![]() |
رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل المائة والسادس والاربعون بقلم فاطمة عبد المنعم
يلا نبدأ:
< وجود الرأس في الجسد حقيقة ثابتة، لكن وجود العقل داخل الرأس تلك مسألة فيها نقاش. >
_سيغموند فرويد_
*************
لحظات لا يعوضها شيء قرر أن يقضيها "طاهر" برفقة ابنه الذي طالبه باللعب معه، جلس معه على الأريكة يشاهدا فيلم "يزيد" المفضل والذي فجأة توقف عن المشاهدة مناديا:
بابا.
انتبه له "طاهر" الذي كان على وشك النوم إثر الملل الذي أصابه من مشاهدة هذا الفيلم الذي لم يعجب ابنه سواه، طالعه يزيد وسأله:
هو يا بابا أنت كمان هتبقى بابا لحد غيري زي عيسى، أنا مش عايز يبقى عندي اخوات، أنا هاخد بالي من ابن عيسى زي ما هو قالي وكفاية ده بس.
مسح "طاهر" على عنقه بتعب وقد أدرك الأفكار التي تعصف برأس ابنه، وسعى يطمأنه:
يزيد أنا عايزك تعرف إني علطول هفضل أحبك ومفيش أي حاجة هتخل...
قاطعه الصغير وقد رأى الدموع في عيون ابنه:
أنا مش عايز يا بابا، وكمان أنا سمعت تيتا وأنا داخل عند رفيدة بتقولها إنك بتحب شهد أكتر من ماما
وبتخوف تابع ابنه اسئلته:
يعني يا بابا لو في حد تاني شهد مامته أنت هتحبه أكتر؟
ورغم الضيق الذي أصابه من حديث والدته الذي سمعه "يزيد" إلا أنه حاول بكل جهده احتواء الموقف أولا، ابتسم له وهو يمسح دموعه قائلا برفق:
طب أول حاجة احنا مش هنعيط.
هز "يزيد" رأسه موافقًا وتابع "طاهر":
مش احنا بنحب "شهد"، مش أنت بنفسك بتيجي تقولي إنها بتلعب معاك، وساعات بتخلصوا الواجب سوا، وكمان بتحكيلك قصص، مش الفيلم اللي احنا بنتفرج عليه دلوقتي ده شوفته أول مرة معاها ومن ساعتها وأنت مصدعني بيه؟
أبدى "يزيد" موافقته على كل هذا وهو يسمع بقية حديث "طاهر":
هي كمان بتحبك على فكرة أوي، وعلطول تقولي إنها عايزاك تروح تلعب معاها، ولسه كانت بتكلمني علشان عايزة تعملك عيد ميلاد كبير وتعزم كل أصحابك بس ده سر بيننا.
رأى الابتسامة على وجه ابنه وطمأنه هذا وهو يتابع:
أنا يا حبيبي أكتر واحد محظوظ في الدنيا علشان قابلت مامتك، هي كانت جميلة وحنينة وكنت بحبها زي ما بحبك بالظبط، وكمان ادتني أحسن حاجة في دنيتي لما خلفتك، مش أنت عارف إني بحبك أوي؟
_ اه.
قالها وهو على يقين من هذا، ومسح "طاهر" على خصلاته وهو يعطيه وعده:
حتى لو بقى عندك أخ، أنا عمري ما هحبه أكتر منك أبدا، كمان أنت المفروض تفرح، علشان أخوك وابن عيسى دول أنت اللي هتبقى أكبر واحد فيهم، وعلشان أنت قريب منهم في السن وهيقضوا معاك أغلب الوقت هيحبوك أنت أكتر من أي حد لغاية ما تزهق من كتر ما لازقين فيك.
وسمع نبرة ابنه التي رافقها الحماس وهو يسأل:
هيحبوني أكتر منك ومن عيسى؟
ضحك "طاهر" قبل أن يؤكد له ذلك ثم طالبه:
يلا خد كمل الفيلم بتاعك ده بقى، وأنا هنزل أشوف الحاج نصران وأرجعلك تكون خلصته.
_ ونجيب فيلم تاني ونطلب من رفيدة تعملنا بيتزا؟
ورد "طاهر" مسرعا:
فيلم تاني لا، ورفيدة يا حبيبي عايزة اللي يعملها، البس وتعالى نخرج ناكل برا.
وأبدى رفضه وهو لا يفارق الشاشة:
لا عايز أكمل الفيلم.
ابتسم "طاهر" وتركه في اندماجه هذا وخرج، كانت وجهته الأولى غرفة والدته، دق بابها وسمحت هي بالدخول، لاحظت على وجهه أن هناك خطب ما، ولم يتركها لفضولها قال بعدما جلس أمامها:
يزيد سمعك وأنتِ بتتكلمي مع رفيدة
احتدت نبرته وهو يسألها:
عيل صغير زي ده تقولي قدامه كلام يخليه يخاف ويحس إنه متهدد يخسر حب واهتمام أبوه أي لحظة.
ولم تنتظر ثانية، أسرعت تدافع عن نفسها نافية هذه التهمة:
أنا مستحيل أقول قدامه كده، ومعرفش أصلا إنه سمع، ده كان كلام بيني وبين رفيدة، وبعدين هو مش كذب أنت محبتش مراتك الأولى الله يرحمها قد البت اللي أنت ماشي فرحان بيها دلوقتي دي.
وبنبرة أول مرة يحادثها بها رد:
مسمهاش بت، اسمها مراتي، وكلامك اللي أنتِ شايفاه عادي ده خلى ابني يفكر إني لو بقى عندي غيره هنساه وأركنه على الرف، وأنتِ مفتحتيش قلبي علشان تعرفي أنا حبيت أمه قد إيه، كلامك وإصرارك على إن وجود شهد مشكلة هيضر ابني، وأكيد حضرتك عارفة كويس ابني عندي إيه؟
_ أنت بتقول إيه؟، أنا جدته، ومستحيل هضره مهما كان السبب، وبعدين إيه النبرة اللي بتكلمني بيها دي، أنا أمك وإياك تفضل رامي ودنك للي بيقومك عليا.
