رواية احكي يا ميرنا زاد الفصل التاسع
🌿 أهلُ الصَّرِيم... حينَ انقلبَ الحُلمُ كابوسًا!
ــــــــــــــــــــــــــــ
حُكي يا سادة يا كرام، أنَّ الأرضَ تُباركُ أهلَ الخيرِ، وتُنبتُ لهم رزقًا لا ينقطع، لكنَّ بعضَ القلوبِ تغترُّ بنعمةِ الله، فتظنُّ أنَّ ما بينَ أيديها مُلكٌ لا يُؤخذُ منها، فتُمسكُ يدَها عن العطاءِ، وتُغلِقُ بابَها في وجهِ المحتاج.
فإن أنصتُّم إلى "ميرنا زاد"، حدَّثتكم عن قومٍ امتُحنوا بالخيرِ، فلما بَخِلوا به، صارَ نقمةً عليهم، وكيفَ تحوَّلَت جنتُهم إلى صريمٍ، فاسمعوا واحذروا، فالحكايةُ ليستْ ببعيدةٍ عنَّا، والعِبرةُ تُؤخذُ ممَّن سبق!
في أرضٍ باركَها الله يومًا، حيث تتنفَّسُ الحقولُ نسماتِ الفجر، وتمتدُّ البساتينُ كأنَّها لوحةٌ مرسومةٌ بريشةِ الرحمة، عاشَ إخوةٌ ورثوا عن أبيهم حقلًا مباركًا. كانت الشمسُ تُشرقُ عليه ببهاء، وتُظلِّلهُ رحمةُ الله، فتتدلَّى ثمارهُ يانعةً، يقطفُ منها الفقراءُ نصيبهم قبلَ أن تمتدَّ إليها أيدي أصحابها، كما كان يفعلُ أبوهم، الرجلُ الصالحُ الذي لم يخذلْ محتاجًا يومًا.
لكن حين مات، ماتَ معهُ كثيرٌ من البركة، ليسَ لأنَّ الخيرَ نَفَد، بل لأنَّ القلوبَ تغيَّرت.
في ليلةٍ ظلماء، اجتمعَ الإخوةُ في مجلسٍ خفيّ، يُحيطُ بهم سكونٌ ثقيل، ويتداولونَ كلامًا لم يكن ليُقالَ في حياةِ أبيهم.
قالَ كبيرُهم وهو يُحرِّكُ كوبَ الشرابِ بينَ يديه:
"إلى متى نُعطي هؤلاءِ الكسالى من جُهدِنا؟! تعبنا نحنُ وزرعنا نحنُ، وهم يأتونَ بوجوهٍ ضاحكةٍ ليأخذوا بلا عناء؟!"
ردَّ الآخرُ بحماسٍ، وكأنَّ نيرانَ الطمعِ قد أشعلتْ صدره:
"لقد حانَ الوقتُ لنمنعَ عنهم هذا النَّهب! لنَحصدَ ثمارَنا قبلَ أن يأتوا عندَ الفجر، ولا نعطيهم شيئًا!"
وافقوا جميعًا، واتفقوا على اللقاء عندَ أولِ خيطٍ من نورِ الصباح، ليأخذوا زرعهم قبلَ أن يصلَ الفقراء.
لكن... لم يكونوا يعلمون أنَّ هناكَ مَن سمعَ خُطَّتهم.
مَن يسمعُ الهمساتِ في الظُّلمات؟ مَن يُحصي الأفكارَ قبلَ أن تُقال؟
إنَّهُ الله!
بينما كانوا يُخططونَ في مجلسهم، كانت السماءُ تُرسلُ علاماتٍ لم يُدركوها. الريحُ هبَّتْ فجأةً، وكأنَّها تُنذرُ بعاصفةٍ آتية، والنجومُ التي كانت تتلألأ في العادةِ، كتمتْ ضوءَها وبدت شاحبةً، كأنَّها ترفضُ أن تُنيرَ طريقَ الظلم.
في منتصفِ الليل، حينَ كانَ الإخوةُ نائمينَ بأحلامِ الحصادِ والثروةِ، جاءَ أمرُ الله.
ظلمةٌ غريبةٌ سقطتْ على الحقل، ليستْ كظلمةِ الليلِ المعتادة، بل كأنَّ السَّماءَ قد انطوتْ على الأرضِ، وكأنَّ شيئًا خفيًا زحفَ ليبتلعَ النور. أصواتٌ لم تُسمع من قبلِ تمتمتْ بينَ الأغصان، وكأنَّ الأرضَ تئنُّ قبلَ أن تُصابَ بالمصيبةِ.
