رواية نفحات مضيئة الفصل السابع 7 بقلم مريم عثمان

 

رواية نفحات مضيئة الفصل السابع بقلم مريم عثمان

ذلك النور الذي يُبدِّد ظلمات الجهل، وتلك الجوهرة التي تُرفع بها الأمم وتُبنى بها الحضارات.

 لم يكن العلم يومًا ترفًا، بل هو لبنة أساسية في بناء الإنسان، وسر ارتقائه في معارج الفضل. 

وقد كرَّم الله سبحانه العلماء، ورفع منازلهم، فقال في كتابه العزيز:

﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11).

وكانت أولى كلمات الوحي: ﴿اقْرَأْ﴾، فأي شرف أعظم من أن يكون مفتاح الرسالة الخاتمة أمرًا بالقراءة، إعلانًا بأن العلم هو بوابة النور، والسبيل إلى معرفة الله وإعمار الأرض.

دعنا نغوص في رحلة ممتدة عبر الزمن، نروي فيها حكاية العلم في الإسلام، ونكشف مكانته العظيمة من خلال أعظم العلماء الذين أناروا الدنيا بعقولهم، وصاغوا للحضارات مجدًا لم يزل بريقه حاضرًا.

في زاوية مظلمة من صحراء الجزيرة العربية، حيث كانت الأمية تضرب بأطنابها في أرجاء المجتمع، وحيث كان الجهل سيد الموقف، وُلد رجلٌ سيكون له شأنٌ عظيم، رجلٌ بعثه الله ليكون نورًا يهدي به القلوب، وينقل البشرية من براثن الجهل إلى آفاق العلم والإيمان.

كان محمد بن عبد الله، النبي الأمي الذي لم يخط حرفًا بيده، يحمل في قلبه كتابًا من عند الله، أُنزل على قلبه لينير العقول ويهدي النفوس. لم يكن الإسلام مجرد دين، بل كان ثورةً معرفية، قلبت المفاهيم، ووضعت للعلم قواعده، فكان العلماء ورثة الأنبياء، وصناع المجد.

وقف النبي ﷺ ذات يوم بين أصحابه، ليقول لهم كلماتٍ كانت بمثابة إعلانٍ عن قيمة العلم في الإسلام:

"من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة."

كانت تلك الكلمات بداية ثورةٍ علمية، سيحمل لواءها رجالٌ عظام، سيغيرون وجه التاريخ.

مرت الأيام، وتعاقبت السنون، وازدهرت حضارة الإسلام، وبدأت رحلة العلم تأخذ مجراها، وظهر العلماء الذين حملوا على عاتقهم أمانة البحث والتعلم.

في بغداد، حيث بلغت الحضارة الإسلامية أوجها، وقف رجلٌ بين رفوف الكتب، يتأمل صفحاتها كأنها كنوزٌ بين يديه. لم يكن ذلك الرجل سوى الحسن بن الهيثم، أحد أعظم علماء البصريات في التاريخ.

 كان يؤمن أن العلم لا يُؤخذ بالتقليد، بل بالتجربة والبرهان، فصاغ المنهج العلمي الذي سيُبنى عليه علمٌ جديدٌ فيما بعد.

في الوقت ذاته، كان ابن سينا يضع أساسًا لعلم الطب، وكان الخوارزمي يخط بيده معادلات ستُصبح حجر الأساس لعلم الجبر. كان الرازي يبتكر الأدوية، وكان الزهراوي يُجري العمليات الجراحية الأولى في التاريخ الإسلامي.

لقد كانت المساجد جامعات، وكانت حلقات العلم مدارس، وكان كل طالب علمٍ يعلم أن كل خطوة في سبيل التعلم هي خطوةٌ في طريق الجنة.

ليس من قبيل المصادفة أن يكون العلم هو مفتاح التفوق، فحين ازدهرت حضارة الإسلام، كانت أوروبا تغط في ظلام الجهل، وحين حمل المسلمون شعلة المعرفة، أضاءوا بها أركان العالم.

