رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل السادس والاربعون 46 بقلم مريم غريب


 رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل السادس والاربعون 

خارج صالة وصول الميناء الجوّي.. الجو الحار يلفح وجهيّهما.. لكن بين ضوء الشمس اللاهبة.. كان هناك شيء أعمق داخل كل واحد منهما.. شيءٌ بارد يربطهما ببعض رغم كل الخلافات التي نمت في قلوبهما مؤخرًا .. 

كان "مراد" يراقب المدينة من خلال نافذة السيارة التي يقودها "رامز".. غارقًا في أفكاره.. أحيانًا يشفق على "رامز" اليائس إلى حد ركضه لاهثًا وراء أيّ شيء قد يرضي "عثمان" عليه.. و أحيانًا يلومه على تهوّره الذي أدّى به إلى هذه المواصيل ..

أما "رامز" فكان صامتًا.. لا يعرف كيف يواجه "عثمان" و لا كيف يواجه نفسه بعد كل ما حدث ..

يبدد صوت "مراد" الهادئ شيئًا من الصمت بينهما : 

-الفرصة دي مش هاتيجي تاني يا رامز.. لازم تثبت لعثمان انك تقدر تتغير.. و انك تقدر تكون جدير بشمس.

تتقلّص ملامح "رامز" و هو يرد عليه بجفافٍ : 

-و انت فاكر انه هايسامحني بسهولة ؟ ده عثمان… ده اكتر واحد عارفني كويس.. و عارف كل حاجة عني.. بس عنده.. انا لو كنت مكانه ماكنتش سامحت بسهولة.

عبس "مراد" متأثرًا.. فطن أخيرًا إلى أن "رامز" قد عرف لبّ الخلاف بينه و بين صديقه.. و في نفس الوقت تأكد من أن هذا الخلاف لن يدوم.. ما دام الأخير قد اعترف بذنبه في النهاية ... 

وصلوا أخيرًا إلى المكان الذي كان ينتظرهما فيه "عثمان البحيري".. كان يقف وحيدًا في زاوية من الممشى المجاور للساحل.. وجهه ثابت كما لو كان يصارع نفسه مع الأفكار التي تملأ عقله.. ملامحه لم تُظهر أيّ علامة على الترحيب.. و كان الجو بين الثلاثة مشحونًا بكل أنواع المشاعر المتضاربة ..

أدار "عثمان" وجهه نحوهما قائلًا بجفاء : 

-جايين ليه ؟

هتف "مراد" بهدوءٍ.. محاولًا أن يضع الأمور في نصابها :

-بعد اللي سمعته لما كنت مع حسين عزام.. ماكنش ممكن اتجاهل الموضوع.. انا اكتر واحد عارف مالك عزام.. و لولا اللي حصل لملك ماكنتش حكيت لك عمل ايه في ايمان زمان لما كان كاتب عليها قبل ما نتجوز.. انا عارف انك متعود تحل مشاكلك لوحدك.. لكن المرة دي مش هاسمح لك يا عثمان.. ايدي قبل ايدك الواد ده لازم ينتهي انهاردة.

يرفع "عثمان" حاجبيه في استنكار و هو يقول بنبرة قاسية :

-ده انت مش المفروض تكون هنا.. انت جاي عشان تتدخل في حاجات ما ليكش فيها يا مراد.. اللي فات بينك و بينه مات.. انما اللي هايحصل انهاردة ده بتاعي انا.. و انا اللي مش هاسمح لحد يتحشر فيه بأي شكل سامعني ؟ 

لم يؤاخذه "مراد" بقساوة ما تفوّه.. يعلم جيدًا الظرف الحرج الذي يمرّ به.. لكنه قال بإصرارٍ.. و هو ينظر لعينيه مباشرةً :

-يا عثمان.. انا مش قصدي اعترض طريقك في أي حاجة.. انا عايز اقولك اني معاك في كل خطوة.. انت اكثر من أخ ليا و انت عارف.. انا مش هارجع ابص لتاري الشخصي معاه.. لكن في نفس الوقت مش هاسيبك.

لم يظهر "عثمان" أيّ علامة على أنه سيتراجع.. كانت نظراته حادة.. و تكاد تخترق كل كلمة خرجت من فم "مراد" ..

