رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل السابع والاربعون 47 بقلم مريم غريب


 رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل السابع والاربعون 

أُضيئت أضواء سيارة الإسعاف المتسارعة.. و هي تجتاز الشوارع في الليل.. تقطع الطريق بسرعة.. ملامح السائق مشدودة و هو يحاول تجاوز ازدحام المرور.. بينما على متن السيارة.. كان "مالك عزام" ملقى على سرير الإسعاف.. جسده موصول بأنابيب و أجهزة طبيّة و قناع أكسجين على أنفه.. عينيه نصف مغلقتين.. و جسده مشوّه من آثار الضربة القاضية التي تلقّاها ..

في الجهة الأخرى من المدينة.. كانت "مايا عزام" و زوجها "نبيل الألفي" في طريقهما إلى المشفى.. يقود "نبيل" بأقصى سرعة.. بينما "مايا" تشعر بقلبها ينبض بقوة.. و تدور في رأسها أفكار مختلطة من الخوف و القلق على شقيقها.. مشاعر متعاظمة لم تخبو منذ وردها اتصال من زوجها مفاده أن "مالك" وجد على زاوية الطريق السريع فاقدًا وعيه و قد تم الارسال في عربة اسعاف لتنقله إلى المشفى العام على وجه السرعة ..

لم يذكر أيّ تفاصيل أخرى.. و لا أيّ شيء يطمئن قلبها.. أغلق معها و ذهب ليحضرها من البيت و يلحقا إلى المشفى ...

 -انا مش فاهمة حصل له ايه !؟ .. غمغمت "مايا" من بين دموعها :

-اخويا.. اخويا مالك.. هايضيع مني زي ما ضاع سيف.. آااااااه.. مالك.. ياخوياااا ...

هتف "نبيل" بحزمٍ هو يحاول تهدئتها :

-اهدي يا مايا.. احنا لسا مانعرفش جراله ايه.. هانتأكد من كل حاجة لما نوصل.. خلينا نصبر و ندعيله يكون بخير.

لكن "مايا" لم تجد في كلمات زوجها أيّ عزاء.. و لم تستطع أن تهدئ نفسها من التوتر الذي يلتهمها.. في لحظة ما.. تذكرت لحظة قبل الحادث.. كيف كانت تتحدث مع "مالك" عبر الهاتف.. وكيف كانت نبرته تحاكي التهكم و اللامبالاة.. تمامًا كما كان "سيف" قبيل موته ...

وصلا إلى المشفى.. خرجا بسرعة من السيارة.. دخلا إلى الاستقبال حيث وجدا الأطباء و الممرضين في حالة هرج و مرج و كأن "مالك" قد وصل لتوّه.. و في قلبيهما كان فزع ينتظر أخبارًا عن الحالة ..

و بينما كانا في الانتظار.. وصل "حسين عزام".. ملامحه القاسية و جسده الضخم جعلته يبدو كجبل من الحزن و الغضب.. كان يخطو ببطءٍ نحو قسم الطوارئ.. و كأنه توقّع هذا السيناريو بحاذفيره من قبل.. لم يبدو متفاجئًا.. أو مصدومًا حتى ..

اقترب من ابنته و زوجها هاتفًا بصوتٍ هادئ :

-مالك فين ؟ هو كويس ؟ حد طمنكوا !؟

تلتفت "مايا" إليه.. لأول مرة بحياتها تطمئن لظهوره بأيّ موقف بحياتها.. ركضت نحوه و أمسكت بذراعه قائلة بصوتٍ متقطع :

-بابا.. مالك.. مالك لو جرا له حاجة مش هقدر.. مش هقدر استحمل.. سيف راح.. و مالك ..

يقاطعها "حسين" في هذه اللحظة بصرامةٍ مغطيًا بكفّه يدها الممسكة بذراعه :

-هايبقى كويس.. اخوكي هايبقى كويس.

و لكنه من داخله لم يكن واثقًا كثيرًا ..

بعد مرور ثلث ساعة تقريبًا .. 

يخرج الطبيب من باب غرفة الفحص.. عيناه تحملان قدراً من القلق الممزوج بالتعب.. توقف للحظة أمامهم.. ثم تنحنح قائلاً :

-انتو اهل مالك عزام ؟

تقترب "مايا" خطوة للأمام و هي تسأله بلهفة :

-ايوه.. هو ازاي حالته ؟ قولّي يا دكتور اخويا جرا له ايه !!؟؟؟

الطبيب مجيبًا بهدوء.. لكنه يشير إلى القلق في صوته :

-انا واجبي بيحتّم عليا أكون صريح معاكوا لأقصى درجة.. للأسف حالته خطيرة جدًا.. هو اتعرض لإصابات شديدة في مناطق حيوية في جسمه.. مش قادرين نحدد حجم الضرر تمامًا لحد ما يستقر.. تم تكسير جزء من ضلوعه.. كمان عنده نزيف داخلي بسبب ضربة او عدة ضربات في منطقة حساسة جدًا.. في حالات زي دي لازم نراقب حالته لحظة بلحظة.

مرر الطبيب نظره على وجوههم المصدومة.. ثم أضاف بلهجة تعكس أسفه و تضامنه :

-لسا في خطر كبير.. و في احتمال نحتاج لعملية طارئة لو تطور النزيف الداخلي.

أصيبت "مايا" بالذعر.. و تقدمت خطوة نحو غرفة الفحص معميّة بخوفها على شقيقها.. لكن "نبيل" أمسك بذراعها ليمنعها من الاندفاع .. 

توجّه "حسين عزام" بنبرة صوته الجافة قائلًا.. رغم قسوة الموقف إلا أن هناك لمحة من القوة في وجهه :

-انتو دلوقتي هاتعملوا ايه ؟ هاتقدروا تنقذوه ؟ يعني في احتمال ابني يرجع كويس زي ما كان ؟

جاوبه الطبيب بحذر :

-يرجع زي ما كان مستحيل.. في جزء حساس منه تضرر بشدة.. غير كده عمومًا لازم نصبر و نراقب حالته.. الموضوع معقّد.. و للأسف مافيش ضمانات.

