رواية ملكة علي عرش الشيطان ( هزم الشيطان ) الجزء التانى الفصل الرابع عشر بقلم إسراء على
إعصار يُهدد بـ طوفان ولا مُنقذ سوى يقينك أنني سأكون نهاية مطافكِ، أنكِ الضوء بعد عتمة طريق طويل، أننا المؤنس بعد وحشة الوحدة...
ما كان يفصل الجنون عن التعقل شعرةً قطعتها رحمة و مزقها تفوه أرسلان، و ما بين المجنونين هذين وقفت سديم مصعوقة و كأن تم الإستحواذ على جسدها و عقلها فلم يعودا ملكها فقط نبضاتها التيٍلا تستطيع التحكم بها هي فقط من تُخبرها أنها لا تزال واقفة و تُشاهد ما يحدث
أم عن قُصي كان الأسرع في الثبات و التعقل و القُدرة على تدارك الموقف مهما كانت خطورته فـ مهنته تُحتمه أن يكون سريع البديهة و خفيف التحرك، لذلك تقدم قُصي من رحمة بـ تمهل ثم هتف بـ حذر و عينيه مُعلقتين بـ السكين الذي يهتز بين يدها
-رحمة سيبي السكينة دي و خلينا نتكلم، إهدي و حاولي تركزي معايا...
لم تكن رحمة تسمعه من الأساس و عينيها ترمق أرسلان بـ كُلِ الكُره و الحقد الموجودين بـ العالم أجمع، كأن الشيطان سيطر سيطرة تامة على عقلها و جسدها فـ أصبح هو المُتحكم الوحيد بها
إقترب قُصي أكثر حينها تنبهت حواس رحمة فـ رفعت عينيها على حين غُرة إلى زوجها الذي تجمد مكانه مُتفاجئًا ثم وجهت السكين إليه قبل أن تهدر بـ جنون
-لو قربت مني قبل ما أقتله، هقتلك أنت...
الدماء التي تجري في عروقه تجمدت و أصبحت سيول من الثلوج عجزت عن التدفق فـ أصابته بـ الشلل، حاول فتح فمه و الحديث و لكنه لم يستطع لسانه عجز عن الحركة و أصبح ثقيلًا ينسى كيفية إخراج الحروف
عندما وجد القُدرة على الحديث همس بـ تمتمةٍ تكاد لا تُسمع و لكنها إخترقت قلبها بـ قوة مُسببة نزيف غير مرئي
-دا أنا قُصي يا رحمة، حبيبك قبل ما أكون جوزك!
هنا و إنهارت رحمة فـ سقط السكين من يدها قبل أن تسقط جواره باكية بـ صوتٍ يُمزق نياط القلب، سارع قُصي بـ احتضانها و أبعد السكين إلى أقاصي المكان و دثرها في صدرهِ يكتم صوتها عن الجميع، رغم صدمته و عجزه عن الفهم و الاستيعاب، إلا أنه لا يستطيع ألا يكون الحصن الآن حتى و إن كان على وشك الإنهيار
ركضت سديم إلى أرسلان الساكن دون تعبير أو فعل يدل على أنه ينتمي إلى عالم البشر و عانقته، لم يُبادلها كـ كُلِ مرة بل ظل مُحدقًا أمامه في مشهد رحمة و قُصي بـ نظراتٍ داكنة، غليظة توحي بـ أن أبواب الجحيم على وشك الإنفتاح و تحرير نيران ستُذيب حتى العظام
-أرسلان إيه اللي بيحصل!...
كـ العادة لا رد، و لن يتنازل و يُعطي ردًا يُرضيها أو يُكلف نفسه عناء طمأنتها، و هي لن تبتعد بل زادته عناقًا تُخبره سرًا
"أنا هُنا لأجلك"
و على الجانب الآخر
كانت رحمة لا تزال تبكي دون توقف، و قُصي يُعانقها دون أن يمل و كِلاهما يتشبث بـ الآخر كـ طوقِ نجاةٍ و إن أفلته يعني الهلاك، ربت قُصي على ظهرها و دفن وجههِ في عنقها و هو يهمس بـ صوتٍ يحمل حنان العالم و عذوبة أنهاره
-أنا هنا جنبك يا رحمة، و هفضل جنبك لحد ما ربنا ياخد أمانته
-و لم يكن منها سوى الصراخ بـ: أنا آسفة، والله آسفة مش عارفة عملت كدا إزاي!...
