رواية قلب السلطة الفصل الحادى عشر بقلم مروة البطراوي
تجمدت ليلى في مكانها، الكلمات تدوي في أذنيها كصفعة، تشق صمت الغرفة نصفين.
ليلى، بصوت مختنق: "تقولي إيه؟!"
الأم لم ترد، بل نهضت بخطوات بطيئة، كأن الأرض تحتها لم تعد ثابتة، واتجهت نحو خزانة جانبية، أخرجت منها صندوقًا خشبيًا صغيرًا، وقد غطته طبقة رفيعة من الغبار.
الأم، وهي تمرر يدها على الغطاء: "أنا سكت سنين... قلت لنفسي، اللي فات مات، لكن الظاهر إن السكوت ما بيمحيش الخطايا... بيدفنها، بس بيفضل ريحتها تطلع، لحد ما تيجي لحظة وتخنق الكل."
مدّت يدها للصندوق، فتحته ببطء، وداخل الصندوق كانت هناك أوراق قديمة، ومظروف مغلق بلونٍ باهت.
الأم، وهي تنظر في عيني ليلى بثقل: "في حد رجع يدور... وأنا عارفة كويس مين ورا ده. دلوقتي مافيش مفر. كل حاجة لازم تطلع للنور، حتى لو وجعت."
كانت ليلى تحدق في الأوراق، قلبها يخفق بقوة، كأن يدًا خفية تعصره، شعور غريب بأن حياتها على وشك أن تتغير... للأبد.
...
في تلك اللحظة، كان رائد واقفًا أمام باب بيتها، يده مرفوعة على وشك أن تضغط الجرس، لكنه توقف. تردد لحظة، ثم زفر بقوة، وطرق الباب ثلاث طرقات ثابتة.
لم يكن يتوقع ما ينتظره خلف الباب.
ولم تكن ليلى تعرف، وهي تحمل الأوراق في يدها، أن الطرقات القادمة... ستفتح أبوابًا لا يمكن غلقها بعد الآن.
**************
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
في الداخل، كانت ليلى تجلس وحدها، الأوراق مبعثرة أمامها، وذهنها غارق في دوامة من الأسئلة والذكريات. كل شيء حولها بدا باهتًا، كأن الألوان انطفأت فجأة، ولم يبقَ سوى الفراغ... فراغ يبتلعها دون رحمة.
نظرت إلى الورق، ثم إلى المظروف المغلق، ولم تكن تجرؤ على فتحه. يدها امتدت نحوه، لكنها توقفت في منتصف الطريق، كأن شيئًا خفيًا يردعها.
وفجأة، سمعت صوت خطوات في الخارج. في البداية ظنّت أنه أحد الجيران، لكنها سرعان ما انتبهت لصوت جرس الباب. قامت بتثاقل، قلبها ما زال مثقلًا بالذهول، وعقلها مشوش، لم تتوقع زائرًا في مثل هذا الوقت.
فتحت الباب، لتتسع عيناها بدهشة لم تستطع إخفاءها:
"أستاذ رائد؟!"
كان واقفًا أمامها، بهيبته المعتادة، مرتديًا بذلته الرمادية الداكنة، ملامحه هادئة، ونظرته تحمل شيئًا غريبًا... لمعة خفية لم تلحظها من قبل، كأن عينيه تخفيان أكثر مما يُقال.
رائد، بابتسامة هادئة، ونبرة محسوبة:
"ممكن ندخل؟ فيه كلام مهم... عايز أقوله ليكي، ولي والدتك."
لحظة صمت ثقيلة مرّت، قبل أن تفتح ليلى الباب أكثر، كأنها استيقظت من غيبوبة قصيرة.
ليلى، بصوت خافت:
"اتفضل... بس إحنا..."
قاطعها بلطف:
"عارف... وعشان كده جيت."
دخل بخطى ثابتة، عينيه تمرّ على تفاصيل المكان كأنها تقرأ ماضيه، وأما ليلى، فكانت تدرك في تلك اللحظة أن الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم... قد بدأ يتلاشى.
***********************
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
دخل رائد بخطى ثابتة إلى الصالة، عينيه تتفقدان المكان سريعًا، بينما جلست نيفين على الأريكة، تدعوه للجلوس بإشارة خفيفة من يدها.
