رواية نصفي الاخر الجزء الثاني (سلسبيل) الفصل الحادي عشر
_سيسترجعها مهما كلفه الأمر__
كانت تتطلع إليه خلسة وهو ينظف جُرحها، تتعجب من رقة لمسته واهتمامه، تتساءل بحيرة عنه..لم تعد تفهمه حقاً.. يبدو قاسياً صلداً من جهة ومن جهة حنوناً مهتماً، لم تعد تستطيع القول أن اهتمامه هو اهتمام رجل بسجينته فما رأته منه في اليومين الماضيين هو اهتمام رجل بضحية بريئة لا ذنب لها، تري دوماً خزي بعينيه حين تتلاقي مع خاصتيها حين يناولها صينية الطعام ولكنه يسرع باشاحة ناظريه عنها ومغادرة الحجرة ليتركها مع دوامة من الأسئلة، حتي أنه توقف عن الاهتمام بجرحها وهي مستيقظة ينتظر حتي تقع أسيرة للنوم ثم يفعل لتستيقظ وقد تبدلت ضمادتها،ربما يظنها الآن نائمة ولكنها مستيقظة تتطلع إليه بقلب مفعم بالحيرة التي قررت في هذه اللحظة وضع حد لها، كادت أن تناديه في هذه اللحظة حين وصلها صوته الهادئ يقول:
_متفكريش كتير، لو عندك سؤال قوليه.
_انت عارف اني كنت صاحية؟
استمر في تنظيف جُرحها وهو يقول :
_رعشة رجليكي عرفتني.
صمتت فاستدار بوجهه إليها يتطلع إلي زرقاوتيها قائلاً:
_مقولتيش يعني سؤالك..هو صعب قوي كدة؟
شعر بارتباك مقلتيها قبل أن تستقيم جالسة تطرق برأسها أرضا وتضغط علي أناملها القابعة بحجرها وهي تقول:
_أصله مش سؤال.. ده.. ده..
رفعت وجهها تتطلع إلي مقلتيه مباشرة وهي تقول:
_ده شكر.
انطلق سهم آخر من عينيها فأصاب خافقه ليعلن قلبه استسلامه التام لحبها يدرك دون ريب أنه تعلق بها حين كان يراقبها وحين أصبحت حده تحول الاعجاب لحب ولو طال بهما الأمر قليلاً لصار عاشقاً متيماً ومجنوناً لإستحالة نيله معشوقته أو البقاء حدها، نفض أفكاره وهو يركز علي كلماتها قائلاً بحيرة:
_شكر؟!
أطرقت برأسها مجدداً تقول بحزن:
_أنا عارفة اني بالنسبة لك مش أكتر من وسيلة بتلوي بيها دراع خصمك.. لو كنت غيرت علي الجرح مرة في اليوم مكنش هيحصلي حاجة وفي الاخر هتوصل برضه لهدفك، لكن اهتمامك بيا وبجرحي اللي بتغير عليه أكتر من مرة في اليوم، اهتمامك بدوايا وأكلي وانك كمان متنامش عشان تشوف اذا كانت حرارتي مرتفعة أو لأ..
رفعت وجهها إليه قائلة:
_ بصراحة اهتمامك مكنش اهتمام خاطف برهينته لكن اهتمام انسان بإنسانة زيه وده شيء لازم أشكرك عليه.
ظل صامتاً بينما يتطلع إليها لتردف :
_أنا في الأول ظلمتك وقلت عليك مجرم بيخطف ضحيته عشان يوصل لأهدافه الدنيئة...
خرج عن صمته يقاطعها قائلاً بسخرية:
_ودلوقت ايه؟ إنسان مش كدة.. أبوس ايدك بطلي المثالية اللي انتِ فيها دي وبصي حواليكِ..أنا مجرم فعلاً خطفتك عشان أوصل لهدفي وحياتك بالنسبة لي مهمة لحد ماأحقق اللي أنا عايزه....
قاطعته قائلة بحزم:
_لأ انت مش كدة والدليل انقاذك ليا من بين ايدين المجرم اللي كان عايز....