قال بحدة.. و هو يتقدّم خطوة نحوه : 

-و انا مش طالب مساعدتك.. و لا حتى مساعدته ..

و أشار لـ"رامز" بكلمته التي أجفلت الأخير ...

-ملك يا مراد.. ملك اللي اتعمل فيها كده.. دي بنتي.. انت سامع بنتي انا !!!

برز صوت "رامز" الآن.. بنبرة أقل حدة.. محاولًا إيجاد مساحة للحديث : 

-محدش معترض على تصرفاتك يا عثمان.. مراد بس يقصد اننا مش هانسيبك لوحدك.. ممكن تسمح لنا نكون معاك خطوة بخطوة و محدش فينا هايتدخل.. بس نكون معاك.

وقف "عثمان" للحظة مترددًا.. قلبه كان مثقلًا بالحنق.. لكنه لم يكن يستطيع إنكار صدق مشاعر صديقيّه.. نظراته تشتعل بالغضب.. لكن بداخله كان يعلم بأن الأمر يتطلّب حقًا وجودهما.. إنه أكثر من قادر على المضي قدمًا حتى النهاية بمفرده.. لكن في تلك اللحظة التي تلي الخطوة النهائية مباشرةً.. سوف يحتاج الدعم المعنوي بشدة.. سوف يحتاج صديقيّه ..

قال "عثمان" بحزمٍ.. بصوتٍ منخفض لكنه ثابت : 

-انتقام ملك محدش هاياخده غيري.. و انا مش مستعد اخلّي اي حد يقف في طريقي.. هاتيجوا.. بس مش هقبل حد فيكوا يشاركني فيه.

رد "رامز" بلطفٍ.. محاولًا التخفيف من حدة الجو : 

-انهاردة.. في اللحظة دي يا عثمان عايزك تنسى أي خلاف.. عايزك تنسى حتى موضوعي انا و شمس.. انا مش شايف قدامي دلوقتي غيرك انت.. مش شايف غير صاحبي.. و مش سايبك لوحدك.

أدار "عثمان" رأسه بعيدًا عنهما للحظة.. كأن قلبه يعترض على ما يسمعه.. لكنه في نفس الوقت كان يعرف بأنه الصدق..

كان دائمًا يتحمّل الأعباء وحده.. لكنه لم يكن يستطيع أن ينكر بأن صديقه مستعد أن يضحي بكل شيء من أجل هذا الانتقام.. من أجله هو ..

**

داخل جناحها المترف.. كانت "فريال" هانم تجلس على سريرها الكبير المكسو بمفارش حريرية.. رغم فخامة المكان.. بدت الغرفة و كأنها تئن تحت وطأة الحزن.. الجدران الصامتة شاهدة على سنوات طويلة من القوة.. لكن الآن.. كانت صاحبة الجناح تبدو و كأنها على حافة الانهيار ..

على جانبيها.. "يحيى" و "فريدة" طفلا "عثمان".. يتشبّثان بها كأن وجودهما قربها سيمنحها بعض العزاء.. بجوارهما جلست "ديالا" حفيدتها من "صفيّة" ..

أما "سمر".. فكانت تقف أمامها إلى جانب "صفيّة".. تمسك بيدها و تحاول أن تخفي قلقها البادي في عينيها.. بينما "صفيّة" تفكر.. تبذل جهدها لتفهم ما يدور في قلب والدتها المكسور ..

تستشعر "فريال" كل هذا.. فتقول بصوتٍ ضعيف و هي تمسح دموعها ببطء :

-انا بخير… بلاش تقلقوا عليا.

ترد "صفيّة" بنبرة ملؤها القلق و هي تقترب منها :

-ازاي يا مامي بخير ؟ انتي من ساعة ما عثمان سافر و دخلتي في الحالة دي.. مش عايزة تاكلي و لا تتكلمي.. حتى صحتك بقت اضعف.

تبتسم "فريال" ابتسامة شاحبة.. و تقول بينما عيناها معلّقتان بالسقف : 

-مش عشان حاجة يا صافي… انا كويسة.. بس وحشني عثمان… لما يرجع.. هابقى احسن.

نسخة أبيه و جدّه المصغّرة.. "يحيى" الذي كان يجلس بجانبها.. رفع عينيه الرماديتين نحوها و سألها بقلقٍ :

-فريال هانم.. لو محتاجة أي حاجة قوليلي عليها و تتنفذ حالًا.. أي حاجة ممكن اعملها لك.. انتي عارفة بابا موصّيني أكون جنبك دايما طول ما هو بعيد.. قوليلي.. و ماتقلقيش بابا مش هيتأخر.

