رواية ملكة علي عرش الشيطان ( هزم الشيطان ) الجزء التانى الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم إسراء على


 رواية ملكة علي عرش الشيطان ( هزم الشيطان ) الجزء التانى الفصل الثاني والعشرون  بقلم إسراء على


إذًا أتعلمين ما هو داء و ما هو الدواء!
دائي أنتِ و دوائي أنتِ .

وجدت قدميها تركض من نفسها دون أن تنتظر أمر العقل ، بل وجدت نفسها راكضة إلى الأسفل ، تُريد أن تراه و تتأكد من الرؤية لعينيها أتُراها أُصيبت بـ العمى!

وقفت في نهاية الدرج في ذاتِ اللحظة التي فُتِح بها الباب ، شهقت غُفران و كانت شهقتها تنبيه عن وجودها فـ رفع عابد نظراته إليها حينها هتفت بـ اسمهِ دون وعي و مظهره المُخيف أسرى رجفة عنيفة داخلها

- عابد!!

إتساع طفيف في عينيهِ و هو يراها لأول مرة تُناديه ، كانت تُناظره بـ أعين تركض على ملامحهِ المكدومة و ثيابه المُمزقة و التي تفترش بها بقع لا بأس بها من الدماء ، بعضها يخصه و الآخر لا ، وقف عابد أمامها في تبادل عنيف للنظرات الغير مفهومة و الصمت كان يخترقه صوت تنفسها الحاد

تقدمت غُفران و هي تضع يدها على فمها تمنعه من الصُراخ ، هي لم تعتد تلك المشاهد حتى و إن ألِفت سماعها في بيئتها إلا أن والدها لم يسمح لها بـ الرؤيةِ ، أما الآن و هي ترى عابد حتى لو أنه أوغد البشر في نظرها و لكنه يظل إنسانًا مُشبّعًا ضربًا ، أشارت بـ يديها في عشوائيةٍ و إرتباك

- إيش صارلك! أيش كل هذه الدماء!
- لأ هذا عصير فراولة.

ذمت شفتيها في غضبٍ كما قطبت حاجبيها في نوبةٍ حادةٍ من الضيق ، فـ تقدمت غُفران منه أكثر ثم لكزت كتفه ثارحى بـ حدةٍ و لم تأبه لتواجد الخدم أو بعض رجال عابد

- بتمزح! بريد أعرف كل شيء.

و كادت أن تُكمل حديثها و لكنه وأد كلامها بـ نظرةٍ خطيرةٍ حادجًا إياها بـ نظرةٍ تُخبرها الصمت ، فـ صمتت و هي تعلم تمام العِلم معنى تجاوز الحدود فيما يخص هيبته ، أشار بـ ذقنهِ إلى الجميع ليرحل و بـ الفعل خلال ثوانٍ إختفى الجميع عداهما

ظلا واقفين أمام بعضيهما يتراشقان النظرات حتى قطعها عابد الذي ظهر على صوتهِ التعب و قد لاحظته هي لتوها

- اسمعي يا غُفران ، ما بسمح أبدًا إنك تعلي صوتك عليّ أمام حد 
- هتفت بـ تبرم تزوي شفتيها: كنت بريد أعرف إيش صارلك
- بـ الصوت العالي!

نبرته التي تسألها جعلتها تعض لسانها كـ طفلةٍ أساءت التصرف مع والدها فـ لم تجد مُبرر ، لتتأفف غُفران و تُشيح بـ يدها في كُل الإتجاهات ثم تحكمت في نبرتها العصبية و قالت تسأله

- بريد أعرف ، چاوبني.

تنهد عابد في تعبٍ واضح ، ثم تقدم ليجلس فوق مقعدٍ قابله و لم يهتم لشكلهِ ، بل جلس و أعاد رأسه إلى الخلفِ متأوهًا ، المعركة الضارية التي خاضها مع أرسلان لم تكن فقط معركةٍ ليظفر بـ حياتهِ بل أيضًا لتبرئتهِ  ، هذا ما كان يسعى إليه من البدايةِ ، رغبته في العيش بين عائلتهِ مرفوع الرأس ليستحقها كان يستحق كُل تلك المُعاناة ، حتى و إن عنى ذلك خرق إتفاقهِ مع أرسلان و لكنه ذكي و سيفهم

أخرجه من شرودهِ غُفران التي وقفت أمامه و ظلت تُحدق في ملامحهِ التي أرهقها التعب و صوت أنفاسها المُزعج يُشتت أفكارهِ فـ فتح عينيه ليراها تُحدق به بـ نظراتٍ جعلته يبتسم داخله ، تُسبه طفلة تستكشف والدها لأول مرة

- عيونك هتخرمني يا غُفران.

