رواية نصفي الاخر الجزء الثاني (سلسبيل) الفصل الثالث عشر 13 بقلم شاهندة سمير


 رواية نصفي الاخر الجزء الثاني (سلسبيل) الفصل الثالث عشر 


_لن أنساكِ ماحييت_

كان يجلس شارداً  تبدو علي ملامحه امارات الحزن، انتقلت تجلس جواره تقول بحيرة:
_مش انت ساهر ابداً اللي أعرفه، معقول هادي بالشكل ده ومش راضي حتي تفتح كتاب؟ انت أكيد اتحسدت يادكتور.

فرك جبهته بيده وهو يقول:
_معلش ياجاسمين مش قادر أركز حقيقي كفاية كدة النهاردة.

مدت يدها تربت علي يده قائلة:
_بقولك ايه.. سيبك م المذاكرة وافتحلي قلبك.

نظر إلي يدها ثم إلي عينيها بينما تردف هي بنعومة:
_أنا حاسة بيك، فيه حاجة مضايقاك.. اتكلم معايا يمكن ترتاح زي ماأنا برتاح لما بتكلم معاك.

كاد أن يبعد يده عن يدها ولكنه رأي براء تراقبهما خلسة بوجه يستشيط غيرة فتحامل علي نفسه وهو يربت بيده الحرة علي يدها بدوره يقول بابتسامة باهتة وعيون ممتنة:
_أنا كويس متقلقيش ومفيش حاجة مضايقاني صدقيني، يمكن بس عشان منمتش كويس.

سعادتها لحركته تلك ونبراته الرقيقة جعلتها تنهض قائلة :
_يبقي تقوم تنام حالاً وأنا هجيلك بكرة من بدري نكمل مذاكرة.. اتفقنا.

نهض بدوره يومئ برأسه قائلاً:_اتفقنا.

أخذت كتبها وهاتفها من علي الطاولة وهي تلوح له مغادرة بابتسامة عريضة بينما عاد ليجلس مجدداً، يتنهد بعمق يدرك أنه يؤلم حبيبته ويؤلم قلبه بدوره، يقسم أنها إن لم تعترف قريباً فسوف يُجن .. ألايكفيه مرض والدته الذي أوهن كيانه؟ ألا يكفيه الخوف من فقد أمه حتي تثقل قلبه  بالخوف من فقدانها هي الأخري؟

_مش هتسمع كلامها وتقوم عشان تنام.

_هقوم طبعاً الواحد لازم يسمع كلام خطيبته.

ليستدير في هذه اللحظة يتطلع إلي ملامحها الحانقة قائلاً:
_أنا كده صح ولا إيه؟

_وتفتكر انت صح لما تكدب علي خطيبتك؟

عقد حاجبيه قائلاً:
_وده حصل امتي ان شاء الله؟

تقدمت تجلس جواره وهي تقول بعيون بمرارة:
_لما ابتسمت وفي عينيك كانت بتصرخ ألف دمعة هو ده مش برضه كدب، لما تنكر حزن قلبك وتقوي فيه رغم ألمك،هو ده مش برضه كدب؟خوفك وقلقك م الفراق باين عليك مهما تنكر، نكران مخاوفك مش برضه كدب؟ و لما قلت انك كويس وانت أبداً مش كويس، هو لما تخبي الحقيقة عن حبايبك مش برضه كدب؟

أشاح بوجهه عنها يقول بمرارة:
_من اليوم اللي رفضتيني فيه وحياتي بقت كدبة كبيرة قوي مش هخلص منها.. وعلي فكرة أحب أهنيكي كلامك ينفع يتعمل أغنية بس للأسف مش كل الأغاني بتتسمع وتتحب.
_ساهر أنا....

قاطعها يتطلع إليها قائلاً:
_من فضلك مفيش داعي نتكلم في حاجة قفلناها ومادام لسة مقتنعة برأيك يبقي خلاص سيبيني أعيش حياتي بالطريقة اللي شايفها صح.

نهض مغادراً المكان بينما أغمضت عيناها بألم تحبس دموعها بمقلتيها، لا تستطيع لومه علي جفاءه تجاهها وقد كانت هي السبب في ذلك، بينما كانت نيرة تقف في مكان قريب تتابع مايحدث بعين غير راضية وقلب يتألم بصمت.