ابتسمت "فريال".. وضعت يدها على رأس حفيدها و ربتت عليه بحنانٍ.. لكن عيناها كانتا تمتلئان بدموعٍ جديدة.. و هي تحاول أن تبدو مطمئنة : 

-انا عارفة.. هاييجي قريب يا حبيبي… ابوك عمره ما بيتأخر عننا.. و لا عني بالذات.. انا عارفة.

شعرت "صفيّة" بالعجز.. كانت تعلم بأن هناك شيئًا أعمق من الاشتياق يؤلم والدتها.. لكن عناد "فريال" كان أكبر من أن يُكسر بسهولة ..

كانت الأفكار في عقلها تتصارع.. تملأها بقلق أكبر من قدرتها على تحمّله ..

ابنها.. رجل عمرها.. هل سيغفر لها ؟ هل ينظر لها الآن كأمٍ ضعيفة.. لم تحمِ رجولته و لم تحمِ نفسها ؟

ابن قلبها.. "عثمان" قوي.. أقوى ممّا كانت تتخيّل طوال عمرها.. لكن هذه القوة مجللة بالغضب.. الغضب من جرحٌ لا يزال ينزف بداخله و هي… هي جزء من هذا الجرح ..

حاولت أن تبعد هذه الأفكار عنها.. لكن صورة وجهه و هو يعلم الحقيقة ظلّت تطاردها.. تذكرت اللحظة التي عرفت فيها بأن سرّها انكشف.. و أن "عثمان" اكتشف ما فعله عمّه  بها ..

كان ألمها وقتها مزدوجًا.. ألم الذكرى و ألم نظرة ابنها التي شعرت بأنها تحمل خليطًا من الصدمة و الاتهام ...

هل يظن بأنها كانت ضعيفة ؟ هل يعتقد بأنّها كانت شريكة في ما حدث ؟ كيف تشرح له بأنّها كانت ضحية ؟ ضحية جبروت العائلة.. ضحية قوتهم التي سحقوها بها.. و أكثرهم الأخوان.. "يحيى البحيري".. و "رفعت البحيري" ...

كانت نظرتها الموجهة إلى طفليّ "عثمان".. تحمل حنانًا.. لكن خلف هذا الحنان كان قلبها يصرخ خوفًا ..

هل سيعاملها كأنّها انتهيت بالنسبة له ؟ كأنّها لم تعد أمه ؟

لم تستطع الإجابة.. كل ما فعلته هو أن أغمضت عينيها.. لتغرق مجددًا في أفكارها ..

عندما يعود "عثمان".. هل يمكن أن تشرح له ؟ كيف يمكنني أن تشرح له ما لا تستطيع نسيانه بنفسها لتعذّبه ؟ و كيف ستتحمل لو نظر لها نظرة الرجل الذي يرى أمه أقل ممّا كانت ؟

تنهدت بحرقةٍ غير قادرة على احتمال هذا الكمّ من الألم.. فاقتربت "سمر" و جلست بجانبها ممسكة بيدها.. ثم قالت بلطفٍ جمّ :

-خليكي قوية.. احنا كلنا بنستمد منك قوتنا يا فريال هانم.

لكن "فريال" لم تقل شيئًا.. كل الكلمات كانت تُقال داخل عقلها فقط.. حيث تبقى محبوسة بين الخوف و الندم ..

"عثمان… عد إليَّ.. لا تجعلني أعيش لأراك تتراجع عن كوني أمك!." ...

**

في إحدى شرفات المنزل الواسعة.. وقف "فادي حفظي" يتأمل السماء المظلمة المليئة بالنجوم.. الهواء كان عليلًا.. لكنه حمل معه ثقل الأفكار و الندم الذي طالما حاول دفنه ..

صوت خطوات خفيفة خلفه قطع الصمت.. كانت "هالة البحيري" زوجته.. تقترب منه بهدوءٍ.. ترتدي عباءة منزلية خفيفة و مفتوحة.. و تضع كوبين من الشاي على الطاولة الصغيرة بجواره ...