جفلت على مزحتهِ بـ صوتهِ الخبيث و ابتسامته الماكرة ، فـ زمت شفتيها و هتفت بـ ترفع رافعة ذقنها إلى أعلى حتى سقط وشاح رأسها و وجهها

- بشوف إصاباتك خطيرة ولا إيش
- مال بـ رأسهِ و ابتسم من زاوية فمه و قال مُشاكسًا: ولا إيش.

أرادت ركل ساقه و لكن منعها سببين ، أولهما قد تكون مُصابة و هي إنسانة ذات مشاعر و ضمير حي ، و ثانيهما أنه لن يدع تلك اللعبة تمر مرور الكرام ، فـ حمحمت و عقدت ذراعيها أمام صدرها و سألت في خفوتٍ

- و أنا إيش مصيري معك!

ظلت نظراته مُعلقة بها و بدأت إبتسامته تتلاشى بـ بُطءٍ ثم وضع يده على عينيهِ يفركهما بـ تعبٍ و إجهادٍ ثم قال بـ صوتٍ أجش ، غريب جدًا وقعه على أُذنيها

- قلتلك إدعي كتير إني مرجعش حي ، يظهر مدعيتيش بـ قلب صافي
- لترد بـ قوةٍ: ما في أصفى من قلبي و أنا بدعي
- ضحك و رد: صادقة.

ثم ساد صمت كئيب و صوت تنفسهما يخترق السكون ، و ظلت تنظر إليه عله يرحمها و يُخبرها عن مصيرها و ما أن تأخر حتى سألته بـ رجاءٍ مغرور لم يظهر في صوتها لهفتها لتنال حُريتها

- مصيري!

و الصمت كان جوابها حتى يئست و تهدل ذراعيها ، و لكنه نهض فجأة و وقف أمامها مما جعلها ترتعش و تنظر إليه في رهبةٍ ، رفعت غُفران رأسها لتصل إلى مستوى عينيهِ التي تُشبه الصقر في لونها الأسود ثم أمسك خُصلاتها المُنسابة و رفعها على أصابعهِ ثم تركها تنساب في نعومةٍ ، ليقول بعدها بـ صوتٍ هادئ كـ هدوءٍ موجة تحمل معها جواهر أعماق المُحيط

- معي يا غُفران.

تجاهل إتساع عينيها ، و تجاهل تلك الإرتعاشة التي ود ليُعانقها في شعورٍ غبي لطمأنة فتاةٍ لم يُحبها قط ، ثم رحل و تركها تقف في مُنتصف المنزل غارقة في عبراتها ، ليتها دعته ـُ قلبٍ صاف حقًا ، فـ حياته حالت بينها و بين حُريتها و ، و حُبها الذي لا تعرف مصيره إلى الآن و فيما بعد

*****

فتحت سديم الباب و تحمل في يدها عُلبة الإسعافات الأولية و دخلت لتجده جالسًا فوق الفراش ، لا تُصدق أنه في المنزل معها الآن في عادتهما القديمة ، عناقه لها سابقًا كان احتياجًا أكثر منه اشتياقًا ، لقد أفتك بها الحُزن و الضعف و أرادت الإتكاء عليه قليلًا ، و لكنها لم تتخيل أنها ستضعف و تميل إليه

ربُما كان السبب في موتِ والدها و هذا ما لن تُسامح ، لكنها ترى الآن أن أرسلان لم يكن اليد التي قتلت ، و رأت داخله و في عينيهِ أن النيران التي إشتعلت داخلها طالته و أحرقته ، لقد مات مع والدها في ذلك اليوم

تقدمت منه و وقفت أمامه ثم تأملته ، كان عاري الجزع و به عدة جروح سطحية و جرح آخر يبدو أنه عميق ، أخرجت زفيرًا حارًا يُعبر عن استياءها ، لترفع ذقنه و تُعنفه كـ طفلٍ خاض عراكًا طاحنًا مع أقرانهِ رغم تحذير والدته له

- مش فاهمة هترجعلي إمتى من غير جروح ولا تكون مضروب
- حدق بها و ابتسم ساخرًا: إدعيلي ربنا يفك كربي
- ذمت شفتيها بـ حنقٍ و قالت: والله حلال فيك الضرب ، ياكش تعقل
- أشار بـ يدهِ لتجلس في لامُبالاة مُستفزة: إقعدي و خلصي شُغلك.