تشبثت بـ قميصهِ المُنمق و الذي تجعد إثر يدها ثم أكملت و هي تضع رأسها أكثر داخله و كأنها تختبئ من خزي فعلتها
-أنا أنا حسيت إن حد تاني جوايا، أنا خايفة يا قُصي...
قَبّل قُصي جبهتها بـ قوةٍ و إبتسم، إبتسامة خادعة لا تُمثل حنو قُصي و جمالهِ و لكنها فقط لأجلها، ثم هتف و يده تُزيل عبراتها المُتدفقة مثل الالألئ
-متخافيش و أنا معاكِ...
اكتسي وجهها تعبير مؤلم و هزت رأسها نافية ثم قالت بـ صوتٍ ذاهب، خائف و يرتعش من مجهول يعرف أن نهايته مؤلمة
-أنا خايفة عليك، خايفة أخسرك و أنا مش هستحمل
-خليكِ مؤمنة...
هتف بها و هو يُقبل جفنها المُنتفخ ثم أسفل عينها اليُسرى و بعدها وجنتها و قال مع إبتسامةٍ جميلةٍ رغم ذبولها و عناءها
-مفيش عُمر بينتهي قبل أوانه، و أنا عشت عُمري الحلو كله معاكِ
-كـ طفلة تأبى الإستسلام هتفت بـ نشيج حار:بس أنا لسه معشتش، مشبعتش منه...
هدهدها كـ طفلةٍ و لم يُعير إنتباهه لأخيه و زوجته بل كُل تركيزه مُنصب على صغيرته الخائفة، يتولى وظيفة أم تعمل على حماية أطفالها، ثم هتف واضعًا ذقنه على رأسها و عانقها بـ شكلٍ أقوى
-هتعيشي و هتشبعي، لأني مش هسيبك يا رحمة...
الأمان و الحصن صعوبة الحياة و القُدرة على النجاة تعتمد على وجود حصن يبُثك الأمان، و المأوى لشريد لا يعرف معنى الإستقرار كان أن يجده حتى يتمسك به مُعلنًا عن وجود جذوره في هذا المكان، و قُصي كان كهف مليء بالكنوز رغم ظُلمته و إتساعه إلا أن رحمة وجدت فيه ما فقدته يومًا ما
*****
وضع أيوب كوبًا من الماء أمام قوت التي ترتعش خوفًا و ذُعرًا، عكس تمامًا الفتاة التي وقفت و ساعدت أرسلان و الذي كاد أن يُفارق الحياة كما تظن و جلس أمامها ثم سألها بـ وضوحٍ
-لسه عايزة تورطِ نفسك مع الشخص دا! ليه الشيخ راغب مش عايز يفهمني هو بيفكر فـ إيه!!...
إلتقطت قوت الكوب و تجرعته مرةً واحدةً ليس لعطشها و لكن حلقها جاف لشدة خوفها، أرسلان الهاشمي شيطان حذرها والدها منه كثيرًا و لكن الآن هو الأمل الأخير و لا يجب أن تفقده لتنجو
لم يستسغ أيوب الصمت و التردد فـ تململ و قال بـ نفاذ صبرٍ و كأن كل السيطرة على النفس و الهدوء تلاشت
-هقدر أساعد لو فهمت، لكن صمتك أنتِ و الشيخ راغب مش فـ مصلحتكوا
-رفعت قوت وجهها و سألت بـ هدوء تعجبه:عايز تعرف إيه!...
باغته سؤالها كما أدهشه هدوء نبرتها رغم الهلع الظاهر على جسدها، في وقتٍ سابق كان ليتمهل و يُفضل عدم جعلها تشعر بعدم الراحة، و لكن الآن لم يعد يمتلك تلك الرفاهية
هجوم شخصين على واحدٍ و إن كانا سارقين، كانا ليسرقانه و لكن حديثهما و تركه في تلك الحالة لا تعني سوى شيءٍ واحد، أن أرسلان الهاشمي وراءه من الألغاز ما تكفي لجعل الجميع يغرق في الغموض دون نجاةِ
لذلك تراجع أيوب هما كاد أن يتفوه به و ضم شفتيه لبرهة ثم بعدها أعاد صياغة سؤالهِ و حمحم قائلًا
-اللي شوفته بعيني مش هكدب يا آنسة قوت، فـ من حقي أفهم ليه مُتمسكين أنتِ و الشيخ راغب بـ أرسلان دا!...
