رواية صرخة في الظلام (كامله جميع الفصول) بقلم ورد


رواية صرخة في الظلام الفصل الاول بقلم ورد

"أنا عاوزة أطلق."


"إنتِ اتجننتي؟ عاوزة الناس تاكل وشنا؟"


"وشنا؟ طب وأنا فين؟! أنا كل يوم بموت في الدقيقة مليون مرة!"


"بصي يا حبيبتي، كلنا كنا كدا واستحملنا، فاستحملي إنتِ كمان، حتى علشان عيالكِ."


"عيالي؟ هربيهم أحسن تربية، بس أبوس إيدكِ يا أمي، طلقيني منه!"


"ماينفعش! الناس هتقول علينا إيه؟"


"الناس... الناس... حياتنا عبارة عن الناس! طب وأنا فين؟!"


صرخت بأعلى صوتها، كأنها تحاول أن تمزق هذا القيد الخفي الذي يطوق روحها. لم تشعر بنفسها وهي تمزق ملابسها إلى نصفين، لتكشف عن جسدها المليء بالكدمات، مزيج من الأزرق الداكن، الأحمر، والأخضر القاتم. شهقت والدتها بفزع، ارتجفت يداها، وكأنها عاجزة عن استيعاب المشهد أمامها.


"مين اللي عمل فيكِ كدا، يا حبة عيني؟! ها قوليلي، مين اللي عمل كدا؟! أنا هكسر عظمه، علشان كدا مبتحبيش حد يلمسك! احكي يا نور، مين اللي عمل فيكِ كدا؟"


رفعت عينيها الممتلئتين بالدموع، نظرت إلى والدتها نظرة جامدة، كأنها فقدت كل إحساس بالحياة، قبل أن تهمس بصوت منكسر:


"هو اللي عمل كدا... بس أنتم مش عاوزين تطلقوني علشان كلام الناس! طيب أنا هيريحكم مني... ومن كلام الناس!"


ركضت إلى المطبخ كالمجنونة، أمسكت بسكين حاد، وبدون تردد جرحت يديها، فتساقطت الدماء على الأرض، امتزجت بدموعها، بينما رفعت رأسها إلى السماء وابتسمت في استسلام.


"سامحني يا رب."


وفي لحظة، هوى جسدها على الأرض، وسط صرخات والدتها المفزوعة. وفي تلك اللحظة، فتح الباب بقوة، ودخل شقيقها "عمر"، الذي انتفض قلبه فور سماع صراخ والدته.


اندفع نحو المطبخ، وما إن وقع بصره على شقيقته الملقاة على الأرض، محاطة بدمائها، حتى شحب وجهه وسقط على ركبتيه بجانبها. مد يده المرتعشة ليتحسس نبضها... لكنه لم يجد شيئًا.


أطلق زفرة ثقيلة، سقطت دموعه الصامتة على وجهها الشاحب. بدت كأنها نائمة في سلام، لكن هذه كانت نومتها الأخيرة، النوم الذي لن تصحو منه أبدًا.


نظر إليها بعينين غارقتين في الألم، لم يحتاج إلى كلمات، فهمت والدته كل شيء من نظرته. أدركت أن ابنتها رحلت، وأنها لم تكن فقط ضحية زوج مريض، بل ضحية عائلة تخشى كلام الناس أكثر مما تخشى موت ابنتها.


وفي النهاية، رحلت نور، لكنّ رحيلها لم يكن مجرد نهاية، بل كان صرخة مكتومة، لم يُسمع صداها إلا بعد فوات الأوان.


لم تكن تبحث عن الموت، بل عن مهرب من حياة أرهقتها، من قيود سلبتها حقها في الاختيار، من خوفٍ زُرع في قلبها باسم العادات والتقاليد.


نزفت طويلًا، لا دماءها فقط، بل أحلامها وكرامتها، حتى صار الألم في داخلها أعمق من قدرتها على الاحتمال.