أغمضت عيناها وذكري لمساته الدنيئة و أنفاسه البغيضة القريبة منها تعود إليها ليقبض ليث علي يده بقوة يلعن روحه لتعريضها لهذا الموقف، يتمني لو كان هذا المجرم حياً ليقتله مرات ومرات، فتحت حور عينيها وهي تردف:
_ولو كنت مجرم زيه كنت هتعاملني بطريقة أسوأ من كدة، انت جواك انسان حقيقي الكل بيحبه وبيحترمه أكتر مابيخاف منه زي مالاحظت، يمكن حد إذاك بطريقة خليتك تعمل كدة؟ مامتك مثلاً.....
قاطعها قائلاً بصرامة أخافتها:
_متجيبيش سيرة أمي .
تراجعت بعيون اتسعت مقلتيها وفم مرتعش ليتراجع عن ثورته علي الفور وقد تذكر أن لا ذنب لها فيما اقترفته يدا أباها، ليردف بمرارة وقد رقت عيناه:
_خطفي ليكِ كان أول خطوة في اني أرد حق أمي من باباكِ.
_بابا.
_أيوة بابا.. السيد نضال الجبالي كبير عائلة الجبالي اللي إذي أمي وأبويا ويتمني وأنا لسة مخرجتش للدنيا.. الانسان اللي بتتكلمي عنه ده أنا دفنته في اللحظة اللي عرفت فيها حقيقة اللي حصل لأهلي بسبب والدك وفي اللحظة اللي قررت فيها أنتقم منه دوست علي قلبي وقررت أرمي كل اللي اتعلمته ورا ضهري وأكون زيه.. راجل معندوش قلب ولا ضمير.
_بس أرجوك.. انت أكيد فاهم غلط، بابا مستحيل.....
قاطعها قائلاً بصرامة:
_مستحيل.. مفيش عند والدك كلمة مستحيل، أعراض الناس وحقوقهم مباحة ليه، شايف نفسه سيد والباقي عبيده والنتيجة أهي.. أنا وغيري كتير كبرنا وقررنا ناخد حقنا بايدينا ومش هنسكت حتي لو كان التمن روحه.
كانت الدموع تنهمر من عينيها وهي تستمع إلي كلماته تهز رأسها يمنة ويساراً رفضاً لإتهاماته حتي وصل لآخر جملة لتنتفض قائلة:
_طول ماأنا عايشة وفيا نفس مستحيل هخليكوا تلمسوا شعرة منه.
تسحره بشجاعتها ودفاعها كلبوة عن أحبابها ولكنه قاوم مشاعره وهو يقول ساخراً:
_وهتعملي ايه يعني؟
رفعت سكيناً كانت تخفيه تحت وسادتها ووجهته إليه بسرعة فتفاداه بسرعة أكبر وهو يمسك يدها ويلويها ثم يضرب كفها بخفة فوقع السكين من يدها لتخرج منها صرخة قهر وهو ينفضها لتقع علي السرير يقترب منها قائلاً بعيون تلمع:
_مفاجآتك مبتنتهيش، شيء ممتع اني أخليكي في سجني أكتر وأشوف ممكن تعملي ايه.. لكن للأسف احنا وصلنا للنهاية والنهارده والدك العزيز هيستسلم لقدره ويوافق علي الخروج من المزاد ووقتها هترجعي ليه لكن عايزك تحذريه وتقوليله اني مش هسيبه لحد ماانتقم منه و آخد حق بابا اللي مات غدر بسببه وأمي اللي هاجرت بسبب تهديده ليها وان كنتِ لسة مش مصدقاني..
أخرج من جيب سترته ورقة جرائد قديمة مهترئة ألقاها بوجهها قائلاً:
_اقري الورقة دي،أنا كنت محتفظ بيها عشان منساش أبوكِ عمل ايه في أبويا،بس دلوقت مبقتش محتاجها وأنا بمشي في خطتي اللي مش هتراجع عنها أبداً مهما حصل.
تركها وغادر فأمسكت الورقة علي الفور تقرأها، اتسعت عيناها وهي تدرك أن مختطفها ضحية مثلها تماماً ولكنها لا تدري من تسبب في جعله ضحية.. ربما هي والدته التي لم يذكر الخبر عنها شيئاً وربما سوء تفاهم ولكن الأكيد أن أباها خارج الأمر مهما بدت الأمور عكس ذلك.