قبضت قوت على الكوب و بـ قوةٍ قبل أن تأخذ نفسًا طويلًا ثم قررت البوح بما إختبئ خلف الستائر و هتفت ناظرة إليه بـ بعضِ التردد و الخوف و لكن لا مجال للعودة بعدما شاهدت ما حدث
-أرسلان الهاشمي من فترة طويلة جدًا، من زمان تقدر تقول من عشر سنين كنت لسه مراهقة و أبوي الشيخ راغب كان بيحب يجعد فـ الصحرا لوحده كتير...
تذكرت تلك الأيام الخالية خاصةً بعدما رأت أرسلان و الدماء تسيل منه، و إصابة رأسه، ذكرتها بـ أول لقاء بينهما لا يتذكره هو فـ أكملت و جبينها يتجعد و كأنها تُحاول فك رموز حجر رشيد
-وقتها لاقى شاب فـ الصحرا كان شبه ميت و جابه عندنا البيت، مكنش هيموت هو جسديًا كان كويس، مش أوي يعني بس كان يعيش...
ضحكت بـ توتر بعد تحدثها بـ حديثٍ مُبعثر و لكن أيوب لم يهتم بـ تلعثمها ثم أكملت و هي تتنهد
-عرفنا إنه هرب من السجن و إنه هرب لهنا و مكنش عارف إنه هيبقى فـ صحرا، بس وقتها كان بيقول إنه أأمن مكان ليه...
كان أيوب يستمع بـ إهتمام دون مُقاطعتها و مال إلى الأمام ليستطيع السمع بـ وضوحٍ أكثر فـ إستطردت قوت حديثها
-مرت الأيام و زي أي بنت إنبهرت بواحد وسيم، كانت دايمًا حواليه هالة من الغموض و سد محدش بيعرف يعديه، عمري ما فكرت أقرب منه إحترامًا لأبوي و تحذيري منه، أرسلان الهاشمي مكنش شخص سهل، مكنش إنسان هو كان شيطان فعلًا...
تبدلت تعابيرها و ملامحها تحولت إلى عدم الراحة و الغضب فجأة و لكنها أكملت
-بعدها عابد بدأ يتعرضلي و يطاردني، و حاولنا نوقفه بس مقدرناش، مكنش فيه غير أرسلان دا شاف عابد و حد معاه مرة و من وقتها مشوفناش اللي مع عابد دا تاني، و كمان عابد وقف تعرضه ليا
-بـ معنى!
-تنهدت و أجابت:اللي قاله أبوي مرة إنهم عملوا جلسة عرفية و إنتهت بـ إنه مش هيتعرض تاني، بس أنا مصدقتش لأن بعد ما الراجل اللي مع عابد شاف أرسلان مرة إختفى كل دا...
توسعت حدقتي أيوب للحظاتٍ قبل أن يهتف بـ تمتمةٍ
-اللي مع عابد يعرف أرسلان و بيخاف منه!
-أجابت بـ جهلٍ:معرفش، كُل اللي أعرفه و سمعته من عابد...
ترقب أيوب لقولها فـ همست بـ رجفة سرت بـ جسدها و هي تنطق عبارتها خاصةً و هي تتذكر نظرات أرسلان وقتها الجحيمية
-وجوده فـ بيت الشيخ راغب، هيجيب الموت لينا كلنا...
*****
ركضت سديم خلف أرسلان و جذبته من ثيابهِ ثم هدرت و عيناها تغرق في عبراتها
-فهمني إيه اللي حصل!...
لم يُكلف أرسلان نفسه عناء الوقوف و الإستماع لها بل تجاهلها تمامًا، إلا أن سديم لم تكتفِ بـ هذا، بل وقفت أمامه تمنع مروره و جأرت بـ صوتٍ مُحتد
-المرادي مش هسمحلك متردش و لا إنك تتجاهل، حالتك و حالة رحمة و كلامها ميدلش على خير أبدًا...
و إن كان يظن أن قساوة عينيه ستزجرها و تُعيدها إلى الخلف، فـ قد كان مُخطئًا لأنها تعنتت في وقفتها و أبت الخوف و الرجوع، فـ قبضت على ثيابهِ و قربته منها ثم هسهست بـ صوتٍ إستعارته منه
-مش هسيبك يا أرسلان غير لما أفهم، حياتنا هتتدمر بسكوتك...
أمسك يدها و قبض عليها دون قوة تُذكر و جعلها تترك ثيابه، ثم رفعها و قَبّلها و لا تزال ملامحه مُميتة، قاتلة ليهتف بـ سُخريةٍ
-و هي كدا مش مدمرة!...