نيفين، بنبرة ودودة:
"اتفضل يا أستاذ رائد، نورت المكان... ليلى، هاتي عصير أو حاجة؟"
رائد، بهدوء:
"متشكر... مش هطول. جاي أتكلم في موضوع، ومش هرتاح إلا لما أخلصه."
نظرت نيفين إليه بدهشة خفيفة، لكن ابتسامتها لم تفارق وجهها. ليلى وقفت في مكانها، مازالت مشوشة من اكتشافات الصباح، والقلق يعصر صدرها.
رائد، موجّهًا كلامه لنيفين، لكن عيناه على ليلى:
"أنا جاي أطلب إيد بنتك... رسمي. قدّامك، وبكل احترام."
خيم الصمت، كأن الهواء نفسه تجمد.
نيفين، بصدمة واضحة:
"هاه؟! تقصد... تتجوز ليلى؟!"
هز رائد رأسه بهدوء، كأن الأمر محسوم:
"أيوه... شايف إنها تستحق حياة تليق بيها، وأنا ناوي أكون جزء من الحياة دي، لو وافقت طبعًا."
ليلى كانت تحدق فيه، لا تعرف أهي تحلم أم تصحو على كابوس. قلبها يدق بعنف، ولسانها انعقد.
نيفين، بتوتر، وهي تحاول استيعاب الصدمة:
"بس... ده قرار كبير. ولازم... لازم مهاب، أخوها، يكون موجود. مينفعش نتكلم في حاجة زي كده من غيره."
رائد، بهدوء شديد:
"حقكم تفكروا، وأنا تحت أمركم. لما تكونوا جاهزين، كلموني... وأنا حاضر."
وقف بعدها، وابتسم ابتسامة خفيفة، ثم اتجه نحو الباب.
رائد، قبل أن يغادر:
"أنا عارف إن القرار مش سهل... بس أهو في النور. مفيش ورايا حاجة، ومش ناوي أسيب ليلى تعيش حياة أقل من اللي تستحقها."
ثم خرج، وترك خلفه صمتًا أثقل من كل الأسئلة.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كانت ليلى واقفة، يدها على صدرها، كأنها تحاول تهدئة دقات قلبها، بينما نيفين مازالت في حالة ذهول.
ليلى، بغضب مكتوم:
"إزاي ييجي يقول كده فجأة؟! ومين قال إني... إني موافقة أصلاً؟!"
نيفين، وهي تحاول تهدئتها:
"اسمعيني بس... الراجل واضح وصريح، ومش جاي يتلاعب بيكي. ده مش زي أي حد، ده رائد الذهبي! يعني، مستقبل، وأمان، و..."
(ثم خفضت صوتها)
"هو معجب بيكي يا ليلى، وده مش عيب."
ليلى، بعينين دامعتين:
"مش دايمًا كل حاجة بتيجي من بابها تبقى صح... مش كل عرض لازم أقبله عشان شكله حلو من برة."
نيفين، وهي تنهض بتصميم:
"مش هضغط عليكي، بس عايزاكي تفكري... وبلاش تاخدي قرار لوحدك. مهاب لازم يعرف، ولازم يبقى معانا. الموضوع كبير... ومينفعش يتفوت."
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
في تلك الليلة، لم تنم ليلى. كانت تتقلب في سريرها، تتصارع مع أفكارها كأنها تتقاذفها أمواج لا تهدأ. يدها تحت الوسادة، وعيناها تحدّقان في السقف كأنها تبحث فيه عن إجابةٍ غائبة. الحديث الذي دار بينها وبين والدتها عن رائد كان أشبه بجرحٍ مفتوح، لا يتوقف عن النزف.
لماذا اختارها؟
هل هذا الارتباط سيفتح لها بابًا جديدًا نحو السعادة، أم سيزيد من عبء الحياة عليها؟
ولماذا، رغم كل شيء، تشعر أن في اهتمامه المفاجئ بها شيئًا غريبًا، كأن وراءه سرًا، أو صفقة لم تُعلن بعد؟
أما رائد، فكان جالسًا في مكتبه الفخم، في مواجهة صورةٍ لنيرفانا، تبتسم في أحد أيامها السعيدة. عيناه كانت تغوص في ملامحها، لكن ذهنه تائه. كانت روحه ثقيلة، وعقله كأنما يُحاصر نفسه بنفسه. مدّ يده إلى الهاتف، وكاد أن يتصل بشامل، لكنه تردد، ثم ألقى بالهاتف جانبًا وتنهد بعمق، كأنما يحاول إخراج شيء يعجز عن التعبير عنه.
