رواية علاقات سامة الفصل العشرون
عادت شيماء لمكتبها بعد تأدية صلاة الظهر، وعلى مشارف المكتب استمعت لصوت عالٍ منفعل، ومع اقترابها سمعت الدكتور رامي يحدث مديرها المباشر أ/ مراد بحدة غاضبة والآخر يحاول تهدئته، وبدلوفها وجه إليها المدير دفة الحوار، صدم رامي من وجودها، يلقيها القدر بطريقه، كاد أن ينساها:
- آنسة شيماء أنتِ اللي عملتي شغل رشا.
- أيوه.
تدخل رامي بعصبية، ظنها تعمدت الخطأ للفت انتباهه:
- لمَّا أنتِ مش فاهمة الشغل بتعمليه ليه؟
- ما اسمحلكش تكلمني بالطريقة دي!
- اتكلم ازاي؟ حضرتك عملتي لي مشكلة بسببك هدفع غرامة.
غَضَبه مبالغ به، حدته بالحديث تثير حنقها وغضبها، لن تسمح لأحد أن يقلل منها أبدًا، لذا تجاهلته ووجهت حديثها للمدير:
- أ/ مراد لو في غلط يكون كلامي مع حضرتك أو تحقيق رسمي، لكن مش مقبول حد يغلط فيَّا.
صدح صوت وسيم من حيث لا يعلم الجميع:
- خلاص يا شيماء ما تزعليش، كفاية بقي يا رامي.
- آنسة شيماء، ما ترفعش التكليف، ومش خلاص أنا عايزة أعمل شكوى باللي حصل، مش من حق دكتور رامي يكلمني كده.
تملكه العند، وعقله يؤكد له تعمدها:
- تمام وأنا هصعَّد الموضوع وهدخل للمدير.
سرد أ/ مراد ما حدث للمدير العام في حضور دكتور رامي وزميله الدكتور وسيم الذي حضر ليرضي فضوله، ظهر للجميع تحيُّز المدير العام ضدها، وجه إليها السؤال معنفًا إيَّها بالحديث:
- وأنت يا آنسة شيماء ليه خالفتي القرار الاستثنائي الخاص بدكتور رامي.
- يا فندم، ده شغل مدام رشا، أنا قمت به لأنها عملت عملية الأسبوع اللي فات وأخدت إجازة مرضي لمدة شهر، دفترها لا فيه القرار ولا كاتبة ملاحظة، أنا أعرف منين؟! هي حتى ما نبهتنيش، فتعاملت زي الطبيعي.
إجابتها خارج توقعاته، وللأسف أكثر منطقية وواقعية، شعر بالضيق من نفسه فالمدير وبخها رغم اعترافه أنَّ خطأ زميلتها هو سبب ما حدث، غَضِب مِن اندفاعه عندما لمح لمعة عينيها بدموعٍ حبيسة:
- هتتحولي للتحقيق يا أستاذة، مش مشكلة الأطباء مين معاه القرار، اللي حصل كلِّف دكتور رامي غرامة مالية للبنك.
اطرقت رأسها بغصة، تعلم استغلال المدير للموقف، تدخل رامي معترضًا:
- ما فيش داعي، عُذر الأستاذة مقبول، المهم الشهر الجاي ما تتكررش المشكلة.
- لكن حضرتك يا دكتور كنت مُصِر على التحقيق معها، كمان هي مُصِرَّة أنه مش خطأها.
- شكرًا لاهتمامك، لكن أنا مكتفي باللي حصل.
تعلم أنه يثأر لابنه الذي حاول التودد لها، لكنها رفضته لاختلاف شخصيتهما، لا يستطيع الفصل بين سلطته بالعمل ورغبة ابنه، خرجت من المكتب وهي بالكاد تمنع دموعها من السقوط، فالدنيا تتكالب عليها، تابعها رامي بعينيه، يؤنِّبه ضميره ويوبِّخه.