ابتسم "طاهر" ساخرًا قبل أن يعلق:
أنا عارف إن قصدك عيسى، وأنا وأنتِ برضو عارفين كويس أوي إن عيسى مبيعملش كده، ومتخلينيش أقول كلام أنا مش عايز أقوله.
طالعته بعينين لمع الغضب فيهما قبل أن تسأل:
هو أنت عايز إيه، جايلي لحد هنا تقول الكلمتين دول يعني، عموما خلاص وصلوا، ياريت تخرج بقى علشان عايزه ارتاح.
استقام واقفًا، وقرر المغادرة بالفعل ولكن ليس قبل أن يلقي بأخر مالديه، ذهب ناحيتها ومال يقبل رأسها كما اعتاد دائمًا قبل أن يقول:
أنا كلمت سمسار علشان يشوفلي شقة برا.
ولم ينتظر أكثر، قبل أن تنطق بأي شيء كان هو قد قال:
عن إذنك.
وغادر غرفتها تاركًا العاصفة ورائه، العاصفة التي تمثلت هذه اللحظة بالتحديد في شخص واحد، في والدته.
********************************************
لا يصدق أنها تعود معه من جديد إلى هنا، كانت رغبة "علا" في العودة إلى المنزل، وشدد الطبيب على بشير أنها تحتاج إلى رعاية طبية مكثفة، ومتابعة بشكل دوري، طمأنه بأنه سيرتب كل شيء، اصطحبها دون علم والدتها، وفي المنزل وقفت جوار الفراش إحدى الممرضات وبعدما انتهت مما تفعله أخبرتها:
كده خلصت، هسيبك بقى ترتاحي شوية.
أنهت حديثها الذي قابلته علا بابتسامة وخرجت من الغرفة، دخل "بشير" وجلس أمام علا على الفراش قائلا:
كنتي فضلتي في المستشفى أحسن.
— أنا بقيت كويسة والله.
طمأنته بقولها هذا، وأرادت أن تسأل عن شيء ما ولكن رأى التردد في عينيها فرد دون سؤال:
لا متعرفش إنك سيبتي المستشفى لإنها مجتش من امبارح، وعايز أنبهك لحاجة يا علا.
انتبهت له وأكمل هو بثقل:
احنا لحد دلوقتي متحاسبناش، علشان لولا اللي عملتيه مكانتش الحادثة دي كلها حصلت، أنا سايبك ترتاحي ومش عايز أتكلم دلوقتي.
تعلم أنه محق في كل حرف، منذ معرفته بها لا يقع إلا في الأزمات، لو أخبرها الآن أنه سينفصل عنها بمجرد أن تتعافى بشكل كامل لن تصيبها الدهشة، ومع ذلك سألت بحزن:
ولما ارتاح وابقى كويسة هتطلقني صح؟، كلامك في المستشفى كان علشان تطمني وقتها لما طلبت منك متسيبنيش.
انتقل للجلوس جوارها، وهو يؤكد أثناء مطالعته لعينيها:
لا يا علا مش علشان اطمنك، أنا لسه عند كلامي مش هسيبك ومش هطلقك.
— بس أنا عايزاك تطلقني يا بشير، وزي ما طلبت منك قبل كده تفضل جنبي، بطلب منك دلوقتي ننفصل.
هكذا تخبره بكل بساطة وكأنها تلقي على مسامعه أخبار الطقس، ولكن في عينيها كان هناك ألم الضعف والخيبة، ظنت أنه سيوافق في الحال، تخلصه من حمل ثقيل لا يستحق أن يعاني بسببه ولكنه فاجأها برده الحازم:
وأنا مش على مزاجك يا علا، خليك يبقى افضل، طلقني يبقى همشي.
وقبل أن تنطق بأي شيء قاطعها وهو يغلق زر الإضاءة جواره قائلا:
أنا بقول كفاية كلام وتنامي لإن واضح إن أعصابك تعبانة.
كاد أن يقوم ولكنها أسرعت تمسك بكفه الموضوع على الفراش طالبة، كان يشعر بارتجاف يدها وهو يلتفت إليها:
خليك.
رأى الرجاء في عينيها فبقى جالسًا جوارها، كان يمسح على خصلاتها القصيرة حتى ظنها غفت ولكنها نطقت اسمه فانتبه وأكملت هي تسأله ولم تفتح عينيها:
هو أنت متعود من زمان تعيش لوحدك؟
— اه.
جاوبها ولم يستطع منع ابتسامته وهو يسمعها تقول:
أصل أنا كنت أسمع إن اللي بيعيشوا لوحدهم دول صعب يتعودوا إن حد يعيش معاهم، وبيحسوا بقلة الراحة، هو أنا قالة راحتك؟
وأتاها رده يطمأنها:
لا متقلقيش راحتي كويسة وبخير الحمد لله.
فتحت عينيها ببطء، ونظرت إليه بحذر وهي تسأله:
بجد ولا بتتريق عليا؟
جاوبها وهو يضحك بخفة:
بتريق عليكي.
ثم ارتفع رنين هاتفه فقطع اللحظة، وكان المتصل "عيسى"، أسرع يرد وهو يبتعد قليلًا عن الفراش:
يا عم بقالي سنة بحاول أوصلك! بعتلي إنك لقيت "ملك" واختفيت بعدها على طول!
وبرر عيسى موقفه هذا هاتفًا:
مكنتش هعرف أكلمك، "ملك" مكانتش كويسة.