كانت تلك الليلة أشبه بفصلٍ عاصفٍ من حياة الجميع، يكتنفه غموضٌ لا يعلم أحد كيف سينقشع، أو متى ينقضي.
في قلب رائد الذهبي، اشتعلت شعلة جديدة من نار القدر، لكنّها لم تكن كعادتها، تلك التي يُشعلها العشق أو الجموح.
لا، هذه المرة وقودها حاجةٌ خبيثة، دُفنت تحت رمادٍ من الكبرياء والمكر، حاجةٌ تُخفي وجهها الحقيقي خلف قناع القوة والهيبة.
عقله، الذي طالما تباهى بفطنته، ضاق أفقه، وصار مشوّشًا بين ظلال عناده وتصلّب إرادته. لطالما أغلق الأبواب في وجه ليلى، وها هو القدر يدفعه اليوم ليطرق بابها هو.
لا حبًّا ولا شوقًا... بل كوسيلة.
وسيلة لتحقيق مأربٍ لم يبوح به، ولن.
لم يكن طلبه يدها سوى خطوةٍ مدروسة، خطّط لها بعناية، وسلك فيها طريق الخداع، ليُحكم قبضته عليها دون أن يمنحها فرصةً للهروب أو حتى الرفض. ذهب يطلبها دون علمها، أراد أن يضعها أمام الأمر الواقع، يجرّها جَرًّا إلى دائرةٍ لا مخرج منها، حيث لا تنفع الكلمات، ولا يجدي الاعتراض.
لم يكن طلبه استغاثةً من ضياع، بل فخًا محكمًا، محمّلًا بثقل المسؤولية. مسؤولية اسمٍ ترفض أن يُلصق بها... اسمٌ كجدارٍ بارد، لا حياة فيه ولا دفء.
ورغم ما تملكه ليلى من قوة شخصية، إلا أن فكرة العيش معه كانت كالكابوس؛ حياة بلا أمان، كالسير على حافة هاوية، تبتلع من يتعثر فيها.
رائد خطّط، قرّر، ونفّذ. يقودها نحو مصيرٍ تكرهه، إلى ظلال طريقٍ مظلم، لا تدري أين نهايته.
خطواته تُشبه وقع أقدام الشياطين على ترابٍ محترق.
كأنّ الحياة ألقتها عند شجرةٍ وحيدة، بجوار جدولٍ خادع... مياهه ساكنة، لكنها تُخفي تحت سطحها تياراتٍ غادرة.
مع رائد، لا مأمن.
صلابة ردودها بدأت تتآكل، وحدّة كلماتها فقدت بريقها.
شعرت بجسدها خفيفًا، كأن الأرض لفظتها من حضنها، وألقتها في فراغٍ لا قرار له.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
في صمت الليل
جلس مهاب وليلى على الأرض، الظرف القديم بين إيديهم، مهاب كان صامت، وليلى قلبها بيرجف كأنها شايفة مصيرها جاي من بعيد.
فتحه مهاب، وسحب الورقة ببطء، واللي مكتوب فيها كان كفيل يخلّي قلبهم يقع.
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
> "أولادي...
ماعرفش لو هتشوفوا الورقة دي امتى، ولا إزاي. بس لو وصلِت ليكم، يبقى جالي يوم الحساب... وآن الأوان تعرفوا كل حاجة.
أنا طول عمري كنت بسعى للمال، والفلوس عمت عيني. شُفت الفرص ونسيت الرحمة.
كنت شريك لواحد اسمه صالح... الشراكة دي كانت بوابة الجحيم. إحنا اللي هدّينا بيوت، وسحبنا السُتُر من فوق روس ناس كانت عايشة بالأمل.
كنت بوقّع على سندات، وأجمّع على الناس ديون، من غير رحمة، من غير تفكير.
أمكم سألتني يوم... قالت لي: إنت بتؤذي مين؟
معرفتش أرد. ماكنتش قادرة تعرف إن الناس اللي بأذيهم مش بعيدين...
أنا ما قلتش اسم صالح ليها، زي ما مش هقول لقُصادكم لقبه، لأنه ليه نسل... نسل ممكن يقلب حياتكم فوق تحت لو عرف الحقيقة.