وقفت خارج الغرفة تجوب المكان بقلق، وبرؤيتها لحالة شيماء أدركت السيناريو الذي تم بالداخل، جذبتها برفق واتجهت بها إلى المسجد، مرتكزهما للبوح بأسرارهما وكل ما تحمله صدورهما، انهارت شيماء باكية تخرج أوجاعها التي أثقلت كاهلها، بكت حتى انهارت وفقدت وعيها، حاولت غادة افاقتها وعندما ايقنت الفشل، ذهبت للطوارئ لتستعين بالطبيبة صفاء ولحظها العسر لم تجد سوى دكتور رامي ليسعفها، تحرك مسرعًا يقتله الندم استعان بإحدى الممرضات ونقلوها إلى الطوارئ، أثرت فيه حالتها، دموعها العالقة بأهدابها، شحوبها، الألم البادي على وجهها، اسعفها بصمت لو استطاع البوح لقدم لها كل كلمات الاعتذار وطلب منها الصفح، رمقها بأسف ثم توجه لمكتبه، انتبه لنداء صديقتها التي تسرع الخُطى لتلحق به؛ فالتف جهتها وانتظرها حتى وقفت أمامه:
- شيماء ما قصدتش تتسبب في غرامة لحضرتك، والشغل اللي أخدته فوق طاقتها أصلًا، كانت بتقعد لبعد مواعيدنا كل يوم لحد ما خلصت شغل زميلتها، اللي الكل رفض يقوم به؛ لأنها مش بتساعد حد، شيماء الوحيدة اللي قبلت، والغلطة دي في رقبة زميلتنا عشان ما نبهتهاش، كل واحد مسؤول عن تفاصيل شغله أمَّا المدير فوقف معاك لأنه مضطهدها لأسباب شخصية.
تركته وغادرت بعدما شرحت له حقيقة ما حدث، وكأن ينقصه سبب ليؤنّبه ضميره؛ منذ متي وهو سبب معاناة الآخرين!
كعادته التي أكتسبها منذ بضع سنوات، يقف بأحد اللجان المرورية يتحدث مع الضابط المسؤول، يحارب شعوره باليأس الذي بدأ ينبت داخله، لم يكن يعلم أن القدر قرر مكافأته على صبره، لم تكف مقلتيه عن التحديق بالسيارات المارة بالكمين، حتى حدث ما تمنى حين هدأ محرك السيَّارة وتوقفت ليعاين الأمين مَن بها، دقت صافرات التنبيه بعقل مؤنس واتسعت مقلتيه، كما تسارعت دقات قلبه تخبره بوجودها بالقرب، دقق داخل السيارة، هي طيف، خيَّم عليها غبار الزمن وبهتت هيئتها، لكنه متأكد من هويتها، كل كيانه يؤكد له هذه الحقيقة، راقبها بتركيز، تجلس جوار السائق تدس وجهها بحقيبة يدها، تبحث عن شيئا ما، ثم رفعت وجهها بذبول تطالع الفراغ أمامها، رمق قائد السيارة بتفحص، هذه الأعين الحادة والوجه القاتم مع ضخامة الجسد هذه الهالة التي تبعث القلق وعدم الراحة في النفس يعرفها جيدًا، لمحه بآخر مرة قابل فيها طيف حين علم بزواجها، لم يدرك وقتها معنى نظراته الغائمة التي حدَّجه بها، لكنه فهمها متأخرًا، كل ذلك ترجمه عقله في ثوانٍ شحيحة، ولأنه بكل يوم يعيد على نفسه الخطة التي أعدها حال إيجادها، أخرج من جيب سترته هاتفه ودون رقم السيارة ونوعها، اعتذر لزميله وأسرع إلى سيارته ليلحق بها.
لم يكن وحده من حفظ هيئة ومعالم غريمه، فشهاب لم ينساه يومًا ولم تغب عن عينه ولو لحظة صورتهما بآخر لقاء دموع طيف وصدمة الآخر، ورغم تغير ملامح مؤنس التي أصبحت أكثر غلظة إلا أنَّه تذكره، طالع طيف بعد عبورهم من الكمين بغضب وقبض على معصمها بعُــنف؛ انتـفض جَسَدَها برهــبة، نظرت للخلف تتأكد من انشغال ابنتها بهاتفها وعدم ملاحظتها لهما، ثبت مقلتيه الغاضبة المملؤة بالسَّعير داخل عينها المرتَــجفة، وتحدث بأحرف مشــتعلة:
- عينه ما نزلتش من على الهانم، عيارك كل شوية يفلت، عايزة تتظبطي يا طيف.
أسرع خلف سيارتها وحرص ألَّا ينتبه زوجها لمتابعته لهم، سجل العنوان ورقم المنزل، لا يستطيع تحديد ماهية شعوره، يشعر ببعض التناقضات نشوة بالقلب تحلق به فوق السحاب يرافقها غصَّة تعتصره وتكاد تفتك به، سعادة يتخللها الحزن، راحة ممزوجة بالشقاء؛ فحبيبته متزوجة ولديها طفلة على أعتاب المراهقة، لا يعلم أهي سعيدة هانئة؟! أم تعاني وتحتاج للغوث؟! سؤال وحيرة لازمته ثلاثة عشر عام ويزيد، نفض عن عقله وقلبه كل شعور سلبي، تنفَّس بعمق مغلقًا مقلتيه، ثم فتح عينيه ورسم ابتسامة مبتهجة، ها هو في بداية طريق الاستقرار.
