رواية قلب السلطة الفصل السابع عشر بقلم مروة البطراوي
ابتسم ابتسامةً جانبية، لم تكن ساخرة بقدر ما كانت واثقة:
"والرعب ده، سببه إيه يا ترى؟ إنك شايفاني زي عمي؟ ولا لأنك شايفة حاجة تانية؟"
نظرت إليه نظرةً سريعة، قبل أن تشيح بوجهها بعيدًا، قائلةً بجمود:
"أنا بسأل نفسي... ليه أنا؟ ليه دلوقتي؟ ما يمكن كل ده مجرد..."
قاطعها بصوتٍ منخفض، لكنه حاد:
"انتقام؟"
اتسعت عيناها قليلًا، فكأنه قرأ ما في داخلها دون أن تنطق به، لكنها سرعان ما استعادت رباطة جأشها، قائلةً ببطء:
"الشك مش جريمة، خصوصًا لما تكون الظروف بتقول كده!"
أراح ظهره على المقعد، ثم مال برأسه قليلًا، وكأنه يمنحها مساحة لتكمل، قبل أن يقول بصوتٍ ثابت:
"ولو قلتِ لك إن مشكلتنا احنا الاتنين إننا مش قادرين نخلّي اللي فات يتحكم في اللي جاي؟"
ساد الصمت لوهلة... لكنها لم تكن لوهلةٍ عابرة، بل صمت ثقيل، متوتر، كأن الزمن توقف على حافة الجملة.
أجابت بعد تردد، ونبرتها تنطوي على ما يشبه الإقرار المر:
"يمكن... ويمكن كمان إننا بنخاف نعترف إن اللي بينّا مش حرب... وإنه ملوش علاقة بأهلنا، لا بعداهم ولا قربهم."
اقترب قليلًا، ملامحه لم تتغيّر، لكن صوته صار أكثر دفئًا:
"ولو كان حقيقي؟ اللي بينّا... لو كان حقيقي، هنعمل إيه؟ هنكمّله؟ ولا هنكمل نهرب منه؟"
كانت تلك اللحظة هي الامتحان... ليس لهما فقط، بل لذاك الجرح القديم الذي ورثاه دون اختيار، وتلك النار التي لا تزال مشتعلة في العيون رغم محاولات الإنكار.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كانت تلك اللحظة امتحانًا... ليس لهما فقط، بل لذاك الجرح القديم الذي ورثاه قسرًا، ولتلك النار التي لم تخمد قط بين عيونهما، رغم محاولات الإنكار اليائسة.
لم تُجبه، غير أن عينيها ارتجفتا للحظة، كأن صراعًا داخليًا عصف بها. حاولت أن تتمالك نفسها، أن تطفئ شيئًا من الاضطراب المشتعل في صدرها، غير أن الكلمة غلبت الصمت والجرح معًا.
قالت بصوت منخفض، أشبه بالهمس:
– "مشكلتي إني مش عارفة أحدد... إنت بداية جديدة؟ ولا امتداد لنهاية قديمة؟"
تحرّك رائد نحوها ببطء، وكأنه ينتقي خطواته بعناية فوق حقل ألغام. اقترب حتى لم يبقَ بينهما إلا القليل، ثم ثبت نظره في عينيها وقال بصوت عميق:
– "ولو قلتلك إني قررت أكون بداية؟ إني زهقت أعيش وسط دوّامة ما بتخلصش... دوّامة لا أنا فيها حر، ولا إنتِ."
ضحكت ضحكة قصيرة، لم تكن فرِحة، بل مثقلة بالمرارة والإرهاق:
– "الحرية دي ترف يا رائد... وإنت أكتر واحد عارف إن اللي اتولد وسط نار، عمره ما هيعرف يعيش مرتاح، حتى لو النار دي بعدت شوية."
صمت قليلًا، كأنه يمنحها مساحة لاستيعاب كلماته، ثم قال بهدوء وحزم:
– "لو فضّلنا نصدّق الجرح، عمرنا ما هنشوف غير الدم. أنا لا جاي أطلب غُفران، ولا جاي أبرّر... أنا جايلِك بالحقيقة: أنا تعبت، ومش قادر أكمّل لوحدي."
نظرت إليه، وفي عينيها للمرة الأولى، لمعة لم تكن للهجوم ولا للمقاومة... بل سؤال صامت: هل من الممكن أن نبدأ من جديد؟
همّت بالكلام، لكن طرقًا خفيفًا على الباب قطع اللحظة في منتصفها.
