رواية نصفي الاخر الجزء الثاني (سلسبيل) الفصل العاشر 10 بقلم شاهندة سمير


 رواية نصفي الاخر الجزء الثاني (سلسبيل) الفصل العاشر 


_هل أخبرتك يوماً؟ _

هل أخبرتك يوماً أنك جعلت قلبي محراباً لك ترتل فيه خفقاتي ترنيمة عشقك؟
هل أخبرتك أنني أرتوي من النظر إليك وتخترق ابتسامتك لحظات أحزاني فتغدو ر؟رُفاتاً؟
هل أخبرتك أنك سلبتني حق الإختيار حين وجدتني مُجبرة علي السير بدربك لا أرضي عنه بديلاً رغم أشواك قد أدمتني وتيه قد أصابني؟هل أخبرتك أنني في هذه اللحظة ورغم تعالي صيحة الخذلان في قلبي أجدني مازلت عاشقة لك لا أبغي لك غير السعادة حتي وان أصبتها مع غيري؟لست ملاكاً وإنما أؤمن بأن الحب قدر..إن جمعنا بمن نحب امتلكنا رزقه..وإن لم يفعل فيكفينا شعور يحلم به الكثيرون،قد ذهبوا إلي لحودهم دون أن ينالوه.

أشاحت بوجهها عنه حين تلاقت عيناها بعينيه في مرآة السيارة، لقد تمنت أن ترحل دون أن تراه ولكن لسوء حظها أن فاجئهم بالزيارة حين كانت علي وشك الرحيل،أصر علي توصيلهم بسيارته فاستسلمت مجبرة وقد وجدت ساهر مُرحباً بعرضه. طوال الطريق لم يتوقف ساهر عن الحديث علي حين ظل رعد صامتاً  يمنحه بين الحين والآخر كلمات مقتضبة بينما صمتت سندس تماماً حتي الآن حين توقفت السيارة أمام بوابة المطار، قال رعد:
_انزلوا واستنوني هركن وأرجعلكم.

_متتعبش نفسك....

قاطعها قائلاً بحزم:
_أنا معاكِ لحد باب الطيارة.

اشتبكت النظرات في المرآة فكانت سندس أول من أشاحت بوجهها وهي تهبط من السيارة يتبعها ساهر الذي حمل حقيبة أخته، بينما اتجه رعد لركن سيارته.وجدته يتقدم تجاههما بخطواته الهادئة يعدل من وضع النظارة كعادته فأنّ قلبها حنيناً له واشتياقاً وهي لم تبتعد بعد، أشار لهما بالسير فسارا جواره يدلفان إلي المطار ويتجهان إلي البوابة المخصصة لرحلة سندس.

_جواز سفرك وتذكرتك.

منحته إياهما فلمست أنامله أناملها، انتفضت فقطب جبينه وهو يتطلع إليها، أشاحت بوجهها عنه بارتباك فظل للحظة يتطلع إليها حتي قال ساهر:
_ايه ياابني احنا هنقف كدة كتير؟ الطيارة هتطلع.

هز رعد رأسه وهو يتجه إلي المسئول ويمنحه أوراقها فراجع الأخير جواز سفرها وتذكرتها قبل أن يسمح لها بالدخول.

_متنسيش تكلمينا أول ماتوصلي وخدي بالك من نفسك وكلي كويس، ماما مش هتبقي جنبك عشان تتأكد اتغديتي ولا نسيتي نفسك كالعادة في الشغل.

قال ساهر بلهجة حانية فأدمعت عينا سندس قائلة:
_بس بقي عشان معيطش.
_احنا فيها، تلفي وترجعي وأبقي عيل إن مارقصت من الفرحة دلوقت قدام الناس دي كلها.

ضحكت سندس ملء شدقيها فوجد رعد نفسه يقول برجاء:
_اسمعي كلام أخوكي وأقعدي، مكانك وسط عيلتك مش بين العمال.

توقفت عن الضحك تطالعه بهدوء قائلة:
_مكاني وسط عيلتي بس راحتي بين العمال.. خد بالك من سلسبيل يارعد، سلسبيل طيبة قوي وتستاهلك وانت ياساهر مش هوصيك علي ماما، خد بالك منها لحد مابابا يرجع، وياريت لو تخليها تروح لدكتور نبيل تعمل شيك آب، النهاردة كان وشها أصفر قوي ويادوب قادرة تتكلم.