المنطقة حديثة وشبه خالية، لم تكن المرة الأولى التي يزور فيها هذه المدينة الجديدة، فهو يملك شقة تابعة لجهاز الشرطة على الطرف الآخر منها، لا يعلم أهذه المصادفة العجيبة مِن حُسن حظه؟! أم لسوئه؟! حفر عنوانها بعقله وقلبه، ثم عاد لبيته ولأول مرة منذ زمن سعيدًا جدا، بل يكاد يطير فرحًا.
على عكس عادة شهاب لم يتوقف عند ما حدث بالكمين ولم يتحدث عن مؤنس، لا يردها أن تعلم بوجود مَن يمكنه مساندتها أو دعمها، يريدها كما هي تشعر أنه سجانها وملجأها الوحيد معذبها وقاهرها، ليس لها سواه، هو بالفعل سينتقم حين يأخذ طفلته ويغادر بلا عودة، سيتركها بلا مصدر للدخل، سيجعلها تموت جوعًا.
أمَّا طيف فشغل تفكيرها ما حدثتهم به الطبيبة، فهي بالفترة الأخيرة كانت شديدة الإعياء وبعد رجاء منها ومن ابنته الطفلة الصغيرة التي شعرت بتعب والدتها ورفقت بها؛ فطلبت من والدها أخذ أمها للطبيب، ففعل لتظل صورته أمامها جيدة.
دخل شهاب الغرفة بعد أن أمر طيف بنظره منه لتلحق به؛ ففعلت. أغلق باب الغرفة وفتح التلفاز الموجود بها، رفع صوته كي لا تصل كلماته لابنته، وقف امامها مباشرةً، نظر لعينها بحدة ثم صفعها بقوة
- أنا قولت مش عايز أطفال تاني، صح؟
- مش بأيدي، الدكتورة قالت الوسيلة موجودة، والحمل حصل عليها، أعمل أيه؟
- اقعدي.
فعلت وبدأت دموعها بالانسياب على وجهها، فك غطاء رأسها، أحكم قبضته على خصلاتها، ودفع رأسها للخلف:
- الطفل هينزل يا طيف.
- حرام يا شهاب ده ما يرضيش ربنا، حرام نقتله.
صفعها مرة أخرى:
- هو أنا باخد رأيك!
- مفيش دكتور هيقبل.
لكمها أعلى ذراعها بقوة:
- بقيتي تردي يا طيف، بقي عندك لسان، كنت بتتخرسي، فاكرة لما كنت توطي على رجلى تبوسيها عشان أسيبك، فاكرة.
بكت بصمت أرهقها، تعلم صحة قوله، أحيانًا هذا التصرف فقط ما يشعره بالرضى، ويصبح منقذها الوحيد من براثنه؛ فبفترة الرجاء لم يكن مجدي، تقدم عليه وهي على شفا الموت، انتشلها من ذكرياتها السامة، كلماته الاكثر سُمًا على الإطلاق.
- هينزل بطريقة تانية، انتظري اللي جاي.
أغلق التلفاز وتوجه للحمام، فجمعت شتات نفسها ودخلت للمطبخ، المكان الوحيد الذي لا يتبعها به إلا نادرًا وتستطيع الاختلاء بنفسها تفرغ شحنتها بعيدًا عنه، وضعت راحتيها على فمها تكتم شهقاتها، تخفي وجهها بالحائط كي لا تراها ابنتها، ولكن القلب يشعر بحاجة أحبابنا، ورثت حلا طيبة قلب أمها؛ فشعرت بحاجة والدتها لها، ذهبت إليها بمكانها الذي دائمًا ما تجدها به، خاصةً حين تختفي أصوات التلفاز العالية، اقتربت منها تربت على كتفها بحنان، التفت إليها وتعانقتا عناقًا طويلًا، أخفت طيف أنينها بجسد ابنتها الصغير وتساقطت دموعهما، وتساءلت حلا بعفوية:
- أنتِ على طول زعلانة يا ماما، ما تزعليش حقك عليا.
- حد يشوف القمر ده ويزعل، مش زعلانة خلاص.
حاولت جعل كلماتها تحمل بعض المرح رغم بحة البكاء التي تغزوها، ورسمت على وجهها بسمة حزينة جاهدت كي لا تتحول لموجة بكاء، طال عناقهما حتى استمعت طيف لصوت شهاب يناديها؛ فارتَـجفت أوصالها؛ فأثارت تعجب حلا.