لحظات من الصمت مرّت.. قبل أن يطلب "حسين عزام" بصوتٍ منخفض :

-انا عايز اشوفه.

زم الطبيب شفتيه و هو يقول مراعيًا الأوضاع :

-مش هايكون في امكانية للزيارة الا لو استقرت حالته اكتر.. لكن ممكن نسمح لك تدخلّه خمس دقايق بس بعد شوية.

أومأ "حسين" برأسه موافقًا.. بينما تابع الطبيب طريقه عائدًا داخل الغرفة من جديد ..

بقى "حسين عزام" واقفًا في مكانه.. نظراته لا تغادر الباب.. 

في الوقت الذي كان فيه يقف في حالة صمت قاتل.. تتنازعه مشاعر القلق و الضغط.. كانت "مايا" تنهار بين يديّ "نبيل" ..

انفجرت دموعها فجأة.. و كأن السدّ الذي كان يحجز مشاعرها قد انهار دفعة واحدة.. كان قلبها يخفق بعنفٍ.. و عينيها مليئتان بالقلق على "مالك".. على شقيقها الذي لم تكن تعرف إذا كان سينجو أم لا ...

-آااااااااه..مش قادرة… مش قادرة اتحمل كل ده… ليه ؟ مالك.. ليه ؟ مالك ..

كانت كلماتها تتناثر بين أنفاسها المتقطعة.. و عينيها غارقتين في الحزن.. تسيل دموعها على خدّيها.. حتى بدت كأنها تغرق فيها ..

يقف "نبيل" عاجزًا أمام الموقف.. شعر بشيء من الحيرة في البداية.. بينه و بين "مايا" كانت هناك جدران متينة من التوتر و المشاكل التي تراكمت بينهما منذ إلتقيا.. لكن هذه اللحظة كانت مختلفة.. لم يعد هنالك مجال للغضب أو التراشق بالكلمات.. كانت لحظة ضعف.. لحظة عاطفية خالصة ..

أمسك بيديها و هو يراها تهز رأسها بيأسٍ.. فشعر بشيء من الرغبة المُلحة في أن يكون لها سند.. و لو لدقائق قليلة ..

همس لها "نبيل" بصوتٍ هادئ.. و هو يربت على كتفها :

-مايا.. اجمدي شوية.. ماينفعش اللي انتي فيه ده.. ابوكي تعبان و مش هايتحمل الضغط ده كله.

عينيه لم تترك عينيها.. و كان يلاحظ كيف أن صوتها الممزق يرتجف.. و تعبيرات وجهها تفضح كل الخوف و القلق اللذان يعصفان بها ..

رددت "مايا" و هي تسحب نفسها من بين يديه للحظة.. ثم تعود إليه :

-انا خايفة عليه.. خايفة من اللي ممكن يحصل… مالك ضاع خلاص.. انا بقيت لوحدي.. انا بقيت لوحدي في الدنيا ...

قست نظرات "نبيل" و هو يقول بصلابةٍ :

-يعني ايه لوحدك ؟ انتي مراتي.. و انا لسا عايش على وش الدنيا يا مايا.. انتي حاسة انك لوحدك ؟ في اللحظة دي حاسة انك لوحدك !؟؟

كان من الواضح أن "مايا" رغم محاولتها الاستقلالية و التعامل مع المواقف بشكلٍ بارد.. بدأت ترى "نبيل" كأحد الأذرع التي يمكن أن تمسك بها في هذا الوقت الصعب.. كان هناك نوع من الراحة في حضنه.. حتى لو كانت تلك اللحظة مجرد لحظة عابرة في علاقة مليئة بالصعوبات ..

لطالما كان يتعامل معها بطريقة جافة.. هو أيضًا شعر بنوع من الارتياح.. كان دائمًا يحاول أن يكون بعيدًا عن الانفعالات العاطفية.. لكن رؤيته لها بهذه الطريقة.. منكسرة و ضعيفة.. جعلته يتصرّف بشكلٍ مختلف ..

أردف "نبيل" و هو ينظر إليها مباشرةً :

-مالك هايتحسن.. هانكون معاه كلنا.. و انا مش هاسيبك لوحدك.. عمري ما هاسيبك.

رفعت "مايا" رأسها و نظرت إليه بعينين متوّرمتين من الدموع.. كانت تحاول أن تجد الكلمات.. لكن لا شيء خرج منها سوى صوت ضعيف.. ملييء بالارتباك :

-يعني كنت هاتسيبني.. لو ماحصلش كل ده !؟

كانت نظرتها مليئة بالتساؤل.. الألم.. وكأنها تسأل عن جديّة "نبيل" في تقديم الدعم.. مشاركة مشاعره تجاهها.. في وقت كانت هي نفسها غير قادرة على الإجابة على تساؤلات قلبها ..

كان يتوقع أن ترد عليه بطريقةٍ قاسية.. لكنها لم تبتعد كثيرًا.. وجد نفسه يبتسم بشكلٍ ضعيف.. ثم قال و هو يربت على يديها :

-ماكنتش هاسيبك في كل الاحوال.. انتي نسيتي و لا ايه ؟ .. انا قدرك.

شعرت بشيء من الراحة.. حتى و لو كانت تلك الراحة مؤقتة.. لكن في وسط الألم الذي كانت تعيشه.. لا تستطيع أن ترفض هذا الدعم.. احتاجت له ..

و لأول مرة.. شعرت أن بينهما نوعًا من التفاهم العميق.. رغم الخلافات التي كانت تفصل بينهما من قبل ..

فجأة لاحت أمام "نبيل" حجرة مخصّصة للأطباء كانت فارغة.. فحركها باتجاهها بسرعة ..