طعنة غادرة أصابت قلبها و طعنته كانت نافذة، هي لن تكذب بـ الفعل هما يعيشان على رُكام مُتعفن لم يبذل أيًا منهما جُهد في سبيل تنظيفه و مُحاولة إصلاحه، بل قررا البناء من جديد تاركين جذور مُتعفن تنخر في منزلهما الجديد
رغم بهوت ملامحها و جسدها الذي إنخفضت حرارته فجأة إلا إنها همست و قد تراخت كل عزيمتها ما أن طعنها بـ مرارة الحقيقة
-على الأقل أنا بحاول، بس أنت مش عايز تحاول و لو مرة واحدة عشاني...
بعد رحيل رحمة و قُصي الذي لم يكن وداع عائلي لطيف، بل تجنب الجميع الآخر و رحلا في صمتٍ لم تستطع حتى سديم تدارك ما حدث، أرادت البُكاء و فعلت رُغمًا عنها عبراتها تتدفق واحدة تلو الأُخرى و تلك الصخرة التي أمامها تأبى التصدع
حاولت سديم بـ شتى الطُرق أن تكون قوية و تحتوي المشهد المُقشعر للأبدان، تلك القوة التي تباهت بها سابقًا، تلاشت و كأنها لم تكن، قبضت على ثيابهِ من جديد و أكملت و هي تضع رأسها على صدرهِ الغاضب
-لمرة واحدة يا أرسلان حسسني إني جزء منك و من حياتك، حارب عشاني مرة...
إلتوت عضلات فكه غضبًا و إنفعالًا لم يظهر على ملامحهِ الجامدة، بل الصمت كان حليفه حتى ضمها و هسهس بـ صوتٍ قاسٍ و مهما إعتقدت إنها إعتادت على قسوتهِ كان يُفاجئها بـ قساوةٍ مقيتة تجعلها تتيقن أنها لم تعرف أرسلان بتاتًا
-لو محاربتش عشانك، كُنت خسرتك من زمان...
قبض على ذقتها بـ قوةٍ مُميتة جعلتها تتأوه ثم هتف بـ صوتٍ جامد جعل عينيها تتسع
-الحياة اللي كانت فـ خيالك معايا متحققتش و بتعاقبيني عليها، للأسف يا دكتورة أنا كدا و مش هتغير ولا الحياة الوردية اللي كُنتِ رسماها مع حضرة الظابط هتتحقق...
شهقت سديم بـ صدمةٍ، بـ ماذا يهذي هذا الغبي؟ قلبها ينبض في رفضٍ تام لعبارته و غضبها يتفاقم، لترفع سديم يدها ثم تهوي بها على وجنتهِ و تقبل هو صفعتها دون رد فعل لتهدر بعدها صارخة ناعتة إياه بـ أسوء الصفات
-يا حقير يا غبي، أنا محبتش حد و لا إتمنيت فـ يوم حياة غير معاك، كان عندي إستعداد أضيع عمري كله معاك، بس ألاقي مقابل مرة واحدة بس، هتفضل أغلى حاجة فـ حياتك بتضيع بسببك...
بكت سديم و وقف أمامها عاجز و لأول مرة، سقوطها و الغدر الذي تشعر به الآن كان هو سببه، إعتاد سابقًا أن يتحمل سهام كلماتها و أخطاءها الشنيعة لكن سديم! لن تتحمل و لن تُسامح، و الأنكى أنه كان السبب و عجزه الآن بسبب هزيمته أمام شعورها بـ الخيانة
ظلا واقفين دون حراك حتى هتفت سديم و هي تُزيل عبراتها و تقف بـ شموخ أمام ذلك القاسي الحجري
-أنا هروح عند بابا أريح أعصابي هناك و أسيبك تعيد حساباتك، سلام...
إتخذت طريقها و خسرت أمام صمته من جديد و أثناء مرورها جواره توهمت نظرة ألم و لكن لم يكن بـ الكافي ليوقفها، سديم سترحل و قد إكتفت
لم يكن عليها الإستسلام في حرب تعلم جيدًا أنها ستربحها في كِلا الأحوال، لكنها فقط تفتقد للعزيمة
تذكير:الموب بايظ و مش بعرف أكتب كويس فـ الفصل بياخد وقت فـ الكتابة و المستوى أقل من المُعتاد 😥
أجلسها قُصي أمام النيل في مكانٍ هاديء و شبه منعزل ليُعطيها كامل الحُرية في الإنسجام و تجميع شتات أمرها، لذلك وقف مُبتعدًا قليلًا قبل أن يجدها تنتفض فجأة لشدة شعورها - هي - بالرد، فـ إقترب منها و وضع فوقها سُترته التي قلما يرتديها و هتف مُبتسمًا بـ مُزاح عله يُخفف تلك الأجواء المشحونة
-تسمحيلي أقعد فـ مكان فاضي جنبك! لو مش هيزعج المدام…
نظرت إليه رحمة بـ صمتٍ عرفه جيدًا أنه خجل و إحراج لذلك المشهد الغريب الحادث مُنذ قليل، ليتنهد و يجلس جوارها دون أن ينتظر سماحها له بـ الجلوس و أمسك يدها و ربت على كتفها ثم سألها بـ نبرةٍ حانية يختص بها فقط الوالد أميرته المُدللة
-بقيتِ أحسن دلوقتي!