عاد مؤنس الى البيت يكاد يرقص فرحا، وجدها بعد عناء سنوات طويلة، ألمه الحزن والاجهاد المحْـتلين تقاسيمها وغيرا بعض ملامحها، تخيل ملامحها إن طغى عليها بهاء البهجة والسعادة، يرى تنامي جمالها الهادئ.
تجوب المكان ذهابًا وإيابًا، استقبلته بصِراخها المعتادة:
- أخيرًا وصلت، كل يوم بتلف عليها الشوارع، بقيت قيس وبتدور على ليلاك، وسايب مراتك قاعدة طهقانة في البيت.
- خلصتِ!
- أنت مستفز يا مؤنس، مستفز.
- قولت لك مش مسموح لحد فينا يغلط في التاني، صح!
- لما تسيبني منتظراك وأنت بتلف تدور على حبيبت القلب ده أيه؟ قولي.
- معرفك من قبل الخطوبة، ما ضحكتش عليكِ.
- لا ضحكت عليا يا مؤنس.
اقترب منها بهدوء ثبت مقلتيه داخل عينيها، وتحدث بثبات جعلها تتراجع قليلًا ثم استعادت جرأتها وحدتها:
- ليه؟ اتفقت معاكِ على حاجة وخلفتها من وراكِ، مثلًا.
- أنا ما خلفتش حاجة.
- ما تفتكريش أني ما اعرفش بإجهاضك كذا مرة آخرهم من ست شهور، تفتكري لو سيادة اللوا عرف، أو أكتشف كذبك بإني منتعتك تحملي هيعمل إيه؟!
اتسعت عينيها بصدمة، لم يبدِ يومًا ما يدل على معرفته، عادت بذاكرتها لحديثها مع والدها بعد مرور أربع أعوام على زواجها، أبدى لها قلقه لعدم حدوث حمل طوال هذه الفترة وأصر عليها للكشف والمتابعة، لم يكن أمامها سوى إتهام مؤنس بإرغامها على تأجيل الإنجاب، ثار وغضب منها لخضوعها له، أخذها غصْـبًا للطبيبة ليطمئن أن تأجليها للحمل لم تؤثر عليها بالسلب، ولم يهدأ سوى بسماع كلمات الطبيبة المُطمْئِنة، جرّاء كذبها وبخ مؤنس وعنفه والآخر تقبل كلماته بصمت، ولم يخبره بأن هذا شرطها ورغبتها من قبل الزواج، وتحمل كل اتهاماته دون اعتراض، جذبها من ذكرياتها صوت مؤنس وكلماته الساخرة المؤنِّبة:
- ساكتة يعني! بتشوفي كذبة ولا مستغربة عشان ساكت وبتحمل كلام والدك من غير ما أتكلم.
كعادتها تعاند ولا تعترف بخطائها أبدًا:
- سِكِت عشان كل واحد فينا عنده بطحة على رأسه يا مؤنس، أنت مش ملاك وأنا مش عايشة في الجنة.
- صح، أنتِ صح، مع اختلاف بسيط، لكن جوهري، أنا ما ضحكتش عليكِ، مِن أول لحظة عرفتك كل حاجة، من أول قاعدة معاكِ من قبل الخطوبة بثلاث شهور قولت لك كل حاجة وفهمتك، بس غرورك وعِنِّدك خلوكِ تكملى، طول السنين اللي فاتت وأنا بخيَّرك بين أننا نكمل ونستمر أو ننفصل بهدوء وكنت تختاري نكمل، الحقيقة أنت شبهي في الثبات على المبدأ، لكن الفرق أني ثبت على الحب، وأنتِ ثبتي على العِنِّد وأذى نفسك، ولو فاكرة أنك كده بتعاقبيني أنا، فاحب أقولك أنك عاقبتي وبتعاقبي نفسك، ضيعتي عمرك في عناد، ضيعتي كل الفرص على نفسك، مكسبك الوحيد كان الأولاد وأنت حرمتي نفسك منهم بإيدك، أول مرة عرفت ثورت وغَضَبت كنت ناوى أطلقك، لكن لقيت عقابك أني اسيبك تتمادي، وتحرمي نفسك أكتر ما فيش عقاب أكبر من كدة، ويوم ما تفوفي هتندمي ندم عمرك.