_اشمعني دكتور نبيل يعني؟ ما فيه دكاترة أحسن منه وأكبر منه في السن كمان، يعني خبرة ولا علشان كان زميلك ؟

_وانت مالك انت؟ ماتركز في سلسبيل.

قالها ساهر بمزاح فظهر الحرج علي وجه رعد لإدراكه أنه يتدخل حقاً فيما لا يعنيه بينما قالت سندس بحزن رغم فرحة عاشها قلبها للحظات لغيرة وصلتها في نبراته فنفضت آمال قد تغدو سراباً:
_دكتور نبيل ابن طنط علياء صاحبة ماما وماما بتحبه زي ساهر وبترتاح في التعامل معاه مش عشان كان زميلي يارعد.. ده النداء الأخير لطيارتي.. سلام.

ناولها ساهر الحقيبة بينما ناداها رعد فنظرت إليه ليتمتم :
_آسف.

احتلت ابتسامة باهتة شفتيها وهي تبتعد يتابعانها بعيونهم حتي اختفت عن الأنظار ليظلا هكذا بعض الدقائق مابين متابعاً للطائرة وهي ترحل ليطمئن علي أخته، وبين ناقماً  لتركها ترحل وتبتعد عن ناظريه لا يدري كيف سيكون حالها وكيف ستعيش وحدها هناك؟ يتساءل كيف استطاع فهد تقبل سفر أخته وكيف استطاع ساهر بينما لم يستطع هو ولم يتقبل، ليدرك في هذه اللحظة وجود خطب ما ولكنه لم يتوقف ليدرك ماهيته وقد شعر بأنه إن فعل سيفتح علي نفسه باباً من جهنم لن يستطيع اغلاقه مهما حاول.

_______

كان يضع الضمادة علي قدمها بعد أن طهر جراحها، يحمد الله أنها ليست عميقة وإلا أُضطر لأخذها للمشفي حتي وان كان في هذا خسارة كل شيء فلا أثمن لديه من روح بريئة ولا أرخص من روحه ان كانت للأرواح البريئة فداء.
سمعها تهمس باسم عدوه، تناديه مراراً منذ أن ارتفعت حرارتها البارحة وكأنها تستنجد به عله يشفي آلامها، تنهد وهو يتطلع إلي وجهها الذي زادته حمرة الحرارة جمالاً وفتنة.. يتساءل بحنق.. ماالذي زج به في متاهة الانتقام لتصبح مثل هذه الفتاة أسيرته ويصبح هو سجانها؟ ياليته ظل جاهلاً بماضيه فقد كان وقتها خالي البال لا ثقل علي كاهله ولا ذنب يشوب ضميره ولا غضب يشعل قلبه كحاله الآن.

نهض ليحضر بعض الماء وقطعة قماش نظيفة حتي يعمل علي خفض درجة حرارتها فتوقف حين وجد يدها تتعلق بيده، تجمد جسده بالكامل وحرارة جسدها تلسعه وارتعاشتها تنتفض لها خفقاته، وجدها تفتح عيناها بصعوبة وتتطلع إليه تهمس من حلق جاف:
_مية.. عايزة أشرب مية.

ربت علي يدها ثم وضعها جوارها علي السرير وهو يتجه إلي الكومود ويصب لها كأساً من المياه ثم يجلس جوارها، تردد للحظة قبل أن يمد يده و يرفع ظهرها بينما باليد الأخري يسقيها، شربت جرعتين ثم اكتفت فأعادها لوضعها الطبيعي وقد ثار جسده رافضاً التخلي عن قربها يرتعش بدوره وتعلو حرارة جسده فأسرع بخطواته مغادراً ينوي قبل أن يعمل علي خفض حرارة جسدها أخذ حماماً بارداً فيبدو أنه أصيب  بفيروس ما أو هو فقط تأثير قربها يتمني من كل قلبه أن يكون الاحتمال الأول هو الأرجح.

_______

إن اشتقت إليك يأتي بك حلمي فأتدثر بطيفك يبعد عني برد ليالي الشتاء وأستأنس بصوتك العذب يمحو أشجان الحنين وأنسي أنك بعيد عني حين تحتويني ذكرياتي معك.