تجمّدت اللحظة، وكأن الزمن توقف عند ذلك الطرق، وانتقل الصراع من الأعماق إلى العالم الخارجي، بكل ما يحمله من ضجيج وأحكام.
نظر رائد نحو الباب، ثم قال بصوت منخفض:
– "إنتِ مش لوحدك في الدايرة دي يا ليلى... في ناس برّه، لسه مش عايزين يصدقوا حتى إننا بنتكلم."
رفعت حاجبها، وقالت بنبرة يغلفها القلق:
– "وإنت؟ ناوي تعمل إيه دلوقتي؟"
رمقها بنظرة طويلة، ثم أجاب وهو يتحرك بخطى ثابتة نحو الباب:
– "دلوقتي؟ لازم أواجههم... وبعد كده، نكمل كلامنا."
ثم فتح الباب.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
فتح رائد الباب ببطء، فظهرت خلفه أم ليلى تقف بثبات، وعلى وجهها ملامح امرأة أنهكها الزمن لكن لم يُسقط عنها كبرياءها، وإلى جانبها مهاب، وقد بدا التوتر واضحًا على ملامحه، كأن جسده واقف في المكان، بينما عقله عالق بين الماضي والخوف من القادم.
نظرت الأم إلى رائد، ثم قالت بصوت هادئ، أقرب إلى الحسم منه إلى اللين:
– "أنا قولت نيجي... ولو عندك حاجة لسه مقولتهاش قولها دلوقتي."
لم يجب رائد، فقط أفسح لهما الطريق للدخول. ثم التفت إلى ليلى، كأنه يستمد منها دعمًا صامتًا، قبل أن يُغلق الباب خلفهم.
جلس الجميع، والصمت يسود الغرفة، حتى قطعه صوت مهاب، المتردد والقلق:
– "أنا مش ضدك يا رائد... بس أنا مش قادر أفصل بين اللي حصل زمان، وبين اللي ممكن يحصل بعدين."
رمقته أمّه بنظرة صارمة، ثم قالت بحدة هادئة:
– "اللي فات ما نقدرش نغيره يا مهاب... بس نقدر نمنع إن اللي جاي يتبني على كراهية."
ثم التفتت إلى رائد، وقالت بنبرة صريحة:
– "أنا شايفة إنك راجل، ونيّتك واضحة، ودي كفاية عندي. بس البنت مش سهلة، ولو أذيتها يوم، أنا اللي هقفلك، مش هو."
أومأ رائد برأسه، ثم قال بصوت ثابت:
– "أنا مش جاي أكمّل حرب، ولا جاي أخطفها من أهلها... أنا جاي أطلبها بالحلال، وبرضاكم."
نظرت ليلى إلى أخيها، كأنها تطلب إذنًا صامتًا بأن تبدأ، أو ربما تطلب منه أن يتخلّى عن ذاك الخوف الذي كبّلها لسنوات.
مهاب زفر ببطء، ثم قال وهو ينظر إلى الأرض:
– "أنا... محتاج وقت. بس لو انتي شايفاه يستاهل يا ليلى، أنا مش هقف قدّامك."
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
ليلى نظرت إلى مهاب، ثم إلى رائد، وعينيها مليئة بالأسئلة، وكأنها تسأل نفسها: هل يمكنها بالفعل أن تختار هذا الطريق؟ لكن هناك شيء في قلبها يصرّ على المضي قدمًا.
تنهدت ببطء، ثم قالت بصوت منخفض لكنها حاسم:
– "أنا مش هخدع نفسي... عارفين كويس إن اللي بيننا كان أكبر من مجرد خلافات عائلية، وده مش هيتغير بأي كلمة. لكن لو أنا في البداية مش حاسة إن ده الصح، ماكنتش هوافق أنه يجي هنا النهاردة."
أخذ مهاب نفسًا عميقًا، ثم رفع رأسه ليواجهها، عينيه مليئة بالقلق والشك، لكن أيضًا بالحاجة إلى أن يراها تتخذ القرار الذي يحميها.
– "وأنتِ متأكدة إن ده هو الصح؟ ما تخافيش على نفسك؟ الناس مش هيسيبونا، وده هيأثر علينا كلنا."