كانت "مايا" بحاجة للهدوء.. و للحظة فقط بعيدًا عن الجميع.. بعيدًا عن القلق الذي يعتصر قلبها ..

داخل الغرفة.. جلسا على سريرٍ صغير.. لتضع "مايا" رأسها على كتف "نبيل".. سامحة له أن يخفف عنها في لحظات ضعفها ..

همست بصوتٍ خافت.. و كأنها تداري خجلها من مشاعر تظهرها و تعلم يقينًا بأنها سوف تندم لاحقًا :

-ماتسبنيش... انا محتاجاك.. خليك معايا و جنبي طول الوقت... ماتسبنيش لوحدي.

لم يرد "نبيل".. فقط ضمّها إليه في صمت.. بينما كانت هي تستسلم لهذا الدعم العاطفي.. و الحنان الذي تستشعره لأول مرة بحياتها ...

**

كانت الأنوار الخافتة في غرفة العناية المركّزة تضيء المكان بشكلٍ باهت.. و حركة الأجهزة الطبيّة هي التي تعبّر عن الحياة المتبقيّة في جسد "مالك" الذي كان تحت تأثير البنج ..

كان جسمه موصولًا بأنابيب.. لكن وجهه لا يزال يعكس ألمًا عميقًا و كأن ما مر به لا يزال حاضرًا في ذاكرته المبطنة.. بينما كانت الغرفة خالية من الأصوات.. دخل "حسين عزام" بهدوءٍ.. و كأن قدمه تخشى أن تحدث أيّ صوت قد يقطع الهدوء الذي يغلف اللحظة ..

لكن بالرغم من هدوءه الظاهر.. قدمه تثقل بشدة.. و عينيه مملوءتان بالحزن الذي لا يمكن إنكاره.. كان يشعر بتهدّم ساقيه و كأنهما لا يحتملان وزر الحياة التي حملها طويلاً.. فكل خطوة يمشيها و كأنها خطوة نحو الهاوية.. لكنه كان يقترب من سرير ابنه و كأن شيئًا ما يدفعه إلى المواجهة.. مواجهة حتميّة مع ذاته ..

وصل إلى جانب السرير.. و جلس على الكرسي بجواره.. جعل نظره ينحدر نحو ولده النائم.. فمه مغلق.. وجهه عابس.. لكن "حسين" كان يراه كأنه يرى نفسه في شبابه.. أجل.. "مالك".. أكثر أولاده شبهًا به.. يليه "سيف".. أما "مايا".. فقد ورثت الكثير من ملامح أمها.. لولا دماؤه التي تسري بعروقها لكانت نسخة منها ..

كان الألم في قلبه يزداد كلّما نظر إلى ابنه.. حاول أن يخفف من ارتجافه.. و لكن القلب لا يتوقف عن الخفقان بسرعة.. حتى بدت تلك اللحظة و كأنها النهاية نفسها ..

مد "حسين" يده المرتعشة صوب ابنه.. يمسح على شعره و هو يهمس بصوتٍ متقطع : 

-مالك.. يابني.. انا آسف… انا آسف يابني.. انا عارف ان كل شيء في حياتك ضاع بسببنا… بسببنا احنا.. بسببي انا في الأول.. و بسبب امك بعدين ...

أخذ نفسًا عميقًا.. كان لا يستطيع أن يتوقف عن الحديث.. كأن هناك شيئًا غير مرئي كان يضغط عليه ..

تابع و هو ينظر إلى وجه ابنه.. و كأن الكلمات تتساقط من بين شفتيه قسرًا :

-انا كمان كنت السبب في موت سيف.. زي ما كنت السبب في ضياعك… و في ضياع مايا كمان.. كان لازم اكون موجود.. لكن انا كنت ضعيف.. كنت اناني.. مافكرتش غير في نفسي.. مافكرتش في حاجة غير اني اهرب من امك.. لما فوقت فجأة و حسيت اني مش طايقها.. مش طايق أعيش معاها في مكان واحد.. كرهتها.. و كرهتكوا عشان جيتوا منها.. سيبتكوا.. و دلوقتي.. دلوقتي انا مابكرهش حد غير نفسي يا مالك.. مابكرهش حد غير نفسي ..

كان يجهش في البكاء الآن.. و عيناه تغرقان بالدموع التي حاول جاهدًا أن يمنعها.. لكنه فشل.. صوته يرتجف من شدة الألم.. و من الندم الذي بدأ يدفعه للهاوية أكثر ..

يستطرد "حسين" و هو يقترب أكثر من "مالك".. يحتضنه برفقٍ و كأنما يبحث عن الراحة في حضنه.. حتى لو كان ابنه غارقًا في غيبوبة :

-سامحني يا مالك… سامحني… انا فشلت في اني اكون الأب اللي تستحقه.. و فشلت في اني احميك.. انت مكانك ماكنش هايبقى هنا.. لو كنت جنبك من الأول.. انت ماكنتش هاتوصل لكل ده.. يا خسارة يا مالك.. لأ.. ارجوك... اوعى تسامحني.. انا مش مسامح نفسي.. انا اللي ضايّعتك.. انا السبب في كل ده.. انا السبب... انا ...

لم يشعر "حسين" بنفسه إلا و قد احتضن ابنه بكل قوته.. رأسه في صدره المضمّد.. و صوت بكائه يزداد شيئًا فشيئًا.. شعر و كأن جسده كله ينهار تحت وطأة الندم و الآلام التي حملها طويلاً.. حتى أصبحت ثقيلة عليه أكثر من أن يتحمّلها ..

و في تلك اللحظة.. بينما كان يحاول أن يخفف من صراخه الداخلي.. داهمته قبضة اعتصرت قلبه بشدة.. أصابته بنوبة ألم حادة في صدره ..