_صحيتك؟
_أنا كنت لسة بحلم بيك.
_يبقي وحشتك؟
_قوي قوي يانضال.. نضال.
_عيون نضال.
_قلبي مش مرتاح رغم تأكيدك ليا اني أطمن وانك في شغل ومش هتتأخر عليا.. انت مخبي عني حاجة؟ من فضلك طمني.

تنهد نضال قائلاً:
_أوقات فيه كلام لو اتقال بيتعب أكتر، السكوت هنا بيبقي أحسن صدقيني.
_يعني فيه حاجة زي احساسي ما قالي.. انت تعبان؟ طمني يانضال ومتسيبنيش أتعذب بالشكل كدة أرجوك.
_والله أنا كويس متقلقيش من الناحية دي خالص.
_أمال فيه ايه بس؟
_كل اللي أقدر أقولهولك ان فيه شوية مشاكل في الشغل وأنا ويزيد بنحلهم وأول مانخلص هرجعلك علطول عشان انتِ كمان وحشتيني قوي.

تنهدت فأردف قائلاً:
_مقلتليش كنتِ بتحلمي بإيه؟
_الحقيقة حلم غريب .. غريب قوي. كنت واقع في بير غويط وكان معاك حور وأنا كنت واقفة أصرخ، كنت بستنجد بأي حد لكننا كنا في مكان مفيهوش حد وانت كنت بتطمني بس ازاي أطمن وأنا شايفاكم لكن مش قادرة أكون معاكم ولا قادرة أساعدكم، فجأة لقيت سلم لكن السلم كان ضعيف وحباله مقطعة قلت أهو قشة نتعلق بيها حدفتلك السلم لكن انت مرضيتش تستعمله، قلتلي السلم ده ممكن يطلعنا خطوتين بس ضعيف وهيوقعنا من تاني ومستحيل يوصلنا لبر أمان، حاولت أقنعك بس انت صممت وقلتلي ربنا معانا ومش هينسانا علينا بالصلاة والدعاء والأخذ بالأسباب زي ماسيدنا يونس دعا ربه في بطن الحوت.. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فضلنا نصلي وندعي لحد مافعلاً جت عربية ونزل حد منها جاب حبل وثبته وطلعكم وقتها خدت حور في حضني واترمينا في حضنك وفضلت أعيط أعيط وأنا بحمد ربنا لحد ماصحيتني دلوقت.

تمالك نضال نفسه ورهفه نقية القلب ذات الفطرة السليمة تدرك مُصابهم وتمنحه مايحتاجه بالضبط ليصل إلي قرار سليم، حاول المزاح قائلاً:
_ده أنا موحشتكش لوحدي بقي، ده فيه ناس تانية واحشاكي كمان.
_حقيقي وحشتني وبقالي فترة مسمعتش صوتها وده هيجنني يانضال، احنا ازاي وافقنا تبعد عننا حتي لو كان للدراسة.. دي بنتنا الوحيدة..ازاي هان علينا فراقها؟

أغمض نضال عينيه ألماً قائلاً:
_أهالي كتير زينا بيضطروا يفارقوا ولادهم عشان مصلحتهم وبيستودعوهم ربنا اللي مبتضيعش عنده الودائع أبداً.
_ونعم بالله.. بس رحلة السفاري اللي طلعتها دي خليتها متكلمناش الفترة اللي فاتت دي كلها وأنا وحشني صوتها ومقلقني غيابها.
_هانت يارهفي وترجع وتكلمنا زي ماقلتلك وبعدين احنا هنقضي المكالمة في سيرة ولادنا وأحلامك ياست هانم.. فين الكلام الحلو اللي وحشني ولا آجي مصر مخصوص عشان أسمعه؟
_ياريت.
_ده انتِ بتتلككي بقي.
_مش قلتلك وحشتني، نفسي أشوفك قوي واترمي في حضنك ومفارقهوش تاني أبداً، دي أول مرة تبعد عني الفترة دي كلها، ده انت لما اتجوزنتي عشان تنتقم مني وكنت بتكرهني مبعدتش عني كدة.
_أنا عمري ماكرهتك، حتي قبل ماأعرفك اتعاطفت معاكي من غير ماأحس لما الحيوان خطيبك سابك ولما شفتك أول مرة انسحرت بجمالك ووقعت أسير لعيونك اللي لونهم بينافس جمال لون السما، كملت في خطتي وأنا عارف ومتأكد اني خسرت قلبي وكانت مسألة وقت قبل مااعترف اني حبيتك وجوازي منك مكنش عمره خطة انتقامية قد ما كان قدر ونصيب، نصيبي اني اعمل الحادثة وأتشوه وبابا يدخل في غيبوبة عشان اقرا مذكراته وأقرر انتقم من مامتك فيكي وأقابلك.. نصيبي كان انتِ وقدري ألاقي فيكِ نصي التاني وعشقي وتوأم روحي اللي مستحيل أتخيل حياتي من غير وجودك فيها يارهفي.