-توترت زوايا فمها و هي تقول:أنا آسفة…
لوى شدقه بـ ضيقٍ ثم تنهد و وضع يده أسفل ذقنها قائلًا بـ نبرةٍ شبه حازمة رغم نغمتها اللينة
-مبسألكيش عشان تقوليلي آسفة، أنا بطمن عليكِ
-تلاعبت بـ أطراف أصابعها و قالت بـ أنفٍ أحمر:بس تصرفي مكنش صح، أنا مش عارفة عملت كدا إزاي، فجأة حسيت إني مُنعزلة عن الواقع
-تجاهل حديثها و عاود سؤاله:برضو مجاوبتيش، بقيتِ أحسن!!...
أومأت بـ رأسها مُمتنة لزوجها إلا أنه أصر كـ طفلٍ يبلغ خمسةٍ أعوام و هتف بـ تبرم
-متهزليش راسك، أنا عايز أسمع صوتك
-إبتسمت رُغمًا عنها و قالت:بقيت أحسن
-و دا اللي يهمني…
جذب كتفها ليُعانقها بـ قوةٍ قد تبدو شديدة من الخارج و لكن داخلها ما هي إلا قوة آمنة تبُثها حصونه التي لم تجد رحمة مثلها، قد تجد العالم غريب و مُخيف و لكن ما أن تسمع صوت مفاتِحه حتى تجد ضوضاء العالم سكنت، وحشية الليل أصبحت أكثر الأماكن أمنًا، حتى و إن تزوجها ذلك الأحمق لمدواة جرحًا فـ هي مُمتنة أنها كانت الطبيبة
تشبثت به رحمة و سألته بـ تردد
-مش عايز تسأل ليه! أو إيه اللي حصل!
-و إجابة حازمة و غير متوقعة:لأ…
صُدمت رحمة و توسعت عيناها و حاولت الإبتعاد لنظر إليه لتتأكد ما إن كان جديًا أم يمزح و لكنه لم يسمح لها بل هتف و هو يضرب رأسها بـ رأسهِ
-إتهدي بقى…
حاولت الإبتعاد مرة أخرى و لكنها لم تستطع فـ تأففت و سألته بـ صوتٍ شبه حاد
-يعني إيه لأ! قصدك تقول أنت مش مهتم تعرف إيه اللي حصلي!!...
و على عكسِ توقعاتها أنه سيغضب، قهقه قُصي و قَبّل جانب رأسها و هتف مازحًا بـ صوتٍ لمست فيه الإرتياح
-أهو كدا دي رحمة اللي أعرفها
-لأ إستنى عشان دي هتقلب بـ خناقة دلوقتي، يعني إيه بقى إنك مش مُهتم!
-رفع حاجبه و قال:إمتى قُلت مش مُهتم؟
-هتفت بـ غيظٍ:دلوقتي…
رغم إنهاكه فيما حدث مع أرسلان و قلقه الحاد الذي بـ الكاد يكبحه إلا أن سعادته تفوق أي قلق أو حدة تفكير، لذلك قال قُصي بـ لؤمٍ
-أنتِ اللي قُلتِ فـ متلبسيهاش فيا يا رحمة…
فتحت فمها تنوي السب و لكنها و تراجعت و إنكمشت ثم سألت بـ خفوت
-يعني بجد مش عايز تعرف!