هبةُ ريحٍ قويةٍ هزَّت الأشجارَ، فتناثرَ الورقُ كأنَّهُ يبكي مصيرَه، وسُمعتْ طقطقةُ الأغصانِ المتكسِّرةِ، كأنَّها أرواحٌ تنتحب. ثم سادَ سكونٌ مخيفٌ، وكأنَّ كلَّ شيءٍ قد ماتَ في لحظة.
❖ "وَيْلَنَا!"... لكن هل ينفعُ الندم؟
وحينَ انشقَّ الفجرُ...
خرجَ الإخوةُ مبكرينَ، متحمِّسينَ لحصادٍ لن يُشاركهم فيه أحد، يسيرونَ بثقةٍ، تملأُ عيونَهم نشوةُ الانتصار.
لكن حينَ اقتربوا... توقَّفوا.
ما هذا؟!
وقفوا مشدوهينَ أمامَ مشهدٍ لم يخطرْ لهم على بال.
الحقلُ الذي كانَ بالأمسِ جنةً خضراءَ، صارَ الآنَ كومةَ رمادٍ سوداء، الأشجارُ التي كانت تمتدُّ بأغصانِها نحوَ السماءِ، لم تَعدْ سوى هياكلَ محترقة، الأرضُ التي كانتْ تفوحُ برائحةِ الخيرِ، تفوحُ الآنَ برائحةِ الموتِ.
لقد ضاعَ كلُّ شيء!
صرخَ أحدُهم بذعرٍ، يُحاولُ إنكارَ الكارثة:
لقد أضعنا الطريق! هذا ليسَ حقلَنا!
لكنَّ أخاهمَ الأكبرَ، وهو أكثرُهم دهاءً، كانَ قد أدركَ الحقيقةَ الرهيبة، جثا على ركبتيهِ، وراحَ يُضربُ وجهَه، يتمتمُ بكلماتٍ متقطعة:
"لا... لا... هذا حقْلُنا، لكنَّهُ صارَ صريمًا!"
إنَّهُ عقابُ الله... جاءَ بسرعةٍ لم يتوقَّعوها!
❖ وهل تُعيدُ التوبةُ ما ضاع؟
أدركوا في لحظةٍ واحدةٍ أنَّهم كانوا يُخططونَ لحرمانِ الفقراء، لكنَّ الله حرَمَهم هم أولًا، قبلَ أن تمتدَّ أيديهم للزرعِ، وقبلَ أن يُنفقوهُ في شيءٍ، ذهبَ كلُّ شيءٍ في لمحِ البصر.
تفرَّقوا في الحقلِ كأنهم يبحثونَ عن مخرجٍ من كابوسٍ حيّ، لكن لا طريقَ للفرار، لا زرعَ، لا حصادَ، لا رجاءَ!
نظروا إلى الحقلِ بصمتٍ، ارتعشتْ أيديهم، وغصَّتْ حناجرهم، ما عادَ هناكَ كلامٌ يُقال.
قالوا في ذُلٍّ وخوفٍ:
وَيْلَنَا! إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ!
لكن... هل كانت التوبةُ ستُعيدُ إليهم ما خسروه؟
قال تعالى:
﴿ إِنَّا بَلَوۡنَـٰهُمۡ كَمَا بَلَوۡنَاۤ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡجَنَّةِ إِذۡ أَقۡسَمُوا۟ لَیَصۡرِمُنَّهَا مُصۡبِحِینَ، وَلَا یَسۡتَثۡنُونَ، فَطَافَ عَلَیۡهَا طَاۤىٕفࣱ مِّن رَّبِّكَ وَهُمۡ نَاۤىٕمُونَ، فَأَصۡبَحَتۡ كَٱلصَّرِیمِ ﴾ (القلم: 17-20)
فكم من إنسانٍ يُخططُ ليأخذَ أكثرَ ممَّا يستحقُّ، وينسى أنَّ الله هو الرزاق؟!
كم من ظالمٍ يعتقدُ أنَّهُ يُمسكُ الدنيا بينَ يديه، فيُنزِلُ الله به بلاءً لا يتوقَّعه؟!
إنَّ المالَ والزرعَ والمُلكَ... كلُّها في قبضةِ الله، يُعطي من يشاءُ، ويمنعُ عمَّن يشاء، فلا يغترَّ أحدٌ بما بينَ يديه.
فكم من يدٍ أمسكتْ بالخيرِ جشعًا... فلم تفتحْها إلا على سرابٍ؟!