صمت من جانبها جعله يهمس بصوت أجش مزقه الحنين:
_رهف..
_نعم..
_روحتي فين؟
_حاضناك قوي احضني يانضال، احضني علي قدر ماتقدر وخليني جوة حضنك اللي محسيتش بالأمان قبل مايضمني ولا حسيت بالسكن قبل ماأكون جواه.. بحبك ياجوزي وحبيبي وكل ماليا.
_وأنا بحبك.. بحبك قوي يارهف.

طرقات علي الباب جعلته يتمالك روحه الغارقة بحبها وهو يقول:
_الظاهر ده يزيد، هسيبك دلوقتي تنامي وأكلمك بكرة ياحبيبتي.
_خلي بالك من نفسك وطمني دايماً عليك وحاول متتأخرش عليا أكتر من كدة.
_عيوني.. لا إله إلا الله.
_محمد رسول الله.

أغلق الهاتف بينما يفتح الباب ليزيد الذي ظهر علي ملامحه الإحباط ليجلس علي أقرب كرسي وهو يقول :
_برضه مقدرناش نوصل لحاجة..وكأنه شبح مش سايب وراه أي أثر والناس مش راضية تتكلم رغم اني عرضت عليهم مبالغ كبيرة بس الظاهر انهم بيخافوا منه قوي..

قاطعه نضال قائلاً:
_مهما كانوا بيخافوا منه فاغراء المال أقوي من الخوف، غالباً بيحبوه، الظاهر انه ذكي كفاية عشان يحاوط نفسه بناس بتحبه ومستعدة تبذل أرواحها فداه.

قال يزيد بحنق:
_انت ناقص تقولي انك معجب بيه.

جلس نضال قائلاً:
_الاعتراف بقوة الخصم وذكاءه يخليك تقدر تواجهه من غير مفاجآت.
_المزاد بكرة يانضال.. ازاي هنلحق نواجهه في الفترة القصيرة دي؟
_بالمفاجأة.. هنعمل آخر حاجة هيتوقعها.

قطب يزيد جبينه قائلاً:
_قصدك ايه؟
_مش هنتازل عن المزاد.

اتسعت عينا يزيد قائلاً:
_وبنتك يانضال.. حور.. انت اتجننت؟

_زي ماانت قلت قبل كدة، اللي خطفها لو قدر بحور يلوي دراعنا هيعملها مرة تانية وتالتة ومش هنخلص لكن لو وقفناه في اللحظة دي هنخلص منه نهائي.
_وحور؟ انت كدة بتجازف بحياتها.
_حياتها بين ايدين ربنا هصلي واستودعه روحها وبإذن الله مش هيضيعها، ده حلم رهف اللي قلبها أبيض زي الملايكة ورسالة ربنا ليا عن طريقها وأنا فهمت الرسالة اللي زرعت في قلبي ايمان واطمئنان.. تعالي صلي معايا وادعي.. لا إله إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين.

اتجه نضال إلي الحمام ليتوضأ بينما تابعه يزيد بعينيه قاطباً جبينه بحيرة يتساءل.. هل جُنّ نضال أم يخفي عنه أمراً لا يستطيع فهمه؟قبل أن يهز كتفيه وهو يتبعه ليتوضأ ويصلي متضرعاً إلي الله لعله يجيب دعواتهما.

