رواية قلب السلطة الفصل العاشر 10 بقلم مروة البطراوي

 

 

 رواية قلب السلطة الفصل العاشر بقلم مروة البطراوي

 
في شقة رائد الذهبي، كان الصمت له صوت، صوت غليانٍ مكبوت تحت سطحٍ من الجليد. رائد واقف في منتصف الصالة، كالسيف المسحوب، يشع غضبًا، يتنفس ببطء كأنه يعد الثواني قبل الانفجار.

أما يقين… فكانت تقف متكئة على حافة الأريكة، ذراعاها معقودتان أمام صدرها، ووجهها جامد، لا يحمل خوفًا، بل مزيجًا غريبًا من الشفقة… والمتعة. كأنها تراقب مشهدًا طالما انتظرته.

يقين (بصوتٍ هادئ، لكنه مائل للبرود): "رائد… مش شايف إنك بتكبر الموضوع؟ يعني البنت خرجت، ورجعت… إيه الجديد؟"

رائد (يحدجها بنظرة نارية): "أنتِ اللي مش شايفة حاجة، يقين… البنت رجعت بـ وش تاني. وش بيقول إنها بتتحداني… وده في بيتي."

لم ترد، بل اكتفت بابتسامة باهتة، مرّت على شفتيها كطيف، وسرعان ما اختفت، لكن في عينيها ظل بريق… بريق لا يفهمه إلا من خبر الخذلان.

كانت تقف هناك كأنها تشاهد شيئًا يتكرر… شيئًا لا يعرفه سواها، ولا تنساه هي.

وفجأة، وكأن النار استعرت فيه، التفت بسرعة خاطفة نحو الباب الذي لم يُغلق بعد، وخطا خطوات سريعة، صوته هادرًا:

رائد (بصوتٍ يقطر غضبًا): "نيرفانا!"

توقفت نيرفانا في مكانها، كمن تجمد في العاصفة. استدارت ببطء، ورفعت عينيها حتى التقت بعيني والدها المتقدتين.
رفعت رأسها، التقت عيناهما، لكنها لم تهرب منهما، لم تتردد، بل قالت بنفس الابتسامة الغامضة:

نيرفانا (ببرود): "كنت بعيش حياتي، بابي."

تجمدت الكلمات في فم رائد، للحظة، كأنه لم يسمعها. ثم تحرك ببطء نحوهـا، خطاه ثقيلة كمن يسير على حد السكين.

رائد (بصوت منخفض خطير): "عيشتك دي كانت مع مين؟"

لم تجب. رفعت حاجبًا واحدًا، ونظرت إليه بملامح باردة، لكنها كانت ترقص من الداخل، كأنها تتعمد غرس السكين أعمق.

عندها، التفت نحو يقين كأنه يبحث عن دعم، لكنه لم يجد سوى عينيها تراقبان المشهد ببرود. لم تكن خائفة… بل كأنها كانت تنتظر اللحظة.

يقين (بنبرة خافتة): "رائد… البنت تعبانة، وباين عليها."

لم يجب. إنما  أخرج هاتفه من جيبه، ورفع عينه عليها.
نظرة خالية من الرحمة، خالية من التساؤل، فقط… نظرة حكم.

رائد (بصوت خافت لكنه مشدود):
"شامل… بعتلي ده.
قال لي اسمعه… من غير ما تحكم… واسمعته."

ضغط زر التشغيل.

صوت ضحكتها انطلق أولًا… ضحكة مرتاحة، خالية من أي قلق.
ثم صوت شاب يمازحها:
"كنتي وحشاني، عارفة؟"
وردّها جاء بنفس النبرة اللاهية:
"وأنت كمان!"

انتهى التسجيل.
لكن الصدى بتاعه كان بينفجر جوّه، في دماغه، وفي قلبه.

رائد (بصوت بارد، مبحوح بالغضب):
"أنتِ… بتضحكي… كده مع مين؟"

نيرفانا رفعت عينها، بنفس الهدوء، وقالت:
"مع واحد… مش مهم، بابي.
المهم… إني كنت بعيش حياتي."

رائد اقترب خطوة، مستحلفًا بالنار اللي جوّاه:
"مين هو؟
ماعرفش صوته… ماعرفش ضحكتك دي كانت ليه؟
كنتي فين؟!"

نيرفانا (بلامبالاة):
"قلت لك… مع أصحابي، وسهرنا، و… شربنا.
وأيوه، شربت، زي ما أمي كانت بتشرب، وزي ما أنت بتشرب، و… خلاص."