أجابت ليلى بنبرةٍ أقوى:
– "في يوم من الأيام، الناس دي كانت جزء من حياتنا... بس دلوقتي ده مش قرارهم، ده قراري. أنا مش هفضل عايشة تحت ظل خوف كل حياتي."
ثم التفتت إلى رائد، وقالت بنبرة حاسمة:
– "أنتَ هتكون البداية ولا النهاية... أنا مش هخليك تجرني لورا تاني."
أم ليلى نظرت إليهم بتفهم، ثم قالت بصوت هادئ لكن مليء بالثقة:
– "إنتي كبرتِ يا ليلى، وأنا واثقة فيك. لو ده الطريق اللي اخترتيه، أنا معاك."
ثم رمقها رائد بنظرة طويلة، مليئة بكل المشاعر التي حاول أن يخفيها طوال الوقت.
– "لو اخترتي ده... هكون دايمًا جنبك. بس لو لحظة واحدة حسيتِ إن ده مش مكانك، هسيبك تمشي."
في تلك اللحظة، كانت كل كلمة منهم كأنها تعلن بداية جديدة في حياتهم. كل واحد منهم كان يحمل في قلبه سؤالًا واحدًا: هل يمكن أن تبدأ من جديد بعد كل هذا الصراع؟ لكن الأمل كان أكبر من الأسئلة، وكان هناك شيء في قلب ليلى يقول لها إنها تستطيع أن تفتح صفحة جديدة، رغم كل شيء.
وبينما كان الحديث يستمر، كان الصراع الداخلي قد بدأ في التلاشي، ولكن لم يُكتب بعد ما ستسفر عنه تلك اللحظة.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
ساد السكون البيت بعد رحيل رائد، كأن الزمن قرر أن يتوقف برهة ليمنحها فرصة لتلتقط أنفاسها. جلست ليلى في مكانها، تقبض على حواف الفستان دون أن تنتبه، فيما الأم عادت بخطوات هادئة، تجرّ وراءها ظلًا من الحكمة والصبر.
جلست بجوارها، تنظر إلى ابنتها طويلًا، ثم قالت برقة: ــ "شكلك سرحانة بعيد يا ليلى..."
لم تجبها ليلى على الفور. كانت عيناها معلّقتين بشيءٍ ما لا يُرى، ثم قالت بعد لحظة: ــ "أنا مش عارفة يا ماما... دماغي مش مرتّبة، وكل حاجة جوّايا متلخبطة."
وضعت الأم يدها على يدها، تربّت عليها بحنانٍ عتيق: ــ "طب ده طبيعي يا بنتي... مش موقف سهل، لا عليكِ ولا علينا."
نظرت ليلى نحوها، كأنها تبحث في ملامح أمها عن إجابة لا تعرف كيف تنطق بها: ــ "بس هو... اتغير؟ فعلاً؟ إنتِ شايفة كده؟"
تنهدت الأم، ثم مالت قليلاً للأمام، وقالت بصوت مطمئن: ــ "شايفاه غير اللي كان. في حاجة في طريقته، في كلامه، حتى في سكوتُه... الراجل ده جايلك مش بس بإيده، ده جايلك بقلبه."
خفضت ليلى عينيها، وقالت بهمسٍ مرتبك: ــ "وأنا... أنا مش عارفة أصدق، مش عارفة أفرّق بين اللي اتقال واللي كان بيتخبّى."
ضحكت الأم ضحكة خفيفة، لكنها لم تكن خفيفة الأثر، ثم قالت: ــ "هو الحب كده يا ليلى... عمره ما كان واضح، دايمًا لابس وشّين. بس في الآخر، اللي في قلبك هو اللي هيدلّك."
صمتت لحظة، ثم أضافت: ــ "وبعدين، أنا ست شُفت كتير... واللي شُفته في عنيه النهاردة، ما شُفهوش إلا اللي بيحب بصدق."
هزّت ليلى رأسها ببطء، وقالت بنبرة مغلّفة بالقلق: ــ "بس مهاب... مش قابل، ولا مرتاح. وكأنه مستنّي رائد يغلط، عشان يقولّي: شوفي؟ كنت قايلك."
تنهدت الأم، ومسحت على كتفها بلطف: ــ "أخوك خايف عليكِ، بس مش كاره له. وإنتِ عارفة إن رأيه مهما كان، مش آخر الدنيا. في الآخر... دي حياتك انتي، مش بتاعته."