-حينها إبتسم و أمسك يدها بـ قوةٍ:أنا عارف إنك هتقوليلي وقت ما تكوني مُستعدة، لكن أنتِ دلوقتي أكيد مش هتقدري تتكلمي
-ترددت قائلة:بس آآ
-قاطعها بـ لُطفٍ:مبسش يا رحمة، وقت ما تحسي نفسك كويسة متقلقيش هتسجوبك…
إنه يُشعرها بـ أمنًا و حنو فائض كـ الذي عاشته في منزل والدها قبل موته، بـ حمايةٍ وضعها شقيقها حولها مانعًا أي أذى من الوصول إليها، كـ نعومة فراشها الوردي في وقت مُراهقتها
إبتسمت بـ عُمقٍ أكثر فـ إبتسم هو الآخر و زفر قائلًا
-أنا دلوقتي…
نهض و جذبها ثم إستطرد و هو يجذبها خلفه
-حان وقت العودة للمنزل يا رحوم…
ما أن تفوه بها قُصي حتى تخشبت في وقفتها و أبت الحراك، لقد عاودت تلك الذكرى المُخيفة و ما رأته بـ المرحاض، بـ رُعبها الذي أذاب عظامها و هي فقط تُحاول مسح أثار المجهول
لتعود رجفتها و يعود رُعبها و كأنها تقف في مُنتصف الحدث تُعايشه من جديد، لينظر إليها قُصي و تعجب لإصفرار وجهها و خوفها الذي إهتزت له حدقيتها فـ سألها بـ قلقٍ بالغٍ و هو يقترب إليها
-مالك يا رحمة!...
أمسكت رحمة قميصه و رفعت رأسها له ثم قالت بـ نبرةٍ مُرتعشة
-بلاش نرجع البيت دا، مش عايزة أرجع
-يعني إيه الكلام دا!...
كانت نبرته شبه غاضبة إرتجفت على إثرها رحمة، فـ مسح قُصي على وجههِ و حاول تهدئته نبرته حتى لا يُثير خوفها من جديد
-معلش أفهم ليه مش عايزة ترجعي، مش عايزاني أرجع معاكِ…
أرادت النفي، هي تُريده و بـ شدةٍ حتى أنها تُريد وضعه داخلها حتى لا يمسُه سوءٍ و لكنها لم تستطع التفوع، فٓ العودة إلى تلك الشقة يعني موته، تشنجت عضلة فكه و زفر ثم قال بـ نبرةٍ قاتمة
-تمام يا رحمة، هوصلك و همشي طالما وجودي مش مريحك…
حركت رأسها نافية بـ رُعب و هتفت صارخة فجأة جعلته يتراجع خطوة إلى الخلف
-لأ متسبنيش
-حينها غضب هو الآخر و قال بـ صوتٍ عال:أومال إيه فهميني!...
تسابقت عبراتها إثر صوته و إهتز جسدها فـ كادت أن تسقط، ليُسارع قُصي و يحتضن جسدها و تنفس بـ صوتٍ عال، أطبق على جسدها يمنع إنهيارها ثم مسح على ظهرها و إعتذر عدة مرات قائلًا
-أنا آسف مكنش قصدي أعلي صوتي، بس محتاج أفهم منك…
حاول إبعادها للحديث معها و لكنها رفضت، فـ زفر و قال بـ نبرةٍ حاول إخراجها مرحة
-طيب هسألك و أنتِ هزي راسك بـ أه أو لأ ماشي!...
حركت رأسها بـ الإيجاب فـ تنهد و سأل سؤاله الأول
-أنتِ مش عايزة تروحي الشقة بتاعتنا!...
حركت رأسها بـ أجل، فـ تجعد جبينه بـ ضيقٍ و لكنه سأل سؤاله الثاني
-طب أنتِ مش عايزاني معاكِ! يعني مكنش موجود!...
هُنا و نفت ليرتاح قلبه قليلًا، و قبل أن يسأل سؤاله الأخير، تمهل قليلًا و سأل بـ حذرٍ و هذا ما سيؤكد شكوكه
-أنتِ مش عايزة ترجعي الشقة بس عايزاني معاكِ صح!...