_______

كان يضمها لا يصدق أنها هنا بين ذراعيه وقد صدق حدسه حين أيقن أن مختطفها ليس كبقية المجرمين، هو رجل يسعي وراء هدف ما، يلجأ للخداع ربما ولكنه لا يقتل بريئاً قط.. كانت لتنطلي عليه خدعته ليفوز خصمه لو لم تري حبيبته وتوأم روحه هذه الرؤيا فتبث في قلبه يقين بأن الله لن يصب أحبته بأذي قط.. يحبه الله لم يعد لديه أدني شك في ذلك، وكيف لا يحبه وقد اتقاه في كل أمر.
بينما كانت حور تغمض عيناها وقد عادت لكنف أبيها، لا تصدق ما مرت به..إنها رحلة كما أسماها ليث، حملت إلي جانب  الوجع فقداناً، فقد أعادها إلي أباها ولكن بعد أن سلبها قلبها الذي تعلق بمواقفه النبيلة معها، يقول أنه السبب في كل مامرت به، هو علي حق ولكنها قد غفرت له حين شعرت بالأمان جواره وحين علمت بدوافعه وحين وقعت في حبه، لن تنسي أبداً لحظة الوداع حين أوصلها بسيارته إلي فندق أبيها، رمقها بنظرة طويلة سحبت أنفاسها، نظرة حملت مشاعر أطاحت بخفقاتها، وكأنه يودعها بنظرة تحفظ أدق ملامحها، حاولت الحديث فوضع اصبعه علي ثغرها يقول هامساً:
_خدي بالك من نفسك وتاني مرة لماحد يوقفك ويسألك علي عنوان متقفيش، أقولك متخرجيش من البيت من غير حراسة، حياتك غالية قوي علي.. علي كل حبايبك ياحور.

لم تستطع قول شيئاً واكتفت بالنظر إلي عشبيتيه، تغرق فيهما، تتمني لو توقف الزمن.. حتي قطع هو نظراتهما وهو يبعد أنامله ويقبض بيده علي مقود السيارة ناظراً إلي الأمام قائلاً بجمود:
_انزلي.. هتلاقي باباكي في أوضة ٢٢ ومتنسيش تقوليله الكلام اللي قلتهولك.

_مش هقوله.. لإن بابا مش ممكن يإذي بريء. . زيك تمام.

مال فمه بابتسامة ساخرة وكأنه لا يصدقها فتجاهلت ابتسامته تردف قائلة:
_مش هقوله لإني قادرة أثبتلك انه بريء من كل اتهاماتك ليه وساعتها مش عايزاه يعرف انك انت اللي خطفتني عشان لما تقابله يحبك زي ما....

صمتت وقد كادت أن تبوح بمشاعرها ولكن جمود وجهه في هذه اللحظة جعلها تقطع كلماتها وهي تفتح باب السيارة وتهبط منها تطالعه للمرة الأخيرة بينما لم ينظر إليها، تدرك أنه يمنع حاله بكل ما أوتي من قوة، يظهر ذلك في اختلاجة فكه وقبضته التي تضغط علي المقود حتي ابيضت سلامياته .
وما ان ابتعدت حتي انطلق بالسيارة وكأن شياطين الدنيا تسعي خلفه، تابعته حتي اختفي طيفه ثم تنهدت وهي تتجه إلي ردهة الفندق تسأل عن الحجرة رقم اثنان وعشرون.
لم يسألها أباها عن شيء حتي الآن بل اكتفي بأن تركها تفرغ دموعها علي صدره وها هي هادئة منذ دقائق تجتاحها الأفكار بينما يربت والدها علي ظهرها بحنان.
طرقات علي الباب جعلته يقول دون أن يخرجها من حضنه:
_ادخل يايزيد.

دلف يزيد يتطلع إليهما بلهفة قبل أن تخرج حور من حضن والدها ليحتضنها يزيد بحنان قائلاً:
_حمد الله ع السلامة يابنتي.. طمنينا عليكي انتِ كويسة؟ عمل حاجة فيكي الجبان ده؟ إذاكي؟

خرجت من حضنه بينما يقول نضال:
_حيلك حيلك.. بشويش ع البنت.. سيبها تاخد نفسها الأول.

_أنا مش قادر أصدق انها بجد قدامي، اللي خطفها ده أكيد مجنون عشان يرجعهالنا كدة، مش خايف تقولنا علي حاجة توصلنا ليه؟

_لأ مش خايف لإني مشفتوش ومعرفش حاجة عنه ياآنكل، أنا تعاملي كان كله مع رجالته وبس وكانوا أغلب الوقت حاطين علي عيني منديل عشان مشوفش حاجة.

اتسعت عينا يزيد بدهشة قائلاً:
_يعني خطفك ورجعك من غير ماتشوفيه ولا تعرفي هو خطفك ليه؟ الرجل ده أكيد حويط جداً او مجنون يانضال زي ماقلتلك.. طيب ملاحظتيش أي حاجة أو اتقال قدامك كلمة من رجالته ممكن توصلنا ليه؟

اكتفي نضال بأن أحاط ابنته بنظرة متفحصة أثارت اضطرابها فأطرقت برأسها قائلة:
_أنا حقيقي تعبانة ومش قادرة أتكلم دلوقتي.. محتاجة أرتاح قبل ماأقدر أجاوبكم علي أي سؤال.
_أيوة بس....