لكن ما إن تراخى المسلمون عن العلم، حتى ضعفت حضارتهم، فكان درسًا قاسيًا يُذكِّر كل جيل بأن الأمة لا تقوم إلا على العلم، ولا تُبنى إلا بالمعرفة.

وقف أحد العلماء في مجلس الخليفة، فقال له:
"يا أمير المؤمنين، إن الجيوش تهزم إذا فقدت سلاحها، وإن الأمم تهلك إذا فقدت علماءها."

كان ذلك درسًا عظيمًا، فما كان من الخلفاء إلا أن جعلوا العلم واجبًا، فأسسوا المدارس، وافتتحوا دور الترجمة، وبعثوا الطلاب إلى كل مكان، ليعودوا وهم يحملون علوم الدنيا.

مرت القرون، وتغيرت الدول، ولكن بقي العلم هو ميزان الأمم. اليوم، يقف المسلم أمام مرآة التاريخ، يسأل نفسه: هل أدركنا قيمة العلم كما أدركها أجدادنا؟ هل حملنا رسالة العلماء كما حملها ابن الهيثم والخوارزمي وابن سينا؟

لقد علمنا الإسلام أن طلب العلم فريضة، وأن العلم لا يقف عند حدود الدين، بل يشمل كل علمٍ نافع. إن الطبيب الذي يُنقذ الأرواح عالم، والمهندس الذي يبني العقول عالم، والمعلم الذي يربي الأجيال عالم.

فإذا كنا نبحث عن النهضة، فلن نجدها إلا حيث وجد العلم، وإذا أردنا العزة، فلن نحصل عليها إلا بالمعرفة، وإذا رغبنا في التقدم، فلن يكون لنا ذلك إلا إذا عدنا إلى تلك اللحظة الأولى، عندما سمع النبي ﷺ صوت الوحي يقول له:

"اقرأ."
العلم هو ميراث النبوة، ونور الحياة، وسلاح الأقوياء. هو فريضةٌ إلهيةٌ، وكنزٌ لا ينضب، ووسيلةٌ لصناعة المجد. فإذا أردنا أن نرى الإسلام عزيزًا، فلنحمل راية العلم كما حملها أجدادنا، ولنجعل القرآن دليلنا، والعلم سبيلنا، والعمل رسالتنا.

فكما قال الشافعي:
"من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معًا فعليه بالعلم."

وقف الفتى الصغير في أزقة بغداد، يرقب رجلاً يخطّ بالقلم على رقعة من الورق. كانت عيناه تلمعان وهو يرى كيف تتحوّل الأفكار إلى كلمات، وكيف يُسطّر العقل علومه بالحبر، لا بالسيف. اقترب، وسأل الرجل:

"لماذا تكتب؟"

رفع العالم رأسه، ونظر إليه مبتسمًا، ثم قال:
"لأن الله أمرنا أن نقرأ... اقرأ يا بني، فالعلم هو ميراث الأنبياء، وهو النور الذي يرفع به الله أقوامًا، ويترك آخرين في الظلمات."

ثم أمسك العالم بيد الفتى، وأشار إلى السماء، وقال:
"أما قرأت قول الله؟"

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۝ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ۝ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ۝ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۝ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1-5).

سكت الفتى قليلًا، ثم قال:
"إذن، العلم هو أول ما أمرنا الله به؟"

أومأ العالم برأسه، وقال:
"نعم، يا بني، وهو أيضاً أول ما يرفع الله به شأن الناس، وأول ما يسقط به من تركه."

جلس الفتى بين أيدي العلماء، يستمع إلى دروسهم، ويقلب صفحات الكتب. مرّت الأيام، وصار يسأل نفسه: "كيف يعرف الله منّا العلماء؟ وكيف يرفعهم فوق غيرهم؟"

حتى جاء يومٌ وقف فيه أحد أساتذته، وقال:
"يا بني، إن الله هو الذي علّم الإنسان، وهو الذي يمنح العبد الفهم، وهو الذي يُكرم العلماء بأن يرفعهم درجات، فقال في كتابه الكريم:
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11).