رفعت ليلى عينيها، ثم قالت بترددٍ خافت: ــ "أنا مش خايفة من الناس... أنا خايفة من نفسي، من اللي ممكن أضعفله، من إني أرجع للي كنت فيه، وأرجع أوجع نفسي بإيدي."
هنا، أمسكت الأم وجهها بين كفيها، وقالت بإصرار حنون: ــ "لا يا بنتي... إنتي اتعلمتي، كبرتي، ومش هتقعي في نفس الحفرة مرتين. وصدقيني، حتى لو رجعتي، مش هتبقي اللي كنتي. فيكي قوة جديدة، باينة في عينيكِ."
سقطت دمعة هادئة على خدّ ليلى، ثم تمتمت: ــ "أنا بس عايزة أرتاح... ولو حتى يوم واحد من غير صراع جوايا."
ضمّتها أمها إلى صدرها، وقالت وهي تربّت على شعرها: ــ "وهترتاحي يا ليلى، أول ما تسمعي قلبك بجد... مش خوفك، ولا حنينك، بس قلبك. هو اللي هيقولك تروحي فين."
وساد بينهما صمتٌ رقيق، كأن الدموع قالت ما لم يقله الكلام.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
خرج رائد من بيت مهاب بخطوات ثابتة، لكن صدره يغلي. لم يكن اللقاء كما ظنّ، ولم تكن ليلى كما توقّع. ما بين الأسئلة القديمة والوجوه الجديدة، ثمة شيء كان يُعاد تشكيله في ذاكرته... شيء يرتبط بماضٍ ظنّ أنه اندثر.
وقبل أن يبتعد تمامًا، سمع صوت الباب يُفتح خلفه.
كان مهاب. يقف عند العتبة، كأن شيئًا داخله لم يحتمل أن يتركه يرحل دون كلمة.
استدار رائد، وعيناه تلمعان بحدة رجلٍ يعرف أكثر مما يقول. انتظر لحظة، حتى اقترب مهاب بخطوات سريعة، وقال بصوت خفيض لكنه مشحون:
ــ "أنا مش فاهم حضرتك عايز إيه من أختي، بس خليني أقولّك من دلوقتي... لو بتفكر تنتفم ، يبقى لأ."
لم يردّ رائد على الفور. حدّق فيه طويلًا، كأنّه يقرأ وجهه كما يقرأ تقريرًا أمنيًا.
ثم قال ببرود متزن: ــ "أنا اللي مش فاهم... مين قالّك إني جايلها للانتقام أصلاً؟"
ارتبك مهاب، لكنه لم يُظهر ذلك. عقد حاجبيه وقال بشك: ــ "طب، إيه تفسيرك للّي حصل النهاردة؟ وجودك، طريقتك... كلامك اللي كله لف ودوران؟"
اقترب منه رائد خطوة، ووقف بثبات رجل يعرف جيدًا وزنه، ثم قال بصوت منخفض: ــ "أنا جيت أتكلم، مش أبرر. وبالمناسبة... ليلى بالنسبالي حاجه كبيرو . لكن واضح إنك لسه شايل كتير."
سكت لحظة، ثم أضاف بنبرة أعمق: ــ "وبصراحة؟ عندك حق تشيل."
رفع مهاب رأسه، نظر إليه بريبة، فسأله: ــ "إنت تقصد إيه؟"
ردّ رائد دون أن يرفّ له جفن: ــ "أقصد إنك يمكن ما تعرفش كل حاجة... خصوصًا عن اللي حصل لأبوك زمان."
هنا، تسارعت أنفاس مهاب، وظهر التوتر في عينيه: ــ "يعني إيه؟ أبويا اتحبس ظلم، واتدمّر، وأنتوا كنتوا السبب... مش كده؟"
أطرق رائد للحظة، ثم قال بهدوء قاتل: ــ "مش إحنا... عمي. عمّي اللي كان شريك أبوك، وخانّه. واللي حصل بعدها كان لعبة كبيرة، أكبر مننا كلنا."
تجمّد مهاب في مكانه، كأنّه تلقّى صفعة.
ــ "عمك... صابر الذهبي؟"
هزّ رائد رأسه بالإيجاب: ــ "أيوه.
أخذ مهاب خطوة للوراء، كأن الأرض تهتز تحته. ظلّ صامتًا، يحاول هضم ما سمعه، لكن رائد لم يمنحه وقتًا كافيًا.