قاطعه نضال قائلاً:
_سيبها يايزيد ترتاح، الدنيا مش هتطير وتعالي أنا عايزك في موضوع مهم.. ارتاحي ياحور ونامي ياحبيبتي ولما تصحي لينا كلام تاني.

هزت رأسها فقبل جبينها ثم رحل مع يزيد يغلق الباب خلفهما لتجلس حور علي السرير تتطلع إلي حجرة والدها بقلب مثقل بالهموم منقسم الخفقات مابين حب ينبض لأول مرة لأحدهم ومابين ولاءها لأبيها،ظلت هكذا لفترة حتي استسلمت للنوم ولم يستطع أي منهما الفوز فكليهما قد امتلك القلب والعقل معاً.

_______

_سرحان في ايه يارعد؟
_ها.. لا مفيش حاجة.

ظهر التردد علي وجهه للحظة قبل أن يقول:
_أخبار سندس ايه؟ مرتاحة هناك؟
_جداً، بتقول الشغل العملي حاجة تانية خالص والعمال بيعاملوها أحسن معاملة ومش عارفين يرضوها ازاي، ده غير ان العميل مبسوط جداً من اقتراحاتها لتطوير الكومباوند وحط تحت ايديها شيك تحط فيه الرقم اللي هي محتاجاه عشان تكمل المشروع بالشكل اللي هي شايفاه صح.

هل يمكن أن تصل درجة حرارة الإنسان حد الغليان؟ هذا ما شعر به رعد الآن وقد ثارت الدماء برأسه واشتعلت براكينه ليوقن من صحة كلام مراد وأنه حقاً يحمل مشاعر لصغيرته المتمردة.
_انت كويس يارعد؟وشك محمر وعينيك....

قاطعها وهو يخلع عنه نظارته ويفرك عينيه قائلاً بتوتر:
_أنا كويس صدقيني يمكن بس حرارة الجو مأثرة عليا.
_حرارة ايه ده احنا في الربيع والجو بديع.

ابتسم فابتسمت بدورها قبل أن تعتدل قائلة بجدية:
_قولي بجد مالك؟ انت متضايق بسبب المشاكل اللي بين طنط وعد وخالي، أنا بنت عمتك يارعد قبل ماأكون خطيبتك وتقدر تتكلم معايا عن اللي مضايقك.
_مشاكل ايه اللي بين ماما وبابا؟ أنا معرفش عنها حاجة.

لعنت لسانها الذي زلف وأخبره وقد كان جاهلاً بما يحدث بين والديه، لعلهما تعمدا عدم إخباره وأفسدت هي الأمر كلية.
_مشاكل ايه ياسلسبيل ماتتكلمي علطول.. ساكتة ليه؟
_معرفش حاجة صدقني كل اللي أعرفه ان فيه مشكلة بينهم وانها سايبة البيت وقاعدة عند طنط رهف.
_ازاي الكلام ده؟أنا مكلمها امبارح ومقالتليش أي حاجة عن الموضوع ده.

اذا كانا يخفيان عليه الأمر وبغبائها أفسدت الأمر حقاً لتقول بأسف:
_ متأسفة يارعد مكنتش حابة أكون أنا اللي بقولك علي خبر زي ده وأضايقك، أنا بس كنت عايزة أطمن عليك.

رقيقة كنسمة.. تحملين قلباً مهتماً بمن حولك، تعاملين الجميع بطيبة أخت ولكن أوهامي من جعلتك أكثر.. شفقتي من جعلتك أكثر.. والمسافة التي وضعتِها بيننا من جعلتك أكثر.
ربما لو اقتربت منكِ كاقترابي من سندس لأدركت الفرق بين مشاعري تجاهك وتجاهها ولأنقذتنا جميعاً من مأزق كبير.
_ولا يهمك أنا كويس وهتصرف.
_انت مالك النهاردة يارعد؟ متغير ومش علي طبيعتك خالص، جوة عنيك كلام كتير بحاول أقراه بس مش عارفة.. لو حاسس اننا اتسرعنا في الخطوبة وحابب يعني....قصدي نفركش أنا معاك في أي خطوة.