سبة خرجت داخلها فقط ، فقط لتُنفس عن غضبها ثم همهمت بـ صوتٍ غير مفهوم

- متعرفش أنا بشتمك أد إيه جوايا عشان أبقى قدامك بـ الهدوء دا ، لا بجد شتمتك كتير 
- عشان متربتيش بس.

حمحمت بـ حرجٍ مُجفلة لسماعهِ تبرمها و لكنها رفعت ذقنها بـ ترفع و قالت بـ صلفٍ مغرور

- تستاهل كل خير والله يا حبيبي.

رفع حاجبه دون رد و أدار وجهه إلى الجهةِ المُقابلة ثم هتف و هو يُدلك مُنحدر أنفه 

- أُقسم بالله كابس عليا النوم فـ إنجزي
- لترد بـ يأس: و رجعت ريما لعادتها القديمة ، ضمنت وجودي.

زفرت سديم بـ ضيقٍ و شيءٍ من الحُزن ، ذلك القاسي ، بارد المشاعر لن يتغير ، ليتها عذبته قليلًا و أطالت تعذيبها فـ ترى منه الأكثر ، و لكنها لن تكون سوى حقيرة تتلذذ بـ عذابهِ ، جلست سديم جواره و بدأت في مُداواه جراحه بـ مهارةٍ اعتادت عليها معه ، حتى هتفت في المُنتصف دون النظر إليه

- مش مصدقة إننا دلوقتي زي زمان و خناقنا مختلفش و لا كأننا كُنا هنسيب بعض.

شعرت بـ جسدهِ يتصلب تحت لمستها فـ عدلت حديثها و قالت بـ هدوءٍ رزين لم تمتلكه سديم من قبل

- أنا بقول كُنا يا أرسلان ، النية موجودة بس مفيش تنفيذ ولا هيكون أصلًا.

رغم حديثها ولكن عضلاته لم ترتخِ و ظلت مُتصلبة حتى تفوه بـ نبرةٍ جامدة كـ جمود الصخر

- و قضية الطلاق اللي رفعاها ؟

توقفت يد سديم عما كانت تفعله و نظرت إليه في خُبثٍ ثم قالت بـ نبرةٍ حاولت إخراجها عادية ف ـ حمحمت عدة مرات

- لا يا بني مفيش قضية ولا حاجة ، أنا كُنت بهتك بس.

صمته مُقلق و نظراته مُرعبة ، فـحاولت تحاشي نظراته التي كانت تخترقها بـ قوةٍ دمرت أعصابها و عاودت فعل ما تجيده وهو الهرب ، إلا أن يد أرسلان أمسكتها و هتف بـ صوتٍ خفيض و لكنه مُخيف في هدوءهِ

- بتهتيني! 

حاولت فتح فمها للحديث و لكنها عادت و أغلقته ثم فتحت فمها من جديد و لكنها أغلقته و آثرت الصمت ، و لكن نظرات أرسلان كانت كـ الرصاص تخترق روحها و جسدها فـ أخفضت نظراتها أمام سكونه الغريب ، هي تعرف الصمت جيدًا و ما يعنيه لذلك خوفها كان يتفاقم و نظراتها بدأت تذوي في إرتجافٍ

شهقت و هي تسمع تنهيدة ثم همس و هو يرفع ذقنها يُجبرها على النظر إليه و هتف بـ صوتٍ مُتململ ، رتيب

- تصدقي يا دكتورة انك محتاجة طلقتين فـ دماغك ، أهو يمكن حتة اللحمة اللي جواه دي تشتغل شوية.

كانت أصابعه تحفر بـ قوةٍ في ذقنها حتى ظنت أنها وصلت إلى العظام فـ شهقت بـ ألمٍ ثم وضعت يدها تُريد أن تعتذر و لكن عنادها الأحمق و لسانها الغبي ساقها لقول

- بقولك إيه يا أرسلان أنا لسه فيها و ممكن أعملها ، مش عشان بحاول أتجاوز اللي حصل تسوق فيها ، أنت لسه فـ عيني مُتهم.