شعر بدمائه تجري في عروقه بسرعةٍ شديدة.. و كانت عينيه تذرفان الدموع بشكلٍ غير إرادي.. ظل يحاول أن يتنفس لكن صدره كان ضيّقًا.. ثم تراجع ببطءٍ إلى الوراء.. و سقط على الأرض.. دون أن يُدرك ماذا يحدث ..

تعلّقت عيناه بابنه.. و من بين رؤيته المشوّشة.. قال بصوتٍ هامس.. أخذ يخفت رويدًا رويدًا :

-انا… آسف …

ثم سكنت الأنفاس.. و امتلأت الغرفة بالصمت.. إلا من صوت الأجهزة الطبيّة الرتيبة ...

**

اجتازت سيارة "عثمان البحيري" بوابة القصر الكبير.. ملامحه جامدة تحمل صرامة امتزجت بظلٍ من الراحة بعد الرحلة الطويلة ..

صطف السيارة بمنتصف الباحة و ترجل متجهًا نحو باب المنزل.. خلفه تبعته "ملك" بخطواتٍ ثقيلة.. وجهها شاحب.. لكن عينيها تحملان بقايا تحدٍ دفين.. كأنها تحاول السيطرة على ما لا يمكنها امتلاكه ..

داخل القصر.. أطلّت "سمر" من المدخل الرئيسي إذ كانت على علمٍ مسبق بموعد وصولهما منذ ساعاتٍ قليلة.. كانت ترتدي ثوبًا بسيطًا.. لكن حضورها كان كافيًا ليمحو أيّ توتر في الأجواء ..

ابتسامتها انفرجت تلقائيًا فور أن وقعت عيناها على "عثمان".. و عيناه بالمقابل لم تتركها.. كأنما كان يفتقد رؤيتها لحد الألم ..

تحرّكت "سمر" نحو "ملك" بخطى سريعة.. نيّتها واضحة أن تضم أختها بعد هذا الغياب الطويل.. لكن قبل أن تقترب.. ارتفعت يد "عثمان" تعترض طريقها بلطفٍ حازم ..

قال بصوته العميق محافظًا على نبرة من الدفء :

-استني… انا الأول.

و قبل أن تنبس بحرف.. اجتذبها إليه بقوة جعلتها ترتطم بصدره.. و احتجزها بين ذراعيه.. كأنما يخشى أن تفلت منه مرةً أخرى ..

أطلقت "سمر" شهقة خفيفة.. و رفعت عينيها تنظر إليه بذهولٍ.. لكنها لم تجد فرصة للكلام ..

قال "عثمان" بلهجةٍ عالية و مقصودة.. موجّهة لـ"ملك" التي تقف متجمّدة ورائهما :

-وحشتيني اوي يا سمر… مش قادر اقولك انا كنت عامل ازاي من غيرك.

و لم يكتفِ بالكلمات.. مال برأسه.. كفّاه تحيطان بوجهها برقةٍ لكنها تحمل نوعًا من التملّك.. قبّلها قبلة طويلة.. جريئة.. مليئة بالشوق المكتوم.. قبلة لا يترك فيها مجالًا للتأويل.. كأنما أراد أن يخبر الجميع.. هو و زوجته.. خاصةً "ملك".. بأن هذه المرأة ملكه وحده.. و هو أيضًا لن يكون لأخرى سواها ..

ساد الارتباك.. و "سمر" التي تملّكها مزيجٌ غريب من الحرج و السعادة.. حاولت أن تُفلت شفتيها بصعوبة.. لكن "عثمان" كان عنيدًا في إطالة اللحظة.. "ملك".. من مكانها.. وقفت مشدوهة.. وجهها شاحبٌ كالثلج.. لكن عينيها كانتا بركانًا مشتعلاً من الغيرة و القهر.. الشكوى حبستها في حلقها.. و كأن قلبها قد تلقّى طعنة مباشرة لم تتوقعها ..

و أخيرًا..استجمعت "سمر" شجاعتها بعد لحظاتٍ من التيه في مشاعر متضاربة.. و سحبت شفتيها من بين شفتيّ "عثمان" بصعوبة.. تمكنت من التحرر بخجلٍ واضح.. تلّمست وجهها بإحدى يديها.. و كأنها تحاول أن تستعيد توازنها ..

رددت بهمس مرتبك و بنبرةٍ خافتة :

-عثمان.. ايه اللي بتعمله ده ؟ ماينفعش هنا… ملك !

أدار "عثمان" رأسه إلى "ملك" للحظاتٍ.. نظراته كانت أشبه بسهمٍ مُوجه.. عينيه تحمل رسالة واحدة: "أفيقي من أوهامك.. ما تحلمين به ليس لك و لن يكون." ..

رد "عثمان" بهدوءٍ و ابتسامة مطمئِنة لزوجته :

-معاكي حق.. بس كان لازم اوّريكي وحشتيني اد ايه… تعالي.. تعالي نطلع فوق.

ببساطة.. أمسك بيدها و أخذها يصعد بها السلم بخطواتٍ هادئة لكنها تحمل الكثير من السيطرة.. "سمر" التي شعرت بغصّة خفيفة لوجود أختها التي أرادت أن تضمّها على الأقل.. تبعته بلا مقاومة.. بينما تركا "ملك" خلفهما كتمثال مشروخ ..

وقفت "ملك" في مكانها.. تُخبئ ارتجاف يديها خلف ظهرها.. تحاول أن تمنع دموعها من الانهمار.. قلبها كان يعج بالأسئلة و الألم.. لكن الإجابة كانت واضحة أمامها : "عثمان لا يرى سواها.. و لن يكون لسواها." ..

كانت كلماته الأخيرة تتردد في عقلها كصفعة.. بينما غاب هو و "سمر" عن أنظارها.. تاركًا خلفه غصّة مريرة تكتم أنفاسها ...

**

كانت خطوات "عثمان" و "سمر" تتردد في ممر القصر الهادئ.. يده القوية تمسك بيدها الصغيرة كأنه يحميها من أيّ شعور بالارتباك الذي كان واضحًا في عينيها.. عندما وصلوا إلى جناحهما ..