_______

كانت تسير بسرعة وقد تأخرت عن العودة إلي المنزل لسهوها كعادتها كلما جاءت إلي المكتبة العامة تنهل من الكتب ماشاءت فتشعر بزخمة الكلمات تمنحها أجمل شعور بالعالم بعد شعورها بالح.....

نفضت أفكارها وهي لا تبغي عودة للتفكير فيما حاولت بكل ذرة في كيانها نسيانه، صرخت فجأة حين مر من جوارها موتور سريع عليه شابين جذب أحدهما حقيبتها بقوة لتقع علي وجهها ويرتطم رأسها بالأرض، تأوهت بينما تجمهر الناس حولها يحوقل البعض بينما يلعن الآخرون أمثال هؤلاء السارقون، ساعدتها سيدة في الأربعين من عمرها تقريباً علي النهوض تسألها بقلق:
_انتِ كويسة يابنتي، حاسة بحاجة؟

لمست جبهتها حيث شعرت بالألم لتجد جرحاً ينز منه الدماء أبصرته السيدة قائلة بجزع:
_ده انتِ مجروحة منهم لله ربنا ينتقم منهم، تعالي آخدك المستشفي وهم يعملوا اللازم.
_شكراً ياطنط أنا كويسة الحمد لله إنها جت علي قد كدة.
_كويسة ازاي يابنتي؟ الجرح بينزف.
_ده جرح بسيط متقلقيش.
_طب الشنطة كان فيها حاجة،فلوس مثلاً أو دهب؟ تحبي نروح القسم نعمل محضر؟ أنا معايا العربية.
_لأ قسم إيه؟ أنا هروح لإني مش قادرة.

انفض الجمع من حولها بينما تقول السيدة:
_طب ماتيجي أوصلك؟

كادت أن تفعل ولكن اصرار السيدة علي اصطحابها لأي مكان أوجس قلبها خيفة، قد تكون سيدة طيبة تبغي عملاً طيباً وقد تكون عكس ذلك وفي حالتها تلك لن تستطيع المخاطرة لذا اعتذرت بلطف وأخبرتها أنها ستتدبر أمرها وحدها، فابتعدت السيدة بينما توجهت سلسبيل إلي أقرب محل بقالة وطلبت منه الهاتف لإجراء إتصال، منحها الهاتف فوقفت حائرة لا تدري بمن تتصل الآن وقد اكتشفت أن الرقم الوحيد الذي تحفظه عن ظهر قلب هو رقم فهد، كادت أن تعيد الهاتف للرجل ولكنها ترددت وقد بدا لها الوضع لا يحتمل المكابرة لذا فقد اتصلت بالرقم بحزم وما ان سمعت صوته حتي قالت بضعف :
_فهد.

رد عليها بلهفة :
_سلسبيل مال صوتك؟

قاومت دواراً أصابها وسواد يسحبها بكل قوته وهي تقول بوهن :
_إلحقني يافهد.. أنا......

لم تستطع أن تكمل عبارتها وقد استسلمت لهذا السواد الذي أحاطها بينما جُن فهد وهو ينادي اسمها يشعر بقلبه علي وشك الخروج من صدره بينما رد عليه صوت رجل غريب فقال بقسوة:
_أقسم بالله لو لمست شعرة منها أنا.......

قاطعه الرجل يقول بجزع:
_والله يابيه أنا ماعملت فيها حاجة دي جت محل البقالة بتاعي وطلبت التليفون تكلمك الظاهر عملة حادثة وفجأة وقعت ومبتردش.

كان قد ركب سيارته وهو يقول بقلق عارم بعد أن عرف أن سلسبيل تعرضت لحادث:
_انت فين.. انطق مكانك فين؟

أملاه العنوان فأسرع إليه تصر إطارات سيارته من سرعته تكاد أن تنخلع من مكانها  ولكنه أبداً لم يهتم فقد كان جل اهتمامه الوصول إليها مهما كلفه الأمر.