قست نظراته و أظلمت أكثر ، كانت كـ هوةٍ سحيقة بـ داخلها يكمن شيطان ، سيء الحظ فقط هو من يُحاول إخراجه ،و يبدو أن سديم فعلتها عن جدارةٍ الآن ، فـ أرسلان في هيئة أكثر رُعبًا من أي وقتٍ مضى 

- أرسلان أنا آآآ

قاطعها أرسلان ضاربًا يدها بعيدًا و كأنه يخشى أن يُدنسها ثم قال بـ صوتٍ ميت ، يخلو من المشاعر التي تربطه بـ عالم الإنسانية جعل جسدها كُله يرتج بـ عُنفٍ إثر ضرباته التي تتلقاها

- عارفة إنك ديمًا بتعرفي يا دكتورة إنك تدوسي على خطوط مينفعش تقربي منها! 
- حاولت الدفاع قائلة بـ تلعثم غبي: و الله مـ مكنش قصـ دي ، أنا بس
- حينها هدر و نهض: أنتِ إيه! فهمي بعد دا كله أنتِ إيه!

نهضت سديم تقترب منه و لكنه حذرها بـ إشارةٍ من يدهِ فـ تجمدت في وقفتها ثم أكمل بـ وجهِ قاتم و نبرةٍ قاتلةٍ ، شديدة السواد و الغلظة

- فاكرة لما فتحت موضوع كُنت ردمته بـ تُراب عشان خاطرك! عشان بس ولادي و أنتِ يبقوا ليكو حق! و إن أرجع أثبت إني عايش و معايا حق!

و كيف لها أن تنسى المُعاناة ، لقد استغرق الأمر سنة و نصف من المُعاناة و قضية تلو أُخرى ، مُحامي يتبعه مُحامي ليحصل على براءة أرسلان ، لقد كانت فترة مُنهكة للأعصاب و خاصةً هو ، كان عليه أن يقص ما حدث لعائلتهِ تفصيليًا و يروي الأحداث كما أنها لو تحدث أمامه ، في ذلك الوقت جلست سديم و هي تستمع إلى شهادتهِ واضعة يدها على فمها تبكي في صمتٍ

ما سمعته شطر قلبها إلى نصفين بـ سكينٍ بارد نصبه يُؤلم بـ شدةٍ تستدعي صُراخٌ و عويل ، مؤلم حتى يكاد تطفر الدماء من عينيك بدلًا من العبرات ، فقط سماعها لتلك القصة المُرعبة كانت كفيلة بـ اصابتها بـ نوبةٍ عصبيةٍ حادة تقود إلى الجنون فـ ما باله و هو عاش ذلك الألم و رآه حي أمامه!

شهر بعد آخر كان يبتعد عنها يعود إلى قوقعتهِ القاسية و التي لا تختلف عن شخصيته في شيءٍ و لكنها تعذره ، مُعايشة الألم مرتين و في كُل مرةٍ أشد إيلامًا لهو أقسى ما قد يمر به إنسانًا ، و بعدها تم إيداعه في السجن لمُدةٍ و تم إخراجه بعدما تم تقديم مُستندات كانت قد تركتها جميلة و هي الدليل القاطع على براءة أرسلان و هذا هو الشيء الوحيد المُمتنة لها عليه

بُكاءها في تلك اللحظة كان كفيلًا بـ جعلها تبدو كـ أغبى النساء على الأرض ، وقفت أمامه ثم هتفت بـ نشيجٍ حار 

- أرسلان أنا عارفة و حاسة بيك ، بس المفروض أنت تكون أكتر واحد حاسس بيا ، أنا خسرت كتير 
- هدر بـ جفاءٍ و حدةٍ مُخيفة: و أنا مخسرتش! محدش خسر أدي يا دكتورة ، أنتِ بس اللي مش شايفة و بتنسي.

استدار ليرحل عنها و لكنها ركضت و منعته صارخة بـ صوتٍ مُعذب ، نغمته شديدة الحُزن

- منستش و لا عُمري هنسى ، بس مش عارفة أتعايش مع الوضع ، أنا خسرت آخر واحد فـ عيلتي ، و بـ طريقة متختلقش عن أول مرة ، شوفتهم بـ عيني.

إرتعشت عضلة في فكهِ و إهتز قليلًا في وقفتهِ و لكن ملامحه القاسية لن تذوي و تتبخر أمام ألمها و حُزنها استدار عنها من جديد إلا أنها كانت أعند من ذي قبل و أمسكت يديه و هو لم يُحاول إفلاتها ثم هتفت بـ صوتٍ خفيض و لكنه صادق جعل فجأة ملامحه تستكين

- مش معنى إنك مُتهم يبقى بكرهك ، أنا بحبك يا أرسلان و دي أكتر حاجة تعباني و مخلياني حاسة إني رخيصة و مستاهلش ، و عارفة إني ممكن أكون مش مُتزنة بس بحاول أرتب نفسي و أموري.

