رواية نفحات مضيئة الفصل الثامن 8 بقلم مريم عثمان

 

رواية نفحات مضيئة الفصل الثامن بقلم مريم عثمان 


ذلك الشعور العميق الذي لا تهزه رياح المصائب، ولا تزعزعه عواصف الأقدار، هو النور الخفي الذي يضيء ظلمات القلوب، والسر الذي يجعل الحياة، بكل ما فيها من ألم ومعاناة، رحلة هادئة مستقرة. لكنه ليس استسلامًا، بل طمأنينة، ليس ضعفًا، بل قوة، ليس خنوعًا، بل إدراك أن لكل شيء حكمة، ولكل قَدَر غاية، وأن العوض قد يكون أقرب مما تظن الأرواح المتعبة.

هذه ليست مجرد قصة، بل رحلة عميقة في عالم الرضا، حيث الإيمان يتجلى، وحيث النفس تصارع، وتخضع، ثم تشرق بنور القبول واليقين.

كانت ليلة طويلة، والسماء تمطر بغزارة، وكأنها تغسل الأرض من همومها. في أحد الأحياء القديمة، جلست "ليلى" على عتبة منزلها البسيط، عيناها معلقتان بالسماء، تحمل في قلبها أوجاعًا كثيرة، لم تكن تعرف كيف تبوح بها أو لمن. كانت قد فقدت والدها قبل سنوات، وعاشت مع أمها التي كافحت كثيرًا لتربيتها، لكن الفقر كان ظلًّا لا يفارقهم.

كل ليلة كانت تسأل نفسها: لماذا أنا؟ لماذا أعيش هذه الحياة القاسية؟ لماذا يُحرم البعض من الراحة بينما ينعم بها آخرون؟ كانت ترى الظلم يحيط بها من كل مكان، لكنها لم تدرك أن الإجابة كانت أقرب مما تظن.

في تلك الليلة، زارتها جارتها العجوز، "أم حكيم"، امرأة صالحة، عاشت عمرها في صبر ورضا رغم أنها فقدت زوجها وأبناءها جميعًا. جلست بجانبها، وربتت على كتفها بحنان قائلة:

"يا ابنتي، ألا تعلمين أن الرضا هو أعظم النعم التي يمنحها الله لعباده؟"

نظرت ليلى إليها بعينين غارقتين في التساؤل، فقالت العجوز بصوتها الهادئ العميق:

"إن الله قد ذكر الرضا في كتابه الكريم حين قال: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أرأيتِ؟ ليس فقط أن الله يرضى عن عباده، بل يجعلهم يرضون عنه أيضًا، وذاك هو كمال السعادة"

سكتت ليلى قليلًا، ثم قالت بصوت حائر:

"لكن كيف أستطيع أن أرضى وأنا أرى حياتي مليئة بالمآسي؟"

ابتسمت العجوز، وقالت:

"يا بنيتي، الرضا ليس أن تحبِّ المصيبة، بل أن توقن أن وراءها حكمة، وأنك إن صبرت، سترى الخير الذي خفي عنك في البداية. النبي، عليه الصلاة والسلام، قال: عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ."

كلماتها اخترقت قلب ليلى، لكنها لم تكن قادرة على الاستيعاب بعد. كيف يمكن للمصيبة أن تكون خيرًا؟ كيف يكون الحرمان نعمة؟ لكن القدر لم يكن لينتظر حتى تفهم،. 
بل قرر أن يعلمها بنفسه. 

في صباح اليوم التالي، استيقظت ليلى على صوت أمها وهي تبكي بحرقة. ركضت إليها لتجدها جالسة على الأرض، تمسك برسالة من المستشفى، تخبرها بأن المرض الذي تعاني منه قد تفاقم، وأنها تحتاج إلى علاج مكلف. شعرت ليلى وكأن الأرض تنهار تحتها، ماذا ستفعل؟ من أين لها المال؟

خرجت إلى الشارع، تبحث عن أي عمل، عن أي أمل، حتى وصلت إلى مسجد الحي، حيث وجدت الشيخ "ياسين"، الذي كان معروفًا بحكمته ورجاحة عقله. قصّت عليه ما تمر به، فأجابها بهدوء:

"يا بنيتي، قد تظنين أن هذا بلاء، لكنه باب من أبواب الرحمة، لو علِمتِ الحكمة التي وراءه، لما تمنيتِ زواله."

نظرت إليه بدهشة، فقال مبتسمًا:

"سأخبركِ قصة... كان هناك رجل فقير، لا يملك إلا كوخًا صغيرًا، احترق ذات يوم، فبكى بحرقة، وظن أن الله يعذبه، لكنه لم يعلم أن هذا الحريق كان سببًا في أن يراه أحد التجار، الذي رق لحاله، ومنحه عملًا جعله من أغنى الناس. فلو لم يحترق كوخه، لبقي في فقره! وهكذا، يا ابنتي، لا تحكمي على البلاء قبل أن تنظري إلى نهايته."

أخذت ليلى كلماته في قلبها، لكنها لم تدرِ أنها على وشك أن ترى بنفسها كيف يمكن للمصيبة أن تكون أعظم النعمالفصل 

مرت الأيام ثقيلة على ليلى، وكأن الزمن نفسه كان يتباطأ، متكئًا على همومها. مرض أمها كان يتفاقم بشكل يومي، وكان المال يتناثر من بين يديها كالرمل. لكنها لم تكن لتنسى كلمات الشيخ ياسين، فقد ظلت تتردد في ذهنها. "لا تحكمي على البلاء قبل أن تنظري إلى نهايته." كانت تلك الكلمات مثل الضوء في عتمة الليل.