اطمأن منه "بشير" على حالتها ثم أنبأه بما يعلم أنه يهاتفه من أجله:
"بيريهان" في المستشفى، معاها ندى وباسم، أخر حاجة عرفتها إن أبوها مسافر مؤتمر وميعرفش حاجة معنديش معلومة لو رجع أو لا بس مفتكرش لحق، هما في اسكندرية عندك بالمناسبة.
— طب ابعتلي location.
طالبه "عيسى" بهذا ووافق "بشير" الذي عرض عليه:
تحب أجيلك؟...أنا يومين بس اطمن على "علا" وأجيلك.
انتبه "عيسى" حين قال اسمها وتابع "بشير":
أنا جبتها البيت، بس هي لسه تعبانة شوية.
حذره "عيسى" وقد أصبح القلق رفيقًا له منذ حادثة صديقه الأخيرة:
متدخلش أمها بيتك يا "بشير"، وياريت طول ما أنت مش موجود تبقى قا...
قاطعه "بشير" معترضًا وهو يمازحه:
أنت بقيت ممل كده امتى ؟
نصايح الأمهات دي كانت بتاعتي أنا، الشخصية دي مش لايقة عليك.
— تصدق أنا غلطان، بس عموما يعني تعالى على نفسك معلش واسمع نصايح الأمهات المملة ياريت.
ألقى على مسامعه هذا والغيظ يرافقه من صديقه أما "بشير" فضحك وهو يعده بأن يستجيب لتنبيهاته.
في التوقيت ذاته كانت "شهد" تجلس في المحل بدلا عن والدتها التي صعدت، ولم يمر الكثير على تواجدها حتى رأت "طاهر" أمامها، اتسعت ضحكتها وهي ترحب به بحيوية:
أهلا أهلا.
دخل إلى المحل بخطوات بطيئة، وسحب مقعد ليجلس عليه، بان على وجهه أن شيء ما يزعجه وحاولت هي معرفة سبب هذا الانزعاج فسألت باهتمام:
مالك؟
انتظرت الجواب ولكنه اكتفى بزفرة بدت كأنها تحمل كل ما يثقل صدره قبل أن يقول بإحباط:
مفيش.
وقع نظره على الكيس المفتوح أمامها، وكان مليئًا بالبسكويت، فعلق ساخرًا وهو يرفع حاجبيه:
هو أنتِ لسه فيكي العادة دي، مش هتبطلي تاكلي البضاعة من المحل.
رمقته بنظرة ممتعضة ثم ردت:
يا عم بتاعنا، ما اكل براحتي.
ابتسم على قولها هذا ثم أشار لها بعينيه على العبوة طالبًا:
طب هاتي واحدة.
ضحكت بخفة وقد شعرت بالانتصار هو الذي كان يوبخها قبل قليل يطالبها الآن أن تعطيه، وردتها له هاتفة بإصرار:
لا.
— هاتي واحدة جعان بجد.
قوله هذا جعلها تشفق عليه، ومن أجل ذلك نطقت:
أنت صعبت عليا بس بسكويت لا برضو، استني.
أخبرته أن ينتظر وغابت عنه دقائق، ثم عادت وهي تحمل طبقًا بيد، وكيسًا بلاستيكيًا وضعته على الطاولة، ثم جلست أمامه كأنها تفتخر بإنجاز عظيم:
ده ورق عنب، دوق وقولي رأيك.
وضعت الشوكة في قطعة ثم وجهتها إلى فمه، ابتسم قبل أن يتناولها منها وبعدما تذوق سألها بإعجاب:
أنتِ اللي عملاه؟
وردت عليه ببساطة وهي تتناول واحدًا من الطبق:
لا أنا شارياه جاهز، حطيته في الحلة يسخن بس.
سألها بسخرية وقد خاب ظنه بعدما حطمت صراحتها وهج اللحظة:
امال إيه الفخر اللي كان مالي عينك ده وأنتِ جاية بالطبق، ودوق وقولي رأيك، وحسستيني إنك قاعدة طول الليل بتحشي علشاني.
ضحك حين رأى في نظراتها أنها ستفتك به الآن ثم سمع قولها:
يلا امشي من هنا، مفيش أكل.
أبعدت الطبق عنه ولكنها تراجعت حين أمسك بكفها معتذرًا، يهمس بلطف:
طب خلاص حقك عليا، هاتي الطبق بقى.
أعطته له ولم يزل سخطها منه بالكامل وبان هذا في قولها:
كل لوحدك، مش هأكلك تاني، متستاهلش.
— أنا هأكلك.
قال لها هذا ثم ناولها واحدًا من الطبق، لم تنتبه لشيء سوى نظراته، رغم كل شيء، ومخاوفها التي لا تنتهي، معه يتبخر العالم من حولها ولاشيء يبقى سوى الطمأنينة.
أما عنه فكان عقله مشغول، "شهد" مثل ابنه تماما، يؤرقها المستقبل، ومخاوفها لا تنتهي، أتى إلى هنا حتى يراها فيتناسى قليلا ما يزعجه، أراد أن يتحدث معها بشأن يزيد، أسئلته التي لا تنتهي، أن يطلب منها مساعدته في إصلاح جزء من ثقة ابنه التي تزعزعت بسبب ما سمعه، ولكنه خشى أن تفهم الحديث بمعنى أخر، أن يلاعبها عقلها وتظن أنها في هذه الزيجة من أجل يزيد فقط.
أنهى الطبق كاملا ثم وضعه على الطاولة وقد أزاح حرب الأفكار هذه جانبًا وهو يقول بامتنان:
شكرا يا "شهد" تسلم إيدك.
ابتسمت قبل أن ترد بإعجاب:
أيوه كده، مش تقولي طول الليل بتحشي وبتاع.