رائد اتنفس بصوت عالي… أنفاسه كانت بتلهب صدره، اقترب منها، شم أنفاسها، تأكد…

صرخ فجأة، صوت كالرعد:
"نهارك اسود!"

نيرفانا (بانفجار):
"ليه كل حاجة حلوة ألاقيها، تحرمني منها؟! حتى مس ليلي؟! انت السبب، دايمًا انت السبب!"

وهوى كف رائد على وجهها… ضربة واحدة، أسقطتها، أسقطت معاها كل صمودها.

سقطت نيرفانا… وسقط في قلب يقين شيء قديم… شيء لم يُنسَ.
دوافع مطمورة… لم تظهر، لكنها تتحرّك في صمت… كالعقارب.

هوَت "نيرفانا" أرضًا، وقد ضاعت ملامحها بين الدموع وحرقة الكفّ، فتجمّدت برهة، وكأن الألم لم يوقظها من غفلةٍ، بل غاص بها في قاعٍ مظلم، كانت تحاول النجاة منه عبثًا.

"رائد" ظل واقفًا، عرق الغضب يتصبّب من جبينه، وكفّه لا تزال معلّقة في الهواء، شاهدة على ما اقترفه، وعلى ما هو آتٍ.

ساد الصمت لحظة، لا تُقاس بالزمن، بل بثقلها، حتى انكسر بصوت "يقين"…
صوتها جاء هادئًا كنسيم الفجر، لكنه كان يحمل في عمقه شيئًا خفيًا، كأنها تسقي الأرض بزهرٍ مسموم.

قالت، وهي تنظر إلى "نيرفانا" بعينٍ تلمع ببريقٍ غامض:
"وجعك؟
حلو… لازم تحسي، عشان تعرفي إن الدار اللي اتبنت على دموع… عمرها ما تفرّح."

انتفض "رائد" كمن لسعه الجمر، والتفت نحوها، وصوته يفيض غضبًا مكتومًا:
"بتقولي إيه يا يقين؟!"

رفعت "يقين" رأسها، نظرت إليه بثباتٍ لا يعرف رهبة، وقالت بنبرة لا تخلو من خبثٍ مستتر:
"بقول الحق، والحق ساعات بيبقى مرّ… وِمش لازم يتبلّع.
نيرفانا ما عملتش حاجة غريبة… دي ماشية عِ السكة اللي اتفرشت ليها زمان.
ومهما تشدّ وتزمجر… مش هتغيّر اللي مكتوب."

رمقها "رائد" بنظرة حادة، وكأنها طعنت كبرياءه دون أن تلمسه، فتقدم نحوها خطوة، وقال بصوتٍ هابط لكنه أشبه بالزئير:
"أنا السبب؟ بتشاور عليّا؟!"

"يقين" لم تتزحزح، بل زادها اقترابه صلابة، فقالت ببرودٍ قاتل:
"أنا ما بشاورش، أنا بقول اللي الناس كلها بتخاف تقوله.
زمان، لما كنت فاكر نفسك فوق الكل، كنت بتبني… بس مش بيت، لأ… كنت بتبني نار، والنار دي دلوقتي بتاكلك.
وشامل؟ جاب لك تسجيل بسيط…
لكن لو أنا فتحت اللي في قلبي… لا، ده انت تشوف حاجات ما حلمتش تشوفها."

سكتت لحظة، وعيناها تتفرسان في وجهه كمن يختبر عمق الجرح، ثم أردفت ببطء، كمن يُلقي طُعمًا في ماءٍ راكد:
"أنا ساكتة من زمان…
بس في دوافع… كانت مدفونة، وساعتها جت خلاص."

ساد المكان صمت كثيف، كأن الجدران نفسها تخشى أن تنقل ما قيل، وكأن الزمن توقف عند هذه اللحظة… لحظة كشفٍ لا رجعة بعدها.
كان "رائد" واقفًا في موضعه، صامتًا، لكن صمته لم يكن هدنة، بل عاصفة تُخفي زئيرها خلف السكون.
وعلى الأرض، جلست "نيرفانا" تلملم بقاياها، لا تجرؤ على النهوض، كأنها تنتظر أن تنتهي هذه الليلة، ولا تنتهي.

أما "يقين"، فكانت واقفة، ثابتة كجدارٍ قديم، لا تهتزّ لرياحٍ عاتية، ولا تُبالي بنظراتٍ غاضبة.
في عينيها لمعة… لا هي فرح، ولا شماتة، بل شيءٌ أعمق… شيءٌ لا يُقال.