______
كانت تُحضر الملاءات النظيفة لحجرة السيدة نيرة وزوجها، طرقت الباب فلم تجبها السيدة لتدرك أنها بالخارج، ربما تجلس في الحديقة كعادتها كل يوم، دلفت إلي الحجرة واتجهت إلي السرير تضع الملاءات عليه، حين لفت انتباهها طرف حذاء من الجانب الآخر قطبت جبينها وتركت مابيدها، تتقدم ببطئ لتتسع عيناها بقوة وهي تري السيدة نيرة واقعة علي الأرض مغشي عليها، أسرعت إليها تركع جوارها و تربت علي كتفها قائلة بجزع:
_طنط نيرة؟ أرجوكي ردي عليا.. طنط نيرة.
لم تجبها نيرة فشعرت بالهلع لتنهض وتسرع بالمغادرة حتي تستنجد بأحدهم فلم تجد أمامها غيره، اقتحمت غرفته دون استئذان، ماإن رآها تفعل حتي هب من مكانه واقفاً يطالعها وقد هاله منظرها الشاحب ليقول بقلق:
_مالك يابراء؟
أشارت للخارج تقول بكلمات متقطعة من بين أنفاسها اللاهثة:
_طنط نيرة.. في أوضتها.. واقعة علي الأرض ومبتردش عليا.
ألقي الكتاب من يده وهو يهرول مغادراً الحجرة تتبعه براء حتي وصل لحجرة والدته التي ماان رآها حتي ركع جوارها يرفعها ويربت علي وجنتها بجزع منادياً باسمها بلوعة وأعين دامعة أدمت قلب براء وحين لم تجبه أسرع يخرج هاتفه ويتصل بالإسعاف ليأتيه علي الفور ودون أي تأخير.
_______
اقتربت منه تقول بدلال:
_قلتلك ده عيد ميلادي يافهد ومش عازمة غيرك انت، معقولة تكسفني وترفض بالشكل ده؟
نهض فهد يبتعد عنها قائلاً بتوتر:
_من فضلك تفهميني ياريتاج، أنا واحد متجوز ولو شافني.....
اقتربت منه تقاطعه قائلة بتذمر:
_كل شوية تقولي متجوز متجوز، علي أساس اني مش عارفة، ماأنا عارفة، عرفنا ياسيدي انها محظوظة بيك وباسمك وبقربك.. عرفنا انها محظوظة عشان بتحقق معاك أحلامنا كلنا..
رق صوتها وهي تردف قائلة:
_ أيوة أحلامنا متستغربش.. من يوم ماعرفتك وبقيت حلمي، بس حلمي اللي عارفة اني مستحيل هحققه لإنك مع الأسف بتحب مراتك ومخلص ليها.. قلتلك قبل كدة ان مشاعري مش هقدر أخبيها ومشاعري دي كل مرة بتتعلق بيك اكتر من المرة اللي قبلها.
مدت أناملها تداعب رباط عنقه أثناء حديثها فلم يستطع الابتعاد وأنفاسها العطرة تسحره ككلماتها حين أردفت بنعومة:
_وإزاي بس متعلقش بيك وانت مثال للراجل اللي أي واحدة تتمناه، رجولتك.. ذكاءك.. وسامتك.. طيبة قلبك وأخلاقك العالية، أوقات كتير اتمنيت إني أقابلك قبلها، كنت أكيد هتحبني أنا.. مش كدة يافهد؟
_ريتاج...
وضعت أناملها علي فمه تمنعه من الحديث وهي تقول بهمس:
_هش.. متقولش حاجة.. كفاية اسمي من بين شفايفك يطرب قلبي ويسعدني.. انت متعرفش انت ايه بالنسبة ليا؟انت معاك روحي اللي اتعلقت بيك من يوم ماشفتك ومش راضية ترجعلي غير وأنا جنبك.
فُتح الباب في هذه اللحظة وتوقفت وعد علي عتبته تطالع فهد بعيون أدمعتها الصدمة وأبكاها الخذلان، تنقل بصرها بين وجهه المصدوم وبين هذه المرأة التي أبعدت أناملها عن ثغره وأطرقت رأسها بحرج قبل أن تستدير وعد وتهرول مغادرة المكان بأكمله بينما يناديها فهد بعد أن تمالك نفسه ثم يتبعها لتمرر ريتاج يدها في شعرها بعصبية امتزجت بمرارة وحزن.