كانت تطالعه بحيرة واضطراب رق لهما قلبه وخشي أن يسبب لها ألماً بفسخ خطبتها كما آلمها فهد سابقاً وخطب غيرها، إلي جانب أنه لن يستطيع الارتباط بأختها بعد خطبته لها، ليتساءل بسخرية من نفسه.. حتي وان ارتضي الجميع ماتحلم به أيها الغر الساذج فهل ستقبل سندس أو تؤثرك علي عملها؟ بالطبع لا.. ومازلت أنانياً تبغي زوجة كأمك لا اهتمام لديها قد يفوق اهتمامها بك،كسلسبيل.. لذا فقد أعاد نظارته إلي عينيه ومد يده يمسك يدها قائلاً بهدوء:
_لأ طبعا نفركش ايه؟ أنا بس بفكر في موضوع بابا وماما وبشوف ممكن أعمل إيه.. بس قبل أي حاجة طمنيني انتِ بقيتي كويسة؟جرح راسك بقي أحسن والصداع خف مش كدة؟

سحبت يدها من يده تبتسم ابتسامة باهتة وهي تهز رأسها بينما كان هناك من ضم قبضته بقوة تشتعل الدماء في شرايينه وهو يراقبهما، يتمني لو ذهب إلي هناك ولكم ابن عمه لتجرؤه علي إمساك يدها ولكن بأي حق سيفعل؟

_______

دلف إلي الحجرة فوجدها مازالت نائمة، ابتسم بحنان وهو يقترب منها فوجد الغطاء منحسراً عنها، أمسكه وكاد أن يدثرها به حين رأي ضمادات علي قدمها اليسري، قطب جبينه بقوة وربت برفق علي كتفها ينادي اسمها ففتحت عيناها تتطلع إلي والدها بشرود قبل أن تستيقظ تماماً وهي تستقيم جالسة تقول :
_أنا نمت كتير مش كدة.. الساعة كام دلوقت؟
_الساعة ٧..حور..ايه الجرح اللي في رجليكي ده؟
_ده.. ده....
_مش عايزك تكذبي عليا، حور أنا بابا.. يعني تقدري تحكيلي علي كل حاجة، متفتكريش اني اقتنعت بالكلام اللي قلتيه قدام عمك يزيد، أنا أدري الناس ببنتي الذكية اللي أكيد قدرت توصل لحاجات كتير ممكن توصلنا للمجرم أو تقربنا منه.
_بس هو مش مجرم صدقني ده.....

صمتت وقد تسرعت في الكلام بما يكفي ليدرك أباها أن لديها الكثير لتقوله ولكنها تمتنع لسبب ما.. تري هل صارت من المعجبين بسجانها ككل من حوله؟ نفض هذه الفكرة وهو يدرك استحالتها؟ ليعود عقله يتساءل تري هل حقاً هو أمر مستحيل؟ نفض أفكاره مجدداً.. يثق بها حد الإيمان أنها لن تتحدث عن محنتها حتي تكون جاهزة ويزول السبب الذي يمنعها عن الحديث وحتي ذلك الحين سيكون حدها وسيحميها بكل قوته حتي من نفسها.
_حتي لو مش عايزة تقولي حاجة دلوقت ومستنية الوقت المناسب.. أنا معاكي ومش هضغط عليكي بس علي الأقل قوليلي اتصابتي ازاي؟
_وأنا بهرب وقعت واتجرحت.

قطب جبينه قائلاً:
_والجرح أخباره إيه؟
_كويس صدقني ده هو اللي.....

صمتت مجدداً ليتطلع إليها بعيون متفحصة اضطربت لنظراتهم فأطرقت برأسها أرضاً ليقول بهدوء:
_مش هرتاح لحد ماالدكتور يقولي ان الجرح كويس وفي طريقه للشفا قبل مانسافر في طيارة الساعة ١٠.. قومي غيري هدومك وأنا مستنيكي تحت.
_بس أنا معنديش هدوم غير اللي لابساهم دول، الباقي في السكن......
_جبتلك غيرهم.. قومي غيري بسرعة عشان نلحق نخلص قبل ميعاد الطيارة.

هزت رأسها فغادر، لتضرب رأسها بخفة وقد أيقنت أن والدها قد أدرك أنها تعرف الكثير ولن يرتاح حتي تبوح له بكل ماتعرف.

_______

فتح الباب ثم تنحي جانباً يفسح لها المكان لتدلف إلي المنزل قبله، فسارت يتبعها حتي توقفا وفهد يخرج من حجرة المكتب يتطلع إليهما بصمت لم تنظر وعد تجاهه بينما تأمل رعد والده يدرك من شحوب وجهه والارهاق البادي علي ملامحه أنه لم ينل قسطاً من النوم تماماً كوالدته، لا يدري لمَ يُعذب المحبون أنفسهم بفراق سخيف لا طائل منه لا ينالون منه سوي أنين الإشتياق ولوعة الهجر؟ لمَ لا يدرك كل منهم أن شريكه بدوره يتألم ويذوي دونه؟ لمَ لا يدع المحبون كل مايفرق بينهم خلفهم ويكتفون بعناق يمحو كل ذبذبات الغضب ويترك فقط في قلوبهم وجيب الحب و السلام؟
ليتأمل حاله للحظة ويدرك شيئاً واحداً.. حين يرتكب المحب حماقة يكون عاجزاً عن رؤيتها وحين يراها يكون الوقت قد فات علي الإصلاح.