ــ "بس ده كله مالوش علاقة بليلى. ولا ليك. أنا ما جيتش أطلب رضا حد. جيت أحط نقطة على سطر قديم، وابتدي من أول السطر مع نفسي."
ثم نظر إليه نظرة أخيرة، قبل أن يدير ظهره ويقول: ــ "بس لو عايز تعرف الحقيقة كاملة... اسأل عن الصفقات القديمة، وعن الدفتر اللي اختفى قبل التحقيق...
وغادر.
ترك مهاب واقفًا أمام البيت، يحمل في صدره بركانًا جديدًا... لا يعرف هل ينفجر في وجه الماضي، أم يبدأ هو الآخر في البحث عن صفحة جديدة.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
بقيت ليلى واقفة لبعض الوقت، ساكنة كأن الزمن توقف داخلها، قبل أن تتجه إلى النافذة. رفعت الستار ببطء، ونظرت إلى الشارع الخالي إلا من أنوار السيارات المتناثرة في البعيد. لفح وجهها هواء الليل البارد، تسلّل إلى قلبها المرتجف، لكنه لم يكن كافيًا لإخماد حرارة الصراع الذي يتأجج داخلها.
رائد الذهبي... الاسم الذي كان يومًا مرادفًا للخوف، للسيطرة، وللماضي الغامض... هل يمكن أن يتحوّل يومًا إلى مرادف للأمان؟ هل يمكن لظل ثقيل أن يتحوّل إلى ظلٍّ وارف تستكين إليه؟
لم تكن تملك الإجابة، لا الآن، وربما لا قريبًا. لكنها تعلم يقينًا أن شيئًا ما تغيّر... فيها، وفيه.
ثم سمعت صوتًا خلفها، فاستدارت لتجد والدتها واقفة عند باب الغرفة، تراقبها بصمت أمٍّ تعرف جيدًا متى تقتحم الصمت ومتى تتركه يتكلم.
قالت الأم بنبرة دافئة: ــ "كنتي واقفة كده ليه، يا ليلى؟ الواد مشي خلاص، ولا لسه؟"
أجابت ليلى دون أن تلتفت: ــ "مشي، وسب وراه حاجات كتير مش مفهومة..."
اقتربت الأم منها، وضعت يدها برفق على كتفها، وقالت: ــ "رائد راجل مش سهل، بس مش كل صعب يبقى شر. وأنا شايفاه راجل محترم."
هزّت ليلى رأسها، وتمتمت: ــ "محترم، بس مخيف... في حاجات جوايا مش عارفة أوصفها، كأنّي مش فاهمة أنا خايفة منه ولا عليه."
ضحكت الأم بخفّة، وقالت: ــ "يا بنتي... الخوف ساعات بيبقى له طعم تاني، طعم الحب اللي لسه مش راسي على بر."
نظرت ليلى إلى أمها، وعيناها تبحثان عن طمأنينة، عن تفسير: ــ "بس هو مش جاي عشاني... هو قالها، هو بس كان بيحاول يفهم حاجات ليه علاقة ببوه، وبيِّن كده عمه هو اللي ظلم أبونا..."
تنهدت الأم، وقالت بحكمة امرأة جرّبت الحياة: ــ "ما هو محدش بييجي كده وبس... كل واحد بيلاقي نفسه رايح لحاجة مش كان مخطط لها. ويمكن ربنا بيكتبلكوا حكاية، مش شرط تبقى حب، بس تبقى صدق."
سكتت ليلى، نظرت من النافذة مرة أخرى، ثم همست: ــ "أنا مش عايزة أعيش في ظلّه، يا ماما... ولا عايزة أهرب منه."
ربّتت الأم على ظهرها، وهمست: ــ "اعملي اللي يريح قلبك يا ليلى، بس خدي بالك... فيه ناس وجودهم في حياتنا ما بيتكررش."
وساد الصمت من جديد، لكن هذه المرة، لم يكن صمت حيرة... بل صمت تفكير عميق، ينبئ بأن القرار لم يُتخذ بعد، لكنه قريب.
والصباح، على الأبواب... يحمل نسماته الدافئة، لكنه لا يخلو من المفاجآت.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
الصباح بزغ على المدينة بخجل، كأن الشمس نفسها كانت تخشى أن توقظ القلوب المثقلة بالتساؤلات. في مدرسة البنات، تسللت أولى خيوط النور عبر النوافذ الطويلة، وغمرت الممرات برائحة الطباشير والورق الجديد.