أنا عملت ذنوب كتير... وسايب لكم كل الأوراق، يمكن تفهموا، ويمكن تسامحوني، ويمكن تكرهوني... بس اللي حصل كان لازم يخلص.
سامحوني... لو عرفتم تسامحوا."
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
مهاب قلب الورقة، ولقى معاه سندات ديون قديمة، عليها توقيع نديم، واسم "صالح"، لكن اللقب ممسوح من الزمن.
وبعدين، سقطت من الظرف صورة باهتة... نديم واقف جنب راجل كبير، الاتنين بيبتسموا وهما بيوقّعوا على ورقة.
ليلى مسكت الصورة، عينيها اتسعت، وقربت الصورة من وشها.
الشبه... الصدمة... الصمت.
قالت بنبرة مرتجفة، فيها ذهول وكره دفين: "الشياطين شبه بعض... ده شبه رائد... نفس العيون، نفس البرد."
مهاب أخد الصورة منها، قراها بعينيه، وقال: "يعني صالح... ليه نسل؟ يقصد مين؟"
ليلى بصّت بعيد، كأنها بتقلب الليالي اللي فاتت: "النسل ده... مش معروف، بس اكيد معروف نواياه."
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
في الصباح الباكر، كانت رائحة القهوة تختلط بتوترٍ صامتٍ يملأ المطبخ.
نيفين واقفة أمام الموقد، تقلب في إناء صغير، لكن عيناها لا تفارقان ليلى، التي جلست على الطاولة، شاردة.
قالت نيفين بهدوء، كأنها تقيس كلماتها بعناية:
"بصي يا ليلى... ساعات الواحد مايبقاش عنده رفاهية الاختيار."
رفعت ليلى عينيها نحوها ببطء، نبرة الحذر في صوت أمها زادت قلقها، لكنها لم تتكلم.
تابعت نيفين، وهي ترفع الإناء من على النار:
"رائد راجل تقيل، ولو بيفكر يرتبط بيكي، فده معناه إن عندنا فرصة... فرصة ننجو، نفلت من اللى جاي."
ضربت ليلى الطاولة بقبضتها فجأة، وعيناها تتسعان بغضب:
"نجو من إيه؟! انتي شايفاني صفقة؟! الجوازة دي مش هتحصل، مش هتحصل!"
وقفت بعنف، الكرسي يصدر صريرًا حادًا، واندفعت نحو غرفتها، لكنها عادت بعد لحظات، وجهها محمر، وصوتها مرتجف:
"أنا رايحة دلوقتي، وهقول له بنفسي إنه ينسي الموضوع."
نيفين لم تتحرك، وقفت في منتصف المطبخ، الملعقة في يدها، والبخار يعلو، لكنها لم تعد ترى شيئًا.
كل ما بداخلها كان خوفًا أعمى من ظلال تهددهم، وظنت أن رائد قد يكون الحصن.
لكن ليلى خرجت وصفقت الباب خلفها، وكأنها صفعت معها الخوف كله.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
وصلت إلى البناية، حيث تصطفّ السيارات الفارهة في انتظامٍ يشبه الصفوف العسكرية، تحت واجهة زجاجية تتلألأ كالمرآة المضللة في ضوء المساء الخافت. السكون يخيّم على المكان إلا من وقع أقدامها، وكأن الأرض تنتبه لها وحدها. رجال الأمن يقفون كالأعمدة، وجوههم جامدة، عيونهم ترصد كل شاردة، وأفواههم موصدة إلا من أمرٍ أو رفضٍ قاطع. ليلي تترجّل من سيارتها، تتلفّت كمن يتهيّب شيئًا لم تجرؤ حتى على تسميته، لكن عينيها كانتا مرآة غضبٍ لا يكتمه المدى.
رغم الارتجاف الكامن في أطرافها، سارت بخطى ثابتة كمن يُلقي بنفسه في قلب العاصفة دون رجفة، وقد نذرت نفسها ألا تعود كما جاءت.
الحارس (بصوت جاف كالحصى، نبرته لا تلين):
على فين يا آنسة؟
ليلي (نظرتها حادّة كالسيف):
رايحة لرائد الذهبي... ابعد عن طريقي.
(لمعت عينا الحارس ببصيص ساخر، ثم ارتسم على فمه شبح ابتسامة كمن يشهد نهاية يعلمها مسبقًا.)
الحارس:
رائد باشا مستنيك... اتفضلي.