وفي قلبها، نبضٌ قديم… نبضٌ ظلّ صامتًا سنوات، حتى جاء هذا الليل، فارتفع، وكأنه يهمس لها:
آن الأوان.

خيم الصمت على المكان، لكن لم يكن ذلك الصمت سوى إعلان…
أن كل ما مضى، لم يكن إلا تمهيدًا… لما سيأتي.

قلب السلطة
بقلم: مروة البطراوي 
*************

نامت "نيرفانا" تلك الليلة مثقلةً بالألم، وكأن شيئًا انكسر فيها للأبد، شيءٌ لم يكن يُرى، لكنه كان يحملها في مواجهة هذا العالم.
تظاهرت بالصلابة حين غادرت الصالة، رأسها مرفوع، وخطواتها واثقة، لكن وحدها غرفتها شهدت هشاشتها حين أغلقت الباب خلفها.
لم تطلب أحدًا، ولم تسمح لـ"يقين" بأن تقترب، بل اكتفت بهمسةٍ خافتة:
"سيبيني لوحدي… بلاش كلام."

لم تكن تحتاج إلى عزاء، ولا إلى نصيحة، فكل الكلمات بدت جوفاء، لا تصمد أمام جرحٍ لا تندمل حوافه.
كانت تريد الصمت…
أن تغرق فيه، أن تختفي من أعين الجميع، أن تهرب من صورٍ تتكرر في رأسها… كفه تهوي، عيناها تدمع، وكبرياؤها يُذبح على مهل.

لم تفكر في "رائد" كملاذ، ولا خطر لها أن تلوذ به كما كانت تفعل قديمًا.
فالذراع التي كانت تحتمي بها، صارت اليوم منفى،
والحضن الذي كان لها وطنًا… صار قيدًا يُحكم على عنقها.

وفي وحدتها، لم تكن تبكي فقط من وجع الضربة… بل من وجعٍ أعمق:
وجع الخذلان، ومرارة الحب حين يتحوّل إلى سوط.

وغفت أخيرًا، لا على وسادة، بل على صمتٍ ثقيل…
صمتٍ لم يكن راحة، بل هروبًا من كل شيء.

******************************
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
حين أشرق الصباح، لم يكن نور الشمس مرحبًا به في غرفة "نيرفانا". تسللت الأشعة من خلف الستائر كغريبٍ يتطفّل على خلوتها، لكنها لم تتحرك. ظلت راقدة، عيناها شاخصتان نحو السقف، وكأنهما تبحثان عن إجابة، عن تفسيرٍ لما حدث… عن تبريرٍ لهذا الألم.

لم تبكِ… لم يعد للبكاء جدوى.
ما عاد يُخفف شيئًا، بل صار عبئًا جديدًا، يخدش ما تبقّى من عزّتها.

نهضت ببطء، كمن ينهض من بين ركام، جسدها يُطيعها، لكن روحها مثقلة بسلاسل من نار. وقفت أمام المرآة، حدّقت في وجهها طويلًا، فوجدت فتاة لم تعُد تعرفها، عيناها تائهتان، وملامحها تحمل ندبةً خفيّة لا تُرى… لكنها أعمق من كل جُرح.

اقتربت من المرآة، لمست خدّها بباطن كفّها، نفس الموضع الذي هوت عليه يد والدها… فلم ترتعش، بل قالت لنفسها همسًا:
"خلص… اللي انكسر، ما يرجعش."

ثم أبعدت يدها، التقطت هاتفها، وفتحته ببطء، كأنها تتردد بين المضي أو التراجع. لوهلةٍ، تجمّدت يدها على الشاشة… ثم قررت.

ضغطت على الاسم ذاته…
"أوس."

وانتظرت… تنتظر صوتًا ليس فيه قسوة، ليس فيه لوم، صوتًا يجعلها تشعر أنها لم تَعُد وحدها في هذا العالم.

لكن في قلبها، كانت تعلم… أن الطريق الذي اختارته تلك الليلة، لن يعيدها لما كانت، وأن الخطوة القادمة… لن تكون عادية.

بل خطوة في مجهولٍ لا عودة منه.
ظلت "نيرفانا" تُمسك بالهاتف، تُراقب الشاشة كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة. ثوانٍ مرّت وكأنها دهور، حتى جاء الرد…
صوت رجولي، ناعم لكن يحمل شيئًا مبهمًا، كأن فيه وعودًا وأسرارًا.