ليلى دخلت الصف كعادتها، تمسك بكوب قهوتها، ووجهها هادئ على السطح، وإن كانت عاصفة الأفكار لم تهدأ بعد. كانت الفصول ما تزال هادئة، الطالبات لم يصلن بعد، وهذا ما أحبّته دومًا... لحظات الهدوء الأولى، حيث تستطيع أن تتنفس بعيدًا عن العيون.
لكن لم يطل ذلك الهدوء.
رنّ هاتف الإدارة، وخرجت السكرتيرة تبحث عنها بسرعة، حتى وصلت إلى باب الفصل.
ــ "ميس ليلى! المدير عايزك في مكتبه حالًا، في ضيف مهم جاي يسأل عليكي."
تجمدت ليلى في مكانها للحظة، ثم قالت بتوجس: ــ "مين؟"
هزّت السكرتيرة كتفها: ــ "معرفش، بس واضح إنه مش غريب عنك."
شعرت ببرودة تسري في أطرافها، لكنها تماسكت. وضعت الكوب جانبًا، وسارت بخطى ثابتة، وإن كانت دقات قلبها تسبق خطواتها بعشرات الأمتار.
وصلت إلى مكتب المدير، طرقت الباب بخفة، ثم دلفت.
وهناك، كان واقفًا، ظهره نحوها، يتأمل لوحة معلقة على الحائط كأنه يهرب بها من الحديث.
التفت ما إن سمع خطواتها...
رائد.
ببدلته الداكنة، ونظرته الصامتة التي تعرفها جيدًا.
رفع حاجبه قليلًا وقال: ــ "مافيش داعي للدهشة... بنتي هنا، وده يخليني أعدّي، صح؟"
وقفت في منتصف الغرفة، ونظرت له ببرود متكلّف: ــ "لو جاي تطمّن على نيرفانا، يبقى الموضوع يخلص في دقايق... مش أكتر."
ابتسم ابتسامة خفيفة، وقال وهو يسحب كرسياً ليجلس: ــ "مش دايمًا اللي بيجي يطمن بيكون جاي علشان اللي فـ بال الناس."
نظرت له صامتة، لكنها أدركت حينها أن صباحها لن يكون عاديًا... وأن رائد، كعادته، لا يظهر عبثًا.
**
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
جلست ليلى على الطرف المقابل، لكن عيناها لم تهربا منه، بل واجهتاه بثبات... ظاهرُه حذر، لكن باطنُه نار تبحث عن مخرج.
قالت بهدوءٍ مريب: ــ "أنا مابحبّش الألغاز، رائد... قول اللي في بالك وخلاص."
انحنى للأمام قليلًا، صوته انخفض، لكن حروفه كانت مشتعلة: ــ "أبوكِ اشتغل مع عمي... سنين."
رفّت عينها كأنها تلقت لأول مرة للطمة غير متوقعة، لكنها تمالكت نفسها: ــ "أبويا كان موظف بسيط... مالوش في الشبهات ولا المصالح."و عمك هو اللي ورطه
هزّ رائد رأسه ببطء، كأنما يقدّم عزاءً: ــ "كان... بس في ورق بيقول غير كده."
ثم أخرج من جيبه ملفًا صغيرًا، وضعه على الطاولة بهدوء تام.
ــ "الورق ده مش للتهديد... بس للحق. عمي ضيّع عمره يلم مصالحه، وأنا ورثته بكل ما فيه... حتى أخطاؤه."
سحبت الملف بتردد، فتحت صفحاته الأولى، وجدت أوراقًا قديمة... توقيعات، أختام، صور لأسماء معتادة... من بينها اسم والدها.
شهقت بهمس، لم تصدق عينيها.
قال بصوت ثابت: ــ "أنا جيت النهارده عشان أوضحلك إن اللي فات ماكنش صدفة... وأنا ماكنتش بس بجرّب أقرّب منك، كنت بحاول أفهم... هل انتي جزء من الماضي ده، ولا ضحيّة منه؟"
نظرت له بعينين مليئتين بلهيب الأسئلة: ــ "يعني كنت بتلعب بيا؟ من الأول؟"
نهض رائد ببطء، نظر نحوها نظرة طويلة كأنها تختصر عمرًا: ــ "أنا ما بلعبش... بس أنا مش هسامح نفسي لو عرفت الحقيقة متأخر."