ضحك وقبل أن ينطق بأي شيء كانت تشير على الكيس الذي وضعته قبل قليل على الطاولة قائلة بنظرة حب صافية لمحها في عينيها:
ده بتاع "يزيد" حبيبي، قوله "شهد" عملتهولك مخصوص، وعايزاك تبقى تمجد فيا شوية وتقول إنه أحلى ورق عنب دوقته في حياتك.
لم يشغله في هذه اللحظة سوى أنها تفكر في ابنه، تفعل ما كان يريد قبل قليل أن يتحدث معها بخصوصه دون أن يطلب، تغدق ابنه بحنانها حتى يطمأن، استغربت نظراته فسألته بابتسامة ماكرة:
بتبصلي كده ليه؟
— بحب حنيتك يا "شهد"، بتطمني.
قوله هذا أسرها وجعلها تصرح بسعادة:
أنا اللي بحبك أوي على فكرة.
مد يده، مسح على كفها في حنو، وهو يؤكد مبتسمًا:
ده من حظي.
ثم مازحها وهو يشير على الكيس الذي يخص ابنه سائلا:
بس أنتِ مش عاملاه مخصوص ليزيد، عايزاني أقوله إنه مخصوص ليه؟
ضربته بخفة على كتفه وهي توضح له:
يابني افهم علشان يحس إنه مميز عندي، فيحبني أكتر منك.
قالت جملتها الأخيرة ثم "أخرجت لسانها في مشاكسةٍ مقصودة تتعمّد إغاظته فضحك، هو الذي أتى إلى هنا قبل قليل يحمل الهموم على عاتقه يضحك الآن والفوضى داخله قد سكنت تماما، تمنى لو شعرت أمه بما يشعر به الآن حتى تعلم لماذا يحبها، تعلم الجواب الذي تعجز الكلمات عن وصفه، يحبها لأنها اختارته هو ليهيم بها، هذا سحرها وهو قبل أن يكون مسحورًا وانتهى الأمر.
********************************************
وصل "عيسى" إلى المشفى حين أرسل له "بشير"، لا يعلم ما حدث بينها وبين "شاكر" جعلها تصل إلى هنا، كل ما يعلمه أنها تسببت فيما تعرضت له زوجته، سأل عتها وعلم غرفتها وبمجرد وصوله وجد "ندى" جوار "باسم"، وقفت متأهبة قبل أن يتحرك خطوة واحدة تجاه غرفة ابنة عمها وهتفت:
الزيارة ممنوعة وحالتها صعبة جدا.
كانت تعابير وجهها تصدق على كل كلمة قالتها، ولم تتوقع أن تسمع منه:
وأنا مالي بحالتها؟...أبوها فين؟
— عيسى ده مش وقته، حتى لو عملت حاجة، ده مش وقت تصفية حسابات، هي أصلا مش فايفة علشان تعرف تكلمها وكمان ثروت با...
كان "باسم" يخبره بهذا وهو يعترض طريقه ولكن دفعه "عيسى" مقاطعا بتحذير:
ملكش دعوة أنت، وإلا والله العظيم أصفي حسابي اللي بتقول عليه ده معاك طالما أنت عاملي فيها حامي حمى العيلة دي.
أغمض "باسم" عينيه بانزعاج قبل أن يزفر بثقل وبسأله:
هتعمل إيه يعني يا "عيسى"؟
وبعدين مراتك راحت معاها ازاي؟ ولا هي خطفتها!
ما أكيد مشيت معاها بمزاجها، ابقى اتكلم مع مرا....
لم يكمل حديثه بسبب اللكمة التي تلقاها من "عيسى" وقبل أن يردها له "باسم" كانت "ندى" تبعده بتوسل:
"باسم" علشان خاطري لا، احنا في المستشفى.
رأى في نظرات "عيسى" أنه متأهب لفعل أي شيء، رغب لو كان المكان مناسب ليشتبك معه خاصة حين سمعه يهتف:
مراتي سيرتها متجيش على لسانك تاني، ولتاني مره موضوعي مش معاك أنت فاطلع منها.
وسعت "ندى" لتهدئة الوضع وهي ترجوه:
عيسى أرجوك بلاش...
لم يسمح لها "باسم" إكمال ما بدأت، طالعها بحدة، ثم نطق:
أبوها مش هنا، ياريت تتفضل بقى ولما يرجع ابقى تعالى حاسبه.
وقبل أن يعطيه رد أتى الطبيب هرولت "ندى" إليه تحت نظرات زوجها و"عيسى"، ولم تستطع تمالك نفسها وهي تسمع الطبيب يخبرها:
احنا مضطرين نشيل الرحم علشان نقدر نلحقها.
حل الذهول عليها، لا تصدق ما وصلت إليه ابنة عمها خاصة والطبيب يتابع بأسف:
النزيف مش بيقف، وبدأ يأثر على حاجات تانية، لازم نتصرف لإن الحالة خطيرة جدا.
كادت أن تسقط على الأرضية لولا ذراع "باسم" التي منعت هذا، حاول تهدئتها، طلب منها الجلوس، وتحدث هو مع الطبيب بدلا منها:
هو ده هيخليها كويسة؟
— ده الحل الوحيد اللي فاضل، نجاحه من عدمه مقدرش أضمنه، احنا هنحاول والنتيجة بتاعة ربنا، هي جت هنا وحالتها صعبة للأسف.
أخبره الطبيب بهذا وقرر "باسم" التواصل مع والدها، وقبل أن يفعلها استدار لعيسى هاتفًا:
يارب تكون مرتاح دلوقتي، وتعرف إن الدنيا مش مستحملة.