- أحمل وأخلف وابقى اديتك كل حاجة بيت وأسرة وكمان أولاد، وأنا أخدت خيال زوج، واحد بيحب ويدور على واحدة متجوزة، ابقى أخدت بيت ما فيهوش غير الحيطان والوحدة، عايز كمان تاخد حقك كأب، وتتبسط وأسرتك تكبر وأنا، أنا فين؟!
- أنتِ كدابة، بتضحكي على مين؟! كارثة لو بتكذيبي على نفسك، أنت مش عايزة تحملى عشان خايفة على شكلك؛ عشان صاحبتك حكيت لك قد إيه تعبت في الحمل وأن بالرغم من أنها فقدت وزنها، إلا أن شكل جسمها اتغير، وجوزها معترض، أنتِ أنانية لأبعد الحدود، خوفتِ على شكل جسمك خوفتِ من مسؤولية الأطفال، خوفتِ تبقي أم، وده من حظ أولادك، لأنك كنت هتفشلي كأم زي ما أنتِ فاشلة كزوجة.
- أنا فاشلة كزوجة! أنا! لا بقى أنت أفشل زوج في العالم، عمري ما حسيت بوجودك أصلا.
- مش هقول أني زوج مثالي لأنها مش حقيقية، بس أنت عمرك ما عملتي أي حاجة أشوفك بها، طول ما أنا في البيت بتكوني خارجة أو نايمة، ولو في يوم اتجمعنا، تفضلي ماسكة التليفون بالساعات، كل ما أحس أني ظالمك وأحاول أقرب منك ألاقي اللي يبعدني.
- ملاك حضرتك! أصلًا الكلام مالوش لازمة، بس قولي ليه قررت تفتح الكلام النهاردة؟ كل مرة نتخانق نفس الخناقة تسيبني وتمشي، من وقت ما دخلت وأنت لأول مرة مبسوط وبتضحك، هو في إيه؟
- مافيش، أنا بس أخدت قرار.
- وأيه هو؟
- هننقل مكان تاني، منطقة جديدة، بس لسه هدور على شقة هناك.
- مش عايزة، واعزل ليه أصلًا؟ أنا مرتاحة هنا.
- أنا مش مرتاح وهننقل، تصبحي على خير.
تابعت تحركه الهادئ عكس النيران المشْـتعلة داخلها بغَـضب، تجزم أن هناك امرًا وراء تغير حالته ومصارحته، لكن لم يخطر ببالها أنه قد وجد مبتغاه، بعد أعوام طويلة هام على وجهه خلالها بطريقة عصرية، طريقة ضابط يقف بالكمائن لعله يجدها، ظلت على حالها لفترة، حتى قررت الخلود للنوم حفاظًا على نضارة بشرتها؛ فطلتها أهم من مؤنس وما يريد.
مع بداية نور الصباح بدء مؤنس رحلة البحث عن شقة بنفس المدينة، بل الحي نفسه وذات الشارع، أوكل مكتب عقاري صغير بالمهمة وحدد له العمارة المقابلة لعمارة طيف لن يقبل غيرها، وبعلاقات مؤنس استطاع التوصل لأصحابها، واستأجرها منهم بعد أن رفضوا البيع، لا ينكر أن هويته كضابط ساعدته بإتمام مبتغاه سريعًا، اعتلى وجهه بسمة سعيدة مبتهجة؛ فالشقة التي استأجرها بالعمارة المقابلة لعمارتها مباشرةً تعلو خاصتها بطابق واحد، تتقابل شرف منزلهما فيمكنه متابعتها بسهولة، بدأ سريعا بتجهيز الشقة وفرشها، وقف بالشرفة غير مصدق حتى اللحظة أنه عثر عليها، يُمنِّي نفسه برؤياها؛ ليتأكد أن وجودها بحياته حتى لو كجارة له حقيقة، وكأن القدر قد استجاب له، بتلك اللحظة دخلت تحمل سلة الملابس تنشرها على منشر داخلي، وقف به الزمن، نسى كل ما حوله لم يرَ سواها، تمعن في طلتها الهادئة الحزينة، التي يحيطها هالة من الشحوب مع هزل جسدها، لوحة تعبر عن الجمال البائس الحزين، رغم طول المسافة الفاصلة بين العمارتين إلَّا أنَّه شعر برؤية روحها، تمني أن تكون له يومًا وأن يستطيع تخليصها من براثن زوجها والذي من الواضح أنه لم يرحمها يومًا، فالإجهاد البادي عليها يدل على عذاب تحياه، انتبه مِن رحلة تأملها، ترك العمال يواصلون عملهم وغادر قبل أن يفضح أمره.