صر أرسلان على فكهِ تلك الغبية الصادقة تُزيد الأمر سوءًا بـ صدقها المُبالغ فيه ، و لكنه لن يلومها فـ هو من سحبها في دائرته المُعتمة و عليه تحمل نتيجة أخطاءه ، لذلك تنهد و قبض على يدها ثم قال بـ نبرةٍ ثقيلة  ، مُبهمة

- سيبيني يا دكتورة ، أنا عارف.

سحب يده من يدها بعدما ضغط عليها و رحل دون أن يغلق الباب خلفه ، ليتركها وحيدة تقف في المُنتصف و تشعر بـ البرودة تغزوها

*****

الحريق المُشتعل داخله ، إبتلعه و ابتلع الطبيب المُعالج جواره ، نظراته سوداء كـ ظُلمة ليل الصحراء ، لم يكن ليصدق أن أرسلان عاد و عابد قد خانه!!

بيدقه و ورقته المحروقة و التي يستطيع التخلي عنها في أي وقتٍ ، ها هو الحقير كاد أن يقتله ، صرخ بـ وحشيةٍ جعلت الطبيب يجفل و ينكمش على نفسهِ و لكن الحارس ربت على كتفه و همس مُطمئنًا

- كمل يا دكتور متخافش.

أومأ الطبيب و أكمل ، أخرج الرصاصة من ساقهِ تحت صُراخ سليم رغم المُخدر و لكن ألم كرامته كان ينبض بـ شدةٍ ، وضع سليم يده على عينيهِ يُخفي نظرته عن الأعين المُتربصة به ، يد مُقيدة بـ قيدٍ حديدي يمنعه من الهرب كما الماشية تمامًا و الأُخرى حُرة الحركة عله يستخدمها في إخفاء نظرته المُنكسرة و كبريائه المخدوش

” عودة إلى وقتٍ سابق“

- عابد!

كان عابد رافعًا سلاحه في وجهِ سليم المُتسع العينين إثر الصدمة ، و ظل ينظر إليه عله يتخيل أشياء و منها وجود عابد الخائن!

- إيش بتسوي! و إيش هذا الإتفاق!

لم يُعِره عابد أي إنتباه بل تركزت نظراته على أرسلان الذي حدق به بـ هدوءٍ و قال بـ بساطةٍ شديدةٍ و نبرته المُستهجنة تُسيطر على الأجواء

- لسه دورك مخلصش
- هدر عابد بـ غضبٍ حاد: كدا بروح السجن ، معناه إني بسلم نفسي
- مط أرسلان شفتيه و رد: ميخصنيش.

حدجه عابد بـ نظرةٍ حاقدة ، و اشتدت شفتيه في خطٍ مُستقيم يفتر عن غضبه الذي يُحاول السيطرةِ عليه ، ثم إقترب خطوة مُتجاهلًا وجود سليم و هدر 

- هذا مش إتفاقنا
- متفقتش على حاجة ، أنت وافقت على كلامي.

الماكر ، ذلك الثعلب تلاعب معه بـ الكلمات ، بـ الفعلِ هو لم يعده بـ شيءٍ بل هو وافقه على إقتراحه دون ضمانات و هذا أغبى ما يُمكن أن يفعله شخصًا كـ عابد ، سقوطه في الفخ كان سهلًا ، ربما لأن لهفته ساقته ليحصل على حُريتهِ و براءته جعلته أعمى عن معاني الكلمات ، سُحقًا لتعلقه بـ تلك القشة الفاسدة من الأساس

تصلب فكه في حركةٍ تدل على مدى غضبهِ الأهوج و الذي يُنذر بـ شرٍ ثم قال بـ نبرةٍ مُبهمة

- كدا الإتفاق ملغي.

