رواية نفحات مضيئة الفصل العاشر بقلم مريم عثمان
في زمنٍ تتسارع فيه الخطى، وتتبدل فيه الأزمان، يبحث الإنسان عن وفرةٍ في الرزق، وامتدادٍ في الخير، لكنه يغفل عن كنزٍ عظيمٍ جعله الله سرًّا من أسرار الحياة، قوةً لا تُرى، لكنها تُشعر، نفعًا لا يُحصى، لكنه يُلمس، إنها البركة، ذاك السرُّ العظيم الذي إذا حلَّ في القليل كثَّره، وإذا سكن في الجسد قوَّاه، وإذا مسَّ العمر أطاله، وإذا حلَّ في القلب أضاءه طمأنينةً ورضى.
البركة ليست مجرد كثرة، فكم من أموالٍ جمعت ثم بدَّدها الفقر، وكم من أعمارٍ امتدت لكن دون أثر، وكم من بيوتٍ بنيت ولم يعمَّرها السكون. البركة معنىً إلهيٌّ سامٍ، إذا نزل على الشيء صيره عظيمًا، وإن غاب عنه لم تُجدِ الكثرة نفعًا.
إذا تأملنا في كتاب الله، وجدنا أن البركة ليست مجرد أمنية يتمناها العبد، بل هي رحمةٌ من الله يمنحها لمن يشاء من عباده، وربطها بأسبابٍ ظاهرةٍ يدركها من تدبر في آياته. ففي قوله تعالى:
"ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون" (الأعراف: 96).
هنا يظهر السر الأول للبركة، إنها ليست محض صدفةٍ أو حظٍ عشوائي، بل هي ثمرةٌ للإيمان والتقوى، فحيثما وُجد الإيمان الراسخ والتقوى الصادقة، أُفيضت البركات من حيث لا يُحتسب، وانفتحت أبواب الخير التي لا تغلق.
أما في قصة نبي الله عيسى عليه السلام، فقد وردت البركة مقرونةً بوجوده، فقال:
"وجعلني مباركًا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا" (مريم: 31).
وهنا يُفصح القرآن عن طبيعة البركة في الإنسان نفسه، فإذا كان الإنسان صالحًا، مصلحًا، تقيًّا، فإن البركة تحلُّ في أفعاله، في أقواله، في حياته ومماته، ويكون موضع النفع أينما حلَّ وارتحل.
ولم يكن حديث البركة في القرآن الكريم وحده، بل أكده النبي ﷺ، الذي كان مثالًا حيًّا لرجلٍ باركه الله في عمره، في رزقه، في أمته، وفي ذكره الذي لم ينقطع منذ فجر الإسلام.
يقول النبي ﷺ:"البركة مع أكابركم" (رواه ابن حبان).
وفي هذا إشارةٌ إلى أن البركة ليست محصورةً في المال والطعام، بل في العلم والحكمة، في التجارب والخبرات، في البركة التي يحملها وجود الصالحين بيننا، فحيثما وجد الكبير الحكيم الصالح، وجدت البركة تتدفق كنهرٍ فياضٍ لا ينضب.
كما قال ﷺ:"من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه" (رواه البخاري ومسلم).
وهنا يُبيّن النبي أن البركة في العمر والرزق ليست أرقامًا تُزاد، بل هي كيفيات تُمنح، فقد يكون عمر الإنسان قصيرًا بالعدد، لكنه ممتدٌ بالأثر، وقد يكون الرزق محدودًا بالكم، لكنه واسعٌ بالمنفعة.
البركة مفهومٌ لا تحده الأرقام، فهي في الرزق الذي يكفي ولو كان قليلًا، في الصحة التي تعين ولو كان الجسد ضعيفًا، في الوقت الذي يثمر ولو كان ضيقًا، في العلم الذي يُنير ولو كان يسيرًا، في البيت الذي يعمُر بالمودة ولو كان متواضعًا.
البركة في الرزق ليست في كثرته، بل في بركة الحلال فيه.
البركة في العلم ليست في كثرة الكتب، بل في نور الفهم والتطبيق.
البركة في الوقت ليست في طوله، بل في استغلاله.
البركة في الذرية ليست في عددهم، بل في صلاحهم.
وهكذا تتجلى البركة في كل شيءٍ لمسته رحمة الله، فتُغيّر القليل إلى كثير، والمحدود إلى غير محدود، وتجعل للحياة طعمًا آخر، طعمًا يمتلئ بالرضا، بالسكينة، باليقين أن الله إذا أراد الخير لعبده، بارك له في كل شيءٍ حتى في الابتلاءات، فتصبح المصيبة نعمة، ويغدو الألم عطاءً، وتتحول المحن إلى منح.
فيا أيها الساعي في دروب الحياة، لا تبحث عن الكثرة وحدها، بل ابحث عن البركة، فإنك إن وجدتها وجدت الخير كلَّه، وإن غابت عنك، غاب عنك السر الذي لا تعوضه الأموال، ولا يعوضه الجاه، ولا تعوضه الألقاب.
فاسأل الله البركة في عمرك، في رزقك، في أهلك، في وقتك، في قلبك، في علمك، في كل ما أوتيت، فإنها هبةٌ لا يمنحها إلا الكريم، وكن على يقين أن العطاء لا يقاس بالمقدار، بل ببركة المنعم، فإن بارك الله في شيءٍ، أغناك عن كل شيء.
حين نتأمل في آيات الذكر الحكيم، نجد أن "البركة" ليست مجرد مفهومٍ عابرٍ أو دعاءٍ يتلوه العبد في صلواته، بل هي قانونٌ إلهي، سرٌّ مغروسٌ في كيان الحياة، وضعه الله في أشياء معينة، وربط وجوده بصفاتٍ وسلوكياتٍ محددة. إنها النور الخفي الذي يجعل القليل كثيرًا، ويمنح للوقت معناه، وللرزق امتداده، وللحياة قيمتها الحقيقية.