وكأن القدر خط له مسارًا جديد لحياته، لأول مرة منذ سنوات طويلة يعود للبيت دون القيام برحلة بحث عنها، لأول مرة يعلم موعد رؤياها، لأول مرة ينتظر الغد مبتهجًا، وكذلك لأول مرة منذ سنوات يجد سارة في انتظاره، ابتسم وتساءل ساخرً:
- سارة هانم هنا! لا لا لا تتحسدي، قاعدة في البيت لا عند سيادة اللوا ولا مع أصحابك في النادي اللي بابي عاملك اشتراك فيه! ولا حتى تتكلمي في الفون.
- قولت هننقل؛ فدورت على شقة في مكان كويس.
- ومين قالك تتعبي نفسك، أنا دورت ولقيت وبجهزها وهننقل قريب.
- لوحدك! وفين الشقة دي؟ وليه ما أخدتش رأيي؟! ومساحتها قد أيه؟ وبعدين أنت يا دوب قولت بالليل لحقت تدوَّر وتلاقي وتبدأ تجهز! أنا عايزاها في التجمع منطقة راقية ومستوى عالي.
- معلش، حظ أوفر المرة القادمة، الشقة قريبة من التجمع فعلًا، لكنها شقة متوسطة منطقة ومساحة وهشطبها حاجة ممتازة ما تقلقيش، ما أخدتش رأيك؛ لأنه مش مهم يا سارة، بالإضافة إن الشقة دي هتفضل زي ما هي، هناخد منها شوية عفش مناسب لحجم الشقة هناك وبدون زحمة، وبالمناسبة هننقل خلال الأسبوع ده.
- مهما حاولت افهمك مش بعرف.
ابتسم بسخرية ونظر داخل عينها بقوة:
- وأنت حاولتِ فعلًا يا سارة، بطلى تكذبي على نفسك، بقيت متأكد أنك قبلتِ بيَّا وبالحياة دى عشان مش هتعرفي تكوني حاجة غير كده.
- مفيش مرة نتكلم غير أمَّا تحسسني إني أقل منك وإني مقصرة.. ماشي يا حضرت الظابط الناجح والزوج المثالي وكل حاجة حلوة، قابل بواحدة فاشلة زيي ليه؟! ما تسيبني وتخلص.
- قريب يا سارة كل حاجة هتكون في مكانها صدقيني، ما تستعجليش.
- وربنا يا مؤنس لو فكرت تغدر وتأذيني أو تطلقني بعد العمر ده مش هسكت ولا بابا كمان!
- قصدك هيوقف الترقية لتاني مرة زي ما عطلها قبل كدة!!
اتسعت عينها، أكان يعلم؟! ولمَ لمْ يثور؟! ألا يهتم؟!!! أسترسل متهكما يعلم ما دار بذهنها:
- مستغربة! فاكرة إني مش واخد بالي، أمال ظابط ازاي؟! أنا فاهم كل حاجة وساكت زي ما سكت على موضوع الحمل، وقبل ما تحاولي تشغلي دماغك وتفكري سكوتي لأني حاسس بالتقصير فعلًا، سيبتكوا تنبسطوا وتضحكوا براحتكم، مش فارق معايا، وأهو بردو أعاقب نفسي على خطوة غبية عملتها في يوم، بتحمل نتيجتها لحد النهاردة، لكن لو تكرر تاني هيكون النتيجة الطلاق.
كاد يغادر، لكنه تراجع بعد أن هَمَّ بأول خطوة والتف إليها، حدَّج وجهها المرتسمة عليه الصدمة، تلاقت نظراتهما، واسترسل بثقة ثباتة:
- اتمني سيادة اللوا يعطل الترقية تاني ومش هكون ندمان!
دلف لغرفتهما بصفاء وراحة، سبح بخياله مع مَن أسرت مهجته وفؤاده، وترك سارة غارقة بخضم صدمتها، وما أن استعادت ثباتها وانتبهت تحولت مِن الصَّدمة للغَضَب والوعيد، بدأ عقلها يترجم سبب حالته الجديدة وقراره الفجائي همست لنفسها: «وبعدين يا مؤنس، شكلك كدة يا عرفت مكانها أو وصلت لخيط يدلك عليها، كنت فاكرة السنين ممكن تنسيك، أنا وبابا عملنا كل حاجة عشان ما تقدرش توصل لها، فيها أيه يخليك تدور عليها سنين! أيه عندها ومش عندي؟! أنا جميلة بشهادة اللي يكرهوني قبل اللي يحبوني، محافظة على جمالي وشعري وكل تفاصيلي، ما حدش شافني واداني سني ابدًا، آه ضحيت بالأمومة عشان جسمي يفضل مثالي ومش ندمانة، أنا فعلًا مش هقدر اتحمِّل مسئولية أطفال ومذاكرة، وأنت مش هتعرف تجيبلي بيبي سيتر ومش هترضى، غير أني مش عايزة علاقتي بِك تزيد عن كدة، مش قادرة اعترف إني فشلت في التَّحدي، ما قدرتش على طيف سكن حياتك، بس دي مش طيف! دي جِنِّي عاشق، سَحَرِتَك يا مؤنس، مش قادرة أصدق أو أستوعب أنكم تقابلتم مرات بسيطة وكلمات عادية، ده لو اللي بينكم سنين ما كنتش بقيت وفي كده».