أومأت بـ قوةٍ، تأكد قُصي أنها هُناك خطبٌ ما في المنزل ذاته و ليس هو، و لكنه لم يسأل نظرًا لأن حالتها تسوء بـ مُجرد الإتيان بـ العودة إلى المنزل، فـ قَبّل جبينها و هتف
-طيب بما إني فٓ السليم و مفياش عيب، فـ هناخد المدام عند أخوكِ نبات عنده و نرخم عليه شوية…
لاحظ سكون جسدها المُضطرب بين يديه فـ أمسك يدها و دون حديث آخر كانا يتجهان إلى منزل شقيقها، و هو عليه زيارة المنزل زيارة مُنفردة عله يجد سبب ذُعر زوجته و إضطرابها المُفاجئ
*****
صوت حذاءها و هو يضرب الدرجات أسفلها كان يُشعل غضبه الأسود و تجعل تلك النسائم الخفيفة تتحول إلى أعاصير مُدمرة، ليرفع أرسلان نظره إلى سديم التي أبت أن تنظر إليه و معها حقائب تخصها هي و الأطفال، نهض و إقترب منها فـ توقفت و أطبقت على يد أرسلان الصغير بـ قوةٍ طفيفةٍ ثم حاولت المرور إلا أنه منعها قائلًا بـ صوتٍ بارد جعل قلبها يهوى حُزنًا
-إستني أوصلك…
قتمت تعابيرها و خرجت ضحكة ساخرة قبل أن تقول بـ برودٍ يوازي بروده
-لأ متتعبش نفسك، أنا عارفة الطريق…
صعد أرسلان الدرجات المُتبقية حتى أشرف عليها من علوٍ فـ نظرت إليه سديم بـ رهبةٍ لطولهِ الفارع ثم قال بـ نبرةٍ لا تقبل الجدال، تُجمدك أرضًا لقوة صرامتها
-عارف يا دكتورة إنك عارفة الطريق، أنا بس حابب أوصل مراتي و عيالي لبيت أبوها، حصليني…
كادت أن تبكي سديم لقساوته، لم يتنازل و لو قليلًا و حاول إسترضاءها، لم يُحاول حتى أن يطلب منها مُسامحته فقط ليقوم بـ آخر عمل يجعله زوجها، إيصالها لمنزل والدها، تماسكت سديم و قبضت على إبنتها سيلا التي تحملها على ذراعها الأُخرى و هتفت بـ صوتٍ مُحتد
-مش عايزة منك حاجة، أنا هعرف أروح لوحدي…
إلتفت إليها أرسلان و نظر إليها بـ برود صقيعي و هتف بـ نبرةٍ جامدة كـ صخرةٍ أسقطها أحدهم من إرتفاع شاهق على قلبها
-مش هعيد كلامي مرتين، يلا…
و تلك الصغيرة تُزقزق بـ اسم والدها الذي فقط في لُغتها يتكون من حرفين "آن" فـ إلتفت إلى صغيرتهِ ليجدها تُرفرف بـ ذراعيها إليه كي يحملها، تلك المُدللة التي تُشبه والدتها
إقترب منها أرسلان و أخذ الصغيرة و أثناء ذلك، تعمد أن يقترب من سديم بـ قوةٍ و لامس يدها أثناء إلتقاط الطفلة التي ضحكت ما أن حملها فارسها المغوار، ثم تمتم هامسًا بـ شيء لم تسمعه و هو ذلك ما كان يبتغيه
أثناء الطريق لم تتحدث سديم مُطلقًا بينما صغيرهما أرسلان هو مَنْ كان يُشعل الأجواء حماسة، كان أرسلان يرمق سديم بين الحين و الآخر و هي تتجاهل نظراته بـ كُلِ تعنت و قسوة
-هو أنت مش هتيجي معانا عند جدو!
-و إجابة واحدة:لأ
-عبس أرسلان و سأل:ليه يا بابا؟ أنا عايزك معايا…
تعلم سديم جيدًا أن أرسلان لن يستطيع الرد، فـ تولت هي دفة الإجابة و قالت
-بابا عنده شُغل يا حبيبي و المشوار بعيد عليه من عند جدو…
رمقها بـ نظرةٍ ساخرة فـ بادلته بـ أُخرى ساخطة قبل أن يرد أرسلان على صغيرهِ
-لما تكون مع أمك و أنا مش موجود، أنت تبقى إيه!
-أجاب الصغير بـ فخرٍ:راجلها…
و إنتهت المُحادثة لربما لم يلحظ أرسلان و لكن قلب سديم الرقيق يميل إلى ذلك الجافي، قاسي القلب و الروح
*****
في صباح اليوم التالي
-طب أقول إيه! يعني كبرتِ و بقيتِ دكتورة و لسه معقلتيش!...
تنهد مُحرم بـ يأسٍ و هو ينظر إلى سديم التي تجلس و كأنها مُذنبة رغم حملها لإبنتها أمام أبيها و لكن ذلك لم يمنعه من تقريعها لتهتف بـ دفاعٍ
-يا بابا تعبت من الوضع دا، أرسلان كل ما أقول هيتغير مش بيتغير و مبيحصلش حاجة
-ليناطحها بـ الرد:المفروض تكوني إتعودي عليه و على طبعه…
صمت مُحرم قليلًا ثم نظر إلى سديم نظرةٍ ذات مغزى توترت على إثرها و لكنها حاولت الثبات، ليهتف مُتسائلًا و هو يُحدق بها بـ تدقيق
-ولا فيه حاجة تانية يا سديم و أنتِ محكتيش!!...