"أوس":
"نيرفانا؟
كويسة؟"

صمتت… لم تُجبه فورًا، لم تجد الكلمات، فالصوت وحده كان كافيًا لإغراقها في موجةٍ من مشاعر مختلطة… راحة، خوف، تمرد، وشيءٌ آخر لم تفهمه.

نيرفانا (بهمس):
"أنا محتاجة أكلمك…"

سكت "أوس" لحظة، ثم رد، صوته هادئ لكن بين كلماته ترصّد خفي:
"حصل حاجة؟
باباكي عمل حاجة؟"

ارتجف قلبها، ذكر اسمه جعل كل ما حاولت دفنه يعود للسطح، لكنها قاومت، وردت ببرودٍ مصطنع:
"مش مهم إيه اللي حصل…
المهم أنا عايزة أشوفك، في اقرب وقت ."

صمت "أوس" مرة أخرى، وكأنّه يختبر صدقها أو يقيس دوافعها، ثم قال بنبرةٍ خفيّة فيها تملّك:
"تعالي في يوم بدل ما تروحي المدرسة …
بس إنتي متأكدة؟ مش هتندمي؟"

أغمضت عينيها، وكأنها تُغلق أبوابًا كثيرة خلفها، ثم همست:
"الندم ده أنا خلصته امبارح."

أغلق الهاتف، وظلّت تُمسكه بين يديها كمن أمسك ببوابة لا يدري إن كانت إلى نجاة… أم إلى سقوطٍ جديد.

وقفت أمام المرآة، نظرت إلى وجهها نظرة أخيرة، ثم ابتسمت ابتسامة خافتة… ليست فرحًا، بل كمن قرّر أن يخوض الحرب، ولو خاسرًا.
ولم تكن تدري… أن "أوس" لم يكن أبدًا كما تظن.
****
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
وفي مكانٍ آخر، كان "شامل" يجلس في عتمة غرفته، والسكون ينهش عقله كما تنهش الكوابيس نوم طفلٍ بريء. لم تكن تلك الليلة كسائر الليالي، ولم يكن ما يعتمل في صدره مجرد قلقٍ على نيرفانا… بل كان أكثر تعقيدًا.

تدفقت في ذهنه تفاصيل تلك الليلة كالسيل، يقف أمامها عاجزًا، ينهزم أمام سؤالٍ بسيط:
"لِمَ لَمْ أذهب بنفسي؟"

كان بإمكانه، بل وكان يجب عليه، أن يكون أول من يسعى إليها، أن يتحدّى الجميع، أن يأخذها من حيث كانت، بيده، كما يليق بمن يدّعي حرصًا أو حبًا.
لكنّه لم يفعل.
بل اختار أن يُرسل التسجيل، ويُشعل النار عن بُعد، كمن يُراقب اشتعال الحريق دون أن يمد يدًا للماء.

أدار وجهه نحو النافذة، ونظره معلّق بالفراغ.
"ليه ما روحتش؟… ليه اكتفيت باللي عملته؟"
ترددت هذه الكلمات في ذهنه كصدى مريب. كان يعلم الجواب، لكن الاعتراف به أمام نفسه أصعب من احتماله.

نيرفانا كانت قريبة… لكنه اختار أن يظل بعيدًا.
اختار أن ينتظر، أن يراقب، أن يترك رائد يكتشف التسجيل بنفسه، ويواجه ابنته بنفسه، لتنكسر أمامه، وتتصدع العلاقة بينهما… خطوةٌ مدروسة؟ أم لحظة ضعفٍ دفين؟

التقط هاتفه، استعرض الرسائل القديمة، توقّف عند صورةٍ أرسلها لنفسه يومًا، يظهر فيها مع نيرفانا، لقاءٌ عابر، لحظة لم تُدرك هي قيمتها… لكنه حفظها كمن يحفظ كنزًا.

ابتسم بسخرية مريرة، ثم تمتم:
"أنا مش عايز أكون بطل… أنا عايز أكون صاحب القرار."

كان يعلم أن تدخله المباشر كان سيُربكه، وربما يضعه في مواجهةٍ مع رائد، مواجهة لم يكن مستعدًا لها بعد.
فترك الجميع يتحركون كما يشاء هو… وسكوتُه لم يكن ضعفًا، بل اختيارًا.