(شعور غائر بالخذلان والخطر كاد يجمّد الدم في عروقها، كأن الأرض تنكمش تحتها، لكن عنادًا دفينًا أعانها على ابتلاع ذلك الإحساس. ومضت، تمشي وكأن تحت قدميها شريطٌ من الجمر لا مهرب منه، يشتعل عند كل خطوة.)
صعدت إلى الطابق المطلوب، والفضاء حولها كأنما يضيق رويدًا رويدًا، جدران صامتة، هواء ثقيل، وصوت قلبها يتردد في الممرات الخاوية. حين وقفت أمام باب شقته، شعرت أن هذه اللحظة ليست لحظة عادية، بل فاصلة... ما قبلها لن يكون كما بعدها.
الباب فخم، تفصيلاته متقنة، لكنه بدا لها كأنياب مغلقة على فريسة لا تعرف إن كانت هي أم هو.
طرقت الباب بعنف، كأنها تُفرغ فيه جزءًا من الحريق الذي يشتعل بداخلها.
صوت رائد (من الداخل، عميق بارد كأنه آتٍ من كهف):
اتفضلي... الباب مفتوح.
دفعته بحدة، واقتحمت الداخل، كأنها تقتحم قفصًا تعلم أنه مُحكم الإغلاق. خطواتها متوترة، لكن كل عضلة فيها مشدودة، عيناها تمسح الغرفة بلا ارتباك. الفخامة طاغية لكنها لا تخدعها؛ الجدران الخشبية الداكنة تبتلع النور كما يبتلع البحر الغريق، والكتب المتناثرة في الأركان ليست إلا ستارًا لرجلٍ يتقن ارتداء الأقنعة.
لكن العطر... العطر وحده هو الحقيقة. نفاذ، كثيف، ذكوري، وفيه شيءٌ مستفز، كأنه حضورٌ محسوس.
كان يقف عند النافذة، ظهره نحوها، يُشعل سيجارته بهدوء مَن اعتاد أن يتحكم حتى في حركة الهواء. وحين استدار أخيرًا، قابلها بعينين تلمعان ببرودٍ وسكون، كمن يُبارك صيدًا وقع في يده.
رائد (ابتسامة بالكاد تظهر، صوته ناعم كوشاحٍ مُبللٍ بالسم):
كنت عارف إنك هتيجي.
(تقدّمت نحوه بخطوات غاضبة، الوقوف أمامه كان كالسير على حافة هاوية. عيناها لم تُزِح عنهما، فيهما تحدٍ لا يلين.)
ليلي (نبرتها قاطعة كالسيف):
جاية أقولك كلمة واحدة... الجوازة دي مش هتحصل.
(نفث دخان سيجارته ببطءٍ محسوب، كمن يتلذذ بالتحكم في إيقاع اللحظة. لم تتغير ملامحه، عيناه ثابتتان، تخترقان صلابتها بثقةٍ وقحة.)
رائد (بصوت رخيم، ينضح يقينًا):
الجوازة دي حصلت خلاص... ناقص بس توقيعك.
(ضحكت، لكنها كانت ضحكة قصيرة، باردة، تحمل مزيجًا من الذهول والاشمئزاز.)
ليلي:
توقيعي؟! إنت فعلاً خيالك واسع! (تتقدم نحوه خطوة، عيناها ترميه بشرر) ده حتى أوهامك عايشة برا الواقع!
رائد (ابتسامة خفيفة لم تفارق شفتيه، صوته كأنه يُلقي حكمًا لا جدال فيه):
قريب... رسميًا هتكوني على اسمي.
ليلي (تضحك، ضحكة مجروحة، ثم ينقلب صوتها للحدة):
رسميًا؟! ده مش طموح... دي وقاحة. وأنا جاية أقولك آخر مرة... انساني.
(صمته كان أكثر استفزازًا من الكلمات. راح يتأملها بنظرة طويلة، نظرة تُفكك الكيان وتعيد تركيبه كما يشاء، وكأنها تحفة يُجيد التعامل معها.)
رائد (بهدوء قاتل، صوته أشبه بريحٍ باردة تمر فوق جمر):
جميل... بحب الوضوح. بس مشكلتي بسيطة... أنا مش بعرف أنسى. خصوصًا لما الحاجة قدامي... تستحق إني أفتكرها كل يوم.
(تقترب حتى تُصبح على مسافة أنفاس، عيناها تحدّق فيه، لا ضعف، لا انكسار... فقط تحدٍ نقي.)