-مش عادتك تفضل برا السرير بعد العشا ! .. قالتها بصوتها الرقيق :

-دايمًا افكارك بتسبق نومك.

ابتسم "فادي" ابتسامة خافتة.. لكنه لم يلتفت إليها.. بقيت عيناه مثبتتين على السماء.. و كأنها تحمل إجابة الأسئلة التي تدور داخله ..

نظر لها قائلًا بهدوء :

-مش النوم اللي شاغلني يا هالة.. اللي شاغلني اننا بعدنا كتير… كتير اوي.

جلست "هالة" بجواره.. عيناها تتفحصان ملامح وجهه التي بدت مثقلة بالحزن.. وضعت يدها على يده.. و قالت بصوتٍ ملييء بالتفهم :

-بتفكر في ملك.. صح ؟

أغمض "فادي" عينيه للحظة.. و كأن كلماتها أصابت جرحًا داخليًا لم يلتئم بعد.. أخذ نفسًا عميقًا.. ثم قال :

-ملك… اختي الصغيرة اللي كنت المفروض ابقى جنبها.. لما امي و ابويا راحوا.. كنت انا الكبير.. الراجل اللي المفروض يحميها هي و اختي سمر من قبلها.. بس ايه اللي حصل ؟ سيبت عثمان يشيل الحمل كله لوحده… و انا ؟ كنت بعيد.. شايف ان الهروب هو الحل.. عشان ابعد عن كل المشاكل اللي كانت وقتها.

صمت للحظة.. ثم أدار رأسه لينظر إلى "هالة" مباشرةً.. و عيناه مليئتان بالندم استطرد :

-عارفة يا هالة ؟ طول الوقت كنت بقول لنفسي ان عثمان ادها.. و انه يقدر يشيل المسؤولية عني.. لكن اللي حصل لملك اثبت لي ان مافيش حد يقدر ياخد مكان الأخ.. كان لازم اكون انا جنبها… مش هو.

نظرت "هالة" إليه بعطفٍ.. لكنها لم تقاطعه.. كانت تعرف بأن "فادي" بحاجة للبوح بكل شيء قبل أن يقرر خطوته التالية ..

يكمل "فادي" و نبرة صوته ترتجف قليلاً :

-لما عرفت اللي حصل لملك… حسيت بضعفي للمرة التانية.. حسيت اني تخليت عنها.. زي ما اتخلّيت عن سمر.. و صدقيني.. مش ناوي اكمل حياتي بالشكل ده.. لازم ارجع مصر.. لازم ابقى جنب اخواتي البنات.. عايز اكون قريب منهم.. اشوفهم كل يوم.. احميهم… زي ما كنت لازم اعمل من الأول.

ابتسمت "هالة" بلطفٍ.. و قامت لتقف أمامه.. و ضعت يديها على كتفيه.. تنظر في عينيه مباشرةً قائلة بحزمٍ ممزوج بالحنان :

-لو ده القرار اللي شايفه صح.. انا معاك.. طول عمري واقفة في صفك.. و مش هاتغير دلوقتي.. نرجع مصر.. نسيب كل حاجة هنا.. المهم انك تكون مرتاح.. و اننا نبقى جنب عيلتنا.

نظر "فادي" إليها بامتنانٍ.. ثم أمسك بيديها بشدة.. كأنها آخر قطعة أمان في حياته و قال :

-مش هقدر اعمل ده من غيرك.. كنت خايف اقولك.. خايف اظلمك معايا.. لكن وجودك دايمًا بيقويني.

-انا موجودة عشانك.. عشان ابننا.. و عيلتنا.. نتحمل المسؤولية سوا.

لحظة صمت مرّت بينهما.. لكنها كانت مليئة بالمشاعر العميقة.. أعاد "فادي" نظره إلى السماء من جديد.. ثم قال بحسمٍ :

-احنا راجعين مصر.. و المرة دي.. مش هاتخلّى عنهم ابدًا.

لم تقل "هالة" شيئًا.. فقط ابتسمت و أمسكت بيده.. و كأنها تقول إن القرار صار مشتركًا.. و أنها ستكون داعمته في كل خطوة دائمًا ...

**

كانت الأرضية من الخرسانة المكشوفة.. عليها آثار تقشّر بسبب الرطوبة و الوقت.. الحوائط العالية محاطة بسلاسل صدئة ..