اقترب منه "عيسى" وقف قبالته يسأله وقد أثار استفزازه قوله:
هو العيلة دي كل اللي بيدخلها بيبقى حمار فجأة ليه؟
وقبل أن ينطق "باسم" تابع "عيسى":
هرتاح ليه؟، هو أنا اللي عملت فيها كده؟
يارب تكون أنت فاهم إن مراتي كان ممكن تبقى مكانها دلوقتي، عموما كلامي مع "ثروت" لما يرجع.
قال جملته الأخيرة وتحرك مغادرًا دون انتظار أي رد، لم يتحمل توتر الأجواء أكثر، انهيار "ندى"، والحالة التي وصلت لها "بيريهان"، يشفق عليها رغم كل شيء، ربما تفقد حياتها الآن في أي لحظة، ولكن هذه الشفقة تتحول إلى غضب شديد، وذعر يهاجمه كلما تذكر أن الضرر كان قريبًا جدا من زوجته، والسبب هي.
لمح "عيسى" أثناء رحيله "نور" طبيبه السابق، توقف "نور" أمامه، وتحدث:
أنت كنت عند بيريهان؟، أنا مدام "ندى" هي اللي طلبتني، قالتلي إن بيريهان محتاجة....
قاطعه "عيسى" سائلا وقد بدا الانزعاج واضحًا على وجهه:
هو أنا سألتك مين كلمك؟، إيه اليوم اللي كل ما هقابل فيه حد هيقف يحكيلي قصة حياته ده.
زفر "نور" بثقل قبل أن ينطق بـ:
أنا عارف إن اللي عملته مفيش حاجة تغفره، ومقدر موقفك وأي ردة فعل عندك، بس أنا عايزك تسمعني على الأقل زي "ملك"، أنا كنت مضطر لـ.....
من جديد يبتر "عيسى" حديثه، وقد فقد كل صبره المتبقي فهتف:
أنت واحد ×××
لم يتوقف حين رأى الغضب في نظرات "نور" بل أكمل باستهزاء:
والمفروض تحمد ربنا كل يوم إن العيادة بتاعتك دي أنا مقفلتهاش ليك يا فخر دكاترة بلدك.
ولم يرد "نور" حيث ألقى "عيسى" على مسامعه البقية:
وسيبك بقى من جو أنا كنت مضطر أسرب جلساتنا، أصل ثروت كان مهددني، علشان أنت لو مكنتش ××× أصلا يا "نور" هو مكانش عرف يزق عليك واحدة ويصورك معاها.
وهز رأسه مؤكدًا:
واه "ملك" قالتلي مبرراتك الفارغة اللي قولتهالها في غيابي، بس هي يا حبيبتي غلبانة متعرفش ترد عليك باللي تستحقه، فأنا بقى هرد عليك.
_ وأنت لسه بعد ده كله مردتش؟
سأله "نور" باستنكار وهز "عيسى" رأسه مؤكدًا بابتسامة:
تصدق اه، أصل أنت متعرفش أنا لما بشوفك بيجرالي إيه، والحمد لله إني روحت عن دكتور غيرك وشوفت الناس اللي عارفة شغلها عاملين ازاي، أحسن كنت أفضل مفكر كل الدكاترة زيك..
وبسخرية ختم:
يا رافع سمعة الطب النفسي في العالي.
لم يتحمل "نور" أكثر، تمكن منه انفعاله وهو يرد على كل هذا:
أنت ليه بتنكر كل حاجة، أنا كان ليا فضل كبير إنك تتقدم أكتر من خطوة، وعمري ما اديتك حاجة تأذيك زي ما اتهمتني وتقدر تسأل دكتورك عن الأدوية اللي كنت بكتبهالك، حتى لما ثروت ساومني وضغط عليا، كنت بتوهه وبقوله قصاد المعلومة الصح عشرة غلط، وأنا مش طالب منك ترجع عندي ولا حتى تنسى اللي أنا عملته، بس على الأقل متنكرش إن حالتك معايا كانت بتتحسن.
_ اه فعلا كانت بتتحسن، اتقدمت معاك خطوتين رجعت قصادهم مية بعد ما عرفت باللي بتعمله، أنا عارف أنت مشكلتك إيه، أنت عقلك مش قادر يقبل الصورة اللي أنا شايفك بيها علشان بتفكرك كل شوية قد إيه أنت متنفعش للمهنة دي، عموما أنا مش عايز أشوفك تاني، بس عندي نصيحة ليك جرب تنضف علشان لو ساعدت حد بعد كده يتقدم كام خطوة، مينتكسش بعدين بسببك برضو، فهمت حاجة؟
أنهى "عيسى" حديثه بهذا السؤال، ورغم يقين "نور" من صحة كل حرف في هذا الحديث ولكنه حاول من جديد:
أنا عايزك أنت تفهم إن....
لم يكمل جملته بسبب "عيسى" الذي استوقفه دون رغبة في سماع أي حديث:
برضو !
ابتسم "عيسى" ساخرًا قبل أن يطالعه ملقيًا على مسامعه:
فرويد كان عنده حق، وجود الرأس في الجسد حقيقة ثابتة لكن وجود العقل داخل رأس أمثالك يا دكتور "نور" مسألة فيها نقاش.
يرد عليه بأقوال "سيجموند فرويد" مؤسس مدرسة التحليل النفسي، ويتابع:
قرأتها في عيادتك مرة، ياريت تقرأها أنت كمان، وبعدها لما يبقى في عقل تقدر تفكر في كلامي اللي قولتهولك من شوية.
ختم حديثه بابتسامة تحت نظرات "نور" الذي بهت ولم يقل أي شيء، فقط تابع رحيله بصمت تام لا يشبه الضجيج داخله، وضميره الذي لا يكف عن تعذيبه كل ليلة.
********************************************
كان "عز" ينهي العمل في إحدى السيارات أثناء سماعه قول "حسن":
يا عم قولتلك بصلي بصة تاني على العربية.