في عتمة الغرفة، لم يكن شامل يهدأ، بل كان يُخطط.
يعرف كيف يلعب، ومتى…
وهو الآن، قد بدأ يلعب بطريقته.
**********************
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
خرج الطبيب زاهد من الغرفة، ملامحه جامدة كجدار، لا تحمل أثرًا لانفعالٍ أو ارتياح. أدار مقبض الباب برفق حتى انغلق خلفه بإحكام، ثم التفت ببطء ليواجه رائد، الذي انتفض واقفًا كمن طُعن من خلف.

صوت رائد خرج متوترًا، مشحونًا بالقلق والغضب في آن:
– "طمني، زاهد… نيرفانا كويسة؟ فيها حاجة؟"

لم يُجب الطبيب فورًا، بل حدق في عيني رائد كأنه يُفكّك شخصيته قبل أن ينطق. رفع يده، وأشار بإيماءة تطلب منه التريث.
ثم قال بصوتٍ هادئ، بارد:
– "اقعد الأول، يا رائد. وشيل السيف اللي ف وشك ده، أنا جاي أكلمك، مش أتحاكم."

رائد، الذي بدا كأن الغضب يمسك بتلابيب روحه، تمتم بغلظة:
– "قول، يا زاهد. مش وقت دروس."

زفر زاهد ببطء، ثم قال:
– "البنت… مش بتتكلم. رفضت تجاوبني على أي سؤال. كل اللي عملته إنها بصّتلي، وسكتت. ولا دمعة، ولا كلمة، كأنها مش موجودة."

تجمد رائد في مكانه، كأن الأرض قد سُحبت من تحت قدميه. اقترب خطوة، وقال بصوت خافت، لكنه يحمل تحت سطحه بركانًا:
– "يعني إيه؟ يعني مافيش حاجة؟ ولا في حاجة ومش عايزة تقولها؟"

رد زاهد بنبرة غامضة:
– "في فرق بين اللي يوجعه جسمه… واللي روحه هي اللي فيها الكسر. وأنا شايف بنتك… فيها كسر مش من امبارح. قديم… وبيتراكم."

ظل رائد ينظر إليه في صمت، ملامحه متوترة، لا يعرف كيف يرد، ولا كيف يتقبل هذه الكلمات.

أضاف زاهد، كمن يلقي حجرًا آخر في بحيرة هادئة:
– "رائد… إنت مش بتعرفها كويس، وده أكبر غلط. البنت عندها حاجة… بس مش مستعدة تقولها. واللي حصل امبارح… خلاها تنغلق أكتر."

رائد زم شفتيه بقوة، ثم قال بحدة:
– "أنا عارف بنتي، وعارف إزاي أرجّعها لعقلها… لو كانت ضاعت."

ابتسم زاهد بسخرية مريرة، وقال:
– "هو ده اللي خايف منه… إنك ترجعها لعقلها بطريقتك، وتخسرها للأبد."

ثم التفت، دون أن ينتظر ردًا، وسار مبتعدًا في ممر المنزل، تاركًا خلفه صدى كلماته يدوي في رأس رائد كضربات الطبول.

توقف رائد، عينيه معلّقتين بباب غرفة نيرفانا المغلق… وبين صدره، قلبٌ يتصارع فيه الغضب والخوف، والحيرة.
كان لا يزال واقفًا، حين انطفأت أنوار الردهة من تلقاء نفسها، وكأن البيت كله… قرر أن يختنق بالصمت.

غُرفتُها كانت أشبه بصندوقٍ مغلقٍ على جراح لا تُرى، كل شيء فيها صامتٌ إلا عقلها، الذي صار كعجلة تدور بلا توقف. جلست نيرفانا في الظلام، لم تشأ أن تُشعل الضوء، وكأنها تهرب من نفسها.

عيناها الجافتان لا تحملان دمعًا، كأن البكاء قد صار رفاهية لا تملكها. كانت تنظر إلى الفراغ كمن يرى ما لا يُرى، تُحدّق في الجدار أمامها، وكأن الأحداث تُعاد مرارًا أمام عينيها. لا صوت إلا صوت أنفاسها الثقيلة، تتسارع حينًا، وتكاد تختفي حينًا آخر.

كل شيء يتداخل في رأسها. صوت أبيها وهو يصرخ، نظرات يقين التي لا تفارقها، وجه "أوس" الذي بات لعنة في ذاكرتها، والتسجيل… الضحك الذي انقلب سكّينًا.

همست لنفسها، بنبرة خافتة مكسورة:
– "أنا غلطت؟ ولا اتجرحت؟… ليه الكل شايفني أنا المشكلة؟"

رفعت يديها لتمسك برأسها، كما لو تحاول أن تسكته، أن تطرد الأفكار التي تنهشها. كانت تشعر وكأنها تتفكك، جزءًا جزءًا، وكلما حاولت أن تجمع نفسها، انهارت أكثر.