و يبدو أن أرسلان كان على أتم الاستعداد ، ربُما قرأ أفكاره و تنبأ بـ أفعالهِ فـ تحرك قبله و بدأ في إطلاق الرصاص ، رصاصة و بعدها إثنتين و إنتهت مُعلنة عن تفريغ المُسدس ، شتم ثم دفع سليم إلى عابد و هجم قبل أن يستوعب الآخر الحدث ، و دارت بينهما حربٍ طاحنة ، تخلف إثرها بعض الجروح

أخرج عابد سكينًا من ساقهِ و ضرب بها أرسلان مُسببًا جرح قوي ، نظر أرسلان بـ صدمةٍ إلى مكان الجرح ثم إلى عابد الذي ركله ليسقط أرضًا و هو فوقه ، لكمة واحدة هي كُل ما استطاع فعله قبل أن تنقلب الكفة

إذ باغته أرسلان بـ ضربة رأس قوية جعلت عابد يترنح في دوارٍ ، جعل الأول يُمسك يده المُمسكة بـ السكين و قام بـ ليّها  ليصرخ مُتأوهًا و تسقط من يدهِ ، ركله ليسقط عابد ، و ما أن استدار حتى وجد سليم يوجه سلاح عابد الساقط أرضًا إليه

زفر أرسلان و رفع يده مُعلنًا استسلامه أمام سليم الذي ضحك و قال

- نهايتك على إبدي يا شيطان.

بدلًا من نظرة خوف أو غضب ، كان أرسلان يبتسم ساخرًا و قبل أن يستوعب سليم الغرض من تلك الابتسامة المُستفزة ، كان أرسلان يُخرج سلاحًا آخر و يُطلق رصاصة أصابت ذراعه و أُخرى بـ ساقهِ ، ثم نهض و إقترب منه و دنى مُهسهسًا

- حسابنا طويل يا سليم ، و هخليك تبعت سلامي لنزار العبد.

إلتفت إلى عابد المُنهك و رمقه بـ نظرةٍ طويلةٍ ثم إختفى ، حقًا إختفى و معه مُصلح ، تلك الآفة الخطيرة التي زرعها هو بـ نفسهِ و حصد ثمراتها الآن ، ضعيف جعل منه قاتل عله يتخلص من أرسلان مُستغلًا مرضه النفسي و هوسه الغريب بـ الشيطان و ليس أرسلان

” عودة إلى الوقتِ الحالي “

لن يُنكر فـ قد تملكه الخوف و نهش قلبه ، أرسلان قد لا يعرفه جيدًا و لكن أخباره كانت تصله ، الشيطان قد عاد ، هو قد نسى وجوده و أنه كان سببًا آخر في دمار حياتهِ ، و مؤمن صديقهما و الذي إتخذه قُربانًا لتنفيذ خطته

ذلك اليوم الذي أخبره فيه بـ خُبثٍ بعد إنقضاء إجازة مؤمن 

” إبقى تعالى نسهر شوية يا مؤمن ، سهراية العرب غير“

و المسكن صدقه و للأسف كان شاهدًا على حادثةٍ ثمنها كان حياته ، رغم فشل خطته في إبتزاز المتورطين إلا أنه إكتسب نزار العبد في صفهِ ، ورقته الرابحة حتى مات

موته هو الشظية التي اشعلت نيران الشيطان ، ربُما كان يعرف و رُبما لا و لكن بـ  غباءهِ أعاد الماضي و شره المُخيف

*****

دخلت سديم الى غرفه ان تطرق ثم تحركت تحمل في يدها عُلبه الاسعافات الأولية وحدقت في القاء الغرفة تبحث بعينيها عنه ولكنها لم تجده فـ زفرت بضيقٍ ودخلت ثم وضعت العلبة فوق الطاولة الجانبية

و اتجهت إلى الشُرفة و هي تعلم أنها ستجده و قد كان ، فـ قد كان يقف في الشُرفة يُحدق في الظلام الدامس أمامه مُتكئٍ إلى السور ، قد يكون شاردًا و لكن عينيه كانت بها قصة أُخرى ، استطاعت رؤيتها و تخمين ما تراه فيها

إقتربت منه سديم و وضعت يدها على كتفهِ لتجد جسده تصلب و لكنها لم تتراجع بل حاوطت خصره و وضعت وجهها على ظهرهِ الذي يتحرك ، قد يكون غضبًا أو رغبة في ابتعادها عنه الآن إلا أنها لم تأبه ، بل قررت خوض الحرب حتى النهاية و إن كان رافضًا ستجذبه بـ أكثر الأسلحة فتكًا و أخبث الخطط نجاحًا

تحركت يدها حتى وصلت إلى الجرح الذي رفض أن تُضمده و يبدو أنه قام بـ إحتواء الموقف و ضمده بـ عشوائيةٍ تُصيبها بـ الغضبِ ، أمسك يدها و حاول إبعادها و لكنها رفضت حتى و إن كان يتألم ثم هتفت

- بُص عشان نبقى واضحين و منلفش حوالين بعض كتير يا أرسلان ، طول ما إحنا مش صُرحا مع بعض علاقتنا مش هتتقدم و هتسوء ، فـ هقول اللي عندي و أنت لازم تسمع.