_نورتي بيتك ياوعد.

لم تنظر إليه حتي وهي تتجه إلي حجرتها بصمت قاتل بينما يتابعها فهد بحزن وقد رأي عيونها الغائرة بالدموع وملامحها الشاحبة، تقتله بصمتها كما اعتاد أن يفعل معها حين يتشاجران، اقترب رعد من أباه يقف جواره بهدوء بينما يقول فهد:
_مش هتسامحني بسهولة مش كدة؟
_مش عارف.. متكلمتش معايا، لما سألتها هي ليه قاعدة عند طنط رهف؟ قالتلي انها بتريح أعصابها لكن الواضح ان الموضوع أكبر من كدة..ماتفهمني يابابا جايز أقدر أساعدك.
_الموضوع مش كبير ولا حاجة، زي ماقالتلك ماما بالظبط هي كانت حابة تريح أعصابها بعد مااتخانقنا زي كل مرة.
_واشمعني المرة دي سابت البيت؟
_كل واحد فينا بيبقاله طاقة يارعد.. في اللحظة اللي الطاقة دي بتخلص بنبقي عايزين نبعد عن الناس كلها ونقعد مع نفسنا وبس.
_وياتري الواحد بيرتاح لما بيقعد مع نفسه؟

تنهد فهد قائلاً:
_أبداً ياابني.. لما الانسان بيبعد عن حبايبه وخصوصاً شريك عمره وتوأم روحه بيتأكد من حاجة واحدة وبس.. ان راحته بيلاقيها مع اللي بيحبه وبس وسعادته في فراقه بتبقي ناقصة،وهو لوحده بيبتدي يفتكر كل لحظاته مع اللي بيحبه.. كل ضحكة.. كل كلمة.. كل لحظة حلوة حسوا بيها، بيوحشه كل ده وبيتأكد ان وجوده جنب حبيبه بيخليه عايش وبيتنفس لكن وجوده بلاه هو موت بالبطيء.

أطلت صورة سندس أمامه.. بضع صور لها وهي تضحك أو تمزح معه ليغمض عيناه يبعد هذه الصور قبل أن يفتحهما قائلاً بحزن:
_وليه مبتقولش الكلام ده لماما؟ بتهيألي لو سمعته أي خلاف مابينكم هيروح لحاله.

أطرق فهد برأسه قائلاً:
_سهل نتكلم مع حد عن مشاعرنا لكن صعب نتكلم مع حبايبنا خصوصاً لو زعلانين منا، عتاب العيون ياابني قبل الكلام بيقتل ويغص الكلمة جوة حلقك ويعجزك احساسك انك غلط لما زعلت روحك منك..وأنا غلط.. غلط لما سيبت المواضيع بينا تكبر ومحاولتش أقرب وأقضي عليها قبل ماتكبر، غلط لما طلبت منها تكون كاملة مش بشر زيي وزيك والبشر بيغلط يارعد، غلط لما مقدرتش أستوعبها وأفهم أحزانها ومخاوفها ومشاعرها زي ماوعدتها كتير لكني خلفت وعدي لوعدي وعشان تغفرلي لازم أرجع فهد اللي حبيته عشان ترجعلي.

_ياسلام عليك يابابا،و يابختك ياوعد بزينة عيلة الجبالي.

ضربه بخفة علي كتفه وهو يقول:
_وأنا بقول العين اللي صايبانا جاية منين؟ أتاريها جاية منك مش من حد غريب.

قال رعد باستنكار:
_يعني سايب البلد كلها ستات ورجالة والصحافة نفسها اللي دايماً تجيب سيرة الحب الكبير اللي بين أفراد عيلة الجبالي ومسكت في كلمتي أنا.
_أيوة ويلا امشي بقي يادكتور، اتأخرت علي المستشفي ولا هي المستشفي بتاعة أبوك.
_أيوة بتاعتك وإيه رأيك آخد أجازة وأقعد معاكوا يومين وأبقي عزول.. ماهو انتوا الواحد ميسيبكوش لوحدكم أبداً وأنا غلطان اني رجعت الشقة تاني.. ايه رأيك بقي؟
_رأيي.. هقولك رأيي.

أخرج المسدس من جيبه ووجهه إلي رعد قائلاً:
_قدامك ٦٠ ثانية وألاقيك راكب العربية ورايح المستشفي، آل عزول آل.. متخلقش ياابني اللي يبقي عزول بيني وبين أمك.

رفع رعد يده يضعها علي قلبه قائلاً:
_هتقتل ابنك عشان عايز يقعد يومين معاك، جبت الجبروت ده منين؟ آه ياقلبي.
_٥٠ ثانية.
_انت بتتكلم جد ولا إيه؟
_٤٠ ثانية.
_خلاص خلاص أنا ماشي بس هرجع تاني.
_٣٠ ثانية.
_مشيت خلاص.. بركاتك ياحاجة وعد جننتي الرااااجل.