مرت لحظات، أو ربما ساعات، لا تدري. فقدت الإحساس بالزمن. لا تعرف إن كان الليل قد انقضى أم لا يزال يحاصرها.

ثم، سُمِع طرقٌ خفيف على الباب. لم ترد. لم تتحرك. جاءها صوت يقين، رخيمًا، حذرًا:
– "يا نيرفانا… باباك قاعد بره، مستنيك."

لم تجب. ظلت ساكنة، حتى همست يقين، بصوت بدا وكأنه قادم من زمنٍ بعيد:
– "عيب يا بنت الناس… اللي عملتيه مش قليل عليه."

كأن هذه الكلمات كانت القشة الأخيرة، انتفضت نيرفانا واقفة، تتنفس بصعوبة، ويديها ترتجفان. مشت نحو المرآة، نظرت إلى وجهها، فلم تعرفه.

همست كأنها تُخاطب شخصًا آخر:
– "أنا مش ضعيفة… أنا مش ضعيفة…"

ثم فتحت خزانة الملابس، التقطت شيئًا عشوائيًا، وارتدته كمن يرتدي درعًا، لا ثوبًا. مسحت وجهها بيدها، وضغطت على شفتيها حتى اختفى ارتجافها.

تقدّمت نحو الباب، فتحت القفل ببطء. لحظة صمت طويلة مرّت… ثم خطت إلى الخارج.

كانت عيناها جامدتين… كأنها ماتت ليلًا، وخرجت الآن… لتدفن نفسها بيديها.
************************
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
دوى  صوتٍ ثقيل، حادّ كحد السيف، لكنه لم يصرخ:
– "اسمعي يا نيرفانا، أنا سايبك دلوقتي علشان عقلي لسه مش راكب مكانه. بس ما تفكريش إن اللي حصل عدى… كل حاجة هتتغير. خروج؟ مفيش. مدرسة؟ مفيش. و... موبايلك؟ نسِيه."

نيرفانا خفضت رأسها، ودموعها تهبط بصمت، كأنها تخشى أن يتنفس الحزن بصوت مسموع.

تقدمت يقين خطوة، وقالت بتوتر:
– "يا رائد، البنت خلاص… اتكسرت. إنت كده بتزود عليها وهي مش ناقصة."

رفع رائد عينيه نحو يقين، وكأن الكلام لم يصله، ثم عاد بنظره إلى نيرفانا، وقال بصوتٍ بارد:
– "أنا سايبك دلوقتي… مش رحمة، بس علشان ما أندمش. فاستغلي اللحظة… وحطي في بالك إن اللي جاي... أصعب."

ثم التفت خارجًا، وخطواته تُحدث صدى خافتًا كأنها تُنذر بعاصفة مؤجلة.

خرج وأغلق الباب خلفه، بينما ظلت نيرفانا جامدة، دموعها تحفر طريقها فوق وجنتيها، وقلبها يرتجف من صمتٍ لم يكن هدوءًا... بل هدنة، لا أكثر.

حين أغلق رائد الباب خلفه، خيّم صمت ثقيل على الغرفة، كأنما الهواء ذاته قد تجمّد. جلست نيرفانا على طرف السرير، كتمثال هشّ، عيناها تحدّقان في اللاشيء، كأن عقلها قد فارقها، تاركًا جسدها سجين تلك اللحظة.

يقين اقتربت ببطء، وجلست إلى جوارها، مدت يدها لتلمس كتفها، لكنها ارتعشت حين لم تجد في نيرفانا سوى صقيعٍ غريب.

قالت يقين، بصوت منخفض:
– "حبيبتي، قوليلي بس إنتي عايزة إيه؟ كُلي حاجة… اشربي شوية مياه… اتكلمي."

لكن نيرفانا لم تُجِب، فقط كانت تنظر إلى الجدار المقابل وكأنها تراه للمرة الأولى.

ثم، فجأة، تحركت ببطء، نهضت كأن في جسدها ثقلًا لا يُحتمل، ومشت نحو النافذة. سحبت الستائر بنفَسٍ متقطع، وفتحت الزجاج ببطء. لفحها هواء بارد، عبث بشعرها الفوضوي، لكنها لم تبالِ.

قالت بصوتٍ خافت، كأنها تكلّم نفسها:
– "كان نفسي أكون بني آدم طبيعي… أعيش زي الناس… أضحك براحتي، وأزعل من غير ما أخاف. بس هنا… هنا كله بيحرق."