حركت رأسها لتفيق من شرودها وكأنها تنفض عن عقلها تلك الأفكار، وحدَّثت نفسها بجدية تستعيد رباطة جأشها وقوتها: «لا يا سارة، سيبك من الهبل ده، مش هسمح حد يقول إني فشلت في حياتي، ولو الفراق ضروي، يبقي لازم الكل يكون متعاطف معايا وأولهم مامته، لازم الكل يواسيني أنا ويلوم مؤنس، لو أقدر آذيك يا مؤنس أو آذيها مش هاتأخر أبدًا».
كعادتها تحاول حجب غيْظِها عنه، خطت لغرفتهما بخطوات ثابتة متزنة، رمقته بنقم، ينعم بسلام داخلي وسكون يستلقي باسمًا مغمض العين، وقد مُحيَّ الحزن مِن معالمه وقسماته، أبدل أَنينه بهمهمات حالمة، جاورته تضمر له الغِلْ فوصل لأذنها همسه المُتلذذ باسمها وكأنَّه يتذوق حلاوته، أولته ظهرها، تضرب الفراش بجسدها؛ لتوقظه من أحلام يقظته لواقعه الفاتر معها، وقد نجحت، فتح عينه ونظر لها بضيق، ثم والها ظهره واغمض عينه يستعيد صورتها بشوق، وسعادة عرفت له عنوان وبدأت تتسرب لحياته.
واقعها مُختلف، تعد الثواني والدقاق لينتهي اليوم وتنتهي معاناتها به، تأكدت من خلود حلا للنوم واتمامها لجدولها الطويل لليوم، ثم دخلت الغرفة تسبق شهاب الذي يتجول بالشقة يعاينها؛ يتأكد من قيامها بكل ما حدد، ابتسم بتهكم؛ فهي دائمًا تنجز مهامها بكفاءة أملًا بنجاتها، دلف للغرفة وأحكم غلقها، رمقها باحتقار ووعيد، تقف منكَّسَة الوجه بقلب المكان بحالة إعياء، تدعو داخلها أن يُنهي توبيخها سريعًا، تتمنى الاستلقاء لإراحة جسدها المنهك، كما يرجو جنينها.
جلس أمامها بصمت، ثم استلقى بموضعه الدائم، نظر إليها بطرف عينه، يراها تُأرجح جسدها بخفَّة لتقلل مِن ألم ساقها وظهرها، أكيد من ابتهالها لتنتهي جلسة محاسبتها سريعًا، يستمتع بألمها كعادته المريضة، تجاهلها عامدًا لدقائق مرت عليها دهرًا، اغمض عينه يوهمها بغفوته، وحين همَّت بالتحرُّك والتقطت أذنه ذبذبتها البسيطة وحفيف ملابسها، أتاها صوته ناهيًا:
- مكانك! ما قولتش تتحركي.
انتـفض جَسَدها وثبتت بموضعها، وبسرعة البرق وقف أمامها ينظر إليها بحدته المعهودة، رفع وجهها بأنامله الخشنة، أرعبها بنظراته ثُمَّ صفعها صفعة مدويَّة، بهدوء عاد للفراش وجلس يريح ظهره على الوسادات خلفه، ثم ألقى نشاذه على مسامعها:
- مِن امتي الهانم تاخد خطوة بدون إذن؟ حتى لو نمت تفضلي مكانك زي التمثال، نَفَسِك بأمر مني، فاهمة!
أومأت ورددت بألم وقهر:
- فاهمة.
- اعتذري.
- آسفة.
- هقبل من غير ضرب المرة دي، لكن لو تكرر تاني هتاخدي عقاب المرتين، وأنتِ حرة!