كان يسرع مغادراً تتبعه ابتسامة فهد قبل أن يرفع عينيه وينظر مباشرة إلي وعد التي كانت تقف أعلي السلم تكتم ضحكاتها وحين التقت عيناها بعينيه تجمدت للحظة وهي تبعد كفها عن فمها ترمقه بنظرة طويلة ثم تستدير متجهة إلي حجرتها بينما تنهد فهد بشوق وقد أدرك بيقين قلبه أن عشقها مازال رابضاً به قد أصابه وابل من تراب أزاله فراقها وأعاده لامعاً مضيئاً كأول يوم خفق القلب باسمها وماعليه الآن سوي أن يثبت لها أنه يعشقها وحدها ولا سبيل لأخري قد تحتل مكانتها بقلبه.

_______

كان لابد وأن أدرك أن ملاكاً مثلك لا يمكن أن يبقي مع شيطان مثلي، انتظرتك عمراً بأكمله فجئتيني مع نيران انتقام أضرمت في شراييني، قد فات أوان العشق فبات يرفل علي أرجوحة من لهيب يحرق قلبي المتيم بكِ، أردت الهرب بكِ فتكسرت أجنحتي، بت غير قادر علي التمسك بأناملك وغير قادر أيضاً علي تركك تذهبين، ليعلن القدر كلمته ويُجبرني علي الفراق حين تقطعت بي السبل وبات وجودك حدي يعني الموت حتماً.. نعم قد تفارقت أقدارنا واختلفت مصائرنا ولكني أقسم بعشق يخفق بين ثكنات القلب أنني لن أنساكِ قط ماحييت.

كان يتطلع إليها وهي تصعد سلم الطائرة تتبع زوج عمتها وتجاور والدها، يلقي عليها نظرة الوداع قبل أن تتوقف وكأنها شعرت بوجوده تستدير بوجهها تبحث عنه في كل الأرجاء بمقلتين شع فيهما الأمل قبل أن يخبو ووالدها يمسك بيدها ويقول لها شيئاً ما فأجابته بهزة من رأسها ثم سارت جواره يدلفان إلي الطائرة ليخرج هذا المتواري خلف أحد الأعمدة ويقول بهمس شع منه وجيب الاشتياق لها منذ الآن:
_هتوحشيني ياملاكي.

_______

قالت رهف وهي تحتضن ابنتها بقوة :
_أنا مش قادرة أستوعب لحد دلوقت اننا كان ممكن نفقد حور لما الاتوبيس اتقلب بيهم وهم راجعين من رحلة السفاري .. الحمد لله يابنتي انك جنبي وبخير، أنا عايزاكي تنسي موضوع السفر ده تاني.. أنا ماصدقت أضمك لحضني.

_مش وقت الكلام في الموضوع ده يارهف.. لما ترتاح نبقي نتكلم.

هزت رهف رأسها توافق علي كلام زوجها بينما قال فهد :
_أنا اللي مستغربله ازاي قدرت بالسرعة دي توصلها وتجيبها معاك كمان.. احنا مش مكلمينك الصبح وكنت لسة في لندن.

لتقول حور بسرعة وهي تخرج من حضن والدتها:
_الطيارات الخاصة والعلاقات يافهد، مادام معاك فلوس بتتفتح قدامك كل السبل.

شكراً لكِ ياابنتي..

هز فهد رأسه ثم اقترب منها يجلس جوارها ويضع يده علي كتفها يضمها إليه وهو يقبل قمة رأسها قائلاً:
_المهم انك هنا وبخير ياقلبي.
_سيبوها بقي تطلع تنام وترتاح عشان تقدر تقابل اللي هييجوا يزوروها ويطمنوا عليها بالليل.
_مين اللي جاي يانضال؟
_العيلة ياقلب نضال.

احمر وجهها خجلاً ليزيد من سحرها في عينيه، تقع هي تحت سحر نظرته المشتاقة إليها تبادله إياها بينما كانت حور تعد علي أصابعها قائلة:
_آنكل فهد وطنط وعد ورعد وآنكل يزيد وطنط نيرة وسندس وسلسلبيل.

قال فهد اسمها في نفس اللحظة التي قالته حور فتطلعت إليه تحاول أن تفهم سبب تفوهه باسمها دوناً عن الأسماء كلها وبهذه النبرة الحانية لتهز رأسها هزة ذات مغزي فابتسم يهز رأسه بيأس وقد أدرك أنها في سبيل الوصول إلي مشاعره بفطنتها، حاول أن يلهيها وقد لاحظ نظرات والديه لبعضهما البعض ليغمز لها مشيراً إليهما وهو يقول :
_أنا بقول تطلع انت ياباشا ترتاح مع الست الوالدة عشان تقدروا تقابلوا الضيوف بالليل..لو فضلتوا مقضيينها نظرات كدة مش هتشوفوا الضيوف أساساً.