أرادت يقين أن تمنعها من فتح النافذة، لكن نيرفانا رفعت يدها كمن يطلب الصمت، وأكملت بنفس النبرة الواهنة:
– "أنا تعبت، تعبت قوي. لِمّا بتوجع… محدش بيسمعني، ولِمّا أضحك… كله يلومني. أنا حاسة إني مخنوقة، ومفيش هُرب."

ثم استدارت، نظرت إلى يقين، وفي عينيها نظرة غريبة، مزيج من الحزن والاستسلام، وهمست:
– "عايزة أختفي، يومين بس، أختفي… من نفسي ومنهم."

لم تملك يقين سوى أن تقترب وتضمّها إلى صدرها، بينما الدموع تتساقط بصمت من عينيها هي الأخرى.
أما نيرفانا، فقد أغمضت عينيها، كأنها تحاول أن تهرب... إلى الداخل، حيث لا أحد يستطيع الوصول.
******
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
في صباحٍ رمادي ثقيل، كان "شامل" يقف بسيارته أمام بيت رائد، لا يدري لماذا ساقته قدماه إلى هنا. لم يكن ينوي الدخول، ولا حتى الحديث مع أحد، لكنه كان يشعر أن شيئًا ما قد فلت من بين يديه، وعليه أن يعيده قبل أن يصبح بعيد المنال.

ترجل من السيارة ببطء، وقف أمام البوابة الحديدية كمن يستجمع شجاعته لعبور عتبة مجهولة. يده امتدت إلى الجرس، لكنها توقفت في منتصف الطريق. في داخله صراع لا يهدأ؛ أيجرؤ؟ وهل يحق له؟

في تلك اللحظة، فتح الباب فجأة من الداخل، وخرج "رائد" بخطوات متسارعة. توقف حين رأى شامل أمامه، وتغيرت ملامحه بسرعة، كأن وجوده ليس مرغوبًا فيه.

شامل بنبرة هادئة، لكنها حذرة:
– "صادفني الحظ… كنت ناوي أعدي أطمن. كل شيء تمام؟"

رائد بنبرة جافة وهو يغلق البوابة خلفه:
– "كل شيء تمام. أنا مشغول دلوقتي، نتكلم بعدين."

شامل بقلقٍ حاول إخفاءه:
– "نيرفانا عاملة إيه؟"

رائد وهو يشيح بنظره:
– "مرتاحش بالكلام ده. مفيش خروج ولا مدرسة، خليها تعقل."

لم يرد شامل، لكن عينيه تحركتا بلا وعي نحو نافذة الطابق العلوي، كأن روحه تبحث عنها من خلف الزجاج.

رائد بنبرة أكثر صرامة:
– "خليك في حالك يا شامل. الموضوع ده خلص."

ثم غادر دون أن يترك له فرصة للرد. أما شامل، فقد وقف للحظة، كأنه يحاول استيعاب ما سمعه. ثم، دون أن يدري لماذا، عاد إلى سيارته. لكنه لم ينطلق. جلس خلف المقود، عينيه مثبتتان على المنزل، وكأن انتظاره يحمل نية لا يجرؤ على الاعتراف بها حتى لنفسه.

كان يحمل الهاتف في يده، يتأمل رسالة قديمة، تسجيل صوتي حصل عليه من يقين. استمع إليه مرارًا، حتى كاد صوتها يتغلغل في عظامه. لم يكن يعرف ما يدفعه إلى التعلق بها بهذا الشكل، لكنه كان مدفوعًا بقوة غريبة، أشبه بالهوس المقنّع.

همس لنفسه بصوت منخفض:
– "كان ممكن أكون معاها دلوقتي… بس الظاهر كل حاجة ليها وقتها."
******
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
نزلت يقين الدرج بخفةٍ متوجسة، كأنها تخشى أن يلحظ أحد وجودها في تلك الساعة المبكرة. كانت ملامحها شاحبة، وعيناها متورمتين من قلة النوم، كأن الأرق قد أقام في جفونها معسكرًا لا يبرح. وما إن وطأت قدماها الرُكن الهادئ قرب المدخل، حتى لمحته... شامل، يسير بخطوات سريعة نحو البوابة، كمن يحمل في صدره نارًا يريد الهرب منها.

تسمرت في مكانها للحظة، كأن الزمن قد توقف. شيءٌ في قلبها انقبض، لم تستطع تفسيره، لكنه دفعها دفعًا للحاق به.