فتح الباب و أدخلها بهدوءٍ.. ثم أغلقه خلفه بحركة بطيئة و كأنه يريد عزل العالم بأسره عن هذه اللحظة ..

وقفت "سمر" في منتصف الغرفة.. تحاول أن تتفادى نظراته التي كانت تحاصرها بشدة.. قلبها كان ينبض كأنه يريد أن يخرج من صدرها.. لكنها لم تستطع أن تمنع الابتسامة التي انسلّت من بين شفتيها ..

قال "عثمان" بنبرةٍ دافئة.. و هو يقترب منها ببطءٍ :

-ايه ؟ لسا مضّايقة من اللي حصل تحت ؟

رفعت عينيها نحوه بترردٍ.. تلك العيون التي كانت دائمًا نافذته إلى قلبها.. همست بصوتٍ خافت :

-مش مضّايقة… بس ملك كانت واقفة.. و حسيت ان الوضع كان غريب شوية.

اقترب منها أكثر.. يده امتدت لتلامس خصلات شعرها الناعمة من تحت طرف الوشاح بلطفٍ.. ثم رفع ذقنها برفقٍ ليجبرها على النظر في عينيه ..

ابتسم ابتسامة صغيرة.. ثم أمسك بيدها بيده الأخرى.. رفعها إلى شفتيه دون أن يقطع اتصالهما البصري.. و قبّلها قبلة طويلة كأنما يريد أن يطمئنها بأن لا شيء خارج هذه الغرفة يستحق اهتمامها ..
 
و همس لها :

-ملك.. انسيها دلوقتي.. احنا هنا لوحدنا… انا و انتي.

و ازداد اقترابًا منها.. يده تتحرك بلطفٍ على وجنتها.. ثم مرّرها برفقٍ إلى أسفل ذقنها.. عيناها ترتجفان تحت نظراته الحادة المليئة بالشوق الواضح ..

شعرت "سمر" بارتجافٍ طفيف و هي تنظر إليه.. كلماته دخلت أعماقها.. لكن حدة نظراته كانت أكثر وقعًا.. حاولت أن تتكلم.. لكن صوتها خانها ..

دون أن يمنحها فرصة للكلام.. انحنى عليها و قبّلها قبلة بطيئة و عميقة.. لم تكن قبلة سريعة أو عابرة.. بل قبلة تحمل كل ما لم يُقال.. كل ما يشعر به نحوها.. يده الأخرى استقرت على خصرها.. تجذبها إليه أكثر.. بينما وجدت نفسها غارقة أكثر بين ذراعيه.. لم تستطع أن تقاوم دفء حضنه.. بادلته القبلة بخجلٍ لكنها لم تستطع أن تخفي رغبتها في أن تظل في أمانه ..
 
حتى شعرت كأنها تفقد السيطرة على قدميها.. قالت متأوهة بهمسٍ مرتبك بين قبلاتهما :

-آه.. عثمان.. اديني فرصة.. انت لسا واصل !

لكنه لم يبتعد.. بل همس بصوته الخافت قرب أذنها :

-بس لسا ما وصلتش لنص اللي كنت حاسه طول ما انا بعيد عنك.

و رفعها بين ذراعيه بسهولةٍ و كأنها لا تزن شيئًا.. صوت شهقتها الخافتة جعله يبتسم.. بينما سار بها نحو سريرهما العريض.. وضعها برفقٍ في مكانه هو.. ظل للحظاتٍ يتأمل ملامحها من أعلى.. أصابعه تتحرك على وجهها بخفة.. تلامس شفتيها كأنه يطبع بصمته عليها ..

ليقول بصوتٍ خافت.. لكنه ملييء بالعاطفة :

-عارفة ؟ عمري ما تخيّلت اني ممكن احب بالشكل ده.. كل حاجة فيكي بتخلّيني مش عايز ابعد… و لو حتى ثانية.. كنت هاتجنن و انتي بعيدة عني... بقالنا سنين مافترقناش المدة دي.

كان يحلّ أزرار قميصه و يخلع ثيابه قطعة قطعة بينما يحدّثها ..

لم تستطع "سمر" أن تجيب.. كل ما استطاعت فعله هو أن تضع يدها على وجهه.. تلمس ملامحه كأنها تريد أن تحفظها للأبد ..

اقترب أكثر.. حتى باتت أنفاسهما تتداخل.. قبّلها مرةً أخرى.. قبلة أطول.. أعمق.. كأنها وعد جديد يُضاف إلى وعوده السابقة.. يده تتحرك برفقٍ على خصرها.. ثم صعدت لتلامس كتفها بخفة.. حتى بدأت أصابعه تزيل عنها وشاحها ..

قطعت القبلة بصعوبة للمرة الثانية و همست بصوتٍ خافت.. ممتزج بالخجل :

-عثمان… استنى شوية... من فضلك !

توقف للحظة.. يده ثابتة على كتفها.. ثم همس بابتسامةٍ صغيرة مسرورًا بنزعة الحياء التي لم تتركها طوال سنين زواجهما :

-مستنيكي انتي اللي تطلبي… انا مش هعمل حاجة غير اللي يريحك.

توّرد وجهها بشدة.. لكنها لم تمنعه.. بل على العكس.. رفعت يديها و ساعدته على أن يحررها من وشاحها و ثوبها.. كأنها تقول له بصمت إنها تثق به ..

تحت ظلال الضوء الخافت للأباجورة المجاورة التي أضفت على الغرفة سكينة خاصة.. لم يكن بين "سمر" و "عثمان" سوى همسات تختلط بأنفاسٍ متسارعة.. كانت "سمر" بين ذراعيه.. أقرب ما تكون إلى صدره.. كأنها أخيرًا وجدت ملاذها الذي تاقت إليه طوال الأيام الماضية ..