لم تُرده أن يلتفت إليها و يُحدق في ملامحها و هي تجهل كيف تبدو ، قد تكون كارهة و قد تكون حزينة ، و في كِلتا الحالتين ملامح النفور و الخزي من نفسها ستكون أقسى ما يراه و حينها ستهدم ذلك التقدم البطيء في حياتهما المُنهارة

وضعت جبهتها على ظهرهِ و أخرجت نفسًا مُرتجفًا ، شديدة الحرارة وصله لـ تيبست عضلاته له ، ثم حاولت الحديث بـ نبرةٍ هادئة ، تخشى أن يخرج فيها مشاعرها التي ستؤذيه و لكن صوتها خذلها و خرج ضعيفًا ، حزينًا

- أرسلان أنا بحبك و سبق و إخترت أسرك و أنا مبسوطة و لا زلت على فكرة
- سخر مُستهجنًا: بس دا مكنش كلامك قبل كدا
- أومأت توافقه ثم قالت: مش هنكر ، بس تبقى غبي لو صدقت كلامي.

خشت أن يغضب و استعدت لاستقبال غضبه و تقريعه و لكنها كان هادئًا ، صامت ينتظرها لتُكمل ، فـ استطردت حديثها و صوتها يخفت مع كُلِ كلمةٍ

- أنا وقتها مكنتش فـ وعيي ، واحدة لسه خسرانة أبوها و معتش ليها حد.

عند تلك الكلمة فَقَدَ أرسلان ذرات تعقّله و سيطرته على نفسهِ فـ استدار إليها و قبض على معصمها يكاد يعتصره في يدهِ و صرخت مُجفلة إثر حركته و ملامحه كانت عالم آخر ، جنونية بـ شكل ٍ مُرعب و نبرته كانت أشد جنونًا و هو يجأر

- معتش ليكِ حد! أنتِ دفنتيني و أنا و حي ولا إيه يا دكتورة! و لا أنا مش جوزك و كسبتيني فـ كبس شيبسي!

فكرت فمها تتنفس بـسرعة فـ قد تعذرت أنفها عن استدراك سُرعة تنفسها ، و بهتت ملامحها خوفًا و عينيها تهتز خوفًا ، ليُكمل أرسلان و يده تزداد ضغطًا على يدها و يتحرك إلى الأمام فـ تتراجع هي في خطواتها

- ما هو حدديلي موقفي يا دكتورة ، أبقى مين فـ حياتك
- صرخت بـ غضبٍ ترفض أن تخضع لتخويفه لها: جوزي
- هزها بين يديهِ و هدر بـ صوتٍ جهوري: و طالما جوزك بتقولي كدا ليه!.

حاولت التملص من يدهِ و لكنه كان كُ قيدٍ حديدي يرفض تحريرها خوفًا من هروبها ، و عندما فشلت ضربته بـ يدها الحُرة في صدرهِ غير عابئة بـ جروحهِ حتى و إن كانت تُصيبها ثم صرخت بـ عصبيةٍ

- أنا قصدي من عيلتي ، بابا كان آخر حد منهم ، مكنتش عايزة أخسره و أنا شوفته قبل كدا خسران شُغله و مراته و كُل حاجة و بقى قعيد.

حينها بكت سديم و خارت قواها لتستند بـ رأسها إلى صدرهِ الذي يتحرك إلى أعلى و أسفل بـ ضراوةٍ ثم همسات بـ عجزٍ و ضعفٍ جعل عضلة قلبه تنسى كيف تنبض

- فكرتك هتفهمني ، فكرت إني واضحة ، بس أنت مفهمتنيش.

خفف قبضته عن معصمها بل و داعبه يُدلكه بـ رفقٍ ثم وجد يده تحد طريقها إلى خصرها و ضمها إليه في حنانٍ لا يُشبه النظرة القاسية في عينيهِ ، و ظلت سديم تبكي بـ صمتٍ حتى تحشرج صوتها و خرج بـ نشيجٍ

- أنا محتاجاك يا أرسلان ، طمني و قولي إن بابا مطمن إني معاك.