و المكان كله مضاء بمصابيح صفراء باهتة معلّقة من السقف.. تُلقي ظلالاً طويلة متراقصة.. أصوات الرياح تتسلل عبر شقوق الأبواب المعدنية الثقيلة.. تضيف نغمة باردة للجو المشحون بالتوتر ..

وسط المستودع.. كان "مالك عزام" يجلس على كرسي معدني.. مقيّد اليدين و القدمين بسلاسل ثقيلة.. شعره مبعثر.. وجهه يحمل آثار كدماتٍ خفيفة.. لكن نظرته الجريئة لم تخفت.. بجواره وقف اثنان من رجال "عثمان البحيري" وجوههم جامدة.. ينفذون تعليماته بدقة ..

الباب الحديدي الثقيل في زاوية المستودع انفتح بصوت صريرٍ حاد.. تبعه صدى خطوات ثلاثة رجال.. دخل "عثمان" أولاً.. ملامحه كالصخر.. عيناه تضيقان و هو يتفحص المشهد أمامه.. خلفه كلًا من "مراد" و "رامز".. كلٌ منهما يحمل ثقلًا مختلفًا في تعابيره ..

يرفع "مالك" رأسه ببطءٍ.. قائلًا بابتسامة ساخرة :

-آه.. العريس بنفسه جه.. عثمان باشا.. ماتوقعتش اول مقابلة لينا تكون في مكان زي ده بصراحة.

لم يرد "عثمان".. عيناه اخترقتا "مالك" بنظرةٍ باردة.. ثم أشار للرجال بإيماءة خفيفة.. وقفوا في صمتٍ بجوار الجدار.. و تركوه أمام ضيوفه ..

يتقدّم "مراد" خطوة.. نظراته تشتعل بالغضب و هو يقول بصوتٍ كحد السكين : 

-مالك عزام… الوش ده.. كنت فاكر ان آخر مرة شوفته فيها لما كنت سايبك على الأرض زي الكلب.. فاكر ياض قلت لك يومها ؟ فاكر قلك لك لو شوفتك تاني هاعمل فيك ايه ؟

يلاحظ "مالك" صاحب الصوت.. يعرفه في الحال.. نظر إلى "مراد" مليًا.. للحظة اتسعت عيناه بدهشة.. لكنه سرعان ما استعاد هدوءه ..

لم يكن "مالك" بحاجة لأيّ مساعة لإنعاش ذاكرته.. كلمات "مراد" حينها لا تزال ترن بأذنيه : " لحظة ما هاخرج من هنا.. لو شوفتك صدفة قصادي في أي مكان.. هادمر لك مستقبلك.. هاقضي على حياتك كلها و هاكون حريص شخصيًا ان مايبقاش ليك لقمة عيش في البلد دي او في اي مكان برّاها.. قيس على كده إيمان.. ورقة طلقها توصلها قبل ما ينقضي الأسبوع ده.. و لو نطقت بس اسمها بينك و بين نفسك.. ماتلومش حد غيرك.. فهمت كويس !!؟"

رد "مالك" بابتسامةٍ باردة : 

-مراد ؟ ايه المفاجأة دي ؟ انت كمان جيت تحتفل و لا ايه ؟

هتف "مراد" غاضبًا : 

-احتفل؟ آه.. هاحتفل لما اشوفك بتصرّخ زي النسوان اللي انت طول عمرك منهم يالا.

يضحك "مالك" بسخرية.. يهز رأسه قائلًا : 

-طبعًا طبعًا.. انا عارف غلاوتي عندك يا مراد.. لكن بصراحة… ماتوقعتش ان عثمان هايعزمك.. و معاكوا رامز كمان.. دي شكلها هاتبقى حفلة بجد.

"رامز".. الذي وقف صامتًا طوال الوقت.. زفر بحدة الآن.. لكن نظراته ظلّت متوترة.. و كأنه يتوقع انفجارًا في أيّ لحظة ..

يتقدّم "عثمان" من "مالك" الآن بضع خطواتٍ.. وقف على مقربةٍ منه.. نظراته تخترقه بثباتٍ بارد ..

أشار بيده بهدوء إلى أحد رجاله القريبين.. الرجل انحنى و سلّمه سلسلة حديدية غليظة.. يبدو عليها الثقل و البلى.. أمسك "عثمان" السلسلة.. يلفّها ببطءٍ حول كفّه و هو يتحرك نحو "مالك" بخطواتٍ مدروسة.. المستودع هادئًا.. لا يُسمع فيه إلا صوت السلسلة و هي تُشد و تُحرر بين يديه ..