أما "عثمان" الذي اعتاد أن يحمل ملامح صلابة لا تنكسر.. بدا مختلفًا الآن.. عيناه التي كانت تحمل دائمًا نظرات القوة.. امتلأتا بشوقٍ مكبوت طالما حاول إخفاءه.. رفع يده بلطفٍ.. يمررها على وجهها.. يلامس وجنتها برقةٍ.. كانت بشرتها ترتجف تحت أصابعه.. حاول السيطرة على نفسه لبرهةٍ حتى لا يجفلها وهو يهمس بصوتٍ عميق ملييء بالحنان :

-كنت مستني اللحظة دي… مستنيكي تترمي بين إيديا من تاني.

أغمضت سمر عينيها.. تسللت دمعة دافئة على وجنتها.. دمعة حُب.. و اشتياق ظل مختزنًا لأيامٍ.. همست بصوتٍ مهتز بالكلمات التي تعكس مشاعرها :

-وانت.. انت وحشتني… وحشتني اوي يا عثمان.. كنت بموت و انا بعيدة عنك.. كل ثانية كانت بتفكرني اكتر بيك.. و قلبي كان بيوجعني.

كان صوتها مليئًا بالشوق لدرجة أنه هز كيانه.. دون أن ينتظر ردًا.. مال عليها مجددًا و قبّلها.. بكل المشاعر التي لم تسعفه الكلمات للتعبير عنها.. يده كانت تتنقل بلطفٍ على ظهرها.. تلامسها و كأنها تخشى أن تُفلتها مرة أخرى ..

رددت من بين أنفاسها المتقطعة.. و كأن الكلمات تنفلت منها :

-ماكنتش عارفة ان البعد ممكن يكون كده… كنت محتاجة حضنك.. في كل لحظة كنت بفتكر فيها اكتر... كنت محتاجة ليك جنبي.

زاد اشتياقه لسماع صوتها أكثر.. لكل شهقة و كل همسة تخرج منها.. أجابها بصوتٍ خافت ملؤه الإصرار :

-و انا كمان كنت مشتاق لك.. و لا حاجة ليها طعم منغيرك… عايزك تفهمي حاجة يا سمر.. مافيش حاجة في الدنيا تقدر تفرقنا عن بعض.. لا زمان.. و لا حتى أي مخلوق.

دفن وجهه في عنقها.. يقبّل بشرتها الناعمة ببطءٍ.. أصابعه تلاحقت و هي تتحسس حدود كتفيها بحذرٍ.. كأنها خريطة لا يريد أن يترك منها أيّ تفصيل.. أما هي.. فقد استسلمت تمامًا.. تتنفس بعمقٍ و كأنها تريد أن تختزن أنفاسه في صدرها إلى الأبد ..

همست من بين شهقاتها :

-كنت بخاف.. خفت لما سافرت فجأة و انا ماعرفش انك مسافر تحل مشكلة بين فادي و هالة.. خفت انك تكون نسيتني… او ان في حاجات تانية شغلاك عني.. حاجة ممكن تاخدك مني بسبب الحادثة اللي حصلت معايا و بعدتنا عن بعض فترة !

رفع وجهه بسرعة.. نظراته صارمة لكنها مغمورة بالحنان.. و كأنه لا يصدق ما سمع ..

قال بصوتٍ غاضب لكنه مشحون بالعاطفة :

-ازاي تفكري كده ؟ انتي الحاجة الوحيدة اللي كانت بتخليني اكمل… كل خطوة كنت باخدها كنت بفكر في اللحظة دي.. فيكي انتي.. لما ارجع لك.. لما نكون مع بعض من تاني... انتي جزء من كياني يا سمر.. مقدرش استغنى عنك يوم واحد في حياتي.

كلماته كانت كافية لإشعال مشاعرها أكثر.. سحبت وجهه نحوها دون خجل.. تقبّله بشوقٍ عارم.. كأنها تريد أن تملأ الفجوة التي خلّفها البُعد بينهما ..

يده تنتقل بخفة إلى كتفها.. تُزيح ببطء رباط قميصها الرقيق.. ارتد بوجهه قليلًا ليراقب ملامحها عن كثب.. يبحث عن أيّ إشارة لتوقفه.. لكنها.. رغم توترها.. لم تتحرك.. بل أغمضت عينيها.. كأنها تستسلم لشعورٍ غمرها بالكامل ..

قال بصوتٍ دافئ قرب أذنها :

-انتي عارفة انك اجمل حاجة حصلت لي ؟ عارفة اد ايه انا بحبك ؟

لم تستطع منع نفسها من الرد بصوتٍ خافت مختلط بالارتجاف :

-آه يا عثمان… بحبك… بحبك و مش عارفة سمر اللي بين ايديك دي كانت هاتعيش ازاي لو ماكانتش قابلتك و عرفتك.. بحبك... بس ...

وضع إصبعه على شفتيها ليوقف كلماتها.. ثم قال بابتسامةٍ صغيرة :

-مابسش..انا معاكي دلوقتي.. و كل حاجة هاتحصل هنا هي لانك عايزاها.. مش لأي سبب تاني.

استمرت يده في حركتها البطيئة.. تُزيل ما تبقّى من ثيابها رويدًا رويدًا.. بينما وجهه يقترب أكثر.. يطبع قبلة رقيقة على عنقها.. ثم يرتفع ليُقبّل وجنتها بحنانٍ.. شعرها المبعثر على الوسادة أضفى على اللحظة سحرًا خاصًا.. بينما ارتفعت حرارة أنفاسها التي أصبحت متقطعة بشكل واضح ..

قالت بصوتٍ مرتعش.. يحمل شوقًا مكبوتًا :

-انا بس.. لسا.. تايهة شوية.. مش عارفة اعمل.. ايه !