أليس هذا فضلًا عظيمًا؟"

أجاب الفتى بحماس:
"بلى ولكن كيف يميز الله بين العلماء وغيرهم؟"

ابتسم المعلم، وقرأ قوله تعالى:
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 9).

وأضاف:
"يا بني، العلم ليس مجرد كلمات تُحفظ، بل هو نورٌ في 
القلب، يميز بين الحق والباطل، وبين الجهل والهداية."

كبر الفتى، وصار يتأمل في هذا الكون الفسيح، يتفكر في السماء، في النجوم، في البحر وأمواجه.

 رأى عجائب لا تعدّ ولا تحصى، فأحسّ بخشيةٍ في قلبه، لم يكن يعرفها من قبل.

عاد إلى أستاذه، وقال:
"يا معلمي، أشعر أنني كلما ازددتُ علمًا، ازددت خشيةً لله."

تبسم المعلم، وأشار إلى كتاب الله، وقال:
"هذا هو العلم الحقيقي، وما وصلت إليه هو ما قال الله فيه:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: 28).

العالم الحقيقي يا بني، هو من لا يُعجب بنفسه، ولا يتكبر بعلمه، بل كلما تعلم ازداد تواضعًا وخشيةً من الله."

صار الفتى عالمًا، وأصبح يعظ الناس في المسجد، يدعوهم إلى التفكر في خلق الله. كان يقف بينهم، ويتلو عليهم من كتاب الله:

﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ۝ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات: 20-21).

ثم يقول:
"هل تأملتم في خلقكم؟ هل تفكرتم في هذا الكون البديع؟! إن الله يأمرنا أن ننظر، أن نبحث، أن نتفكر، أن نستخدم عقولنا! ألم يقل الله تعالى:
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ (النساء: 82).

﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ (يس: 68).

﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ (الغاشية: 17).

إن الجهل يا إخوتي ليس أن تكون أمّيًا، بل أن تُغلق عقلك عن التفكر في آيات الله"

ولكن العلم وحده لا يكفي... فقد رأى الفتى أن بعض الناس يحفظون العلوم، لكنهم لا يعملون بها. فتساءل: "هل يكون هذا علمًا نافعًا؟"

فوجد الجواب في كتاب الله:
﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ (الجمعة: 5).

فقال: "إذن، لا قيمة للعلم بلا عمل"

ثم قرأ:
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: 105).

فعلم أن العلم الحقّ هو الذي يُترجم إلى واقع، إلى اختراعٍ نافع، إلى دواءٍ يشفي، إلى فكرةٍ تُنير العقول.

وفي المقابل، رأى الفتى كيف أن الجهل يُفسد العقول، ويؤدي إلى الضلال والدمار. فكان يقرأ قول الله:

﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: 187).

﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (العنكبوت: 63).

﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ (الأعراف: 64).

فقال: "الجهل ليس فقط غياب المعرفة، بل هو رفضها، هو الإعراض عن الحق، هو التعامي عن نور العلم الذي أنزله الله"

مرت الأعوام، وأصبح الفتى شيخًا، يُعلّم الأجيال القادمة، ويروي لهم قصته، ويقول لهم:

"العلم نور، وهو سبيل النجاة، وهو أمر الله لنا، وهو طريق الجنة... فاقرأوا، وتعلموا، وتدبروا، وكونوا من العلماء الذين يرفع الله بهم الأمم"

ثم تلا عليهم قوله تعالى:
﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه: 114).

وكانت تلك آخر كلماته... لكنه ترك وراءه أمةً تحمل العلم، وتنشره، لتضيء به العالم، إلى يوم يبعثون.


شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
تعليقات