_______
_فهد لآخر مرة بجد بحذرك.. لو فضلت كدة فأنا مستحيل أكمل.. أنا حقيقي زهقت.
_وأنا كمان زهقت علي فكرة.. كل شوية زن زن لأ وكمان بتهدديني، مش فهد الجبالي اللي أي واحدة في الدنيا تهدده.
_وأنا مش أي واحدة، أنا خطيبتك يااستاذ فهد ولا نسيت؟ مش ممكن تكون انت البني آدم اللي رضيت أتجوزه، ايه اللي غيرك ؟ مش معقول حتة بنت ساذجة مقفولة مفهومها عن الموضة والشياكة تقريباً معدوم تاخدك مني بالشكل ده.
_انتِ بتتكلمي عن مين؟
رغم الشرر المتطاير من عينيه إلا أنها لم تأبه وهي تقول بغضب مماثل:
_بنت عمتك دي اللي اسمها سل....
تأوهت حين أمسك ذراعها بقبضته القوية يقاطعها قائلاً بصرامة:
_لما تتكلمي عن سلسبيل تتكلمي عنها باحترام ومسمعكيش بتقولي أي كلمة مش كويسة في حقها، سلسبيل قبل ما تكون صديقة عمري فهي بنت عمتي يعني لحمي ودمي وأنا اللي مني لو حد أهانه يبقي أهاني شخصياً، انتِ لسة متعرفيش اللي بيعمل كدة أنا بعمل فيه إيه؟
نفضت يده وهي تقول بثورة:
_وليه أستني لما أعرف، مادام الباشا متنرفز قوي عشان خاطرها ومستعد يعاملني بالشكل ده بسببها يبقي خلاص الحكاية بانت وهي فعلا قدرت تاخدك مني، عموماً مش سوزان حسان اللي تحط نفسها في مقارنة بينها وبين أي بنت في الدنيا، مادام اخترتها يبقي اخترت تخسرني وأنا اللي يخسرني مبيكسبش أبداً يافهد.. أنا هرجع البيت أحضر شنطتي عشان راجعة لندن تاني ولما تكتشف اني وحشتك وانك مش قادر تعيش من غيري متتصلش بيا لإني مش هرد وغالباً هغير رقمي..تشاو يابيبي.
ارتدت نظارتها الشمسية وهي تنهض وتغادر المكان بهدوء وثبات بينما استدار بوجهه يتطلع إلي نهر النيل يتساءل بحنق..كيف ظن أنه أحب فتاة مثل هذه؟ مغرورة حقاً ومتهورة تماما مثله بالماضي القريب، ربما انجذب إليها لإنها تشبهه فظن أنهما يليقان ببعضهما البعض ونسي أن قوة التجاذب تكبر بين المتناقضين وتقل بين المتشابهين.
تنهد بعمق وهو يفكر في حاله تُري هل سيظل يبكي علي أطلال عشق كان من الممكن أن يكون خالداً ولكنه بغباءه أضاعه من يده؟فجأة تذكر كلماتها وظلت تتردد برأسه..
كنت لك إيه؟ صديقة.. بنت عمة؟ أو يمكن مكنتش بالنسبة لك حاجة أصلاً، سنين وأنا ضلك.. حياتك حياتي واهتماماتك اهتماماتي بس انا كنت بالنسبة لك ايه؟ عارف بحب ايه وبكره ايه؟ عارف كان نفسي أعمل ايه؟ مكنتش شايف غير نفسك وبس ومع ذلك ح......
توقف عند هذه الكلمة المبتورة ليتساءل بأمل، تري هل كادت أن تعترف أنها ورغم أنانيته وعصبيته أحبته يوماً؟ لو راجع حياتهما معاً سيري ذلك بوضوح.. كانت تتبعه في كل مكان وتمنحه الحنان والاهتمام، كانت تتطلع إليه دون غيره وكأنه الرجل الوحيد علي الأرض، كانت نظرتها إليه مختلفة حقاً لا تنظرها لإبن عمه حتي، وفي ليلة حفل عيد الحب حين أعلن خطبته لسوزان طالعته بنظرة ألم امتزجت بصدمة وعتاب، يستطيع أن يري ذلك الآن.. لقد خذلها فلجأت لنسيانه عن طريق رجل آخر، خطأ اقترفته بحماقة كخطأه حين كان يبحث عنها في كل الفتيات بينما كانت هي جواره طوال الوقت، أقصي درجات الغباء أن يجد أحدهم نصفه الآخر ثم يظن أنه قادر علي العيش دونه، وهو موقن الآن أنه وجد نصفه الآخر في سلسبيل لذا سيعمل علي جعلها تدرك أنها دونه لن تكون سعيدة قط، هي تظن أنه لايدري عنها شيئاً بينما يحفظها كظهر يده ويعلم أدق شيء عنها وسيُريها ذلك ويسترجعها مهما كلفه الأمر.