كانت نظرته تقسو أكثر و ملامحه السوداء تزداد سوادًا و غلظةٍ ، و رغم ذلك لمساته لتهدئتها و يده التي رفعت ذقنها يُجبرها على النظر إليه

عيناها التي تُشبه البحر في عُنفِ مشاعرها و السماء في صفاءِ نظراتها كانت تأسره في كُلِ مرةٍ ينظر إليها ، تأخذه في نوبةٍ إبحار تارة و رحلة كـ طائر حُر يستطيع أن يجد نفسه أخيرًا ، عيناها الآن حزينة و مُعاتِبة

ضيق عينيه قليلًا دلالةٍ على غضبهِ من نفسهِ و شعور مُؤلم يضرب قلبه ، مسح إبهامه على ذقنها ثم أخيرًا هتف بـ صوتٍ خفيض و شديد العُمق

- محدش فهمك أدي يا سديم ، و لحد دلوقتي أنا فاهمك بس!

لم يُكمل حديثه و أغلق فمه و لكن لم ترضَ بـ صمته فـ همست تحثه عله يتحدث و لأول مرة

- بس ايه! كمّل.

توقف إبهامه عن الحركة و توقفت نظراته عن الطواف على ملامحها لتتركز على عينيها ، مشاعرها التي تتوسله لأن يعترف لها جعلته يُهزم من جديد فـ هتف تحت تأثير هيئتها المُسكِرهْ

- مش متحمل نظرة العتاب اللي شايفها ، مش مستحمل الذنب اللي شايله .

*****

فتح عابد الباب و دفعه ليدخل ، كان الطبيب قد أنهى عمله و استخرج الرصاصتين ، أشار إليه بـ يدهِ للخروج و وقف قِبالة سليم الذي يزجره بـ نظراتٍ قاتلة ثم جأر و هو يُحاول تحرير يده ، يسحبها من القيد فـ يُسبب صوت قوي 

- بتخوني يا عابد!

كانت ملامح عابد هادئة لم ينفعل و لم يفقد هيبته ، بل تقدم منه حتى سحب مقعد و جلس أمام سليم الغاضب كـ وحشٍ وقع في الأسر ثم قال بـ صوتٍ ثابت

- مين قالك إني خُنت!
- بتتواقح معايا!

هدر بها سليم و هو يجذب القيد من الحائط و لكن بلا فائدة ، و رغم ذلك لم يفقد عابد هدوءه ، بل مال إلى الأمام و قال بـ نبرةٍ رزينة

- بالعكس أنا أنقذتك ، و عملت الفيلم دا عشانك.
رف سليم بـ جفنيهِ غير مُصدقًا و نظر إلى عابد و كأنه يستمع إلى أصواتٍ غير واضحة ، فـ أكمل الذي أمامه

- متتفاجئش ، أنا لسه ولائي ليك
- كاذب.

قالها سليم رافضًا إظهار ثغرة فـ أومأ عابد و قال بـ بساطةٍ

- حقك متصدقش ، لكن أنا عملت دا عشان أنقذك يا سليم ، الشيطان كان ينوي الشر.

ظهرت نظرة عظم الفهم على ملامح سليم ليومئ عابد فـ سألع بـ صوتٍ ذاهب يخشى الإجابة التي على استعداد لسماعها على أحرِ من الجمرِ

- إيش بتقصد!
- همس بـ خُبثٍ ناعم يُشبه جلد الأفعى: بيقتلك.

أغمض عيناه و هو يتلقى الإجابة التي يخشاها و إبتلع ريقه بـ خوفٍ و توتر جعلت حدقتيه تهتز ، فـ هتف عابد و هو يُراقب اختلاجاته

- و عشان أقدر أساعدك محتاج أعرف حاجة
- الأول كيف تقابلتم!
- تجاهل سؤاله و قال: مش محتاج التفاصيل دي في حاجة ، في الوقت المناسب هتعرف ، دلوقتي هسأل سؤال و إجابتك هتحدد موقفي معاك.

يكره سليم ذلك الوضع ، يكره أن يكون ضحية حتى و إن كان مُذنبًا ، يكره أن يكون في موضع ضعف و الذي أملمه يمتلك من القوة ما قد تسحقه ، إلا أنه يُقدر حياته أكثر و عليه الآن الرضوخ و الإستكانة حتى يستطيع ترتيب أموره حسب خطورة الموقف 

لذلك أومأ و كأنه يحث عابد على سؤاله و الذي تنفس ثم سأل في صوتٍ مجهول يرتدي قناع الجهل

- علاقتك بـ واحد اسمه مؤمن كانت إيه! أظن دا خيط البداية.

و الذي لا يعرفه أو يعرفه عابد أنه خيط النهاية أيضًا

تعليقات



×