رفع رأسه لينظر إليها مباشرةً.. عينيه مليئتان بالصبر و الحب الذي لا يعرف حدودًا.. ثم همس لها بصوتٍ هادئ لكنه عميق :

-مش مطلوب منك تعملي حاجة.. بس خليكي معايا… و كل حاجة بينّا هتبقى زي ما انتي عايزاها.

مع كل كلمة منه.. كانت ترتخي أكثر تحت يده.. شعرت بالأمان الذي يمنحها إيّاه.. وكأن خوفها بدأ يتلاشى رويدًا رويدًا.. عندما انتهى من إزالة فستانها.. اقترب مرةً أخرى.. يطبع قبلة أطول على شفتيها.. لم تستطع أن تمنع نفسها من الاستسلام له.. ارتفعت يداه لتمسكا بخصرها.. يقرّبها منه أكثر.. و كأنه يريد أن يمحي أيّ مسافة تبقّت بينهما ..

بدأت قبلاته تصبح أعمق.. أكثر حرارة.. لكنه حافظ على رقة لم تتركها تشعر بأيّ ضغط.. أما هي.. فكانت تستجيب له بخجلٍ.. إلا إنها لم تستطع إخفاء شوقها الذي بدأ يظهر في أنفاسها وكلماتها المتقطعة :

-انا عايشة بيك.. و ليك.. انا عمري ما هابعد عنك تاني... عمري.

كانت كلماتها كافية لإشعال المزيد من الشوق بداخله.. بين أنفاسهما المتلاحقة و أجواء الغرفة المشحونة بالشوق.. كانت قبلاتهما تتحوّل من رقيقة إلى أكثر حرارة و عمقًا.. كأنهما يحاولان تعويض كل لحظة افتقدا فيها قرب بعضهما ..

و بينما يده تتحسس وجهها ببطء.. كأنه يتأكد من أنها أمامه.. أنها حقيقية.. شفتيه تلتقط شفتيها كأنها أغلى ما يملك.. و سرعان ما أصبحت قبلاته أكثر جوعًا.. و أكثر احتياجًا ..

كانت "سمر" تتنفس بصعوبة.. استجابت له في كل خطوة بشوقٍ مكبوت.. حاولت أن تتراجع للحظة تحت وطأة خجلها.. لكنها لم تستطع.. بين كل قبلة و أخرى.. تحت هذا الجو الحميمي.. حيث امتزج الحب بالشوق.. و الحنان بالرغبة.. بدأت اللحظة تتحوّل إلى حكاية عاطفية فريدة.. لغة من العشق الصادق الذي لم يكن يعرف الحواجز ..

_______________

بعد ساعة و بضع دقائق ..

كانت "سمر" ما تزال مستلقية تحت نظرات "عثمان".. غارقة بين شعورها بالخجل و دفء الحب الذي يُحيط بها.. لم تستطع أن تمنع وجنتيها من الاحمرار تحت وطأة قربه ..

بعد أن هدأت أنفاسهما قليلاً.. و عاد الهدوء إلى الغرفة.. رفع "عثمان" كفّه برفقٍ و وضعها على بطن "سمر" العارية.. و كأنه يحاول التواصل مع الجنين الذي حملته.. كانت حركته بطيئة.. مليئة بالشغف.. و كأن لمسته تحمل وعدًا بالحماية الأبدية ..

تغمض عينيها للحظة.. تحاول استيعاب تلك اللمسة التي كانت تحمل مزيجًا من الحماية و الحنان.. قبل أن تفتح عينيها لتقابل نظرته المثقلة بالعاطفة ..

تحرّكت أنامله بخفة فوق جلدها.. يشعر بحرارة جسدها و يتخيّل الحياة التي تنبض بداخلها.. رفع نظراته إليها.. و عيناه ممتلئتان بالعاطفة و الدهشة.. كأنه يرى "سمر" بشكلٍ جديد تمامًا ..

قال هامسًا و ابتسامة هادئة تعلو ثغره المثالي :

-حاسس بيه… ده ولد.. انا متأكد.

ابتسمت "سمر" بخجل و هي تنظر إليه.. تشعر بمزيجٍ من الحب و الطمأنينة التي يبعثها لمسه.. اقتربت أكثر منه حتى أصبح جسدها ملتصقًا به بالكامل.. و قالت بصوتٍ هادئ مع لمسة من الدعابة :

-و انا اللي كنت فاكراك هاتتمنّى بنت عشان فريدة ما تحسش انها لوحدها.

ضحك "عثمان" ضحكة خفيفة.. لكن عينيه لم تفارقا بطنها المستديرة.. و كأنهما يبحثان عن إجابة في عمقها.. ثم رفع كفّه مرة أخرى.. وبدأ يداعب بطنها بلطفٍ و كأنما يريد طمأنة الجنين بلمساته ..

أردف بصوتٍ عميق ملييء بالحنان :

-فريدة بنتي مايتخافش عليها.. طول ما عندها ام زيك عمرها ما هاتحس بالوحدة.. انتي عندك حنان يكفّي أجيال يا سمر نسيتي و لا افكرك !؟ 

و تابع بعد ثوانٍ :

-حاسس ان ده هايطلع ولد.. لو احساسي طلع صح اكيد هاحبه.. كل ولادي غاليين عليا.. لكن يحيى حاجة تانية.. يحيى له مكانة خاصة جدًا في قلبي.

تحرّكت "سمر" لتحتضن يده فوق بطنها.. و كأنها تريد أن تشاركه هذه اللحظة بالكامل.. نظراتها مليئة بالحب.. و لكن أيضًا بالحياء الذي يميّزها دائمًا أمام هذا النوع من الحوارات ..

قالت بصوتٍ خافت يشوبه الحنان :

-انت عارف اني كنت خايفة من الحمل التالت ؟ و حاسة انها اول مرة من قبل ما ابدأ افتكر شوية.. بس لما بشوفك كده.. لما بحس انك موجود معايا… بحس ان كل حاجة بتبقى سهلة.