ليلي (بنبرة قاسية، تهين وتحتقر):
إنت فاكر نفسك مين؟ رجل أعمال؟ سياسي؟ راجل مهم؟ في الآخر... إنت لا تملك إلا الفراغ... بتحاول تشتري اللي عمرك ما هتقدر تمتلكه.
(يبتسم رائد، اقترابه منها صار محسوبًا بدقة، المسافة بينهما تُشعل الهواء. صوته أصبح أخفض، كأنما يُهمس بما لا يُقال.)
رائد:
وأنا مش بشتري... أنا باخد. (يميل نحوها قليلًا، صوته أبطأ) وباخد كويس. لو كنتِ مكانك... كنت فكرتي قبل ما تتكلمي.
(صمتٌ ثقيل ساد، تراجعَت خطوة، كأنها تبحث عن مَنفذ... لكن عينيها لا تزالان تحملان ذات البريق المتحدي. رفعت ذقنها بفخرٍ لا يُقهر،
****************************
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
توقّف الزمن لوهلة، كأن الهواء ذاته أصبح أثقل من أن يُستنشَق. شعرت بشيءٍ خفيٍّ يقيّد قدمها، لا يُرى ولا يُلمَس، لكنها تحسّه... قبضته كأنها امتدّت من ظله، من صوته، من حضوره الذي يملأ المكان كأسرٍ محكم.
رائد (بصوتٍ خافت، لكن كلماته كالرصاص):
أهو ده اللي عندك؟ تجي تهددي... وتروحي؟!
(كلماته لم تكن سؤالًا... بل صفعة، لا تُرى، لكنها طعنت كرامتها في مقتل.)
توقفت، كأن الأرض تحتها تشققت، واستدارت ببطء... عيناها الآن لم تعودا تحملان الغضب فقط، بل الذهول... الاشمئزاز... الشك في كل شيء.
ليلي (بنبرة مشبعة بالقرف):
أنا مش جاية أهدد... أنا جاية أنهيك.
(سادت لحظة صمت قاتل. تبادل فيها جسدان التحديق، لكن الأرواح كانت تتقاتل بصمتٍ خلف تلك النظرات. هو لم يتحرّك، فقط نفث دخان سيجارته، ثم أطفأها بحركة بطيئة على حافة الكرسي كأنها رأس ثعبان سحقه بإصبعه.)
رائد (اقترب بخطوتين، صوته منخفض لكن فيه صفير خطر):
اللي جاي ينهيني... ما بيبقاش لابس فستان وبيرتعش.
(حدّقت فيه، كأنها تُحاول أن تستوعب إلى أي مدى يُمكن للوقاحة أن تتجسّد في هيئة رجل.)
ليلي (اقتربت خطوة عنيفة، وجهها اقترب من وجهه، صوتهما صار مختلطًا بالأنفاس):
أنا مش خايفة... ولا عمري هرتعش قدامك... ولا قدام أي شيء شبهك!
(ابتسم، لكنها كانت ابتسامة مميتة، خالية من الحياة، وكأنها قناع على وجهٍ شيطاني.)
رائد (همس):
إنتي مش فاهمة حاجة...
أنا... مش بتتهدد...
أنا اللي بكتب النهاية... مش حد غيري.
(تراجعت ليلي لحظة، ليس خوفًا، بل كأنها تشم رائحة الفخ، ذلك الفخ الذي لا يُرى لكن يُحسّ... ضربات قلبها تتسارع، عيناها تحاول أن تقرأ بين الكلمات، خلف النبرة، في زوايا المكان.)
ليلي (باحتقار، ببطء):
أنا اللي بختار نهايتي... مش إنت.
(صمتٌ. السكون صار خانقًا. لا صوت سوى دقات قلبها وهي تطرق جدران صدرها... ثم نظرت إليه نظرة واحدة أخيرة، نظرة كراهية حارقة،
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
همّت بالخروج... يدها امتدت نحو الباب، قبضت على المقبض بقوةٍ لم تشعر بها، كأنها تمسك قطعة من الجليد الحارق،
جمدت أناملها عليه، وداخلها صراع بين ما يجب أن تفعله، وما تُريد أن تفعله.
أنفاسها تصعد وتعلو، صدرها يعلو بانفعالٍ مكبوت، لا يُرى منه شيء سوى تشنج خفيف في ملامحها.