فالقرآن الكريم يذكر البركة بصورٍ متعددة، ويجعلها مفتاحًا للحياة الطيبة، ودليلًا على العطاء الرباني الذي لا حدود له.
أحد أبرز المواطن التي يتحدث فيها القرآن عن البركة هو الرزق، إذ لا تقاس الغنى والفقر بكثرة المال، بل بحلول البركة فيه. يقول الله تعالى:
"وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (الأعراف: 96).
هذه الآية تحمل سرًّا عظيمًا، فالبركة ليست شيئًا يُنال بالحيلة أو السعي المفرط، بل هي فيضٌ إلهيٌّ يتنزل عندما يتلبس العبد بالإيمان والتقوى. حين يكون القلب عامرًا باليقين، واليد نقيةً من الحرام، واللسان صادقًا، والعقل متزنًا، فإن البركة تسري في الرزق، فتمده، وتزيده، وتجعله كافيًا رغم قلته، بل ممتدًا إلى ما بعد الحياة، فيبقى أثره حتى بعد الموت.
ولنتأمل كيف يربط الله بين التقوى والبركة، فليس كل غنيٍّ مبارك، وليس كل فقيرٍ فاقدٌ لها، بل إن البركة تجعل الفقير غنيا، والغني غنيًا بأكثر مما يملك.
من أظهر تجليات البركة في القرآن الكريم ما حدث مع بني إسرائيل عندما أنزل الله عليهم "المن والسلوى"، رزقًا مباركًا جاءهم دون عناء، لكنه كان مشروطًا بالرضا عن العطاء الإلهي. وحين رفضوا هذا الرزق السماوي وطمعوا فيما هو أدنى، سُلبت عنهم البركة، قال تعالى:
"وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلْأَرْضُ مِنۢ بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۚ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِى هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِى هُوَ خَيْرٌ" (البقرة: 61).
هنا تتجلى حقيقة أن البركة ليست في تنوع الطعام وكثرته، بل في القناعة والرضا بما قسم الله، فمتى رضيت النفس، حلَّت البركة، ولو كان الطعام قليلًا، أما إذا حل الطمع والجحود، نزعت البركة، ولو كان الطعام وفيرًا.
وهذا ما نجده في قصة مريم العذراء عليها السلام، حين أنعم الله عليها برزقٍ خاص، طعامٍ يأتيها من غير تعبٍ أو جهد، فسألها زكريا عليه السلام مستغربًا:
"كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًۭا ۖ قَالَ يَـٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (آل عمران: 37).
إنها البركة التي تأتي لمن اصطفاهم الله، البركة التي تجعل القليل كافيًا، وتجعل الرزق يأتي دون عناء، لأن القلوب التي امتلأت بالتقوى، امتلأت بالبركة.
حين نتحدث عن البركة، يظن البعض أنها مقترنةٌ بالمال فقط، لكن أعظم صور البركة ما يكون في العمر والوقت. فمن الناس من يعيش سنواتٍ قليلة، لكن أثره يمتد إلى ما بعد وفاته، ومنهم من يعمَّر طويلًا، لكنه لا يترك بصمةً تذكر.
يقول الله تعالى عن نبيه نوحٍ عليه السلام: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًۭا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًۭا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـٰلِمُونَ" (العنكبوت: 14).
ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا، لكنه لم يعمّر في الأرض فحسب، بل عمَّر في القلوب والعقول، فبركة عمله امتدت لتكون نموذجًا خالدًا في الصبر والدعوة إلى الله.
وكذلك نجد البركة في الزمن في قصة أهل الكهف، إذ ناموا ثلاثمائةٍ وتسع سنوات، لكن الله جعلهم آيةً للعالمين، وأبقى قصتهم خالدةً عبر العصور، فقال:
"وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ ثَلَـٰثَ مِا۟ئَةٍۢ سِنِينَ وَٱزْدَادُوا تِسْعًۭا" (الكهف: 25).
فكم من إنسانٍ عاش طويلًا ولم يُذكر، وكم من إنسانٍ عاش قليلًا لكنه بقي خالدًا في الذاكرة والتاريخ، وهذا هو الفارق بين عمرٍ باركه الله، وعمرٍ خلا من البركة.
ليس كل من أنجب ولدًا قد بورك له فيه، فكم من أبٍ ترك ذريةً ضالة، وكم من والدٍ لم يُنجب، لكنه ترك علمًا أو عملًا صالحًا كان له ذريةً ممتدة.
يقول الله تعالى عن البركة في الذرية: "وَبَٰرَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰٓ إِسْحَـٰقَ ۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌۭ وَظَالِمٌۭ لِّنَفْسِهِۦ مُبِينٌ" (الصافات: 113).
فالبركة لا تعني كثرة الأولاد، بل صلاحهم، أن يكون الابن صالحًا، عابدًا، نافعًا، فيكون امتدادًا لأبيه وأمه في الخير حتى بعد رحيلهما.
البركة ليست شيئًا ماديًا تُمسكه اليد، لكنها سرٌّ إلهي، متى حلَّ بشيءٍ نمّاه، ومتى غاب عن شيءٍ محقه. هي ليست في الكثرة، بل في الامتداد، ليست في الأرقام، بل في الأثر، ليست في الكم، بل في النفع.
فاسأل الله البركة في رزقك، في عمرك، في وقتك، في ذريتك، في صحتك، فإنها العطية التي إن حصلت عليها، وجدت الخير كله، وإن فُقدت، ذهب كل شيءٍ بلا معنى.