______
كان يقف جوارها يتطلع إلي وجهها الشاحب، لا يصدق ما قاله الطبيب له للتو، والدته مصابة بمرض خبيث يقربها للحدها وترفض العلاج علي حد قوله خشية أن يعلم أحد بمرضها فيتألم لألمها، كم هي رائعة هذه السيدة التي اختارها له الله كي تكون والدته. شعر بغصة وهو يدرك أنها ان لم تبدأ العلاج وعلي الفور سيخسرها وكيف يخسرها وهي تربض في روحه وغيابها سيجعله يحيا بروح خالية من الحياة.
وجد الدموع تتجمع في مآقيه فأغمض عيناه يحاول قدر امكانه أن يحبسهم بالداخل فانتفض حين وجد يد حانية توضع علي كتفه، استدار لصاحبتها فوجدها تتطلع إليه بعيون دامعة مثله حملت حزناً امتزج بشفقة فوجد نفسه يرتمي في حضنها وهو الآن أضعف مايكون، ترددت براء للحظة قبل أن تضمه بدورها وقد عجز قلبها عن احتمال ألمه وعذابه لتجده يشهق داخل حضنها، أدركت بجزع أنه يبكي، لأول مرة تراه يبكي علي الإطلاق، هالتها دموعه فزادت من ضمه تود لو أخبرته أن كل شيء سيكون علي مايرام ولكن كيف تفعل؟ وقد كانت جواره حين أخبره الطبيب بحالة والدته، وجدته يتجمد للحظة داخل حضنها فحلت ذراعيها من حوله وقد أدركت أنه ضمها رُغماً عنه وقد احتاج لصدر حنون يحتوي ألمه تماماً كصدر أمه، كان من الممكن أن تكون له أمه وأخته وحبيبته ولكن أوهامها جعلتها تخسر كل هذا، ابتعد يطرق برأسه وكأنها غريبة عنه اكتفي باظهار لحظات من الضعف أمامها وأبي أن تراه ضعيفاً أكثر، كادت أن تقول شيئاً ولكن همسة نيرة باسم ولدها قاطعتها ليقول ساهر بلوعة:
_ليه ياماما.. ليه خبيتي علينا؟
قالت بوهن:
_غصب عني، مكنتش حابة أشوف الألم اللي في عينيك ده في عيون باباك واخواتك كمان، مكنتش حابة تتعذبوا لعذابي ياساهر.
_ياأمي احنا شركا في كل شيء، في الألم قبل الفرح، في الوجع قبل السعادة.. احنا جسم واحد لو اتأثر فيه عضو باقي الأعضاء بتحس وبتساعده عشان يبقي كويس وإلا الجسم كله هيتأثر.
_انت متعرفش باباك لو عرف......
_لازم يعرف.
استقامت بسرعة فتألمت ليسرع ساهر مع براء تجاهها يعيدانها لوضعها بينما تقول بألم:
_مستحيل يعرف، سامعني ياابني، باباك لو عرف مش هيقدر يتحمل، هيتعذب زيي وأكتر، انت مش عارف لما تحب حد وتبقي روحك فيه ويتإذي الوجع بتحسه جواك انت وأكتر.
تطلع ساهر في هذه اللحظة إلي براء ليدرك أن والدته علي حق فلو تأذت حبيبته لشعر هو بالألم وأكثر يتمني لو أصابه هو الجرح وتركها هي سالمة.
التقطت نظراته في هذه اللحظة فأشاح بوجهه عنها وهو يعود بعينيه إلي والدته بينما تركها هي في حالة من الندم وهي تدرك أنها خسرت عشقاً كان ليجعلها أسعد المخلوقات علي الأرض والآن تعض الأنامل من الندم كما أخبرها أنها ستفعل.