وحين أدارت المقبض، شعرت كأنها تُدير العالم كله... كأن هذا الباب ليس بابًا، بل حدًّا فاصلًا بين ما كان... وما لن يكون.
وفجأة، جاء صوته... صارخًا، هادئًا، في آنٍ واحد، كصفعةٍ باردة تُسقط الحواس دفعةً واحدة:
رائد (بصوتٍ أجوف، يحمل في طياته سُخرية الهادم):
ما تفتحيش الباب... وإنتي مش عارفة إيه اللي وراك.
تجمّدت يدها على المقبض، كما لو أن الزمن نفسه قد توقّف، وجمد معها.
اللحظة أصبحت أثقل من الجدران، صمت كثيف التفّ حولها كضبابٍ رمادي، كأن الباب بات هو العالم كله، وكل ما خلفه غيبٌ مجهول، لا يُكشف إلا بثمن.
عيناها لم تنظرا إلى الباب، بل هربتا إلى ما وراءها، حيث يقف...
هو، كما لو أنه يمسك بخيوط اللحظة، يُحركها بإرادته، كأنّه سيّدها.
لم تلتفت، لكنها شعرت به، لم يكن بحاجة إلى كلمات أخرى...
صوته لم يكن مجرد صوت... بل كان يدًا خفية، قبضت على روحها، وسحبتها للخلف، دون أن تمس جلدها، وكأنها ارتدت خطوتها، دون أن تخطو.
وها هو يتقدم... خطواته لم تُسمع، لكن الأرض تحتها خذلت صلابتها، كأنها تشعر بذبذبات قدومه، كأن الغرفة تضيق، كأن المسافات لا تُقاس بالخطوات... بل بالنبض.
أنفاسه خلفها، لم تكن أنفاسًا عادية، بل كأنها ريحٌ دافئة تُلهب الهواء من حولها، وصدى صمته يملأ الفراغ، يجعل كل شيء... مضاعفًا.
هي واقفة، ساكنة، يدها على الباب، وقلبها... مُعلّق، لا ينبض خوفًا، بل شيئًا آخر... شيئًا لا اسم له.
هل هو تردّد؟ كبرياء؟ أم هو جرح قديم... يعاود النزيف؟ لا تدري.
لكنها تشعر به... يقترب. وكلما اقترب، انكمشت اللحظة، وأصبح القرار... عارٍ تمامًا أمامها.
رائد (نبرة ناعمة، تحمل في طياتها سمًّا لا يُرى):
أنا بقول كده... عشان إنتي مش قد اللي برا.
برا الباب ده... انسي نفسك.
برا الباب ده... مفيش أمان.
تلك الكلمات... لم تكن تهديدًا. كانت واقعًا يُلقى أمامها كحجرٍ في بحرٍ ساكن، يُحدث دوامات لا تُرى، لكنها تُغرق.
عقلها امتلأ بها... وكل جزء فيها ارتجف بتلك الحقيقة.
أكان يخيفها؟ أم يحذّرها؟ أم يختبر قوتها؟ هي لا تدري... لكنها لم تهرب.
ظلّت واقفة... صامدة، لا تتحرك، كأنها تنظر إلى هوةٍ عميقة لا قاع لها.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
(تجمّدت يدها على المقبض. كأن صوته نزَل على ظهرها بسوطٍ مُبللٍ بالثلج... شعور غريب تسلل لعقلها؛ ليلي لا تخاف، لكنها الآن تشعر أن شيئًا ما خارج المنطق، خارج قدرتها على التفسير، يدفعها لأن لا تفتح الباب.)
التفتت ببطء، كأنها تخشى أن تنظر، أن ترى... أن تكتشف.
رائد كان واقفًا مكانه... لم يقترب، لم يتحرك، فقط... ينظر.
لكن تلك النظرة لم تكن مثل أي مرة. نظرة رجل يعرف شيئًا، يخفي شيئًا، يملك خيوطًا... خيوطًا مربوطة برقبتها، وهي لا تعلم.
ليلي (بحدة، محاولة كسر الخوف الذي بدأ ينهشها):
إيه اللي ورايا يا رائد؟! ها؟ إنت بتلعب لعبة نفسية؟ أنا مش طفلة.
(ابتسم، لكن ابتسامته هذه المرة... باردة، باردة لدرجة تجعل الدم يتوقف.)