تبادلا كلًا من "مراد" و "رامز" نظرات متوترة.. لكنهما لم يتحرّكا.. كانا يعلمان بأن اللحظة تخص "عثمان" وحده.. و أن أيّ تدخل سيُفسد الهدف ..
 

للوهلة الأولى كان "مالك" ينتهج التهكم.. لكن مع كل خطوة كان يقتربها "عثمان".. كان القلق يتسلل إلى عينيه.. خفيًا لكنه واضح ..

ردد "عثمان" أخيرًا.. بابتسامةٍ هادئة.. صوته منخفض : 

-مالك.. مالك عزام… قولّي بقى.. انت مفكر نفسك ايه لما جرّبت تلعب بملك.. لما اتجرّأت و لمستها ؟ دلوقتي حالًا هاتعرف ان كل لمسة و كل قرب منها له تمن.. و تمن غالي اوي.

حاول "مالك" أن يرد.. لكن صوته لم يخرج في البداية.. أخذ نفسًا عميقًا.. ثم قال بتهكمٍ مصطنع :

-عثمان.. انت فاكر ان التهديد بالسلاسل ممكن يخوّفني ؟ انا مرّيت بحاجات اكبر من كده.. صاحبك دخّلني السجن و عرفت انه وصّى عليا كويس.. اسأله التوصية كانت عاملة ازاي.

لم يعبأ "عثمان" بما يقوله.. أشار بهدوء إلى رجاله.. الذين اقتربوا من "مالك" يفكون القيود التي كانت تربطه بالكرسي.. رغم أن يديه و رجليه أصبحت حرّة.. إلا أن قبضتهم المحكمة على ذراعيه منعته من الحركة ..

أردف "عثمان" بصوتٍ أكثر حدة : 

-كنت فاكر انك شجاع… لكنك مجرد فار.. و اي فار… مصيره الدهس.. الدهس.

بدأ "مالك" يفقد هدوءه الوهمي.. عيناه تتحركان بين "عثمان" و رجاله ..

لم يزد "عثمان" كلمة.. اقترب أكثر.. و عيناه تركزان على "مالك" كأنهما مسامير تخترق روحه.. أشار لرجاله بحركةٍ بسيطة.. فأمسكوا بـ"مالك" و أوقفوه عن الكرسي بعنفٍ.. رغم مقاومته ..

ردد بصوتٍ يرتجف لأول مرة :

-انت بتعمل ايه ؟ مش فاهم !

وقف "عثمان" أمامه مباشرةً.. و بصوتٍ هادئ يشوبه الغضب الدفين.. ثم قال :

-ملك حكت لي كل حاجة بالتفصيل.. كل حاجة.. فاكر لما ملك صرخت ؟ فاكر لما كتمت صوتها و دموعها نزلت من الوجع اللي سببته ليها ؟ ما لقتش غير صدى صوتها بيرجع لها.. انهاردة بقى.. هاترجع تسمع الصدى… بس بصوتك.

حاول "مالك" أن يُبقي على رباطة جأشه.. لكن لمعة السلسلة بيد "عثمان" و صوته البارد أطلقا شرارة القلق الحقيقي في عينيه ..

قال "مالك" بصوتٍ يعلوه التوتر :

-انا سمعت انك راجل.. و مش متوقع منك فعل غير كده.. لو هاتعمل فيا حاجة ..

لكن عثمان لم يتوقف.. بيده الخالية.. أمسك بحزام سروال "مالك".. و جذبه بعنفٍ بينما الرجال يثبتونه.. فجأة.. كان "مالك" مكشوفًا تمامًا.. خاليًا من أيّ وقاية أو حماية ..

انبعث صوت "مراد" من الخلف مترددًا : 

-عثمان ! انت متأكد؟ عايز تعملها بإيدك ماتوسّخش إيدك بكلب زي ده… !

رفع "عثمان" يده ليوقف "مراد" عن الكلام.. ثم التفت إلى "مالك" بابتسامةٍ صغيرة.. كأنما يستمتع برؤية الخوف يلتهمه ببطءٍ ...