_______

كانت تجلس علي الأرجوحة تبكي دون ارادة منها، تبكي قدراً جعلها تهواه منذ الصغر وتتعلق بكينونته وكأن روحها وجدت فيه نصفها الآخر  وكأنه صار جزء لا يتجزأ منها إن غاب عنها تشعر بالنقصان،اكتفت بجوارها حده حتي وان كان لغيرها فهي لم تحلم قط به يبادلها مشاعرها وقد أدركت مع مرور السنوات عمق الفجوة بينهما واتساع الحدود فهو في السماء نجماً لامعاً بينما تقبع هي في الأرض لا تتزحزح عنها، ولكن ومنذ الليلة التي اعترف فيها بمشاعره تجاهها وانقلب كل شيء رأساً علي عقب.. أجبرها اعترافه علي التساؤل..
ماذا لو؟ ماذا لو استسلمت لمشاعرها وأصبح لها كما هي له؟
ماذا لو تركت كل مايعوق دون ارتباطهما خلفها وتغاضت عنه؟
وماذا لو تزوجته وجعلت قربها منه بالإمكان؟

نفضت كل هذه التساؤلات وصوت يتردد برأسها..
حكايات الأثر وقصص الأجداد خيالاً لا وجود له، حين يتزوج الأمير بالخادمة ويعيشا سعيدين للأبد هي قصة خيالية لا أكثر، أما الواقع فيمتلئ بالتنمر إلي جانب بعض المنغصات التي لن تتركك تهنأين بحياتك معه وفي النهاية سيتخلي هو عنكِ بعدما تدمنين وجوده وستحيين عذاباً مريراً سيودي بحياتك دون ريب.

ازداد انهمار دموعها مع سواد أفكارها وحزن أحاط خفقاتها لتنتفض حين وجدت يد حانية توضع علي كتفها، استدارت تطالع صاحبتها فوجدتها والدتها التي تطلعت إليها بعيون مشفقة، أطرقت براء برأسها أرضاً بخزي، فاقتربت منها أمها تجلس جوارها تقول بحزن:
_لو بتحبيه قوي كدة يبقي الموضوع مش محتاج عناد، طاوعي قلبك واسمعي كلامه قبل ماتندمي يابنت قلبي.

رفعت إليها براء عينين معذبتين تقول بصوت حزين النبرات:
_ياريت ينفع ياأمي بس مش كل اللي بيتمناه القلب بينوله، أوقات كتير القلب بتعميه رغباته لكن لما العقل بيتدخل بينور بصيرته وبيخليه يشوف نهاية قراره وتبعاته وبيلحقه قبل مايتإذي من اختيار غلط قبل فوات الأوان.

_ورحمة أبوكي تكلميني زي مابكلمك، بلاش كلام المدارس اللي ممنوش فايدة ده.. قلب ايه وعقل ايه اللي يمنعه؟ يابنتي كسرة القلب لما يحب ويكابر بتبقي كسرة من غير جبر، انتِ فاكرة كلام الناس اللي خايفة يغير ساهر ويخليه يندم علي جوازه منك هينفعك لما تشوفيه بقي لواحدة غيرك، دي قهرة عمرك ماهتقدري تتحمليها..يابنتي ياحبيبتي بطلي نشفان الدماغ بتاع أبوكي الله يرحمه ده واسمعي كلام قلبك ماهو مايرضيش ربنا الجدع يبقي بيحبك وشاريكي وانتِ بتحبيه بس بايعاه.

نهضت براء تقول بعصبية :
_أنا مش بايعاه.

ثم أردفت بمرارة:
_أنا مش زيك ياأمي بتحركني مشاعري وبس، أنا من صغري اتعودت أحكم عقلي وعقلي بيقولي مينفعش.. هو فين وانتِ فين.. هو ابن الأكابر وانتِ بنت.....

صمتت وقد شعرت بمرارة الكلمة علي مسامع أمها واستحالة نطقها دون أن تجرحها، بينما نهضت السيدة ثريا تقول :
_سكتي ليه؟ ماتكملي.. بنت الخدامة مش كدة؟الشغل مش عيب ولا حرام مادام بشرف.

أسرعت تمسك يد أمها تقول بندم:
_مش قصدي ياأمي أقلل منك ولا من قيمتك، انتِ عارفة انتِ ايه بالنسبة ليا واني بفتخر وأنا بقدمك للناس كلها وأقولهم هي دي أمي اللي ربيتني بعد ماوالدي اتوفي وخليتني البني آدمة اللي قدامكم دي.