انسابت دموعها ترثي حالها، صمته الحالي يخبرها برغبته لسماع تذللها لينهي جلسة قَتْل روحها؛ ففعلت صاغِرة:
- حاضر، أنا تعبانة يا شهاب، كفاية أرجوك! محتاجة أرتاح، عشان خاطر ابنك، مش قادرة والله!
- لا أنت ولا هو لكم خاطر عندي، قولت لك مش عايزه، تحملي نتيجة غلطتك.
- غلطتي! إحنا متجوزين، وكنت واخدة احتياطي، ده أمر ربنا يا شهاب، مش بايدي.
- مِن بكرة تنزلي تجيبي طلبات البيت، هحدد لك تشتري أيه وهسيب فلوس تكفي، الورقة على الكومود فيها طلبات بكرة، ممنوع تغيري حاجة أو تبدليها، محسوب وقت نزولك ورجوعك، شغل البيت زي ما هو، ويا ويلك لو قصرتي في حاجة! أنت عارفة اللي ينتظرك وقتها، بالرغم أني عارف أنك حبيتي اللي بيحصل، وبتحبي تبوسي رجلى بس أنا بقرف قوي يا طيف، فوق ما تتخيلي، ادخلى اتخمدي، مش عايز أسمع نفس، وإلا هعتبره دعوة صريحة إني اختار قميص نوم ونقضي ليلة أنتِ عارفة تفاصيلها كويس.
تلاحقت أنفاسها وتهدجت، أسرعت إلى الفراش ووالته ظهرها، وضعت راحتيها على فمها تكتم أنينها وبكاءها وفاضت دموعها بسخاء.
بالصباح غلبها التَّعب؛ فلم تستطع الاستيقاظ بالموعد المحدد لها، سحبها من قلب راحتها نكز متوالي أعلى ذراعها واخترقت أنفها رائحة عطره، فاستحوذ عليها شعور الغثيان ورغبة مُلِحّة لإفراغ معدتها الفارغة من البداية، اخترق أحلامها سُمُ كلماته وأمطرها بسخاء مقصود:
- الهانم نموسيتها كُحلي؟ شكلك ما أكتفتيش بالكلام وعايزة فعل.
أسرعت للمرحاض ملبية شعور الغثيان أحسَّت بأنَّ روحها كادت تفارقها، وليتها تفعل! وقف أمام المرحاض يطالعها بتقزز لم يحاول إخفاؤه:
- القرف ده هيخلص إمتي؟ قلت من البداية مش عايز ولاد منك تاني.
بالكاد تتحرك تستند على ما حولها تستمد منه القوة، تجاهد لفتح مقلتيها:
- مش قادرة، تعبانة قوي.
كاد يعنِّفها لولا صدوح صوت ابنته المملوء بالقلق والخوف:
- ماما مالك؟ هي مالها يا بابا؟
تحركت نحوها ببطء تربت على كتفها تطمئنها ورسمت على وجهها ابتسامة بدت متعبة:
- أنا كويسة، النونو بس تاعبني شوية.
- صحيتي امتى يا حلا؟
- مِن شوية يا بابا، ولما لقيت معاد المدرسة جه، قومت جِهِزت وعملت ساندوتشات كمان عشان اريح ماما.
طالعتها طيف بابتسامة ممتنة لابنتها الحنونة، بينما غَضَب شهاب ولم يبدِ، لا يُريد فضح دواخله لابنته، ابتسم مصطنعًا:
- ثواني أجهز وأوصلك.
- ماما ارتاحي شوية، كفاية شغل، ارتاحي بقى.
أومأت طيف مبتسمة ولم تعقب؛ فظنت حلا أنها ستفعل، بعد قليل خرج إليهما شهاب في كامل حُلته؛ فأعادت حلا كلماتها ليؤيدها والدها:
- ماما نامي وارتاحي.
أجابها ببسمة هادئة، ثم التف يواجه طيف وأردف بكلمات فهمت باطنها، تنذر وترهب:
- أكيد يا حلا، لازم ماما تسمع كلام بابا، أصل ماما بتخاف على زعلي قوي، مش كده يا طيف! ما تقلقيش يا حلا ماما هتسمع الكلام.
زلزل كيانها بكلماته؛ فغَضَبه مُخِيف يعني الكثير مِن الألم، وهي الآن شديدة الضعف، تخشى على جنينها مِن بطشه، أومأت طائعة بمعالم تعكس حالتها، حازت رضاءه كثيرًا، ظنَّت حلا ببراءة أن حالة والدتها نتيجة تعبها وأن كلمات والدها طالبتها بالراحة؛ فابتسمت لها بود، وتحرَّكت مع والدها كل لوجهته لتبدأ معاناة طيف اليومية.