اعتدل "عز" وهو يسأله بانزعاج:
أنت عايز إيه يا جدع أنت، ما قولتلك مفيهاش حاجه، هي شغلانة ابص عليها كل شوية.
أصر "حسن" على طلبه حيث رد عليه بابتسامة:
بحب اتطمن على عربية الحاج، هو موصيني أجي أتقطع عندك كل يوم ساعتين تبص عليها وتقولنا إيه الأخبار.
_ لا تقوم بألف سلامة إن شاء الله.
علق "عز" ساخرًا، ثم توجه ليجلس على أحد المقاعد وقد أحضرت أمه الشاي قائلة:
الشاي يا "عز".
لم يشكر أمه بتفاني كعادته ولم تنتظر هي فسأل "حسن":
أنتوا لسه زعلانين من بعض لسه من ساعة موضوع شاك...
قاطعه "عز" طالبًا برجاء:
بلاش السيرة دي الله يكرمك يا "حسن"...وقولي بقى أنت جاي ليه من غير اشتغالة العربية دي.
وصارحه بسبب قدومه:
عيسى عايزك، بس قالي أجي أشوف الدنيا الأول عاملة إيه، وما شاء الله جيت لقيتك ضارب التكشيرة التمام، ومقاطع أنت وأمك بعض، لا تطاقوا يعني الصراحة.
تناول "عز" إحدى لفافات التبغ قبل أن يعلق باستهزاء:
وهو أنا بس، ده أنت بقالك سنة واكل دماغي بمشاكلك، وبمريم اللي بتحبها ومش عايزه تسامحك، استحمل أنت كمان شوية من اللي عندي بقى.
وقبل أن يرد عليه "حسن" وجدا "رزان" تقف أمام الورشة، قبل أن تتحرك ناحيتهما هاتفة:
ازيك يا اسطى "عز".
_ إيه اللي جاب البت دي هنا؟
نطق "حسن" بصوت منخفض وصل لعز الذي بدا على وجهه عدم معرفته، ثم اعتدل يسألها:
خير؟
وردت هي بابتسامة:
لا كل خير يا أخويا، أصل عربية "جابر" جوزي بقالها شوية بتسخن وكنت عايزه تشوفهالي، بس قولت أجي أشوف الورشة فاتحة ولا لا، أصل امبارح كانت قافلة.
لم يصدق "حسن" حرف مما قالته وكذلك "عز"، ولكنه أراد معرفة حقيقة ما تريده فقال:
ابقي هاتيها وأنا أشوفهالك.
هزت رأسها موافقة قبل أن تتوجه إلى "حسن" هاتفة:
ازيك يا "حسن"، إيه مش شايفني ولا إيه؟
_ وأنا حتى لو شايفك يعني أعملك إيه؟
سألها وقد رافق الاستهزاء نبرته وردت هي بضيق بان على وجهها:
تسلم عليا، عموما كتر خيرك، وألف مبروك لأخوك، سمعت إنه هيتجوز، الفرح امتى صحيح؟
زفر "حسن" بثقل قبل أن يخبرها:
معرفش.
رفعت حاجبيها معلقة باستنكار:
هو إيه يا ختي شغل العيال ده!
_ طب امشي من هنا بقى علشان أنا مش عايز أغلط فيكي.
حذرها بحدة بعد ما قالته، وردت هي غير مهتمة بتهديده:
ده أنا جوزي يدف...
بترت عبارتها ولم تكملها هاتفة:
ولا بلاش الطيب أحسن.
ثم استدارت لتخبر "عز" قبل أن ترحل:
هبقى اعدي عليك العربية يا اسطى "عز".
رحلت من أمامهما، وبمجرد أن اختفى أثرها، هتف "حسن":
أنت شوفت كانت هتقول إيه؟
جوزها مين اللي يجي جنبي، الله يرحم لما "طاهر" فرج عليه البلد.
رد "عز" وهو يضع كوب الشاي خاصته على الطاولة:
سيبك منها، هي شكلها كانت جاية عايزة تعرف حاجة، ولما مدتهاش وش قلت أدبها، بس احتياطي برضو ابقى قول لطاهر إنها سألت هيتجوز امتى.
قرر "حسن" بالفعل تنفيذ هذا ولكنه لم يرد حيث لمح "مريم" تمر من أمامهما عائدة إلى منزلها، ألقت نظرة خاطفة أثناء سيرها، بينما بقى "حسن" متابعًا لها حتى نبهه "عز":
على فكرة هي مشيت خلاص.
_ أنا همشي.
قالها "حسن" ثم ترك مقعده وقام فناداه "عز":
متروحش وراها، سيبها براحتها.
لم يرد عليه "حسن" وأكمل سيره وهو يسمع تحذيرات "عز" من الخلف:
أنت مش هترتاح إلا لما أخواتك والحاج يزعلوك والله.
ولم يقل أكثر، تركه يرحل وبقى هو مكانه وقد قرر التواثل مع "عيسى" الذي أخبره "حسن" قبل قليل أنه من أرسله إلى هنا.
********************************************
عائد من الخارج وقد أنهكه اليوم حقًا، قرر "عيسى" الصعود والنوم، ولكن أثار استغرابه ما إن دخل إلى المنزل الخاص به الظلام التام، توقع أن "ملك" نزلت إلى شقيقته في الأسفل، قرر محادثتها وهو يضغط على زر الإضاءة ولكن تجمد مكانه.
بدا مسحورًا وهو يطالع الطاولة الموضوعة في منتصف الردهة، وقد وُضِع عليها كعكة على هيئة سيارة باللون الأحمر، مجسمات أخذت شكل مشروبه المفضل، وأوراق صغيرة مرقمة انتثرت على الطاولة، تحرك ناحيتها وصاحبت الابتسامة وجهه وهو يفتح الورقة الأولى ليجدها كتبت:
كل سنة وأنت طيب يا "عيسى".