رائد (بهدوء غريب، كمن يتحدث عن الطقس):
لو خرجتي دلوقتي...
هيتغير كل شيء.
كل شيء.
(ضربات قلبها تصم أذنيها... أرادت أن تصرخ فيه، أن تصفعه، أن تكسر تلك الثقة التي يغلف بها نفسه. لكنها شعرت أن كلامه مش مجرد تهديد. لا... فيه حاجة تانية. حاجة هو عارفها، وهي لا.
اقتربت منه، عيناها تلمع كأنها تُمسك بخيط الحقيقة... خطواتها عنيفة، لكن قلبها يرتجف في صدرها كطائر حُشر في قفص ضيق.)
ليلي (بنبرة منخفضة، باردة):
إنت بتخوفني بشَبه الكلام...
بس أنا عارفة إنك فاضي...
وأكبر دليل إني هنا...
واقفة قصادك...
ولا زلت حرة.
(رائد لم يرد. اقترب خطوة، ثم أخرى... حتى صار قريبًا جدًا، رائحته تُخيم على المكان، على حواسها، على عقلها.)
رائد (بهمس كأن صوته يُقال داخل عقلها):
وإنتي تفتكري الحرية دي... جتلك ازاي؟
مفيش حاجة بتيجي من غير تمن، ليلي.
وإنتي...
لسه ما دفعتِش.
(شهقت بخفة... تلك الكلمات، ذلك الهدوء، ذلك التلويح بشيء مجهول... كلّه طعن كبرياءها. شعرت بشيء يهتز داخلها، كأن الأرض تحتها ليست ثابتة.)
ليلي (بصوتٍ يرتجف، غضبًا، قهرًا):
أنا مش لعبة...
مش ورقة في إيدك...
ولو كنت فاكر إنك بتخوفني... فإنت غبي.
(ابتسم، ثم رفع إصبعه، وأشار إلى الباب... لا ليأمرها بالخروج، بل كأنه يقول: افتحي... وشوفي بنفسك.)
نظرت إليه لحظة طويلة... ثم إلى الباب... ثم عادت عيناها إليه. حدسها يصيح... لا تفتحي.
لكنها...
مدّت يدها للمقبض.
(وفي اللحظة التي لامست فيها يدها الباردة المقابض المعدنية...
رائد (بهدوء قاتل):
الرد بتاعك...
هيغيّر كل حاجة.
(تتراجع ليلي بخطوة سريعة، صدرها يعلو ويهبط من فرط الغضب والاشمئزاز. تمسح يدها في ثوبها كأنها تطرد أثره عنها، ثم تستدير بعنف، تتوجه نحو الباب بخطى تكاد تُسمع كوقع الطبول.)
ليلي (بصوت مشحون):
كفاية...
أنا خلصت كلام.
(لكن قبل أن تلامس يدها مقبض الباب، يأتي صوته… هادئ، لكن يحمل نبرة مختلفة، نبرة تشبه الأوامر التي لا تُرد.)
رائد (بصوت منخفض، نبرته حادة):
استني.
(تتجمد في مكانها، لا تلتفت، كأنها تحارب جسدها كي لا يستجيب لتلك الكلمة.)
رائد (نفس النبرة):
مش كده، ليلي.
إنتي مش هتمشي ورا ضهرك النار دي كلها.
(تستدير ببطء، عيناها كالسيوف، نظراتها تشق صدره، لكنها رغم الغضب، بتلمع… تلمع بحاجة أعمق.)
ليلي (بصوت هادي لكنه زي الرصاص):
كل كلمة قلتها مش هتتنسى.
وكل نظرة منك... مش هتعدي.
(تتقدم نحوه بخطوتين، تقف أمامه كأنها بتختبره، أو بتتحدى نفسها.)
ليلي (تحدق فيه، عينها لا ترمش):
كنت عايزني أفتكرك كل يوم؟
تمام...
هفتكرك، بس مش زي ما إنت فاكر.
هفتكرك ك... الشخص الوحيد اللي ما قدرش ياخد مني إلا اللي أنا سمحت بيه.
(نظراته لا تتحرك، لكن عينه تلمع بوميض غامض، مزيج من التحدي والإعجاب… الخطر.)
رائد (نبرة ساخرة ببطء):
ده كلام حلو…
بس أنا متعود آخد الإذن من عيون اللي قدامي، مش من لسانهم.
وانتي...
عينك قالت كتير.