قالت ثريا بحيرة:
_لما انتِ شايفة كدة، خايفة ليه بس؟
_أنا مش خايفة علي نفسي، أنا خايفة عليه هو.. دكتور في منزلته ومكانته ووضعه مش هيقدر يتقبل نظرة مجتمع عقيم هيشوف انه يستاهل أحسن وأغني وأرقي مني، وقتها الكلام هيجرح ويعلم وان مأثرش في وقته هيأثر بعدين وفي النهاية....
_نهاية ايه وانتوا لسة في البداية، الحب مبيحتاجش تفكير كتير علي فكرة.. ياتبقوا مع بعض وتتحدوا الكون بحاله ياتفارقوا وكل واحد يروح لحاله.
_ده كلام روايات ومع ذلك أنا اخترت الفراق.
_اختيار غلط غلط، أنا نصحتك وانتِ حرة ولآخر مرة بحذرك مش هتقدري تتحملي وجود واحدة تانية في حياته أخدت المكان اللي عرضه عليكي وبعنادك رفضتيه، ياريت تجازفي معاه أحسن ما تموتي بلاه.. ولا إيه يابنتي؟
_وليه أستني لما أشوفه مع غيري؟
_قصدك ايه؟
_أنا هوافق علي الشغل اللي كان عارضه عليا دكتور فاروق.

اتسعت عينا ثريا قائلة:
_هتسافري اسكندرية.. طب ودراستك وشغلك مع الاطفال الصبح وأنا؟
_هعمل الماجيستير في جامعة اسكندرية وهستقيل من الشغل في المدرسة أما انتِ ياست الكل فأول ماأستقر هبعتلك تيجي تعيشي معايا.
_ده انتِ ظبطي كل أمورك بقى، عموماً متعمليش حسابي.. أنا مرتاحة في مكاني وبين العيلة اللي ضمتني بعد وفاة جوزي الله يرحمه وبقت زي عيلتي ولما تحبي تشوفيني ابقي زوريني ولو علي ساهر لو مش عايزة تشوفيه هبقي أقولك علي اليوم اللي هيكون فيه برة البيت مع.. مع مراته يابنت سيد.

قالت كلماتها واستدارت مبتعدة بينما تناديها براء تدرك أن والدتها غاضبة منها ولها كل الحق في ذلك لذا لم تستجب لندائها، كادت أن تتبعها ولكنها آثرت أن تتركها تهدأ قليلاً ثم تتحدث معها علها تقنعها بقرارها.

_______

استفاقت من نومها تشعر بألم في رأسها، كان هناك من يمسك يدها بحنان ففتحت عيونها ببطئ لتراه أمامها يهمس باسمها، ابتسمت بوهن هامسة باسمه بدورها ليقول بحنان:
_حمد الله ع السلامة ياسلسبيل.

عادت إليها الذاكرة مرة واحدة لتدرك أنها لاتعيش أحد أحلامها معه وإنما هو حدها بالفعل يمسك بيدها، تركت يده علي الفور وهي تستقيم جالسة تتطلع إلي محيطها  باضطراب قائلة:
_أنا فين؟
_في المستشفي.
_جيت هنا ازاي ؟
_بعد مااتصلتي بيا واغمي عليكي كلمني صاحب المحل واداني العنوان فجيبتك علي هنا عشان أطمن عليكي،كان لازم يتفحص الجرح اللي في دماغك ونعمل أشعة.

لمست مكان جرحها فوجدت ضمادة تغطيه بينما يردف فهد:
_الحمد لله عدت علي خير بس خضيتيني عليكي بجد ياسلسبيل، أنا حسيت روحي بتنسحب مني وأنا شايفك قصادي مغمي عليكي والجرح بينزف.

تجاهلت كلماته التي أثارت خفقاتها وهي تقول :
_أمال فين رعد؟هو انت مكلمتوش؟

شعر بالغيرة تسري بأوصاله فقال باقتضاب:
_لأ.. كنت مستنيكي تفوقي.

هزت رأسها بتفهم فأردف قائلاً:
_انتِ ليه اتصلتي بيا أنا ياسلسبيل ومتصلتيش برعد؟المفروض لما الواحدة بيحصلها موقف بتستنجد بأقرب الناس ليها.