ورقة ثانية تعبر فيها بصدق:
أنا بحبك أوي.
تأثر حقًا وهو يقرأ الورقة الثالثة:
وعايزاك جنبي علطول.
والرابعة كانت ورقة من دفترها دونت فيها أول مرة شعرت فيها بأن قلبه يدق له والسبب:
بحس إني متطمنة جنبه، إن في حد واثق فيا حتى لو عارف إني ممكن أخيب ظنه، وثقته فيا دي بتقويني، بحس إني شايفة اللي جواه، وهو عارف ومتأكد إني شايفة ده وسايبني برضاه، بيحكيلي حاجات أنا متأكدة إنه مش هيحكيها لغيري، مش عارفة إيه اللي بيحصل بس أنا خايفة أوي من اللي جاي.
لمعت العبرات في مقلتيه، وانتقل إلى الورقة الخامسة والتي وجد فيها تاريخ تم تدوينه وأسفله:
اليوم اللي "عيسى" قالي بحبك فيه.
وكأن المشهد يعاد أمامه الآن، يوم ذهب إلى محل والدتها، كان في حالة لا يُحسد عليها تسببت في قلقها وسؤالها:
مالك يا "عيسى"؟
_مالي دي متتقالش في جملة يا "ملك".
انتبهت له، وهي ترى عينيه والألم لا يرحمها وهو يتابع:
انا لو كنت اعرف اقول مالي مره واحده بس بصراحة، كنت عرفت انا مالي.
مسحت على وجهه برفق وهي تطلب منه بعينين دامعتين:
اهدى، انا جنبك ومش همشي، لو عايز تقول أي حاجة قولها.
احتضنته وكأنها تثبت له أنها هنا، جواره دائمًا وابدًا
ولم يستطع هو منع نفسه، أبعدها ونظر إليها وهو يقول: وكأني حاسس إني بقولها للمره الأولى في حياتي، ومع إني عارف إنها مش من حقي أنا وإنها كانت حلمكم أنتوا الاتنين، ورغم كل أنانيتي اللي طول الوقت بسمع عنها من اللي حواليا، مش قادره اقولها
ينطق بألم:
مش قادر اقوله انا أسف يا "فريد"
سقط قلبها ارضا، شعرت بالخدر يتملك منها وهي تطالعه بذهول خائفة من جملته القادمة، فسألت بارتباك:
تقوله أنت أسف ليه؟
التقط كفها ووضعه على فؤاده مكملًا وكل منهما يحتضن الأخر بعينيه:
علشان ده دق ليكِ، وأنتِ السبب.
نزلت عيناها إلى موضع يدها على فؤاده وهي تستمع إلى البقية:
علشان انا اللي شكلي حبيتك مش أنتِ زي ما قولتيلي على الجسر .
رأى دموعها وهو يصرح:
لا مش شكلي...
تشبث بها اكثر ليخبرها أنه لا مجال للفرار، لا مجال لهربها وهو يصارحها للمرة الأولى:
أنا بحبك يا "ملك".
فاق من شروده واتسعت ضحكته وهو ينتقل إلى الورقة السادسة ولايريد في هذه اللحظة سوى احتضانها:
أنا عارفة إن عيد ميلادك لسه بكرا، بس أنا حبيت أبقى أول حد يحتفل معاك، بتمنالك سنين كتير جميلة يا عيسى تفضل فيها حبيبي، والسنة الجاية في عيد ميلادك تبقى بتحتفل مع ابنك أو بنتك اللي متأكدة إنهم هيبقوا محظوظين أوي علشان أحن واحد قابلته هيبقى أب ليهم.
رفع عينيه عن الورقة ليراها أمامه، خرجت من الغرفة ويكاد يقسم في هذه اللحظة أنها أبهى ما رأت عيناه، فراشة تقف أمامه برداء أحمر سلب أنفاسه من اللحظة الأولى، تركت خصلاتها حرة ولكنها سرقت من الواقف أمامها حريته بعينيها، استطاع من مكانه يرى أول حروف اسمه المرسومة أسفل عنقها، ثم ابتسامتها العذبة وقولها الرقيق:
أنا محرجة أوي، أول مرة أعمل لحد مفاجأة كده
كان يقترب منها وهي تكمل والارتباك ظاهر على يديها:
كنت علطول بشترك بس حد تاني هو اللي يخطط وينفذ، لكن قولت المرة دي أعمل حاجة علشانك.
النظرات كافية لتضاعف خجلها، وقف أمامها وهربت هي بعينيها للأرضية في محاولة لقول:
عيسى أنت...
وفي نفس الثانية نطق معها:
موترني.
ضحكت وهزت رأسها مؤكدة أن هذا صحيح، وتخطته تجذب الورقة المتبقية جوار الكعكة وتعطيها له قائلة:
دي أنت مفتحتهاش.
تناولها منها ولم يتوقع أن بها غنوة لصباح ذكر أمامها مرة أن أمه كانت تحبها كثيرا، وبقى متعلق بهذه الغنوة بعدها، وكأنه يسمع كلماتها المكتوبة في الورقة الآن:
أحبك يانى ولو ترعانى ..... أحبك تاني واقول آه ياني
معاك وجداني وكل حناني ..... وأخاف تنساني
آه ياني آه ياني.
ضحك ثم نظر لها وقال بتسلية:
ده أنتِ اللي موتراني والله، أغنية وفستان أحمر، وكلام حلو، وتورتة، وعلى شكل عربية كمان
وغمز لها مضيفًا:
لا مهتمة بالتفاصيل أنتِ.