_أوعدني ياساهر، اوعديني يابراء محدش يعرف حاجة عن حالتي دي.. عشان خاطري ياولادي اوعدوني.
استقام ساهر قائلاً بحزم:
_مش قبل ماتوعدينا انك تتعالجي وتبقي كويسة.
ظهر صراعاً بمقلتيها لتقول:
_لكن العلاج....
قاطعها يميل مجدداً وهو يقول بمرارة:
_العلاج هيرجعك لينا، هيخلق أمل.. انتِ ليه مصممة نخسرك عشان كلام فارغ مش هينفعنا لو روحتي مننا، عذاب شهور وسنين حتي ولا عذاب العمر كله ياأمي، فكري فينا.. ازاي بس هنقدر نعيش من غيرك؟ أقولك بلاش الكيماوي.. اعملي العملية.. كدة أحسن.
_مستحيل.. إلا العملية.. انت مش عارف العملية دي هتحولني لإيه. لمسخ.. لبقايا ست.. مستحيل أعملها.
_خلاص ياأمي اهدي.. بلاش العملية بس علي الأقل تاخدي جلسات الكيماوي.. من فضلك ولو علي بابا فبيسافر كل أسبوع يومين.. خلي جلسة الكيماوي تبقي في اليوم اللي يسافر فيه وتاني يوم ارتاحي وبكدة لما يرجع هتبقي كويسة.. ها.. قلتي ايه؟
ظهر التفكير علي ملامحها للحظات قبل أن تهز رأسها موافقة ليقول :
_وعد.
_وعد ياساهر.. وعد.
مال يقبل رأسها بينما انسحبت براء وقد تضخم قلبها حباً لهذا الرجل وتضخم مع حبها حجم الخسارة.
______
"مكاني وسط عيلتي بس راحتي بين العمال.. خد بالك من سلسبيل يارعد.. دكتور نبيل ابن صاحبة ماما وماما بتحبه مش عشان كان زميلي يارعد."
ترددت الكلمات برأسه ونظراتها التي حملت شجن وحزن امتزج بشيء آخر لا يدركه، تطارده كلماتها ونظراتها في صحوه ومنامه، شعور غريب يتملكه وكأنه خسر شيئاً للتو برحيلها.. ربما خسر الصديقة التي لطالما منحته اهتمامها ورأيها الذي يلجأ إليه مدركاً أنه الرأي السديد.
عقلانية هي لا يشعر وهو يجلس معها أنه يجلس مع امرأة بل مع صديق يماثله عقلاً وحكمة.. ربما رأي الأنثي فيها يوم خطبته علي سلسبيل وهذا مافاجئه وأربكه وجعل صورتها التي اعتاد عليها تختلف فاختل ميزان أفكاره واحتل اختلافها الجزء الأكبر منه.. تُري ماسر هذا الاختلاف؟ هل هو رجل ما دلف إلي حياتها واستطاع أن يفعل مالم يفعله أي رجل آخر..رجل كان السبب في اشراقها؟
شعور حارق يضرب صدره مجدداً تعجب له وخشي حتي التفكير به وكأن عقله الباطن يدرك أنه لوفعل لفتح علي نفسه أبواب جهنم، مرر يده في شعره بعصبية وقد أدرك للتو أنه يحتاج لعلاجاً نفسياً لعله يدرك حقاً مابه لذا فلا ضير من زيارة صديقه الطبيب مراد واستشارته.
______
_انتِ ازاي أنادي عليكِ ومترديش عليا قدام كل موظفين الشركة؟
استدارت وعد إليه تلقي بحقيبتها علي الأريكة تقول من وسط دموعها:
_يابجاحتك ياأخي، كل اللي همك موظفين الشركة هيقولوا عليك ايه لما مردتش علي سيادتك مش كدة؟ طيب وتفتكر هيقولوا ايه لو كانوا دخلوا المكتب وشافوا اللي أنا شفته؟
ارتبكت ملامحه وهو يقول:
_وانتِ شفتي ايه يعني؟
قالت بحرقة:
_شفت واحدة مفيش بينها وبين جوزي مسافة أصلاً وصوابعها علي شفايفه.. مش كدة يافهد بيه؟
_دي أوهام في دماغك.. مدام ريتاج كانت....