نادت بصوت خافت، لكنه حاد:
"شامل! استنى!"

توقف في مكانه، ودار ببطءٍ نحوها، وقد بدا عليه الارتباك. اقتربت منه بخطوات حثيثة، وحدجته بنظرة ثاقبة، كأنها تحاول أن تنفذ إلى ما خلف وجهه الهادئ.

يقين، بنبرة مشوبة بالريبة:
"كنت طالع من فين دلوقت؟"

شامل، وهو يتصنّع الثبات:
"كنتش جوه... كنت مستني رائد برة، كلمته وملقتش رد، قلت أعدّي."

يقين، تضيّق عينيها:
"وما دخلتش خالص؟"

تردد لثوانٍ، ثم قال:
"دخلت أشوف نيرفانا، قلت أطمن عليها بس... مش أكتر."

ظلت تحدّق فيه، كأنها تستنطق صمته قبل كلماته، ثم قالت بنبرة خافتة ولكنها صارمة:
"ربنا ما يوريك اللي يخليني أشك فيك... بس الحذر واجب."

سكتت لحظة، ثم أضافت:
"رائد مش سهل... لو شمّ ريحة حاجة، مش هيعدّيها."

أطرق رأسه، ولم يرد. أما هي، فكانت تقرأ وجهه كما تقرأ كتابًا مفتوحًا، لكن ما خفي منها كان أعمق من أن يظهر.

نظرت إلى الباب، ثم إليه، وقالت بحدة خافتة:
"ماشي، روّح دلوقتي... ومتجيش غير لما أقولك."

نظر إليها نظرة طويلة، ثم غادر دون كلمة أخرى، بينما ظلت هي واقفة في مكانها، تتبعه بعينيها حتى اختفى... وظلت في أعماقها غصة لا تعرف مصدرها، كأن شيئًا يُكتم عنها، وموعد انكشافه يقترب.

****************
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
في صباحٍ متلبّد بالقلق، كانت ليلى واقفة قدّام المدرسة، تلف في يدها مفتاحًا صغيرًا، وتبص في ساعتها كل دقيقتين.
"اتأخرت... نيرفانا عمرها ما غابت من غير ما تقول."

خطوات "شامل" كانت وراها، لكنها ما انتبهتش له غير لما سمعته بيقول:
"متشغليش بالك يا ليلى، الموضوع بسيط، وأنا لسه جاي من عندهم."

استدارت ناحيته بدهشة:
"من عندهم؟ قصدك عند رائد؟ نيرفانا كويسة؟"

شامل بابتسامة مصطنعة:
"أيوه... رائد اتصرف، وكل حاجة تحت السيطرة. البنت بس محتاجة يوم راحة. وهو هيتواصل معاكي قريب."
ثم أضاف، كأنه بيقفل أي باب لأسئلة تانية:
"سيبيه يرتب أموره، وبلاش استعجال."

ليلى شعرت بقبضة في قلبها، 
لكن قبل أن تحسم أمرها، جاءها اتصال من والدتها، لهجته كانت مختلفة، قاطعة. طلبت منها أن تعود للبيت فورًا، دون تفسير. نظرت ليلى حولها، استأذنت من مديرة المدرسة، وغادرت بخطى قلقة.
عادت ليلى إلى المنزل، ووجدت أمها جالسة في صمت غريب، وجهها شاحب، ونظراتها معلّقة في الفراغ، كأنها تنتظر كارثة تعرف موعدها مسبقًا.

ليلى: "ماما؟ مالك؟ في إيه؟"

رفعت الأم عينيها ببطء، وقالت بصوت خافت:
"في حاجات لازم تعرفيها، يمكن تأخرت فيها، بس... دلوقتي ماعادتش تنفع تفضل مدفونة."

اقتربت ليلى وجلست قبالتها، القلق ينهش ملامحها:
**"مدفونة؟ تقصدي إيه؟"

أمها، بعد تنهيدة طويلة:** "فاكرة أيام أبوكي الأخيرة؟ لما رجعنا المحكمة علشان الحضانة؟ تفتكري ليه فجأة وافق يرجعك ليّا، من غير مشاكل؟"

ليلى بتوتر:
"انتي قلتي إنه كان تعبان، و..."

قاطعتها الأم، ونظرة غامضة في عينيها:
"لا... رجعك علشان يتستر... على حاجة عملها. حاجة كانت ممكن تخليه يخسر كل حاجة، حتى حريته."

تعليقات



×