لم تعرف بماذا ترد، ولم ينتظر هو جواب، مال يحتضنها، عطرها سلبه، هذا العطر الذي اختاره خصيصًا لها من قبل وهاداها به، بالتأكيد لن يمتلك السحر ذاته إن وضعته غيرها، هي من تجعل لكل شيء معنى، هيلين خاصته التي على استعداد تام أن يحرق كل شيء لأجلها.
_ دي أحلى مفاجأة حصلتلي يا "ملك"، وياريت تسمحيلي الليلة دي أوترك براحتي.
سمعته يهمس بهذا فضحكت ثم اعتدلت وتناولت كفه وهي تخبره:
لسه في مفاجأة تاني.
ولكنها توقفت مكانها، وتبخرت في ثانية رقة القطة، وبقى منها شراستها فقط وهي تقول:
بس قبل أي حاجة، تقولي ريحة قسمت جت في قميصك ازاي اليوم إياه.
ورفعت سبابتها تحذره تحت نظراته المذهولة:
وإياك تكذب، أو تقول مش وقته، وإلا هتبقى بتبوظ كل الليلة الجميلة دي، وهتنام هنا على الكنبة.
قالت جملتها الأخيرة وهي تشير له على الأريكة بابتسامة صفراء جعلته يعلق:
والله كنت حاسس إن في مصيدة في الموضوع بس مكنتش عارف هي فين.
_ وعرفت؟
سألته وهز هو رأسه مؤكدًا مما جعلها تقول بنفس ابتسامتها:
براحتك.
أرسلت له قبلة ولوحت له معلنة أنه وحده من سيخسر:
تصبح على خير يا حبيبي.
وبعد خطوة واحدة تحركتها مقررة أن تتركه يواجه مصيره مع الأريكة، استوقفها هو يجذب مرفقها ويقسم:
والله ما يحصل.
استدارت له تهتف بحزن برعت في تمثيله:
ما أنت اللي مش عايز تقول، وعندك إصرار تبوظ...
قاطعها حين وضع اصبعه على شفتيها يطالبها بالصمت، وعيناه ترفع لها راية الاستسلام وهو يصرح:
ده أنتِ لو عايزاني ألبس نفسي تهمة دلوقتي هعملها.
وبرضا تام قرر أن يخبرها بكل ما تريد أن تعرفه، خاصة بعدما همست له بحبها، وانتظرت على أحر من الجمر سماع جواب سؤالها السابق، كان هذا أكثر ما يشغلها، أما هو فلم يشغله سواها، ولن يبالغ إذا صرح أن سحر فتنتها عليه الآن أكبر من أي شيء في عالمه الذي احتلته هي.
********************************************
في مركز الشرطة كان العمل على قدم وساق، حيث ذكر أحدهم للأخر:
في حد من الأهالي بلغ إن في ست كبيرة لقوها مقتولة، نقلوها المستشفى واحنا روحنا بس حالتها صعبة متسمحش بأي حاجة والدكاترة قالوا بتخلص.
حادث لا يتكرر كثيرًا في هذه المنطقة، وحدوثه لغز، ولكن لم يكن بالصعب حين أخبر أحد الضباط:
الست دي بلغت من كام يوم عن واحدة بتهددها واتعدت عليها مرة.
والنتيجة هي أمر ضبط وإحضار لمن تم اتهامها، في نفس الليلة كانت "شهد" تحاول النوم عبثا، فقررت محادثة "طاهر"، سريعا ما رد عليها مما جعلها تقول بسعادة:
كويس إنك صاحي، فكرتك نمت.
_ اصحالك مخصوص.
ابتسمت بعدما قال هذا، وفي ثانية اختفت ابتسامتها حيث علا صوت الدق على باب منزلهم، أثار هذا استغرابها وكذلك "طاهر" الذي سأل:
في إيه يا "شهد"؟
أخبرتها بأنها لا تعرف وخرجت في نفس اللحظة التي كانت والدتها فيها تضع حجابها وخلفها "مريم" لتفتح الباب، انقبض فؤاد "هادية" وهي ترى أمامها رجلين وبتخوف سألت:
خير يا بني؟
_ شهد هنا؟
سألها وهو يطالع ابنتيها، وهزت "شهد" رأسها قائلة:
أيوة أنا شهد.
ولم تصدق أذنيها حين سمعت:
طب احنا عايزينك معانا شوية.
هي التي تظن نفسها لا تخشى شيء خافت، سمعت صوت "طاهر" الذي ما زال على المكالمة وهو يطالبها:
اديني اللي عندك يا "شهد".
حاوبت إعطاء الهاتف لواحد من الرجلين، ولكنه رفض ناطقا بـ:
أنا مش هكلم حد، حضرتك هتيجي معانا القسم شوية.
شعرت "هادية" بأن الأرض تميد بها، وسألت "مريم" بفزع:
القسم ليه؟
_ علشان في جريمة قتل، واحنا محتاجين نتكلم معاها شوية.
وكان هذا رده وقد أوشك صبره على النفاذ خاصة وهو يسمع "مريم" تسأل من جديد:
مين؟
ولكنه جاوب:
مرات عمك.
استدارت "هادية" بفزع لابنتها، ثم أقسمت للواقفين أمامها:
شهد معملتش حاجه.
جاوبها باختصار:
هنشوف هناك.
بينما في نفس اللحظة، كانت "شهد" تشعر وكأن أحدهم يسرق أنفاسها، لا يصلها سوى صوت "طاهر" المنفعل ورغم ذلك يحاول طمأنتها:
متخافيش يا "شهد" أنا جايلك.
ولم يقل بعض من ذعرها إلا بسبب جملته هذه، بالتأكيد لن يحدث شيء، هي لم تفعلها، طاهر لن يتركها، في هذه اللحظات أخذت تؤكد لنفسها أن طاهر سيحل كل شيء كما اعتاد دائما فعلها.
الفصل المائة والسابع والاربعون من هنا