قاطعته قائلة بثورة:
_كانت ايه ها؟أدخل علي جوزي وأشوفه مع واحدة بالوضع ده وتقولي أوهام، تعالي نعكس الصورة.. تعالي نتبادل الأدوار وتدخل انت عليا المكتب تلاقي واحد واقف قريب مني بالشكل وصباعه علي....
_شفتها وشفت الأكتر منها وسامحتك واديتك العذر ولا نسيتي؟
يذكرها بالماضي الآن وموقفها مع الدجال، موقف لم تنساه قط يترك غصة بحلقها ومرارة بالقلب ولكن هناك فرق بين الحدثين ولن يستغل الماضي كي يتهرب من واقع مرير رأته اليوم بعينيها َلن تمرره مرور الكرام.. لتقول بغضب امتزج بمرارة:
_اللي حصل زمان مكنش ليا ارادة فيه، الدجال خدرني وانت بنفسك شفت اني كنت نايمة ومش في وعيي.. لكن انت كنت في كامل وعيك يافهد، راضي وقابل بقربها ويمكن لو مكنتش دخلت في اللحظة دي كنت....
_كنت ايه ها؟مش هتبطلي غيرتك العامية دي؟ أنا لو عايز أعمل حاجة مش هستني اذنك ياوعد، لو كنت عايز أخونك أو أتجوز عليكي كنت عملتها من زمان.. من اللحظة اللي حسيت فيها اني في الجانب الاحتياطي من حياتك، أوقات كتير اتمنيت أعملها بس عشان أفوقك وأقولك انك بتخسريني، كان رعد بالنسبة لك كل حاجة وأنا ولا حاجة وده كان بيقتلني لكن حبي ليكِ كان بيسكتني ويخليني أكمل.. لوكنت خاين زي مابتتهميني كنت خنتك من زمان ياهانم.
_ياه يافهد، ده انت شايل في قلبك كتير ومن زمان قوي، طب مقولتش لنفسك ليه ان مراتي معذورة تهتم بإبن جالها يأس، ماأكيد هتتصرف بالشكل ده ويبقي ابنها بالنسبة لها حياه وحلم مستحيل اتحقق.. هوس مرضي كان لازم تتعامل معاه لو حقيقي بتحبني، طب كنت نبهتني.. وديتني حتي لدكتور..مكنتش هرفض لإني بحبك وأكيد مش حابة أخسرك، تعرف المشكلة ايه؟انك كنت عارف وفاهم ومقدر لان رعد بالنسبة لك كان حلم مستحيل واتحقق هو كمان لكن بعد فترة بدأت تتضايق وبدل ما تتعامل مع الوضع فضلت تعيش دور الضحية لإنك قررت من زمان تخوني وكنت محتاج مبرر لضميرك عشان تعملها يافهد.
_لأ انتِ أكيد اتجننتي ومحتاجة قلمين يفوقوكي.
_انا فقت خلاص لكن انت اللي محتاج قلم عشان يفوقك والقلم ده هتاخده مني وحالاً يافهد باشا.
لتمسك بحقيبتها مجدداً وهي تقول بجمود:
_أنا سايبالك البيت.. تقدر تخوني براحتك أو حتي تتجوز عليا، وياريت تبعتلي ورقة الطلاق على الأقل عشان ضميرك يبقي مرتاح.
تركته وغادرت يتابعها بعينيه بغضب، أمسك أقرب فاز لديه وألقاه أرضاً لينكسر ويتحول إلي فتات قبل أن يجلس ويضع رأسه بين يديه تدور كلماتها في رأسه تجعله يدوي، يود لو يخرس صوتها ولكنه لم يستطع، ليمسك هاتفه ويبحث عن رقم ما وما ان وجده حتي اتصل به يقول بحزم:
_أنا عايز أقابلك ياريتاج.. في الكافيه اللي جنب بيتك.. حالاً.
نهض وهو يسحب مفاتيح سيارته من علي الطاولة ويسرع بقيادتها تجاه منزل ريتاج يصرخ به قلبه ألا يفعل ولكن عقله يحثه وقد ضاق ذرعاً بكل شيء يمنعه حتي قلبه