فهمت تلميحه فتجاهلته تشيح بوجهها قائلة بهدوء:
_لما شنطتي اتسرقت كان فيها الموبايل اللي عليه الأرقام كلها.
_يعني من بين كل الأرقام مكنتيش حافظة إلا رقمي؟

استدارت بوجهها تتطلع مباشرة إلي مقلتيه السوداويتين تقول بنفاذ صبر:
_انت عايز توصل لإيه بالظبط يافهد؟

تطلع إلي دخانيتيها بدوره يقول بحيرة:
_أنا عايز أعرف عملت ايه زعلك مني لدرجة انك بتتجنبيني من يوم مارجعت من السفر؟ عملت ايه خلاني بعد ماكنت أقرب الناس ليكِ أبقي زيي زي الغريب لما تقابليه في أي حتة؟ عايزة أعرف ليه كل ماعينيا تيجي في عينك زي دلوقتي بشوف عتاب و لوم وكأني غلط في حقك غلطة كبيرة مش قادر أعرفها ولا انتِ عايزة تقوليهالي؟ ليه ياسلسبيل.. ليه؟ ده أنا فهد.. فهد اللي كنتي ضله وكان لك.....

قاطعته تقول بمرارة وقد طفرت الدموع بعينيها:
_كنت لك إيه.. صديقة.. رفيقة.. بنت عمة؟ أو يمكن مكنتش بالنسبة لك حاجة أصلاً.. سنين وأنا ضلك زي مابتقول حياتك حياتي واهتماماتك اهتماماتي بس أنا كنت بالنسبة لك إيه؟ عارف بحب ايه وبكره ايه؟ عارف كان نفسي أعمل ايه؟فكرت للحظة تسألني؟ طبعاً لأ.. مكنتش شايف غير نفسك وبس ومع ذلك ح.........

صمتت وقد كادت أن تعترف بعشقه فتطلع إلي ملامحها المتألمة يستحثها قائلاً:
_سكتي ليه؟ ماتكملي.. افتحيلي قلبك.. أنا أهو جنبك وعايز أعرف اللي جواكي ومستعد.....
_مبقاش ينفع.. بقي كل واحد فينا ليه طريق قرر يمشي فيه مع شريك تاني.
_وايه اللي يمنع نفضل مع بعض زي الأول؟
لسة أناني وبتفكر في نفسك وبس.. عايز كل حاجة.. الزوجة والصديقة لكن للأسف مش هينفع وهقولهالك لآخر مرة.. أنا اتخطبت يعني بقيت ملتزمة باحترام الراجل اللي شايلة اسمه واللي مجرد وجودي معاك لوحدنا في أوضة حتي لو كانت أوضة مستشفي زي اللي احنا فيها دي_فيها إهانة ليه أنا مرضهاش.
_انتِ عايزاني أمشي.

قالها بحزن انفطر له قلبها ولكنها تماسكت قائلة بحزم:
_ياريت من فضلك وياريت تخلي الممرضة تتصل برعد وتبلغه بوجودي في المستشفي، بلاش تقوله انت والا هنبدأ حوار ملوش لازمة.
_متأكدة ان ده اللي انتِ عايزاه؟

هزت رأسها فتطلع إليها للحظات ظهر فيهما التصميم علي وجهها، ليهز رأسه بألم قبل أن يسير مبتعداً يضع يده علي مقبض الباب استدار ليلقي عليها نظرة أخيرة ثم غادر الحجرة بهدوء فأطلقت لدموعها العنان ينشج قلبها بأنين الحسرة، لقد بدأ فهد يدرك مشاعره تجاهها، مشاعر لطالما أحست بها قبله  ولكنه لم يكتشفها الا بعد أن شعر بضياعها منه وابتعادها عنه، ولكن في هذه اللحظة لابد وأن تعترف أن الخطأ مشترك من جانبه وجانبها فلو كانت فارقته أثناء سفره فلم تحدثه كل يوم عن طريق الفيديو كول، ربما لو حرمته صوتها ورؤيتها لشعر بأنه يفتقدها ولاكتشف وقتها مشاعره تجاهها وما حدث كل ماحدث لتكون النهاية فراق وحسرة وقلوب تنكسر ولا مجال لجبرها.

تعليقات



×