزاي النار ولعت بالشكل ده؟! 

  

ابتعدت عنه "هيرينا" قليلًا، وهي بترفع أنظارها نحوه، لتصطدم بأنظار "فولاك"، اللي كان واقف جنب "أوتو" و"شمس الأخاديد" خلف "خوان" ، عشان تبلع ريقها بتوتر وهي بتقوله :

  - أنا كنت واقفة قدام المراية، فجأة لقيت النار مسكت في الأوضة، قريت عليها كل التعاويذ الممكنة، لكنها كانت بتزيد زي ما أنت شايف، خوفت، وجريت وسيبت الأوضة وأنا مرعوبة. 

  

أغدقها "خوان" بنظراته المطمئنة، وهو بيقولها بنبرة حانية:

  - ما تقلقيش أنا هطفيها. 

  

سحب "فولاك" نفس قوي وهو بيتقدم ناحيتهم بقسمات غامضة مرددًا :

  - حمد الله على سلامتك يا "هيرينا". 

  

والتفت بأنظاره ناحية "خوان" يقوله :

  - ماتضيعش طاقتك معاها، هتاكل اللي عايزة تاكله وهتتطفي لوحدها، أهم حاجة إن "هيرينا" بخير، خدها أوضتها القديمة ترتاح فيها. 

  

هز "خوان" راسه بموافقة، وحاوط "هيرينا" بدراعه وهو بيصطحبها لغرفتها، عشان يبص "فولاك" لألسنة اللهب أمامه بشرود قوي، ويرافقه في هذه النظرات "أوتو" و"شمس الأخاديد". 


********

مضى الليل كاملًا على "نيرون" بغرفته، اللي كان نايم في فراشه يتألم بوجع نخر جميع عظامه، وفتتها كبلورات الملح الأبيض، الذي أشعل نيران جروح جسمه الملتهبة، فأصبح جسده كتلة مستطيلة من اللحم المختلط ببقايا العظم، ليتنفس ببطئ خشية ملئ رئتيه بالهواء، والتي كادت أن تنفجر داخله، فحالته كانت فعلًا يرثى لها، فكأنه كان يعذب في احتضاره مُعاقبًا على جميع ذنوبه وخطاياه. 


أما دموعه فكانت تسيل جانبًا بغزارة شديدة، وبلا انقطاع، وهو يرى نفسه الفارس المغوار بجميع حروبه، يرى نفسه الابن البار، والأخ الوفي، والأب الذي لم يهنأ صغيره بعد، شريط حياته يمر أمامه بسرعة البرق، فهذا "نيرون" الذي كان يصول ويجول أرضًا وجوًا وبحرًا، انقلب به الحال كي يحتضر وحيدًا بغرفته، روحه تحترق بنيران كل من ظلمهم، خاصة "نادية" التي يراها أمامه الآن غارقة بدمائها، تبكي قسوته معها وظلمه لها، لتمد يدها نحوه بدمية صغيرة ملطخة بدماءٍ حارة، ليتعالى نحيب "نيرون" في هذا الوقت، وهو يرفع أنظاره نحو سقف الغرفة متوسلًا الغفران من الله في صمت. 


في نفس اللحظة اقتحمت عليه غرفته "هيرينا" تطوفها نيران غضبها المستعر وهي تركض نحوه صارخة بحنق:

  - الدنيا بتتهد على دماغي وإنت لسه نايم.. قوم.. خد جيشك واستعد لحرب "فولاك".. "العيلان" إداهم أوامر بالطاعة العمياء ليك. 

  

أنهت جملتها تمامًا وهي تقف عند طرف السرير أسفل أقدامه، ترمقه بنظرات مصدومة، وهي تجعد جبينها مرددة بتساؤل:

  - مالك؟! 

  

لم يُجيبها فهو في ملكوته الخاص، لكنها أيضًا عندها هدفها الخاص، عشان تتحرك لجنب السرير وهي بتقعد على طرفه ترفع ايدها نحو دراعه تهزه بقوة مرددة :

  - قوم يا "نيرون".. لسه عندنا شغل كتير، وأنا محتاجاك دلوقتي أكتر من أي وقت تاني، خلاص خطوات بسيطة وأسيطر على العرش ومعاه خزائن الجان.. قوم ساعدني وبعدين موت. 