ثم استدار، ووقف عند الباب، قال دون أن ينظر خلفه: ــ "في ملف تاني... فيه اسم تاني، لو فتّحتيه، كل حاجة هتبان. بس القرار ليكي، يا ليلى."
وخرج.
تركت وحدها... والملف ما زال مفتوحًا أمامها.
لكن قلبها، هو اللي كان انفتح فعلًا.
**
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
(داخل الملف)
كانت الأوراق مرتبة بعناية، وكأن من جمعها كان يحرص على أن تصل الرسالة واضحة، بلا التباس... قلبت الصفحات ببطء، وفي كل ورقة كانت نبضة جديدة ترتجّ في صدرها.
صفحة أولى... عقد شراكة قديم بين "نديم الغالي " — والدها — و"صالح الذهبي" — عم رائد. العقد موقع بتاريخ يعود لما قبل ميلادها.
صفحة ثانية... صورة ضوئية من شيك بمبلغ كبير، ممهور بختم الشركة القديمة، لكن الغريب فيه أنه كان موجّهًا باسم طرف ثالث: "مهاب نديم الغالي".
تجمدت يدها، وكأن الدم تجمّد في عروقها.
همست لنفسها: ــ "مهاب؟!"
قلبت الصفحة التالية، فوجدت مرفقًا داخليًا، تقرير بنكي يوضح أن مهاب يملك حسابًا مصرفيًا سريًا مفتوحًا من ١٨ سنة، وكان يتم تغذيته بتحويلات منتظمة من جهة واحدة... الذهبي القابضة.
ارتعدت أنفاسها، وشهقت بصدمة مكتومة: ــ "مهاب اخويا ورطوه و هو كان لسه طفل ...؟!"
ثم وجدت ورقة مطوية في مؤخرة الملف، بدت مختلفة في لونها وخامتها، كأنها أُضيفت مؤخرًا... فتحتها، فكانت بخط يد صالح الذهبي نفسه:
> "لما تقرا الورق ده يا رائد، هتكون قد فهمت إن اللي بينا وبين الغالي مش بس مصالح... دي دم وماضي مش سهل. نديم كان أكتر من شريك، وكان عارف أسرارنا... بس لما قرر ينسحب، ما خرجش لوحده، خرج ومعاه حاجات تخصّنا... وكاتب كله باسم ابنه — مهاب — اللي هيخليه يشيل على كاهله اللي ما يتشالش."
سقطت الورقة من يدها، وجلست ببطء على الكرسي كأنما كل قوتها خارت في لحظة.
كانت تظن أن الحرب التي تخوضها مع قلبها... لكن الحقيقة أن المعركة أكبر، وأعمق.
هي الآن أمام سؤال أكبر من الحب... سؤال الثقة.
هل كانت كل حياتها تُبنى على وهم؟ وهل مهاب، شقيقها الحنون، كان يخفي عليه ما يعصف بحقيقته؟
**
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كان المنزل يغطّ في صمت ثقيل، كأن الجدران نفسها تشعر بما يدور في صدرها. مشت ليلى بخطوات سريعة، عيناها تلمعان ببريقٍ لا يمتّ للدموع بصلة، بل هو بريق الغضب الموجوع. فتحت باب غرفة مهاب دون استئذان.
كان جالسًا على الأريكة، يتصفّح هاتفه، وحين رأى وجهها، استقام في جلسته فورًا.
قال، محاولًا التماسك: ــ "ليلى؟ مالك؟ وشّك متغير كده ليه؟"
لم تُجبه، بل ألقت الملف أمامه على الطاولة، فتناثر بعض محتواه.
تقدّم ببطء، فتح إحدى الصفحات، وعيناه تتسعان تدريجيًا مع كل سطر يقرؤه.
رفعت صوتها، لأول مرة منذ سنين، لا تناشد، بل تُدين: ــ "إنت كنت عارف؟!"
أغلق الملف بعنف، وقال بلهجة مرتبكة: ــ "ليلى، اسمعيني، الموضوع مش زي ما انتي فاكرة..."
قاطعتْه، والدمعة تحترق في زاوية عينها، تأبى أن تسقط: ــ "مش زي ما أنا فاكرة؟ ده حساب بنكي باسمك بيوصله فلوس من الذهبي بقاله سنين! وعقد شراكة قديم بين بابا... وبين عمّه! وانت ساكت؟"
تنفّس بعمق، ثم قال وهو يمرر يده في شعره بتوتر: ــ "أنا كنت صغير... وأنا اللي دفعت تمن اللي حصل! رائد كان فاكر إني خدت حاجة ما تخصّنيش، بس الحقيقة إن بابا هو اللي ورّطني لما خبّى أوراق الشراكة عن رائد... وأنا فضلت أتحمّل النتيجة."