لم يجبها "عثمان" بالكلمات.. لكنه مال برأسه نحوها ليطبع قبلة طويلة على جبينها.. كانت قبلته تحمل وعدًا جديدًا.. طمأنة عميقة لها بأنها ليست وحدها.. و أنه شريكها في كل لحظة من حياتها.. ثم حرّك شفتيه ببطءٍ إلى وجنتها.. ثم إلى زاوية شفتيها.. و كأن كل قبلة تعبر عن حبه بعمقٍ أكثر ..

قال بهمسٍ قريب.. من بين أنفاسه الثقيلة :

-سمر… انتي مش بس أم لولادي.. انتي حياتي كلها.. مش مهم ولد و لا بنت… المهم انك معايا.

أحست "سمر" بقشعريرة تجتاحها مع كلماته.. و دفنت وجهها في صدره.. تسمع دقات قلبه التي كانت تعزف نغمة من الراحة و السكينة ..

ثم رفعت رأسها و نظرت إليه.. يدها تمسك بيده المستقرة على بطنها.. ردت بابتسامة خجولة و بصوتٍ خافت :

-يمكن يكون ولد.. و يمكن بنت… بس اللي متأكدة منه ان هي او هو محظوظ… لأنه عنده أب زيك.

ابتسم بخفة.. شعر بشيء يغمر قلبه.. لم يكن الحب الذي يشعر به نحوها شيئًا عاديًا.. بل كان شيئًا أكبر.. أعمق.. و أكثر حقيقية ..

مال نحوها مرةً أخرى.. يقبّلها قبلة طويلة و عميقة.. أنفاسهما تتداخل.. و يداهما لا تزالان متشابكتين فوق بطنها.. و كأنهما يعيشان معًا تلك اللحظة التي تربط بين الحاضر و المستقبل ..

________________

بعد لحظاتٍ من الصمت العاطفي بينهما.. حيث كان الجو لا يزال مشحونًا بالحب و الدفء.. تنهدت "سمر" بخفة و كأنها تتذكر شيئًا مهمًا ..

وضعت يدها على يد "عثمان" التي كانت لا تزال مستقرّة على بطنها.. و نظرت إليه بعينيها الممتلئتين بالعاطفة.. لكن هذه المرة بشيء من الجديّة ..

أخبرته بصوتٍ خافت لكنه ملييء بالقلق :

-عثمان… نسيت اقولك اول ما وصلت.. فريال هانم مابطلتش سؤال عنك من يوم ما سافرت.. حالتها مش زي كل مرة… يمكن محتاجة تشوفك دلوقتي.

تغيّرت ملامح "عثمان" في لحظة.. نظر إليها بتركيزٍ.. و كأن ذكر والدته أعاد له شعورًا بالمسؤولية الثقيلة.. أزاح يده عن بطنها برفقٍ.. و قام من السرير بسرعة.. كأن قلبه قد التقط إشارة غير مرئية ..

سألها و هو يلتقط ملابسه من فوق الأرض :

 -حصل ايه في غيابي ؟ امي كويسة يا سمر ؟ جرالها ايه ؟؟؟

جلست "سمر" على السرير.. وضعت يدها على ذراع "عثمان" الذي بدأ يبحث عن قميصه بين طيّات الشراشف و قالت تطمئنه :

 -ماتقلقش هي كويسة.. بس تحس انها مرضانة.. رغم انها مش بتشكي من حاجة.. كل اللي على لسانها اسمك.. عايزة تشوفك حتى ماكانتش عايزة حد يكلّمك.. لأ.. هي عايزة تشوفك قصادها.. انا فضلت جنبها طول الوقت.. و كنت بأكلها بإيدي لأنها كانت رافضة الأكل تمامًا.. بس انا ماسبتهاش.

بدت عليه ملامح القلق العميق.. ارتدى قميصه بسرعة و نظر إليها بنظرة شكر و امتنان.. لكن مع شيء من الانشغال.. قال و هو يحاول تهدئة نفسه :

-انا كنت عارف انك هاتاخدي بالك منها.. ماكنتش غلطان لما وصّيتك عليها.. لازم اروح لها حالًا.

و اقترب منها مرةً أخرى.. انحنى ليطبع قبلة على جبينها.. نظرة عينيه تقول الكثير دون أن ينطق ..

همس ماسحًا على رأسها بموّدة :

-سامحيني لو سيبتك الليلة دي… بس أمي فوق كل حاجة.

قالت بابتسامة هادئة و متفهمة :

-مافيش حاجة تعتذر عليها.. عثمان.. انا كمان لو كنت مكانك.. كنت هعمل نفس الشيء.. انت نسيت و لا ايه !؟

و تابعت تحثه :

-روح لها بسرعة و خلّيك جنبها.

أخذ "عثمان" نفسًا عميقًا و كأنه يحاول تجهيز نفسه لأيّ شيء قد يواجهه.. توجه نحو الباب بخطواتٍ سريعة.. لكن قبل أن يغادر.. التفت نحوها مرة أخيرة ..

قال بابتسامةٍ دافئة :

-لو نعستي نامي.. انا هارجع بمجرد ما أطمّن عليها.

هزّت "سمر" رأسها بإيجاب.. و راقبته و هو يغادر الغرفة.. شعرت ببعض القلق على "عثمان" و أمه.. على العائلة كلها ..

لكنها في الوقت نفسه كانت مطمئنة لأن الرجل الذي أحبّته لديه قدرة عظيمة بأن يضع الجميع في مكانهم الصحيح دائمًا.. و يعرف كيف يوازن بين حبّه لها و مسؤوليته تجاه عائلته ..

لحظات و هدأت الغرفة مجددًا.. غطّت بالنوم بينما قلبها ينبض برتابة.. يفكر بما يمكن أن يحدث.. و ما قد يعنيه هذا الحمل الجديد لعائلتهم في ظل المسؤوليات التي يواجهها "عثمان" يوميًا ! ...........

تعليقات



×