رواية نفحات مضيئة الفصل التاسع 9 بقلم مريم عثمان

 

رواية نفحات مضيئة الفصل التاسع بقلم مريم عثمان

في ظلال الفجر، حيث تبدأ الشمس ببثّ نورها على الدنيا، وحيث تدبّ الحركة في الأرض بعد سكون الليل، هناك قصة لم تُروَ بعد، قصة الإنسان مع العمل، ذلك السعي الدؤوب الذي يخلد أثره في الحياة، ويرسم معالم المستقبل. 

إنها حكاية من يأخذ بأسباب الرزق، ويطرق أبواب العطاء، ويؤمن بأن السعي في الأرض عبادة، وبأن الكسل مذمّة والاتكال ضعفٌ لا يليق بمن خُلق ليعمر الأرض.

في مدينة تضج بالحركة، حيث الأسواق تعج بالباعة، والمصانع تزمجر بآلاتها، والمزارع تخضرّ بسواعد أصحابها، 
كان هناك رجل يُدعى "سالم"، نشأ في بيتٍ لا يؤمن بالخمول، فقد تربى على يد أبيه الذي كان يقول له دومًا: "يا بني، لا شيء يأتي بلا تعب، والله قد جعل لكل مجتهد نصيبًا، فازرع تحصد، واتعب تسترح، وسر في الأرض فإنها واسعة، واعمل فإن العمل كرامة."

نشأ سالم في بيت بسيط لكنه ملؤه العزة، كانت والدته تقصّ عليه كل ليلة حديث النبي ﷺ: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده." فشبّ على يقين بأن اليد التي تعمل هي التي تستحق الاحترام، وأن من أراد الحياة بكرامة وجب عليه أن يسعى إليها بعرق جبينه.

حين شبّ سالم، أدرك أن العمل في الإسلام ليس مجرد وسيلة للكسب فحسب، بل هو عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله. تذكر قول الله تعالى: "وَقُلِ ٱعْمَلُوا۟ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ" (التوبة: 105)، أي أن العمل ليس مجرد فعل دنيوي، بل هو أمر إلهي، وكل حركة يقوم بها الإنسان في سعيه لكسب رزقه تسجل في صحائفه، فلا مكان للبطالة في دين يحث على العمل، ولا عزّ لمن يقضي يومه عاطلًا بلا هدف.

بدأ سالم حياته المهنية كعامل في ورشة نجارة، وكان يحلم بأن يصبح صاحب ورشة مستقلة يومًا ما. كان يتقن كل قطعة يصنعها وكأنه يبدع في تحفة فنية، ويعمل بإتقان عجيب مستحضرًا حديث النبي ﷺ: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه."

كان زملاؤه ينجزون أعمالهم كيفما اتفق، غير مبالين بالجودة، لكن سالم كان يؤمن أن لكل مسمار يدقه، ولكل لوح ينحته، شهادة أمام الله، فكان يقول: "ليشهد هذا الخشب يوم القيامة أنني صنعته بصدق."

مرت السنوات، واشتد عود سالم، واستطاع بفضل الله أن يمتلك ورشته الخاصة، لم يكن أغنى القوم، لكنه كان أسعدهم، كان ينام قرير العين، لا يخشى أن يُسأل يومًا عن مالٍ أتى بغير حق، أو عملٍ لم يؤدَّ بإتقان.

وذات يوم، جاءه رجل يريد شراء طاولة، لكن سالم رفض بيعها لأنها لم تكن متقنة كما ينبغي، فقال له الرجل متعجبًا: "يا سالم، الكل يبيع ولا أحد يهتم كما تفعل، إنها مجرد طاولة"

ابتسم سالم وقال: "بل هي ميزان أعمالي، إن أتقنتها سعدت في الدنيا والآخرة، وإن تهاونت بها ضاع مني ما هو أعظم من المال"

فالعمل ليس مجرد وسيلة لكسب المال، بل هو امتحان لكل إنسان، وهو طريق نحو الجنة إذا أُدّي بإخلاص. لقد جعل الله الأرض بساطًا ممتدًا، وجعل فيها من الخير ما يكفي كل من يسعى، ووعد الذين يعملون ويجتهدون بالرزق والبركة، قال سبحانه:

"هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًۭا فَٱمْشُوا۟ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا۟ مِن رِّزْقِهِۦ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ" (الملك: 15).

فمن أراد أن يعيش بكرامة، فليعمل، ومن أراد البركة، فليتقن عمله، ومن أراد الجنة، فليجعل سعيه في الدنيا شهادة له يوم الحساب.
 
لم يكن العمل يومًا في الإسلام مجرد وسيلة للرزق، بل كان جزءًا من رسالة الإنسان في الأرض، فقد خلق الله آدم عليه السلام وأمره أن يكدح ويسعى، وجعل العمل عبادة، والإتقان فيه طريقًا للبركة والرضا الإلهي.

كان سالم في حياته يؤمن بأن كل لحظة يقضيها في عمله، هي لحظة تقربه إلى الله، فهو لم يكن يرى النجارة مجرد مهنة، بل رسالة يؤديها بصدق، كأنها صلاة لا تنقطع. ولأن الله سبحانه قد بيّن في كتابه الكريم أهمية العمل والإتقان فيه، فقد كان سالم يستشهد بآيات القرآن التي تؤكد على أن السعي والعمل الصالح هما من أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة.