ذات مساء، بعد صلاة العشاء، جلست ليلى في غرفة أمها الصغيرة، تتأمل القرآن الكريم بين يديها. فتحته على آية في سورة الشورى: "وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (الشورى: 11). قرأت الآية عدة مرات، ثم ارتفعت همساتها في قلبها، "إيمان، هداية، قلب..."

كأن قلبها بدأ يدرك شيئًا عميقًا. ماذا لو كان المرض الذي أصاب أمها، بلاءً من الله، طريقًا لتهدئة قلبها وتهذيب نفسها؟ كانت قد قرأت في القرآن عن الابتلاءات والرضا في عدة مواضع، فكلما توجهت إلى آية، شعرت أنها تلمس شيئًا داخليًا يطفو ليخرجها من الظلام.

في اليوم التالي، بينما كانت تمشي في السوق، قابلت "أم حكيم"، الجارة الطيبة التي كانت لا تفارقها نصائحها. فقالت لها، بعد أن سمعتهما عن حال أمها:

"يا ليلى، تذكري أن الله لا يبتلي عبده إلا ليُحسن إليه، وأنه سبحانه لا يعذب المؤمن إلا ليطهِّره. ألم تقرئي قوله في القرآن: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" (البقرة: 286)؟ نعم، هو سبحانه يعلم مقدار قدرتك على الصبر، ويعلم أنك ستكونين أقوى وأقدر على التحمل بعد هذا البلاء، ويُريد لك أن تصلي إلى أعلى درجات الإيمان."

أشارت ليلى برأسها موافقة، لكنها كانت ما زالت تتساءل: كيف يمكنها أن تجد السلام الداخلي في مثل هذا الظرف؟

مرت الأيام، وبدأت ليلى تلاحظ شيئًا غريبًا، فكلما كانت تقبل على ما قدره الله، تزداد روحها إضاءة، ويقل الألم في قلبها. كانت تشعر بأنها أصبحت أقوى من أي وقت مضى. تعلمت كيف تكتسب رضا الله عن طريق التسليم المطلق، والتوكل عليه في كل أمر. وتدريجيًا، بدأت الأوجاع التي كانت تملأ قلبها تخف.

ذات مساء، بينما كانت في المسجد، استمعت إلى خطبة الشيخ ياسين، الذي تحدث عن آيات الرضا والطمأنينة في القرآن الكريم: "وَرَضُوا عَنْهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ" (المجادلة: 22). قال الشيخ في خطبته:

"الرضا، يا أحبتي، هو ذلك القلب الذي يطمئن لما قدّر الله له. ليس فقط أن يقبل العبد ما يصيبه، بل أن يرضى بما جرى عليه ويعلم يقينًا أن الله لا يفعل ما يضر لعبده المؤمن. قد ترى في البداية أن المصيبة كبيرة، ولكن في النهاية تعلم أنها كانت سببًا لفتح أبواب أكبر وأعظم، لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا."

كأن كلمات الشيخ ياسين كانت تفتح أبوابًا جديدة في قلب ليلى. شعرت أن الرضا ليس مجرد قبول للأقدار، بل هو حالة من التسليم العميق التي تعكس علاقة خاصة بين العبد وربه.

مرت الأسابيع، وبدأت صحة أمها تتحسن تدريجيًا، لكن كان هناك تحول أعمق في قلب ليلى، تحول لم يكن فقط في رضاها عن مرض أمها، بل عن الحياة نفسها. أصبحت كل محنة تطرأ على حياتها، فرصة لتعلّم جديد، كما لو أن الله كان يزرع في قلبها بذور الإيمان الراسخ، ثم يسقيها بماء الصبر والتوكل.

في أحد الأيام، بينما كانت تمشي في الحقل القريب من منزلها، وقعت عيناها على نبتة صغيرة تخرج من بين الصخور، نحيلة ضعيفة، ولكنها كانت على الرغم من ذلك، ترفع رأسها في اتجاه الشمس، وكأنها تنتظر أن تشرق الحياة من جديد. تذكرت ليلى في تلك اللحظة قوله تعالى في سورة التغابن: "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ..." (التغابن: 11).

كانت تلك الآية بمثابة الضوء الذي يضيء طريقها في هذا الظلام. بدأت ترى في كل مصيبة فرصة لصقل نفسها، وفي كل تحدٍّ مجالًا لتعلم الرضا. بدأت تربي نفسها على أن الرضا ليس مجرد استجابة للقدر، بل هو قوة داخليه تقوي الروح وتجعلها قادرة على التحمل.

في النهاية، عرفت ليلى أن الرضا ليس استسلامًا، بل هو طريق للإيمان، هو جوهر اليقين بالله، وهو القوة التي تجعل العبد يشعر بالأمان في وسط كل الفتن والأزمات. لقد أضاء الرضا قلبها، فبدأت تشعر بسلام لا مثيل له، في عالم مليء بالاضطراب.

وكانت تلك هي بداية تحول حياتها، لتحيا في رضا الله، بما قدر لها، وبدأت ترى الحياة بعين جديدة، تلك العين التي تلمح الخيرات والبركات في كل يوم، وفي كل لحظة.

تعليقات