  

صوتها كان بالنسبة لـ "نيرون" كأنه جاي من بير عميق، بيحاول إنه يستنجد بيها لكنه مش قادر ينطق حرف، حتى رؤيته ليها ضبابية، لكنها كانت أقسى عليه من الموت بكتير، فقامت من مكانها بكل عصبية تسحبه ناحية الأرض بكل قوتها وهي بتصرخ فيه بغضب:

  - مش وقت موتك ده، ساعدني بس المرة دي، خرج "فولاك" و"خوان" وكل الجيش من المملكة، لساعة واحدة بس، هكون نقلت فيها خزاين الجان لمخبأ سري، "فولاك" نساها مفتوحة.. لأول مرة في عمره ينسى يقرأ عليها التعويذة.. قوم.. مفيش أنسب من الوقت ده. 

  

"نيرون" كان زي قطعة الصلصال الرخوة بين إيديها، وألم روحه كان أقوى بكتير من ألم جسده اللي بيتعرض لخبطات وكدمات قوية بفعل "هيرينا"، اللي دارت بأنظارها في كل أرجاء الغرفة، لحد ما وقعت أخيرًا على عمود خشبي يتوسط الغرفة، فحملت نيرون إليه، لتصلبه عليه وهي تقيده برباط قوي، لتتنهد بقوة بعد ما انتهت من عملها. 


وأخيرًا وقفت قصاده تبصله بغيظ قوي وهي بتقوله بحقد :

  - تعبتني.. بس أوعدك إنها هتكون آخر مرة، وآخر مرة هخلي شيطاني يتلبسك، بعدها بقا عايز تموت أو ماتموتش مش هتفرق. 

  

لتسحب نفس قوي حسبته في صدرها للحظات وهي بتغمض عينيها مرددة تعويذة شيطانية بصوتها الأجوف للدقائق طويلة، لحظات أخرى وتعالى زئير شيطان مكبل، عشان تفتح عينيها بسعادة وهي بتتأمل قدامها هذا الشيطان الدميم، اللي كان بيتمكن من "نيرون" في أيامه السابقة، وهي بتقوله بصوتها الآمر :

  - جسد "نيرون" وراك، هتسيطر عليه للمرة الأخيرة، لكن المرة دي هتتبع تعليماتي أنا وهتنفذها بحذافيرها، مش هتعمل أي حاجة من دماغك. 

  

تعالت ضحكات الشيطان المدوية، ليكشف عن أنيابه الطويلة المدممة، وهو بيقولها بخضوع :

  - سمعًا وطاعة. 

  

والتفت بجسده نحو "نيرون" المصلوب بابتسامة شيطانية، وهو بيندفع نحوه بكامل طاقته، لينفذ من خلاله إلى الجهة الأخرى تحت أنظار "هيرينا" الغاضبة، لتصرخ به :

  - حاول مرة تانية. 

  

استدار الشيطان بجسده نحو ظهر "نيرون" واندفع بكامل قوته نحوه مرة تانية، لكنه عبر خلاله ثانية، ليقف أمامها بصدمة مرددًا :

  - لحمه رخو سموك، عضامه كلها مفتتة، جسده غير مُهييء لاستقبالي. 

  

بصتله "هيرينا" بوحشية وهي بتقرب منه، تصرخ به :

  - حاول تاني، تالت، ومليون لحد ما تتمكن من جسمه مهما كان التمن. 

  

التفت الشيطان نحو "نيرون" المُهدل الرأس وهو بيقولها :

  - محاولاتي دي كرابيج بتجلد جسمه يا مولاتي، وهو شكله بيحتضر. 

  

سحبت "هيرينا" راس الشيطان نحوها، عشان تصارع نظراته بنظرات أكتر شيطانية منه وهي بتقوله :

  - ولو أخد مليون جلدة، أهم حاجة ما يموتش، لو مات في محاولة من محاولاتك دي هحرقك، وهحرق كل سلسالك، وإنت عارف إني أقدر. 

  

ارتجف الشيطان للحظات وهو بيدنو بنظراته أرضًا مرددًا :

  - سمعًا وطاعة يا مولاتي. 

  

وحررت راسه "هيرينا" اللي تنحت جانبًا، لتترك أرض المعركة للشيطان اللي تراجع خطوات عديدة للخلف واندفع نحو جسد "نيرون" بكامل طاقته، وطاقة جميع بني جنسه. 

الفصل الرابع العشرون من هنا

تعليقات