قالت بصوت أكثر هدوءًا، لكنه يحمل سُمًّا دفينًا: ــ "وما قلتليش ليه؟ ليه كنت سايبني أعيش في دور البريئة اللي بتخاف من رائد، وهو في الآخر طالع مظلوم؟"
أخفض عينيه، ثم قال: ــ "كنت خايف عليكي... وخايف أقول وتكرهيّني."
اقتربت منه، وقالت بحدة: ــ "أنا دلوقتي مش بكرهك يا مهاب... أنا مش عارفة أنا مين! مش عارفة الحقيقة فين، ولا إزاي أصدّق أي حاجة."
قال بتوسّل خافت: ــ "ليلى، اللي بيني وبينك مفيهوش كدب... أنا أخوكي، ومش هسمح لأي حد يأذيكي، حتى لو كنت أنا السبب."
نظرت إليه مطولًا... ثم التفتت وغادرت الغرفة دون كلمة.
كانت خطواتها لا تحمل وجهة، لكن قلبها كان قد خطّ أول طريق نحو الحقيقة... الحقيقة التي لا تحتمل النسيان.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
داخل المنزل الفخم، كانت نيرفانا تذرع الأرض بخطوات سريعة، وكأن قلبها يقفز من صدرها لهفةً. عيناها تتلألآن بفضول لم يُخمده حديث يقين الصباحي، الذي ألمح بوضوح إلى زيارة والدها لمعلمة الأدب، مس ليلى.
لكن نيرفانا لم تكتفِ بالإشارات... كانت تنتظر كلمة واحدة، تأكيدًا صريحًا من شفتيه هو.
وقفت أمام جناحه للحظات، ثم دفعت الباب بخفة ودخلت.
كان رائد يجلس في مقعده الوثير، منشغلاً بأوراقٍ مبعثرة أمامه، لكن عينيه سرعان ما ارتفعتا إليها. ابتسم حين رآها، لكنها لم تمنحه فرصة ليسأل، بل قفزت إلى حضنه، تعانقه بشوق:
ــ "وحشتني أوي يا دادي!"
ضحك بخفوت، وهو يضمها إليه بحنان صادق: ــ "وإنتي كمان، يا نور عيني."
جلست بجواره، تتأمله بعينين تلمعان بترقّب: ــ "رحت لمدرستي النهاردة؟!"
أغلق الأوراق ببطء، وقال متسائلًا وهو يراقب ملامحها: ــ "ليه السؤال ده دلوقتي؟"
قالت بلهجة خفيفة، كأنها تحاول إخفاء فضولها تحت عباءة المزاح: ــ "بسأل يعني... يقين قالتلي إنك كنت هناك."
أومأ برأسه، نبرته صارت أكثر جدية: ــ "أيوه، رحت. كان لازم أتكلم معاها."
تقدّمت نحوه، تنظر في عينيه، ثم قالت: ــ "يعني ناوي تتجوزها؟"
ابتسم رائد، لكنه لم يكن ابتسامة خفيفة، بل أقرب إلى تنفّس ثقيل حمله قلبه: ــ "ليلى مدرسة ممتازة، وأنا بحترمها... بس اللي بينا أعمق من مجرد إحساس بسيط أو قرار متسرع."
ــ "بس إنت رحتلها... مش ده معناه إنك لسه...؟"
قاطَعها بنبرة حانية، وهو يضع يده على كتفها: ــ "في حاجات يا نيرفانا، مش بتتحل في يوم وليلة. وليلى، ليها مكان جوّه قلبي، حتى لو الطريق بينّا معقد."
تأملته بصمت، ثم قالت هامسة: ــ "أنا نفسي أشوفك سعيد يا دادي... حتى لو مع مس ليلى."
ربّت على يدها بلطف: ــ "وأنا كمان، بس السعادة مش دايمًا بتيجي بالشكل اللي بنتخيله، صح؟"
أومأت برأسها ببطء، ثم طبعت قبلة على خده قبل أن تنهض: ــ "بس أنا بحبها على فكرة... وبحبك أكتر."