وكزته حور في كتفه وقد احمر وجه رهف خجلاً بينما قال نضال بابتسامة:
_حد قالك اني في أي مكان بشوف غير مامتك حد، رهفي من يوم ما وقعت عيني عليها وهي سحرتني وخلت الكون في عيوني هي وبس.
_سيدي ياسيدي.
_خلاص بقي يافهد انت و بابا.. كسفتوا ماما خالص.

مال نضال وحملها فشهقت رهف بينما يقترب نضال من وجهها يتأمل ملامحها الحبيبة وهو يقول بابتسامة:
_سيبك من الولاد ومتتكسفيش يارهفي.. هو أنا مش جوزك وحبيبك ولا إيه؟

حبست أنفاسها بينما يتجه بها نضال إلي حجرتهما فأخفت وجهها في عنقه بينما اتسعت عينا حور و فهد قبل أن ينفجرا ضاحكين.

______

كانت تنام في حضنه بعد ملحمة عشق واشتياق تركتهما منقطعي الأنفاس، ليمرر يده في خصلات شعرها البني الحريري والذي تخللته بضعة خصلات بيضاء تسحره بينما تقول هامسة:
_تعرف أكتر حاجة بحبها في السفر وبكرهها في نفس الوقت؟
_إيه هي؟

رفعت نفسها تتطلع إلي ملامحه التي اشتاقت إليها قائلة بحب:
_إني بحس قد ايه بوحشك زي مابتوحشني تمام وكأن فراقنا بيخلق شعلة بتصحي الحب اللي جوانا وبتقيد ناره.

سحبها لتعتليه يقرب وجهها من وجهه يمرر يده علي ملامحها الرقيقة قائلاً:
_ومن غير ماأسافر.. بتوحشيني وانتِ جنبي لدرجة اني مبقدرش أشيل عيني من عليكي وكأني لو شيلتها مش هلاقيكي تاني وأرجع أتعذب زي ماكنت بتعذب أيام فراقنا، سفري بالنسبة لي عذاب وبس لإني بفارقك وبيرجع مع فراقك شعور زمان لما كنت بموت وانتِ بعيد عني.

وضعت أناملها علي فمه قائلة:
_متجيبش سيرة الموت، أنا جنبك أهو ومعاك عايشة لآخر يوم في عمري.

ضمها بقوة يقول بصوت مفعم بالمشاعر:
_مين بقي اللي جايب سيرة الموت دلوقتي؟
_يمكن بسبب الفراق اللي بيشبه الموت بالنسبة لنا هتلاقيه بييجي غصب عننا في الكلام، ويمكن عشان الموت فراق لابد منه.
_بعد عمر طويل ياحبيبتي نقضيه في حب وسعادة.
_محدش عارف عمره ولا يقدر يحسبه. يزيد.
_عيون يزيد.
_أنا.. أنا...

أخرجها من حضنه يتطلع إلي مقلتيها العسليتين المفعمتين بالحديث ليقول بحيرة:
_انتِ ايه ياحبيبتي؟
_أنا بحبك قوي.. بحبك فوق ماتتخيل ومش عايزة أفارقك أبداً.. أبداً.

ضمها بقوة وقد شعر بارتعاشة جسدها وصوتها، تري هل يؤثر عليها فراقه إلي هذه الدرجة؟ أم تذكيره اياها بالماضي ماأعاد إليها خوفها المرضي من فقدانه؟ لقد صارت هزيلة حقاً وشاحبة الوجه في هذه الأيام القليلة التي سافر فيها، هل يجب عليه أن يمتنع عن السفر من الآن فصاعداً ويبقي حدها؟وربما عليه أيضاً أن يحاول عدم ذكر الماضي مرة أخري أمامها،  ليقول بوعد:
_اطمني ياقلبي.. مفيش حاجة هتفرقنا تاني..أبداً.