إهتزت عيناها لبرهة من الوقت حاولت إخفاءها قائلة بـ تردد و توتر
-لـ لا أبدًا يا بابا، أنا بس اللي تعبت من الوضع دا…
لم يُصدقها مُحرم و لكنه آثر إحترام خصوصيتها و عدم رغبتها في الحديث، ليُخرج زفيرًا حارًا قبل أن يقول
-إرجعي لجوزك، أنتِ بتقولي عامل حادثة، فـ تروحي أنتِ بكل أصلك و تمشي و تسيبيه
-غمغمت يـ قنوط:ما هو كويس
-إنفعل مُحرم قائلًا:إسمعي يا بنت مُحرم، أنا أه مبطقش جوزك ولا بحبه بس أنتِ بتحبيه و دا اللي مانعني أطلقك منه…
عند كلمة "طلاق" هوى قلب سديم رُعبًا خشية أن يُنفذ والدها حديثه، هي أجل تختلف كثيرًا مع أرسلان و لكن تلك المشاعر تجعلها غير قادرة على الإبتعاد عنه، فـ نظرت إلى والدها بـ توسل و كأنها تستجديه ألا يفعل فـ أكمل مُحرم حديثه دون الإلتفات إلى نظراتها المُستعطفة
-بس الحق يتقال، الأصول اللي إتربيتِ عليها بتقول متمشيش و جوزك تعبان، واحد غيره يا سديم كان بهدلك بس هو جابك لحد هنا و مشي…
تنهد مُحرم و حاول تلطيف نبرته و هو ينظر إلى إبنتهِ التي تفرك يدها مُكملًا
-عمره ما مد إيده عليكِ و حتى فـ الفترة اللي قصرتِ فيها معاه لا خانك و لا إتجوز عليكِ و لا حتى فكر يلومك…
داعب الصغيرة أولًا التي ضحكت لإبنتها ثم ربت على يد والدتها و قال مُبتسمًا رغم رفض عقله لتلك الفكرة الشنيعة أن يسرق جامح قلب أميرته
-هو بيحبك حتى لو مقالهاش ولا حتى بيّنها، الراجل اللي زي جوزك و اللي شافه معتقدش تخليه يعترف بـ حاجة زي دي بـ سهولة، بلاش تخسري جوزك…
نظرت سديم إلى سيلا ثم إلى طفليها اللذين يلعبان مع سُمية ثم إلى والدها و سألته بـ تشكيك
-أنت شايف كدا يا بابا!
-هو من ورا قلبي، بس خليكِ أد إختيارك ليه من الأول…
ما أن هتف بها مُحرم حتى نهضت سديم مُسرعة واضعة سيلا على ساقي والدها و نهضت راكضة لتسألها سُمية و هر ترى سديم تركض إلى الخارج دون حديث
-رايحة فين يا ست سديم؟…
و لكنها كانت تُخاطب الهواء فـ قد رحلت سديم بـ سُرعة البرق
رغم سخطها و حُزنها لِما قاله و لكنها ستُعاتبه و تسُبه ثم تُصالحه و تُعانقه و تختتم بـ قُبلةٍ، صعدت إلى سيارة الأُجرة و فقط تذكرت في تلك اللحظة أنها لا تملك نقود، ضربت رأسها ثم قالت تُخاطب السائق
-معلش هنوصل للمكان و هديك فلوسك…
تأفف السائق و لكنه وافق على مضضٍ ليصلا بعد مُدة فـ ترجلت سديم من السيارة و توجهت إلى حارس الأمن قائلة
-حاسب التاكسي و خُد حسابك من الخزنة، هسيبلهم خبر
-أومأ الحارس قائلًا:حاضر يا مدام سديم…
إبتسمت له ثم صعدت الدرج تتخطى العاملين حتى تصعد إلى زوجها، كان قلبها يسبقها بـ نبضاتها المُتسارعة و إبتسامتها تشق وجهها سعادة، رغم أنفاسها الذاهبة إلا أنها أرادت بـ شدةٍ أن تراه
وقفت أمام المكتب و لم تُرد الطرق، لتُفاجئه فقط و ليتها لم تفعل، حيث ما إن إقتربت من الباب حتى سمعت صوت أنثوي يقول
-أنا مش هطلب منك كتير، وافق على الجواز و تم جميلك لأبوي…
و كان رده القشة التي قصمت ظهر البعير
كان رده السيف الذي شقها إلى نصفين
كان رده نهاية إلى كُلِ حلمٍ أرادت يومًا
-ماشي