والآن، اختارت الرحيل، ليس ضعفًا، بل لأنهم لم يتركوا لها طريقًا آخر. لكنّ صوتها سيبقى شاهدًا، يروي قصة روحٍ أُطفئت ظلمًا، في عالم يخشى العار أكثر مما يخشى فقدان الأبرياء.


"عرفت أمك ماتت إزاي يا شعيب؟ أمك انتحرت... بسبب أبوك وبسببنا كلنا! بلاش تقسى على مراتك يا بني، دي اللي هتدخلك الجنة، وانت اللي هتتحاسب قدام ربنا. هتقدر تقف قدامه لما يسألك ليه ظلمتها؟ ولا هتقدر تبص في عينين نبيك محمد وهو شايفك فرطت في الأمانة اللي سابهالك؟ روح، روح راضي مراتك، وصالحها، وخدها في حضنك... دي اللي فاضلالك."


تركته ورحلت، تاركةً إياه غارقًا في صدمته، غير قادر على استيعاب الكلمات التي هوت على رأسه كالصاعقة. لأول مرة يدرك الحقيقة التي ظلت مدفونة في الظلام، لأول مرة يعلم أن والدته لم تمت بل قُتلت ظلمًا، ببطء، بقسوة، بانتحار فرضه عليها واقع مرير. شعر بأن قلبه ينهار، وكأن روحه قد ضاقت بجسده، لم يكن أكثر من صورة مشوهة لوالده، بل ربما كان أسوأ.


انتفض فجأة كأن شيئًا ما قد أيقظه من غيبوبة طويلة، قفز إلى سيارته وانطلق بسرعة جنونية، لا يرى أمامه سوى وجهها، لا يفكر إلا في عينيها الممتلئتين بالحزن، في يديها المرتعشتين، في نظراتها التي طالما تجاهلها، حتى كاد يفقدها.


توقفت السيارة أمام المنزل، خرج منها مسرعًا، صعد الدرج بخطوات متعثرة، وطرق الباب بعنف، لم يكن يشغل عقله سوى فكرة واحدة... أن يراها.


عندما فُتح الباب، كانت يدها ترتجف، تلك الرجفة التي ضربت قلبه كالسهم، فسقط على ركبتيه أمامها، ينهار للمرة الأولى، ودموعه تنهمر بلا توقف.


حدقت به بذهول، لم ترَه يومًا ضعيفًا بهذا الشكل، لم ترَ دموعه من قبل، أين ذلك الرجل القاسي الذي عرفته؟ أين ذلك الوجه الجامد الذي لا يظهر عليه أي انفعال؟ كان هذا شخصًا آخر، رجلًا غريبًا لا تعرفه، أو ربما... رجلًا طالما تمنت أن يكونه.


اقتربت منه بخوف وقلق، لم تستطع منع نفسها من الانحناء نحوه، لكن ما إن أصبحت قريبة، حتى جذبها بقوة إلى أحضانه، ضمها وكأن حياته تعتمد على ذلك العناق، وكأنها حبل النجاة الوحيد المتبقي له، وبكى بحرقة لم يستطع كتمانها:


"أنا آسف... كنت أظن أن القسوة هي ما تصنع الرجولة، لكني أدركت كم كنت مخطئًا... صرتُ مثله، لا، بل أسوأ! هو من علّمني القسوة، لكنه لم يعلّمني الحب، لم أشعر بالحنان يومًا، لأنني لم أعرفه أصلًا! أمي لم تمت وحدها... أبي قتلها ببطء، قتلها حتى لم يبقَ أمامها سوى الرحيل. وأنا؟! كنت سأفعل بكِ الشيء نفسه دون أن أدرك!"


حاولت أن تتخلص من قبضته، أن تبعده عنها، لكنه تمسك بها أكثر، نظر إليها بعينين غارقتين في الندم، وتمتم بصوت منكسر:


"أرجوكِ... لا تتركيني... سامحيني... أنتِ كل ما تبقى لي."


لم تجب، لم تستطع أن تحسم قرارها... أكان يستحق الغفران؟ أم أن الجرح الذي تركه في قلبها كان أكبر من أي اعتذار؟

الفصل الثاني من هنا


تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1