أول ما كان يؤمن به سالم أن الله أمر بالسعي في الأرض وطلب الرزق، فقال سبحانه:

"هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًۭا فَٱمْشُوا۟ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا۟ مِن رِّزْقِهِۦ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ" (الملك: 15).

هذه الآية كانت منهجًا لسالم، فقد كان يعلم أن الله لم يخلق الإنسان ليبقى في خمول، بل أمره بالسعي، وجعل الأرض طريقًا للرزق، فمن اجتهد وسعى، أكرمه الله، ومن تقاعس، حُرم من خيره.

لم يكن سالم يقبل بعمل ناقص، فقد كان يعلم أن الإتقان من صلب الدين، وأن الله لا يقبل إلا العمل المتقن، مصداقًا لقوله تعالى:

"وَقُلِ ٱعْمَلُوا۟ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ" (التوبة: 105).

هذه الآية كانت تهز كيانه كلما قرأها، فهو يعلم أن الله يرى كل عمل يؤديه الإنسان، فإن أخلص وأتقن، كان له أجر، وإن أهمل وفرّط، حمل وزره على ظهره يوم القيامة.

كان سالم يردد دائمًا أن الرزق لا يأتي لمن يجلس في بيته متواكلًا، بل لمن يسعى ويجتهد، تمامًا كما قال الله في كتابه العزيز:

"فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ وَٱبْتَغُوا۟ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَثِيرًۭا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (الجمعة: 10).

لم يكن سالم يرى تعارضًا بين العبادة والعمل، بل كان يرى أن كليهما طريق إلى الجنة، فمن صلى وسعى، فقد جمع بين الخيرين، ومن تواكل، فقد خسر الدنيا والآخرة.

لم يكن الإيمان مجرد كلمات تردد، بل كان أفعالًا تُثبت، فقد ربط الله العمل الصالح بالإيمان في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:

"إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّٰتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُلًۭا" (الكهف: 107).

سالم كان يقول دائمًا: "الإيمان ليس صلاة فقط، بل هو أن تعمل الخير، أن تصنع بيدك، أن تنفع غيرك، أن تبني ولا تهدم، فهكذا يكون الإنسان مؤمنًا حقًا."

كان سالم يؤمن أن من يعمل بجد وإخلاص، سيجد ثمرة عمله في الدنيا قبل الآخرة، تمامًا كما قال الله تعالى:

"مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًۭا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌۭ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةًۭ طَيِّبَةًۭ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ" (النحل: 97).

وكان يقول لمن حوله: "هل تريد حياة طيبة؟ اعمل بجد، وأخلص النية، وسترى كيف يفتح الله لك أبواب الخير."

كان هناك يوم، جلس فيه سالم مع تلاميذه وقال لهم: "هل تظنون أن الجهاد فقط هو حمل السلاح؟"

قال أحدهم: "أليس الجهاد في سبيل الله بالسيف؟"

ابتسم سالم وقال: "بل الجهاد أن تعيش مجاهدًا في عملك، أن تنهض باكرًا، أن تتعب لتطعم أبناءك بالحلال، أن تتقن صنعتك حتى لا يحتاج الناس لغير المسلمين، أن ترفع شأن أمتك. أليس هذا جهادًا؟"

ثم قرأ لهم قول الله: "وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُوا۟ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت: 69).

وقال لهم: "أتدرون من المحسنون؟ هم الذين يعملون بإتقان، الذين لا يغشون، الذين يبنون ولا يهدمون، الذين يجعلون عملهم عبادة، فهؤلاء هم أهل الجهاد الحقيقي."

كبر سالم، لكنه ظل يعمل حتى آخر لحظة في حياته، وحين شعر بأن أجله قد اقترب، جمع تلاميذه وقال لهم:

"يا أبنائي، لا تظنوا أن المال وحده يغني، فكم من غني فقير لأنه لم يعمل بشرف، وكم من فقير غني لأنه عمل بيده وأخلص.

إن الله لا يسألكم كم كسبتم، بل يسألكم كيف كسبتم، فإياكم والغش، إياكم والكسل، وإياكم أن تقولوا يومًا: تعبنا وسئمنا.

اجعلوا أعمالكم عبادة، ولا تنسوا أن الله ينظر إليكم، فلا تعملوا إلا بما يرضيه، وأوصيكم بهذه الآية، فهي قانون الحياة:

"إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُوا۟ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعًۭا بَصِيرًۭا" (النساء: 58).

ثم أغمض عينيه، ورحل في هدوء، لكنه لم يترك وراءه مجرد ورشة نجارة، بل ترك إرثًا من القيم، من العمل المتقن، من الأمانة التي ستظل حيّة في كل من تعلم منه.

هكذا عاش سالم، وهكذا رحل، ليبقى اسمه شاهدًا على أن العمل ليس مجرد مهنة، بل طريق إلى الجنة.

وهكذا تبنى الأوطان، بسواعد تؤمن أن العمل شرف، وأن الحياة بلا عمل، ليست حياة، بل انتظارٌ مملّ لمجهول لا يأتي.

تعليقات