-ده حق ملك… و حق كل واحدة كسرتها.. و انا هنا… عشان اضمن انك ماتقرّبش من أي ت مربوطة ابدًا.

ثم أشار لرجاله :

-ثبّتوه كويس !

ثبتوه بعنفٍ أكثر.. بينما يحاول المقاومة.. لكنه كان عاجزًا أمام قوتهم.. وقف "عثمان" أمامه.. عيناه مليئتان بتصميمٍ بارد ..

تمتم و هو يدنو منه ببطءءٍ :

-عارف ايه اللي بيميّز الانتقام الحقيقي ؟ انه مش محتاج اصرخ في وشك.. او اضربك لحد ما اكسر عضمك.. كفاية اشوفك بتنهار و اسمع صوت روحك و هي بتتفتفت.

لا يزال "مالك" يحاول الحفاظ على صلابته.. لكنه كان يعلم بأن "عثمان" ليس كأيّ شخص آخر.. بدأ عرقه يتصبب ببطء.. و ابتسامته الباهتة بدأت تتلاشى تمامًا ..

ابتعد "عثمان" خطوة واحدة.. رفع يده المليئة بالسلاسل.. لكن بدلًا من توجيه ضربة.. و قف تمامًا أمام وجهه و قال بخفوتٍ :

-من اللحظة دي… حياتك اللي كنت تعرفها انتهت.. انتقام ملك.. انتقام كل واحدة اذيتها.. العضو الزيادة اللي في جسمك و تاعبك اوي.. انا هاريّحك منه.

و قبل أن يستوعب "مالك" أيّ شيء بعد ذلك.. يوجه "عثمان" ضربة ساحقة و مباشرة نحو جسد "مالك" نحو رجولته تحديدًا ..

صرخة "مالك" شقّت سكون المكان.. ملأت المستودع كله بصدى مؤلم.. كان الصوت خليطًا من الألم و اليأس.. كأنه اعتراف أخير بأنه لم يعد هناك مفر ..

الرجال أمسكوه بإحكامٍ بينما ينهال "عثمان" عليه ضربًا في نفس المنطقة.. و لم يسمحوا له بالسقوط.. وجهه كان ملتويًا بألمٍ لم يستطع احتماله.. و عيناه تملؤهما الدموع.. لأول مرة يفقد تلك الابتسامة الساخرة التي كانت تزين وجهه طوال حياته ..

في الجهة الأخرى يميل "رامز" صوب "مراد" مغمغمًا دون أن تحيد نظراته عن المشهد : 

-مراد… الواد ده مش نافع تاني !

وافقه "مراد" بإيماءة واحدة و لم يستطع كبح ابتسامة متشفّية من الانبلاج على ثغره.. بينما "رامز" يشكر الله في سرّه بأن الظروف لم تسنح له بأن يقرب "شمس" و إلا كان مصيره على يديّ صديقه مثل ذلك الوغد.. و قد كان محقًا.. فالموت أهوّن من هذا العقاب.. حتمًا ...

خمس دقائق متواصلة.. بلا كللٍ أو مللٍ.. ظل "عثمان" يسدد ضرباته نحو "مالك".. ثم توقف أخيرًا عندما آلمته قبضته.. أخذ صدره يلهج من مشقّة المجهود الذي بذله.. لكنه لم يتحرك.. بقي واقفًا.. يراقب "مالك" و هو ينهار.. و كأن هذا المشهد كان نهاية الرحلة التي طال انتظارها ..

قال "عثمان" بصوتٍ عميق بينما صدره يعلو و يهبط بعنفٍ  :

-دلوقتي… ملك اخدت حقها.. و إيمان اخدت حقها.. و كل واحدة كسرتها.. خلاص… روحك اتحطمت زي ما حطمتهم.

ترك "عثمان" السلسلة تسقط من يده على الأرض.. صوتها الحديدي يُعلن نهاية الانتقام.. ثم أشار للرجال بإلقاء "مالك" جانبًا.. مثل قطعة قماشٍ بالية فقدت قيمتها ..

التفت "عثمان" من جديد إلى "مراد" و "رامز".. و قال ببرودٍ :

-يلا بينا !

و غادر المستودع بخطواتٍ واثقة.. تاركًا خلفه صدى أنين "مالك" يتلاشى ببطءٍ.. بينما صديقيّه يتبعانه فورًا ! .....

تعليقات



×