همس قلبها بأنين.. بل هناك ياحبيبي..الموت.
وهل يستطيع المرء تفادي هذا الفراق الحتمي أو الهرب منه؟

______

كانوا يجتمعون جميعاً حول حور التي كانت تقص عليهم طرفات صديقاتها ، يضحكون بينما يطلق نضال ويزيد تعليقات مرحة في جو عائلي بهيج ماعدا وعد التي جلست هادئة علي غير العادة وفهد يجلس جوارها يسترق النظر إليها بين الحين والآخر يود لو رقت ملامحها له قليلاً ليبادر بطلب العفو والسماح منها، وعلي الجانب الآخر كانت تجلس سلسبيل تبتسم بهدوء بينما يجلس جوارها رعد شارداً وقد رأي صورة أخري لسندس علي موقعها الالكتروني ترتدي خوذتها وتقف بين العمال، تشع عيناها بالسعادة قد أوحت له اشراقتها بأنها تعيش أجمل الأوقات وتستمتع بما تفعل بينما هو بائس منذ رحيلها، استشاط غضباً وهو يتذكر تعليق رجل الأعمال عدنان الصواف_ صاحب المشروع _علي صورتها..
"عندما يجتمع التميز مع الرقي ينبثق الكمال في أبهي صوره"
منذ متي أضافت هذا الرجل إلي صفحتها الشخصية؟تري هل اتخذته صديقاً لها ؟ وهل يتحدثان سوياً طوال الليل كما كانت تتحدث معه؟ ألهذا لا تجيب رسائله؟ هل استبدلته بهذه السرعة؟
"وماشأنك أنت؟"صرخ عقله..
"دعها وشأنها واهتم بشأنك وإلا خسرت كل شيء؟"
ليتنهد قلبه قائلاً"لقد خسرت كل شيء بالفعل"
مالت سلسبيل عليه تقول له شيئاً لم ينتبه إليه وسط أفكاره ليومئ برأسه ثم يعاود الجدال مع عقله بينما نهضت سلسبيل واتجهت إلي المطبخ ليتبعها فهد دون لحظة تفكير واحدة وقد رآها شاحبة الوجه فأراد فقط الاطمئنان عليها.
كانت تضع قرص الدواء في فمها تتجرع كوباً من الماء خلفه حين انتفضت علي صوته المنادي لها فشرقت ليسرع هو بالربت علي ظهرها قائلاً بقلق:
_انتِ كويسة؟

هزت رأسها وقد هدأ سعالها قائلة:
_كويسة.. كويسة.

أشار إلي شريط الدواء بيدها قائلاً:
_كنتِ بتاخدي ايه؟
_دوا صداع.. دماغي هتنفجر.
_أنا قلت كدة برضه، وشك كان أصفر وابتسامتك مليانة وجع.

صمتت لا تدري بم تجيبه وقد كان هو من بين كل الحضور من شعر بألمها وجاء خلفها ليطمئن عليها وقد فعل هذا بقلبها الكثير، لتطرق برأسها وقد أبت أن يري سعادة سكنت مقلتيها لتقول بهدوء:
_أنا بقيت أحسن وراجعة....
_سلسبيل.

رفعت ناظريها إليه وقد جذبها الحنين في صوته لتتطلع إلي مقلتيه اللتان نضحتا بشتي المشاعر وهو يقول:
_مش آن الأوان نصلح اللي فات وترجعيلي، أنا غلط صحيح بس عقابي مستحيل يكون فراق للأبد.
_للأسف كلمة الحب لما تيجي بعد فوات الأوان مبيبقاش ليها أي طعم.. وأنا خلاص ارتبط وخلص الكلام اللي كان ممكن أقبل بيه قبل مااتخطب.. خلص وقت الاختيار.
_بس انتِ كدة بتظلميني وبتظلمي نفسك وبتظلمي رعد كمان، تفتكري لو عرف انك بتحبيبني....
_عارف وقرر ينسي كل مشاعري ناحيتك لو رضيت اتخطبله وأنساها أنا كمان.. وأنا نسيتها....
_لأ منسيتيهاش والدليل.....
_أطلال.. كنت ببكي ع الأطلال زي مابيقولوا والبكا في الحالة دي برضه مش هيفيد.. أرجوك تنساني زي مانسيتك وحاول تكمل مع حد تاني لإن حكايتنا خلصت يافهد.. خلصت من قبل ماتبتدي.
_سلسبيل....
_حتي اسمي مش عايزة أسمعه منك.. طول عمري بحب أسمعه منك انت وبس ودلوقتي كل مابتقوله بحس اني بكرهه وبكره ضعفي لما حبيتك وسيبتك تكسر قلبي، متقولش انك مكنتش تعرف.. انت بس افتكرت انك تقدر تحتفظ بيا وفي نفس الوقت تعيش حياتك لكن صدمتك الحقيقية كانت يوم ماعرفت ان حياتي مش هتقف عليك يافهد ياجبالي.

تركته واقفاً يعجز عن الرد وقد أدرك صحة كلماتها فقد كان اعجابها به واضحاً عدّه هو من المسلمات ولم يشأ أن يتوغل في ادراكه وقد كان في سعي مستمر لإثارة اعجاب غيرها من الفتيات، أعماه الغرور وآن الأوان ليحصد نتيجة أفعاله ولكنه رغم كل شيء لن يستسلم.. سيحاربها ويحارب من أجلها حتي الرمق الأخير وحتي يفوز الحب فيهما.

تعليقات



×